التكيف.. والعناية

التكيف.. والعناية

بعد أن انتهى الرابع من حديثه، قال الخامس، وهو يلتفت لي: وأخيرا وصل الدور لي.. فهيئ نفسك لتسجيل كل ما أورده عليك من قصتي، فهي لا تقل جمالا عما قصه عليك أصحابي.

قلت: كل أحاديثكم جميلة، وكلها تفوح بعطر الإيمان.. فهلم بحديثك.. فما أجمل أحاديث الإيمان.

قال: ما دام أصحابي قد حدثوك عن الصدفة والخلق.. والتطور والعلم.. والعشوائية والتصميم.. والصراع والسلم.. فلن أكرر ما ذكروا، وإن كنت مررت بكثير مما ذكروا، وإنما سيقتصر حديثي على التكيف والعناية.. ذلك أن حكايتي معهما هي مفتاح هدايتي إلى الله، وسبب تخلصي من كل الخرافات التطورية التي كنت أتعلق بها.

قلت: فما تعني بالتكيف والعناية.. وما الفرق بينهما؟

قال: التكيف يكون من ذات الشيء.. والعناية من خارجه.

قلت: لم أفهم ما تعني؟

قال: أرأيت إن وجدت طفلا رضيعا لا حول له ولا قوة.. ولكن مع ذلك تراه، وقد وضع له من أصناف الأطعمة التي يحتاجها بما يتناسب مع عمره، والبيئة التي يعيش فيها، حتى لا تؤثر فيه بجراثيمها وفيروستها، وحرها وبردها.. ما عساك تقول عن مصدر تلك الرعاية الخاصة التي حصلت له.. هل بسبب وجود حاضن رحيم فعل له ذلك؟.. أم أن الرضيع بحد ذاته حاول أن يتكيف مع الواقع، فيحصل له كل ذلك؟

قلت: لاشك أن الاحتمال الثاني جنون.. فمن أين للرضيع القوة والعقل الذي يوفر به لنفسه كل تلك الحاجات.. لاشك أن جهة رحيمة قد وفرت له ذلك.

قال: فهذا هو الفرق بين التكيف والعناية.

قلت: فمن هو المجنون الذي يقول بالتكيف، ولا يرى العناية؟

قال: التطوريون يقولون بالتكيف، ويهملون العناية، ويتصورون أن الكائن الحي وحده من يحدد حاجاته، ويوفرها، أو يتكيف مع الواقع، وينقلب جوهره إليه.

قلت: لكن كيف استطاعوا أن يقنعوا أتباعهم بذلك.. إن هذا محض جنون.. لعل هذا من أقوال أصحاب الداروينية القديمة.. تلك التي عفا عليها الزمن.

قال([1]): لا.. لن أحدثك عن الداروينية القديمة.. فأطروحاتها لم تعد تنطلي على أحد.. وإنما سأحدثك عن الدارونية الجديدة، فهي النظرية السائدة للتطور اليوم، فهي ترى أن الحياة قد تطورت من خلال آليتين طبيعيتين هما: الانتقاء الطبيعي والطفرة.. ويعتبرون كلا الآليتين متكاملتين.. أي تكمل إحداهما الأخرى.

قلت: ما تعني بذلك؟

قال: هم يذكرون أن أصل التنقلات الحاصلة بالتطور تعود إلى طفرات عشوائية تحدث في التركيب الجيني للكائنات الحية.. ويذكرون في نفس الوقت أن انتقاء السمات الناتجة عن الطفرات يحدث عن طريق آلية الانتقاء الطبيعي.. وبهاتين الآليتين يتم تطور الكائنات الحية كما يتصورون.

قلت: فهلا شرحت لي أكثر ما يقصدون.. وما علاقته بالتكيف والعناية؟

قال: ستفهم ذلك من خلال قصتي.. فلا تعجل.

التكيف.. والانتقاء الطبيعي:

اعتدل صاحبنا الخامس في جلسته، وحمد الله، وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.. ثم قال: لا يخفى عليكم أني في بداية أمري كنت من القائلين بنظرية التطور، شأني في ذلك شأن كل تلك الأجيال التي لم تدرس غيرها، ولم تعرف من النظريات سواها.. فقد كانت تدرس لنا مثلما تدرس التربية الدينية في المدارس المحافظة أو التابعة للكنيسة.

ولهذا كنت لا أتصور أن ينقض العلم في يوم من الأيام تلك المفاهيم التي تصورناها حقائق مطلقة، لا يمكن نقدها، مع أنها كانت مملوءة بالثغرات التي يسهل على أي عاقل أن يكتشفها.

وتبدأ قصة اصطدامي بهذه النظرية، وتخلخل يقيني المرتبط بها إلى ذلك اليوم الذي كنت جالسا فيه في عربة قطار مسافرا إلى مدينة تبعد كثيرا عن مدينتي.. وهناك رأيت عالما شابا من علماء الحياة يحدث شيخا كبيرا يبدو أنه بعض أقاربه عن نظرية التطور، ويحاول أن يقنعه بها.. وكان مما لا أزال أذكره جيدا قوله له: ما دمت لم تقتنع بكل ما ذكرت لك من أدلة، فسأورد لك الآن دليلا آخر، ربما يكون أقوى الأدلة، ولا يمكن لعاقل أن ينكره.

قال الشيخ: أنا في الاستماع.. وأرجو ألا يكون مثل الأدلة السابقة التي لا يمكن لمن يحترم عقله أن ينكرها.

قال الشاب: هذا دليل مختلف تماما.. وهو يثبت نظرية التطور بقوة لا مثيل لها.. وهو يثبت أن للبئية والظروف تأثيرها الكبير في حصول الانتقاء الطبيعي.

سكت قليلا، ثم قال: يذكر المؤرخون أنه وفي بداية الثورة الصناعية بإنكلترا كان لون لحاء الأشجار حول منطقة مانشستر فاتحاً إلى حد كبير.. ولهذا كان من السهل على الطيور التي تتغذى على الفراشات ملاحظة الفراشات ذات اللون الغامق التي تحط على تلك الأشجار، وهذا ما جعل الفراشات عرضة للانقراض، فلم يبق لها سوى فرصة قليلة للبقاء.

لكنهم اكتشفوا أنه بعد مرور خمسين سنة تحول لون لحاء الأشجار إلى اللون الغامق نتيجة التلوث.. واكتشفوا أيضا أن الفراشات فاتحة اللون صارت أكثر أنواع الفراشات عرضة للصيد.. وقد أدى ذلك إلى تناقص عدد الفراشات فاتحة اللون، بينما ازداد عدد الفراشات غامقة اللون، لأنه لم يكن من الممكن ملاحظة الأخيرة بسهولة.

سكت الشاب، فقال الشيخ: أكمل القصة.. ما الذي حصل؟

قال الشاب: انتهت القصة.. وموضع الشاهد فيها واضح جدا، ذلك أن هذا أكبر دليل على أن الفراشات فاتحة اللون قد تطوّرت إلى فراشات غامقة اللون.. وهذا وحده كاف في إثبات نظرية التطور.. بل هو دليل على أن نظرية التطور حسية تجريبية، والحس والتجربة أكبر أنواع الأدلة.

قال الشيخ: فهل كانت الفراشات غامقة اللون موجودة في جماعة الفراشات قبل الثورة الصناعية، أم لا؟

قال الشاب: كانت موجودة.. ولكن تغيرت أعدادها بالنسبة لأنواع الفراشات الموجودة في الجماعة.

قال الشيخ: لست أدري ما أقول لك.. وهل أتهم عقلي أم عقلك؟.. ذلك أن ما ذكرته لا يمكن استخدامه كدليل بأي حال من الأحوال على ما تذهب إليه.. ذلك أن ما وصفته بالانتقاء الطبيعي لم ينتج عنه أي نوع جديد لم يكن موجوداً من قبل.. ولم تكتسب الفراشات على حسب ما ذكرت أي خاصية أو عضو جديد قد ينتج عنه ظهور نوع جديد.. فلم تتحول الفراشة إلى طائر أو أي نوع آخر من الأحياء..

قال الشاب: ولكن ألا ترى أن تحول اللون كاف في الدلالة على ذلك؟

قال الشيخ: ولكنك ذكرت لي بأن ذلك اللون كان موجودا سابقا..

قال الشاب: ولكنه كان موجودا بأعداد أقل.

قال الشيخ: لا يهم ذلك.. فكونه موجودا كاف وحده في هدم كل ما ذكرت.. لأنك تريد أن تبرهن لي على انتقال الحيوانات من حال إلى حال.. ولم تثبت لي ذلك بأي دليل.

لم يجد الشاب إلا أن يغضب ويتأفف، ويقول بنبرة حادة غير مراع لحرمة الشيخ: لا أظن أنني أستطيع أن أقنعك.. فعقلك يابس وجاف، وأنت لا يمكنك أن تفهم أبدا.

قال الشيخ: لا بأس يا بني.. قد يكون عقلي كما وصفت.. لكن أجبني عن سؤال واحد.. فبه وحده يمكن أن تقنعني.

سكت الشاب، فقال الشيخ: هل كل علماء الحياة يقولون بنظرية التطور.. أم أن هناك خلافا بينهم في ذلك؟

كان السؤال مصيدة خطيرة للشاب، ولذلك راح يحتال عليها بقوله: حتى لو كان الأمر كذلك.. فالمنكرون لنظرية التطور مجانين حتى لو كانوا علماء حياة.

قال الشيخ: فعلماء الحياة المنكرون لنظرية التطور بحسبك يشبهونني في يبس عقلي وجفافه؟

قال الشاب: أجل.. فكل من ينكر نظرية التطور هو كذلك.

قال الشيخ: أرى يا بني أنك لا تتمسك بهذه النظرية لكونها حقيقة علمية.. وإنما لتحقق بها غاية لك.. فأخبرني ما هي، وكن صادقا معي.

قال الشاب: أي غاية تقصد؟

قال الشيخ: أنت تريد أن تلغي الله، وعنايته بخلقه، ولذلك رحت تحاول تفسير كل شيء بطريقة تجعل الكون والحياة غير محتاجة إليه.

قال الشاب: فلنفرض أني فعلت ذلك.

قال الشيخ: هذا هو الجنون الذي هو أخطر من يبس العقل وجفافه، لأن الحقائق لا يمكن أن ننكرها بالهوى والرغبة.. فالحق يبقى حقا حتى لو اجتمعت الدنيا كلها على إنكاره.

***

كان هذا الحديث بين الشيخ والشاب بداية حصول أول نخر في قناعتي بنظرية التطور، وربما يكون السبب في ذلك هو ذلك الهدوء والأدب والحوار الطيب الذي أبداه الشيخ، مقارنة بما أبداه الشاب من تهور وصلف وعنجهية.. وقد كان ذلك سببا نفسيا كافيا لي في إعادة النظر في كل قناعاتي حول تلك النظرية المجنونة.

لكن ذلك السبب لم يكن الوحيد، بل كان بجانبه سبب علمي وعقلي راح يلح على ذهني كل حين، ويدعوني إلى مراجعة قناعاتي..

ذلك أني وجدت بعد أن فتح لعقلي مجال التأمل ـ بسبب كلمات الشيخ ـ أن الانتقاء الطبيعي الذي يقول به الداروينيون لا يملك القدرة على إضافة عضو جديد إلى كائن حي أو إزالته منه، أو تغيير نوع كائن حي إلى نوع آخر على عكس الصورة التي يذكرها دعاة نظرية التطور.. فلم يتمكن أعظم دليل تم تقديمه منذ زمن داروين إلى يومنا هذا من المضي أبعد من دليل الاصطباغ الصناعي لفراشات الثورة الصناعية في إنكلترا، وهو دليل غير كاف بتاتا، بل هو نوع من المصادرة على المطلوب.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الانتقاء الطبيعي ـ بوصفه أحد العمليات الطبيعية ـ كان أمراً مألوفاً بالنسبة لعلماء الأحياء قبل دارون، وقد عرّفوه على أنه آلية تحافظ على ثبات الأنواع دون إفسادها.. لكن داروين لم يكتف بما ذكره علماء الحياة قبله، وإنما راح يذكر أن لهذه العملية قوة تطويرية، بل أقام نظريته بأكملها على أساس هذا الجزم.. بل إن الاسم الذي أطلقه على كتابه، وهو [أصل الأنواع بواسطة الانتقاء الطبيعي] يشير إلى هذا.

***

بينما كانت الخواطر تتجول في أنحاء ذهني بمثل تلك المعاني إذ دخل العربة التي كنت فيها مع الشيخ والشاب رجل يبدو عليه الوقار، وما إن رآه الشاب حتى أسرع إليه يصافحه بحرارة، ويقول: مرحبا بك أستاذي الكبير.. هذه فرصة عظيمة لأن أراك.

ثم ما لبث الحديث بينهما أن تحول إلى الحديث مع الشيخ، فقد قال الشيخ للأستاذ: لقد قطعنا الطريق كله مع قريبي هذا في الحديث عن نظرية التطور، وقد استعمل كل الوسائل لإقناعي لكن عقلي أبى علي.. وربما يكون لك من الأدلة ما يجعلني أقتنع.

ابتسم الأستاذ، وقال: وكيف أقنعك بشيء أنا نفسي لا أقتنع به.

ذهل الشاب لذلك، وقال: كيف تقول ذلك.. وأنت الذي درستنا هذه النظرية، وأقنعتنا بها.

فقال الأستاذ: أجل.. لقد فعلت ذلك باعتباري موظفا ملزما بتدريس المقرر كما طلب مني، وإلا فصلت عن عملي.. لكني في قرارة نفسي لم أكن مقتنعا بها، بل أرى أنه من المستحيل على أي عاقل أن يقتنع بها.

قال الشاب: كيف ذلك؟

قال الأستاذ: لأنها تفتقر إلى الأدلة.. هي مجرد نظرية خيالية لا حظ لها من العلم.. فمنذ عصر داروين حتى اليوم، لم يقدم أدنى دليل على أن الانتقاء الطبيعي هو السبب في تطور الكائنات الحية.. بل إن [كولين باترسون]، وهو كبير علماء المتحجرات في متحف التاريخ الطبيعي بإنكلترا، ومع كونه من أشهر دعاة التطور، ذكر أن أحداً لم يلاحظ أبداً أن للانتقاء الطبيعي قوة تتسبب في التطور.. لقد قال معبرا عن ذلك: (لم ينتِج أي أحد نوعاً بواسطة آليات الانتقاء الطبيعي، بل لم يقترب أحد منه ويدور معظم الجدال الحالي في إطار الدارونية الجديدة حول هذه المسألة)

قال الشاب: لكن ألا ترى يا أستاذ أن [الانتقاء الطبيعي] يدل على أن الكائنات الحية الأكثر تكيفاً مع الظروف الطبيعية يمكنها أن تبقى وتتكاثر، بينما تختفي تلك غير القادرة على التكيف.. فقطيع الغزلان الذي تهدده الحيوانات البرية، لا يبقى منه إلا الغزلان التي تستطيع الركض أسرع من غيرها.. أما العاجزة، فستلتهمها الحيوانات المتوحشة.

قال الأستاذ: أجل.. ذلك صحيح.. ولكن مهما استمرت هذه العملية، فإنها لن تحوّل الغزلان إلى نوع آخر من الأحياء؛ فسيبقى الغزال غزالاً دائماً.. فالانتقاء الطبيعي لا يمكن بأي حال من الأحول أن يزيد المعلومات الوراثية للأنواع أو يحسنها، كما لا يمكنه أن يحول أحد الأنواع إلى نوع آخر.. فليس بمقدوره أن يحول نجمة البحر إلى سمكة، ولا السمكة إلى ضفدع، ولا الضفدع إلى تمساح، ولا التمساح إلى طائر.

قال الشاب: ما تقول يا أستاذ؟.. إن هذا خطير.

قال الأستاذ: لست أنا الذي أقوله فقط.. إن كبار المدافعين عن نظرية التطور ذكروا هذا.. وأذكر من بينهم [غولد]، وهو من كبار المدافعين عن فكرة التطور المتقطع، فقد أشار إلى هذا الطريق المسدود الذي يواجه الانتقاء الطبيعي، فقال: (يكمن جوهر الدارونية في عبارة واحدة: الانتقاء الطبيعي هو القوة الإبداعية للتغير القائم على التطور.. ولا أحد ينكر أن الانتقاء الطبيعي سيلعب دوراً سلبياً في التخلص من العناصر غير القادرة على التكيف، ولكن النظريات الدارونية تتطلب أيضاً خلق عناصر قادرة على التكيف)

قال الشيخ: شكرا يا أستاذ.. فهذه الكلمات التي قلتها تثلج الصدر، وتتوافق مع العقل والمنطق.. وإلا فكيف يمكن لأي عقل أن يقتنع بأن الانتقاء الطبيعي يمكنه أن يتسم بالوعي والقدرة على التصميم، ليقوم بكل تلك العمليات المعقدة.

قال الأستاذ: صدقت.. فالانتقاء الطبيعي لا يملك أي وعي لسبب بسيط، وهو أنه لا يملك أي علم أو إرادة يمكنها أن تقرر ما ينفع الكائنات الحية وما يضرها.. ولهذا لا يستطيع الانتقاء الطبيعي أن يفسر النظم البيولوجية والأعضاء الحية التي تتسم بقدر من التعقيد يتعذر تبسيطة.. فهذه النظم والأعضاء تتكون نتيجة تعاون عدد كبير من الأجزاء، وهي تصبح عديمة النفع إذا فُقد ولو عضو واحد منها أو صار معيبا.

سكت قليلا، ثم قال: من الأمثلة على ذلك أنه لا يمكن أن تعمل عين الإنسان ما لم تكن موجودة بكل تفاصيلها.. ولذلك، فإنه من المفترض أن تكون الإرادة التي جمعت كل هذه الأجزاء معاً قادرة على أن تستقرئ المستقبل بشكل مسبق، وتستهدف مباشرة الميزة التي ستكتسب في المرحلة الأخيرة.. وبما أن آلية الانتقاء الطبيعي لا تمتلك وعياً أو إرادة، فلا يمكنها أن تفعل أي شيء من هذا القبيل.

قال الشاب: ولكن كيف لم ينتبه داروين مع عبقريته وعلمه الكثير إلى هذه النقطة المهمة، والتي تقوض نظريته كليا؟

قال الأستاذ: لقد انتبه لها، بل ذكرها، فقال: (إذا كان من الممكن إثبات وجود أي عضو معقد لا يُرجَّح أن يكون قد تكَّون عن طريق تحورات عديدة ومتوالية وطفيفة، فسوف تنهار نظريتي انهياراً كاملاً).. وهي شهادة صادقة منه بأن نظريته يمكنها أن تقوض من أساسها، لكن الذين استفادوا منها في نشر مذاهبهم وأيديولوجياتهم، راحوا ينافحون عنها بكل أصناف الحيل والخدع.

قال الشاب: ولكن ألا ترى أن للانتقاء الطبيعي دوره في استبعاد الأنواع المشوهة أو الضعيفة أو غير القادرة على التكيف؟

قال الأستاذ: أجل.. وهذا هو دوره المحدود الذي لا يتعداه.. ذلك أنه لا يمكن بالانتقاء الطبيعي أن ننتج أنواعاً جديدة، أو معلومات وراثية جديدة، أو أعضاء جديدة.. فليس بمقدوره أن يجعل أي شيء يتطور.. وقد قبل داروين هذه الحقيقة بقوله: (لا يستطيع الانتقاء الطبيعي أن يفعل شيئاً ما لم تُتح الفرصة لحدوث اختلافات مواتية)

ولهذا السبب اضطرت الدارونية الجديدة إلى الارتفاع بمستوى الطفرات بوصفها السبب في التغيرات المفيدة إلى مستوى الانتقاء الطبيعي.. ومع ذلك لا يمكن أن تكون الطفرات سوى سبب في التغيرات الضارة.

قال الشاب: شكرا أستاذي على هذه المعلومات القيمة، وأرى أنك قمت بالدورين جميعا، فأنت الذي أقنعتني سابقا بهذية النظرية، ثم أنت الآن تقنعني بتركها.. فبأي شخصيك أثق؟

قال الأستاذ: ذلك ظاهر.. فلكل شخص مراحل فكرية يمر بها، وهو في العادة أكثر نضجا وقوة وإدراكا في مراحلة الأخير، ذلك أنه يكتشف فيها ما لم يكن قد اكتشفه في مراحله السابقة.. بالإضافة إلى ذلك، فأنت كنت تتعامل مع موظف في مؤسسة، وهو مكبل بقيودها وقوانينها خشية على رزقه.. أما الآن فأنت تتحدث مع متحرر يعرف ما يقول، ويؤمن بما يقول، ولا يخاف شيئا.

قال الشاب: فهلا أتممت حديثك لي.. حتى أتيقن بما تيقنت به.

قال الأستاذ: لك ذلك.. ولكن للأسف وصلت للمدينة التي أريد الذهاب إليها.. وذلك ما يمنعني من مواصلة الحديث.

قال الشاب: وأنا أيضا سأنزل معك هذه المدينة.. ولو لم يكن لي بغية فيها إلا التحقق من هذه النظرية التي جعلتني كالمجنون أحاول أن أقنع بها كل الناس، مع أنه لا جدوى لها في حياتي ولا في حياتهم.

***

ما إن قال ذلك حتى توقف القطار، ثم نزل الثلاثة، وبقيت وحدي.. لكن شاء الله أن يرسل لي شابين آخرين، لم يكن لهما من حديث إلا نظرية التطور.

قال أولهما، وهو يمسك كتابا مملوءا بصور الحيوانات: أود منك يا صديقي أن تشرح لي في هذا الطريق نظرية لامارك.. فلدينا امتحان فيها هذا الأسبوع.

قال الثاني: ألا تعرفها؟.. إنها بسيطة جدا.. ويمكنك ـ لكي تستوعبها ـ أن تشبهها ببعض الرسوم المتحركة التي تحبها.. فهي لا تختلف كثيرا عنها.

قال الأول: كيف ذلك؟

قال الثاني: هي نظرية تحاول أن تفسر التنوع الموجود في الكائنات الحية.. لا بكون كائن له كينونته الخاصة.. وإنما بافتراض أن هذه الكائنات تغيرت من حال إلى حال.

قال الأول: أعرف هذا.. ولكن كيف ذلك؟

قال الثاني: هو.. أي لامارك.. يرى أن عدم ثبات الأنواع على حالها يعود إلى الظروف المختلفة، كتأثير المناخ والغذاء وغيرها.. أي أن الكائنات نشأت عن أخرى، غير متشابهة لها عبر أزمان طويلة، كان التغيير فيها أو في بعض أعضائها وفقاً لظروف البيئة الخارجية، ثم انتقلت هذه التغييرات المكتسبة إلى الجيل التالي له بالوراثة.

قال الأول: ولكن كيف ذلك؟

قال الثاني: هو يرى أن ذلك تم بحسب قانونين هما قانون الاستعمال والإهمال.. وقانون توريث التغييرات المكتسبة.

قال الأول: فما قانون الاستعمال والإهمال؟

قال الثاني: هو القانون الذي تم بموجبه ـ على حسب ما يرى ـ تغير بعض أعضاء الكائن الحي، إما بالضمور، أو الزيادة، أو الضعف، أو القوة نتيجة لإهماله أو كثرة استعماله.

قال الأول: فهلا ضربت لي أمثلة عن هذا؟

قال الثاني: لقد تكفل لامارك نفسه بهذا، فقد ضرب مثالا على ذلك بنمو واستطالة رقبة الزرافة نتيجة لمحاولتها المستمرة للوصول إلى غذائها من أوراق الأشجار العالية بعد تعرية الفروع التي هي أدنى منها.. وضرب مثالا على ذلك بنمو سيقان الطيور التي تعيش في المستنقعات والبحيرات، واستطالة مناقرها ورقابها لاصطياد الأسماك منها.. وبالفقاريات التي تتغذى بدون مضغ، حتى تضمر أسنانها، وتصبح خفية في اللثتين مثلاً: الحوت، وآكل النمل.. وبالخلد، الذي يعيش في الظلام، فلذلك كانت له عينان صغيرتان جداً لا تكاد تنهضان بوظيفة.

ضحك الأول، وقال: حقا.. إن أمثلته تشبه بعض أفلام الرسوم المتحركة.. فحدثني عن القانون الثاني.

قال الثاني: هو قانون [توريث التغييرات المكتسبة].. ويقصد به أنه بعد ظهور المتغيرات الجديدة التي اكتسبها الأفراد، يتم توريثها للجيل الجديد.

 قال الأول: ولكن كيف ذلك.. لقد درسنا في دروس العلوم أن بحوث العالم [جريجول مندل]، و[طوماس مورجان] أكدت بما لا مجال فيه للشك بعدم إمكانية توريث الأجيال التالية لتلك الصفات التي اكتسبها أسلافهم..

قال الثاني: أجل.. أعلم ذلك.. فختان أبناء المسلمين، وأبناء اليهود، لم تورث أية طائفة لنسلها هذه الخصائص.. وهكذا يقال بالنسبة لتلك الأطواق التي تمسكت بها نساء (بورما) لإطالة أعناقهن.. ويقال الشيء نفسه مع أحذية نساء الصين الصغيرة.. وأذكر كذلك أن أستاذا لنا ذكر لنا أن الباحث [وايزمان] قام بتجربة طويلة الأمد كان خلالها يقطع ذيل الفئران مباشرة بعد ولادتها، وبعد توالد هذه الأنواع لم يحصل على فئران بدون ذيل.

قال الأول: فالقانون الثاني إذن لا قيمة علمية له بحسب هذه النتائج؟

قال الثاني: والقانون الأول كذلك.. فنوع الزرافات التي ضرب بها لامارك المثل على صحة هذا القانون ما زال موجوداً، وما تزال إناثه تحمل رقاباً قصيرة فلماذا لم تمت إناث هذه الزرافات ذات الرقاب القصيرة وقت فناء الزرافات القصيرة الأعناق بسبب جوعها نتيجة لارتفاع مأكلها عن متناول أفواهها؟.

وهذا يقال أيضا في صغار الزرافات التي تبقى قصيرة الرقاب بعد مرحلة الفطام لمدة طويلة لا تتمكن من الوصول إلى تلك الفروع.. فلماذا لم تمت تلك الصغار؟

أما صغر أعين الخلد وضمور أسنان بعض الفقاريات، فذلك راجع إلى الصفات الوراثية الكامنة في الصبغيات.. فهذه صفات تكون موجودة قبل الالتقاء مع الظروف الخارجية، وكمثال على ذلك: اختلاف سمك الجلد عند المولود في أخمص قدميه وليونته في الوجه مثلاً.

قال الأول: صدقت.. فلو كان قانون الإهمال والاستعمال يعمل لصالح الأنواع لما انقرضت بعض الحيوانات مثل الديناصور عندما تغيرت ظروفها.

قال الثاني: ولذلك دعوتك إلى أن تعتبرها مثل الرسوم المتحركة، فهي نظرية للتسلية لا للتعليم..

قال الأول: ولكن لم يتعبوننا بدراستها وحفظها؟

قال الثاني: لسبب بسيط وهي أن [داروين] انطلق منها ليدعونا إلى نظريته المملوءة هي الأخرى بأصناف الخرافة والدجل.

قال الأول: ألهذا أيضا يدرسوننا نظريات [جورج كوفييه]

قال الثاني: أجل.. فهو يرى أن ظهور الأصناف والأنواع يأتي عقب حدوث الكوارث التي كانت تبيد وتفني بعض أنواع الأحياء، لتظهر بدلاً منها أنواع جديدة.. وبتكرار الكوارث، يتكرر خلق الكائنات الحية في كل مرة.

ضحك الأول، وقال: كيف ذلك؟.. نحن في العادة نرى أن الكوارث لا يمكن أن تترك أحياء إلا بتدخل عوامل خارجية لا دخل للناجين فيها.. ولو افترضنا أن الكوارث تركت أحياء، فما هي القدرة الذاتية التي استطاع بها الناجون أن يقاوموا دون غيرهم ممن ماتوا؟

قال الثاني: صدقت.. فالدارس والمتمعن للكوارث التي حدثت في أنحاء العالم منذ آلاف السنين، وأبادت ملايين الأحياء لم يحصل بعدها أي نشوء أو ارتقاء.. ولو افترضنا أنها أسفرت عن نشوء وارتقاء بعض الأحياء، فإن أبحاث [مندل] وغيرها تدل على أنه يستحيل توريث هذه الخصائص المكتسبة للأجيال القادمة، لأن الخصائص التي تورث للأجيال عند نوع ما، سواء كان نباتاً أو حيواناً، هي فقط تلك التي تكون مسجلة في كروموزومات أفراد ذلك النوع.

قال الأول: لكن لم يدرسوننا هذه النظريات مع علمهم أنها لا تفيدنا شيئا؟

قال الثاني: لقد عبر عن ذلك العالم الدارويني [آرثر كيث]، فقال: (نظرية التطور لم تثبت، ولن تثبت، والسبب الوحيد الذي يجعلنا نأخذ بها هي أنها البديل الوحيد لنظرية الخلق المباشر)

قال الأول: إذن هم لا يقصدون بها إلا حرب الأديان؟

قال الثاني: أجل.. فهي قد نشأت أصلا في ذلك الوقت الذي حاول فيها رجال العلم أن ينتقموا من رجال الدين.. ولذلك كان من وسائلهم لحربها هذه النظرية.

قال ذلك، ثم انصرف مع صاحبه، بعد أن توقف القطار..

***

بعد خروجهما جاء بدلهما رجل يمسك جريدة، وأخذ يقرأ فيها بتمعن شديد، ثم فجأة راح يصيح، وهو يشير إلي: انظر.. انظر.. ها هي نظرية التطور تسقط أخيرا بعد أن صدعت رؤسنا سنين طويلة.

قلت: ما الذي حصل.. هل من خبر جديد؟

قال: أجل.. لقد اكتشف كائن صغير لا يتعدّى طوله الملّيمترين يحمل خصائص عجيبة([2])، تهدم كل الأركان التي بنيت عليها نظرية التطور..

قال ذلك، ثم راح يقرأ علي من جريدته: (اكتشف العلماء كائنا حيا لا يتعدى طوله الملّيمترين يتمتع بخصائص غاية في الغرابة.. فهو يتحّمل التعرّض لدرجة حرارة 273، 9°ـ لمدّة 20 ساعة.. يتحّمل درجة حرارة إلى حدّ 190°+.. ويعيش تحت ضغط مائي ستاتيكي 600 ميغاباسكال ستة مرّات درجة الضغط بأسحق المحيطات مع العلم أنّ 30 ميغاباسكال كافية لسحق الخلايا وإحداث أضرار بالغشاء الخلوي والبروتونات وغيرها.

قلت: لكن كيف تسبب هذا الكائن في هدم نظرية التطور؟

قال: أنت تعلم أن التطوريين يعتبرون الطبيعة قادرة على تطوير أنظمة الكائنات بحيث تتلاءم مع الظروف في وسطها؟

قلت: أجل.. ذلك صحيح.. وهو من الأسس التي تقوم عليها نظرية دارون.

قال: فهل يمكن أن تجمع الطبيعة في كائن واحد قدرة على التأقلم في أوساط متناقضة كليا.. بل غير موجودة بالمرة؟.. لماذا يُدجّج حيوان بهذا الكمّ من المقدرة على تحمّل ظروف لاتتواجد في الطبيعة.. وهل هذا الكائن قفز فوق نظرية التطوّر؟ أم هو خُلق!

قلت: لقد ذكرني حديثك هذا بداروين الذي اعترف أن هناك مشكلة كبرى في نظرية الانتخاب الطبيعي التي أصلَّها في كتابه أصل الأنواع، فقد وجد أن الإنسان الإفريقي الضعيف يتكاثر ويزداد مع الوقت، وأن الإنسان الأوربي الأقوى يقل مع الوقت، فقام بوضع كتاب [أصل الإنسان عن طريق الانتقاء الجنسي]، وهنا استبدل الانتقاء الجنسي بالانتخاب الطبيعي، ذلك أنه وجد أن الذي يسعى بدوافع جنسيه يبقى أكثر ممن يسعى بدوافع أخرى، فصار الدافع الجنسي أقوى دلالة على البقاء من دافع الطبيعة والقوة..

قال: أجل.. أعلم.. ولست أدري ماذا كان يمكن أن يطرح من بدائل ونظريات إذا علم بهذا الكائن العجيب.

قال ذلك، ثم وقف أمام النافذة، وراح يقول: لقد اعترف [د. نيلس ايلدريدج]، وهو عالم حفريات من أنصار نظرية التطور، بأن نظرية التطور نطرية مريضة تتعرض للأوجاع كل يوم، بل واعترف بأن تخصصه مجرد خدعة كبرى، فادعاءات التطور الخاصة بسلاسل الحصان المعروضة في نفس المتحف الذي يعمل به تعتمد في الأساس على نسج من الخيال فحسب.

وقد انتقد بشدة عرض هذه السلسلة الزائفة في الكتب الدراسية والقبول بها وكأنها حقيقة علمية مسلَّم بها، فقال: (أعترفُ أنهم زجوا بها في الكتب الدراسية بمقادير كبيرة، وكأنها حقيقة علمية مؤكدة.. وأشهر نموذج على هذا هو عرضهم لمراحل تطور الحصان الذي لا زلنا نراه في الطابق العلوي، والذي تم اعداده منذ 50 عاماً.. وقد تجلي ذلك واضحا في الكثير من الكتب الدراسية، وكأنه حقيقة غير قابلة للنقاش، ويحزننى هذا الوضع كثيراً الآن، لأن الاشخاص الذين نسجوا هذا النوع من الحكايات، قد اعتقدوا أن جزءا من هذه الحفريات مصدره طبيعة زائفة، وبصفة خاصة ما اعلنوه عنه بأنفسهم، فالحصان ذو الحافر الواحد والاثنين والثلاثة ظهروا معا وفي نفس الوقت لكن التزييف ضرورة عندما تنقصنا المعلومة الحفرية)

التفت إلي، ثم قال، وهو يبتسم: لقد ذكرني حديث [د. نيلس ايلدريدج] بصديق لي راح يرسم السيناريو التطوري بشكل ساخر.. فقال لي، وهو يخاطبني: إن كلام التطوريين يشبه من يزعم بأنه ما دامت أُنوفنا جُعلت كي تحمل النظارة، فلذلك كان لدينا نظارات..

وهكذا، فإن علماء الأحياء التطوريين يستخدمون هذا المنطق عندما يريدون الحديث عن أي بُنية ما، وعن الفائدة في وجودها.. فهم يؤمنون بعصا التطور السحرية التي تسد احتياجات الكائنات الحية في الطبيعة..

فهم يقولون ـ مثلا ـ بأن خرطوم الفيل يعطي الفيلة مزية لالتقاط الأطعمة من على الأرض، ومن ثم فإن خرطوم الفيل قد تطور من أجل أن يلتقط الطعام من على الأرض.. ويذكرون أن قامة الزرافة تجعلها تستطيع الوصول إلى الأغصان المرتفعة، ومن ثم فإن قامة الزرافة قد تطورت من أجل أن تمتد إلى الأوراق والأعشاب الكائنة بأماكن شاهقة ومرتفعة.. فهذا الإيمان أشبه ما يكون بالإيمان بالخرافات والاعتقاد فيها.

التكيف.. والطفرات الوراثية:

بعد أن سمعت كل هذه الأحاديث وغيرها، والتي شاء الله أن تجتمع جميعا في محل واحد، لتزيح قناعاتي بتلك النظرية التي كنت أتشبت بهذا من غير أن يكون فيها أي شيء يغري بها أو يدل عليها.. وبعد أن وصلت إلى البلدة التي كنت أنوي الذهاب إليها، سرت إلى المخبر الذي جئت من أجله، وهناك رأيت الضربة القاضية تنهال على تلك النظرية لتقضي عليها قضاء مبرما لا حياة لها من بعده.

عندما دخلت المخبر، وجدت عالما يقف بين يدي مجموعة تلاميذ، وهو يقول لهم: الآن بعد أن فهمتم هذا، بل رأيتم بأعينكم عبر هذا الشريط كيفية حدوثه، اسألوا ما بدا لكم.. لكن لا تخرجوا كعادتكم عن الموضوع.. فأنا باحث فيزيائي وطبيعي، ولست فيلسوفا ولا مفكرا.

قال أحد التلاميذ: لقد رأيت بعضهم يربط بين الطفرات الجينية والإشعاعات النووية.. فهل هذا صحيح؟

قال الأستاذ([3]): أجل.. هو صحيح بنسبة كبيرة.. فأغلب الطفرات الجينية تحدث بسبب الإشعاعات النووية، مثل أشعة غاما، أو أشعة ما فوق البنفسجية، أو الأشعة السنية، أو بسبب تدخل كيميائي، أو خطإ في ترتيب القواعد النيتروجينية في الحمض النووي أثناء إنقسام الخلية.

قال التلميذ: هلا وضحت لنا أكثر.

قال الأستاذ: أنتم تعرفون أن نظام الحمض النووي على صغره مخزون في حصن حصين داخل النواة.. ولا تؤثر عليه مختلف العوامل البيولوجية أو الجوية، لكن الإشعاع النووي يستطيع النفاذ إلى داخل هذا الحصن، ويحدث خللا في ترتيب الجينات بما يخالف الأوامر الصادرة من الخلية.. وحينها يقع الخطأ في نسخ المعلومات المُشَفَّرة في الحمض النووي، أو يقع خطأ في قراءة الشفرة الوراثية، سواء في مصنع البروتينات داخل الخلية، أو عند أي من أعضاء وأجهزة الجسم الخادمة لطلبات الخلايا، والمستقبلة للرسائل البروتينية المشفرة من قبل الخلايا.

قال التلميذ: فما نسبة حدوث الطفرات؟

قال الأستاذ: هي نسبة قليلة جدا.. فالطفرات نادرة الحدوث، فالتجارب التي أجراها [دي فريز] على نبات البازلاء، وجد فيها أن معدل التغيُّر 1 على 500، والتجارب التي أجراها [مورجان] على ذبابة الفاكهة وجد فيها أن معدل التغيُّر 1 على 100000.

قال التلميذ: ولكنك ذكرت عوامل كثيرة قد تتسبب في حدوث الطفرات.

قال الأستاذ: أجل.. ذكرت ذلك.. ولكنها تبقى عوامل نادرة جدا إذا ما قورنت بالسير العادي للنظام البيولوجي في الإنسان، إذ المُسَلَّم أن الإنسان يتعرض لقدر من الإشعاعات النووية الطبيعية، والتي يكون مصدرها غازي الرادوم وغاز الثورون المتواجدان في الغلاف الجوي، وفي التربة والأخشاب والصخور، خصوصا الرخام.

وفي الغالب فإن ما يتعرض له البشر من إشعاع طبيعي منبعث من هذه المصادر لا يتجاوز المعدل الطبيعي الذي يعتبر آمنا وهو 300 + ميليريم.. وهي نسبة لا تقوى على اختراق حصن الخلية والإضرار بنظامنا الجيني.

وقد ورد في دراسة أعدتها اللجنة الأمريكية للترتيبات النووية عن حقيقة التأثيرات البيلوجية للإشعاع أظهرت فيه أن 50 بالمائة من الإشعاعات التي يتعرض لها البشر هي من فعل البشر أنفسهم من خلال محطات الطاقة النووية، وأجهزة الكشف بالأشعة، والمعالجات النووية الطبية، وغيرها.. بينما تشكل المصادر الطبيعية من الرادون والثورون 37 بالمائة فقط، ولا يشكل الإشعاع الوافد من الكون الخارجي سوى 2,5 بالمائة.. وهذه النسبة مساوية لما ينبعث من إشعاع من مركز الأرض.

قال تلميذ آخر: فهذه الدراسات تثبت إذن أن الكائنات الحية تتعرض لقدر من الإشعاعات المختلفة بشكل شبه دائم؟

قال الأستاذ: أجل.. لكن أغلبية الإشعاعات غير ضارة..

قال التلميذ: وهذا يعني أن بعضها قد يكون ضارا، ويؤثر على تركيبة الحمض النووي، وترتيب الأحماض الأمينية المركبة للبروتين.

قال الأستاذ: أجل.. ذلك صحيح.. وتلك العوارض السلبية تبقى متراكمة في النظام الجيني بالرغم من أنه يملك آلية معقدة جدا لإصلاح ما تفسده الطفرات الضارة.

قال التلميذ: فهل يؤثر تراكم هذه الطفرات في النظام الجيني على الأجيال القادمة؟

قال الأستاذ: أجل.. فللأسف تلك الطفرات تورث نقائص وعيوبا في الترتيبات الجينية، وهي تورث للأجيال القادمة.. مما يؤثر في مستقبلها.

قال التلميذ: فما تقول في دعوى التطوريين بأن الطفرات عامل إيجابي نشأ عنه تطور الكائنات الحية إلى ما نراه؟

قال الأستاذ: أنتم تريدون أن تقحموني فيما نهيتكم عنه.. فقد ذكرت لكم كل مرة بأنني باحث، ببأباحث ولست فيلسوفا.. لذلك أرجو أن تعفوني من أي سؤال قد يضعني في تلك المتاهات.

قال التلميذ: لا بأس أستاذنا.. نعلم ذلك.. ونعلم فوقه ما تعرضت له من متاعب بسبب أحاديثك في مثل هذه الأمور.. ولذلك سنعفيك من أي استنتاج قد يؤذيك.. لكنا مع ذلك لا نعفيك من أن تعطينا المعلومة الصحيحة.. ثم تدعنا نستنتج بعدها ما نشاء.

قال الأستاذ: لك ذلك.. فسل.. وسلوا ما بدا لكم.

قال التلميذ: هل يمكن اعتبار الطفرات وسائل لبناء تطور جميل تقوم عليه الحياة؟

قال الأستاذ: ذلك مستحيل.. فالطفرات عامل تدمير وانحراف جيني في الكائنات وليس عامل تطوير وارتقاء.. وما يلحق الكائنات من ضرر وانحراف في شفرتها الوراثية خطير جدا يهدد الكائنات في وجودها.. إذ من المعلوم أن آثار الطفرات إن وقعت تتراكم في الجينات، وتورث للأجيال التالية.. ولذلك فإن مآل الكائن الحي ـ حسب هذا الخيار ـ هو التقهقر في سُلَّم الترقي، وليس العكس.

قال التلميذ: هلا وضحت لنا أكثر.. فبعض أساتذتنا ذكر لنا أن الحمض النووي، وما يقوم به من دور استراتيجي في بناء وبقاء الكائنات كان إغراء لا يقاوم للتطوريين.

قال الأستاذ: أجل.. ولكنهم غفلوا على حقيقة كبيرة، وهي أن الطفرات لا تضيف جينات جديدة، وإنما تعبث بالتي هي موجودة أصلا.. فمن المعلوم أن أنواع الكائنات الحية تختلف فيما بينها من حيث عددُ الجينات، وما يسمى بالخانات الجينية.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن عدد القواعد الجينية المزدوجة في كائن بسيط مثل الفأرة هو 2600 مليون، بينما لا يتعدى 100 مليون في دودة الأرض.. وبالتالي فإن هذه الدودة تحتاج إلى 2500 مليون قاعدة جينية إضافية كي تصل إلى طبقة الفئران في سلم التطور المفترض.. فكيف لها أن تحصل على كل هذا العدد الهائل؟

قال التلميذ: هذا مستحيل.. وخاصة إذا أضفنا إلى هذا كون الطفرات لا تضيف جينات جديدة كما ذكرت لنا.

قال الأستاذ: بالإضافة إلى ذلك كله، كيف يمكن بواسطة الطفرات العشوائية غير المنظمة، والتي تشق طريقها في مسار مادي أعمى غير موجه ـ كما يصر الداروينيون الجدد ـ أن يبني هذا النظام الجيني الذي حار في دقته وصرامته، وكماله العلماء..

قال التلميذ: أضف إلى ذلك ـ سيدي ـ أن الفأرة التي ضربت لنا مثالا عنها ليست سوى كائن من بين آلاف الكائنات الثديية المعروفة.

قال الأستاذ: ولذلك.. فإن الاتجاه الذي تسير فيه الطفرات هو عكس اتجاه نظرية التطور.. ذلك أنه من المسَلم أن الطفرات غالبيتها الساحقة تكون ضارة أو محايدة.. وأكثر العلماء تفاؤلا ذكروا بأن النسبة الضارة والمدمرة من الطفرات بالنسبة للمحايدة أو النافعة هو 70 بالمائة.. وهناك آخرون زادوا النسبة إلى ما يقرب من 99 بالمائة.. أما عالم الجينات الشهير [إكس ماجور] فقد ذكر بأن نسبة الطفرت الصحية لا تزيد عن واحد في المليون.

وخير من كتب في هذا الموضوع هو عالم الجينات المتميز [جون ستانفورد]، حيث وصل في أبحاثه العميقة إلى نتيجة مفادها أن النسل البشري والحيواني يتجه نحو الانحدار، وليس نحو الارتقاء.. وذلك بسبب ما يتراكم في الجينوم البشري من السلبيات والنقائص التي تـخَلفها الطفرات المختلفة، وتورثها الأجيال لبعضها البعض.

بل إنه في بعض كتبه قال: (تخيل وجود سجل يضم عشرات الآلاف من صفحات التعليمات، بحيث تحدث تغييرات اعتباطية كل مرة يتم نسخ تلك التعليمات، مَن سيُبقي ثقته في تلك التعليمات؟ وكم من التغييرات سيتطلب الأمر قبل أن يصبح سجل تلك التعليمات بدون فائدة؟ كم يتطلب من الوقت كي يمسي ذلك السجل غير قادر على إحداث أية فعالية؟ إنها شهادة في حق طبيعة نظامنا الجيني الذي أبقانا أحياء على الرغم من مستوى الاضمحلال الذي نتعرض له)

وقال الدكتور [ايانتش]: (حتى لو أخذنا بأضعف مدى في الطفرات، فإننا نتدهور بنسبة 1 إلى 5 بالمائة في كل جيل)

وقال الدكتور [كوندراشوف]: (لا أحد من علماء الجينات يشك في أن النسل البشري في انحدار)

بل إن الدكتور [كرو] عبر عن هذه الحقيقة بقوله: (إننا اليوم أدنى رُقيا من إنسان الكهوف)

قال تلميذ آخر: لقد قرأنا ـ أستاذنا الكريم ـ عن بعض علماء الجينات اعتباره أن احتمال توقع الارتقاء، والتقدم من خلال الطفرات يشبه باحتمال ازدياد فعالية محرك السيارة إذا أطلقت عليها النار برصاصة.. أو كمن يقذف جهاز التلفاز التقليدي بالحجارة، ويتوقع منه أن يتحول بسبب ذلك إلى تلفاز بلازما مسطح.

ضحكوا جميعا.. ثم قال الأستاذ: ولهذا نرى كبار علماء الجينات يصرحون باستحالة اعتبار الطفرة وسيلة للتطور، فقد قال [دايفيس وكينيون]: (لا يوجد دليل على أن الطفرات تخلق هياكل جديدة، وإنما دورها على وجه التحديد يظهر في تغيير ما هو موجود أصلا).. وقال: (إن الزعم أن الطفرات حتى إلى جانب الانتخاب الطبيعي هي الأسباب الجذرية في وجود 6 ملايين من أنواع الكائنات المختلفة والمعقدة بشكل مذهل هو استهزاء بالمنطق، وإبطال لقيمة البرهان، ورفض لأساسيات علم فرع الاحتمالات في الرياضيات)([4])

 وقال [سورين لوفتراب] في كتابه [الداروينية تفنيد أسطورة]: (إن الطفرات الدقيقة تحدث بالفعل، ولكن النظرية التي تسند إليها التغيير الارتقائي إما أنها مفندة علمية أو أنها غير قابلة للتفنيد العلمي، وبالتالي فهي من النظريات الماورائية.. هب أن لا أحد ينفي أنه من المؤسف فعلا أن يصبح فرع كامل من العلوم مدمنا على نظرية باطلة، ولكن هذا ما حدث في علم الإحياء.. وأعتقد أنه سيأتي اليوم الذي تصنف فيه أسطورة الداروينية كأكبر خديعة في تاريخ العلوم، عندما يحدث ذلك كثير سيستغربون ويقولون: كيف أمكن حدوث ذلك؟)

وقال [ماير إيرنيست] في كتابه [الأنظمة وأصل الأنواع]: (إنه لمن دواعي السذاجة أن يتخيل أن هذه الأنظمة الدقيقة التوازن، مثل الحواس(عين الفقاريات، أو ريش الطيور) يمكن أن تتحسن عن طريق الطفرات الاعتباطية)([5])

وقال [بيير بول جراس] في كتابه [تطور الأنظمة الحية]: (ما هو جدوى طفراتهم الامتناهية إذا لم تنتج لنا تطورا ارتقائيا؟ في المحصلة فإن الطفرات في الباكتيريا والفايروسات هي محض تقلبات وراثية حول موقع وسط، رجحة ذات اليمين ورجحة ذات اليسار ولكن بدون أثر تطوري نهائي)([6])

وقال [ستيفين جاي جولد]: (لا يمكنك الحصول على أنواع حية جديدة (كائنات نوعية) بواسطة تطفير الأنواع. فالطفرة ليست سببا للتغيير التطوري الارتقائي)

قال التلميذ: شكرا جزيلا أستاذنا الفاضل.. فقد تبين لنا من خلال حديثك العلمي هذا أن الطفرات الجينية لا يمكن أبدا أن يعول عليها في الانتقال من نوع إلى نوع آخر، فهي قد تحدث بعض التغييرات في الكائن الحي الواحد.. وفي الغالب الأغلب تكون هذه التغييرات ضارة، بل ومهلكة بسبب الفوضى الذي تحدثها في نظم الحمض النووي.

قال الأستاذ: أجل.. فعملية انقال نوع إلى نوع في اتجاه ارتقائي صعودا من الأدنى إلى الأعلى تتطلب إضافة سيل من الجينات الجديدة، وكمية هائلة من المعلومات الجينية الصارمة والدقيقة بحيث لو كتبناها في سجلات ورقية لاحتجنا إلى البلايين من المجلدات في الكائن النوعي الواحد.. ومعلوم مسبقا ـ كما ذكرت لكم ـ أن الطفرات لا تضيف جينات جديدة، ذلك أن الجينات هي بنك المعلومات، وبالتالي فهي لا تضيف معلومات من خارج نظام، فلا يوجد أي نسق ومسار بيلوجي ملاحظ، بواسطته يمكن إضافة المعلومات الجينية إلى الشفرة الوراثية للكائن الحي من خارج نظامه للحامض النووي.

قال التلميذ: هلا وضحت لنا هذا.

قال الأستاذ: لو ألقينا نظرة خاطفة على زعم الداروينيين الجدد الذين يذهبون مع النظرية العتيقة المفترضة لكون الحيونات البرمائية أصلها أسماك، فكيف لبيض البرمائيات المائع والسَّلَوِي القشرة، والذي هو مُعَدُّ للوضع والتفقيس في الماء، وإذا ما وضع على البر جف وتلاشى، وبالتالي تتعرض البرمائيات إلى الانقراض.. فكيف للطفرات أن تحوله من بيض مائع رخَوي القشرة إلى بيض قاسي القشرة بحيث يتحمل حرارة الشمس ويقاوم التبخر الداخلي؟

سكت قليلا، ثم قال: الأمر لا يتعلق بقشرة البيض فحسب، بل ذلك جانب واحد فقط من صفات فيسيلوجية رئيسية معقدة لا بد من تجذيرها في نظام الحمض النووي، وكل واحدة من هذه الصفات الفيسلوجية تتطلب الملايين من السنين بمقاييس التطوريين كي تكون جاهزة.. فما بالك بسبع صفات فيسيولوجية معقدة أخرى، وإلا لن تتمكن البيضة من التفقيس، ويتعرض الحيوان البرمائي إلى الانقراض كنوع.

قال تلميذ آخر: ولكنا نرى بعض أنصار الداروينية الجديدة يشفعون القول بالطفرات بالانتخاب الطبيعي، زاعمين أن ما تحدثه الطفرات من انحراف يتكفل به الانتخاب الطبيعي، ومفهوم البقاء للأقوى.

قال الأستاذ: هذا غير ممكن، ذلك أنه إذا كان لديك معلومات جينية مبعثرة غير منتظمة بسبب ما أصابها من طفرات، فمن أين ستنتقي الطبيعة وتنتخب غير هذا الواقع الذي تسوده الفوضى في ترتيب المعلومات الجينية؟.. وإذا ما أخذت معلومات مصابة بفوضى الطفرات فماذا بقي معك غير معلومات مخربة جينيا وغير صالحة؟.. ففاقد الشيء لا يعطيه.

التكيف.. والقدرات التطورية:

بعد أن انتهى الأستاذ من حديثه مع الطلبة رحت أقترب منه، وأعرفه بنفسي، وأذكر له تخصصي، فأصابته دهشة، وقال لي: هل سمعت حديثي مع الطلبة.

قلت: أجل.. سمعته جميعا.

قال: أرجوك ألا تخبر أحدا بما سمعت.. فقد تعرضت لإساءات كثيرة بسبب مواقفي من نظرية التطور.. وقد هددت بالطرد من هذه المؤسسة لولا أنني قدمت تعهدا بألا أتحدث عما يسيء إليها.

قلت: ولكنك فعلت، وخالفت تعهدك.

قال: لست أدري.. كلما حاولت أن ألتزم بالتعهد أجدني أخالفه.. فمن الصعب أن ندرس شيئا لا نعتقده، أو نؤمن به.

قلت: فما الذي دعاك إلى هذا.. كان يمكنك أن تبحث عن عمل آخر.

قال: هذا هو تخصصي الذي أحببته، وعملت فيه جميع أبحاثي.. وكان الأجدر بمن يقف وراء هذه المؤسسات أن يتركوا الحرية للباحثين، لا أن يلزموهم بأي رؤية أيديولوجية.. إنهم يكررون بهذا ما فعله رجال الكنيسة أنفسهم عندما راحوا يحاصرون العلماء، ويطلبون منهم كتابة التعهدات.

قلت: فهل أنت وحدك في هذا؟

قال: نحن كثيرون جدا.. ويوشك أن يأتي اليوم الذي تنهار فيه هذه النظرية، وينهار معها كل ذلك البناء المادي الذي قام عليها.

قلت: فهلا ذكرت لي من العلماء من يقف معك في هذا.

قال: منهم [رانغانثان] الذي راح يسخر مما يذكره الداروينيون الجدد عند حديثهم عن الطفرات قائلا: (إن الطفرات صغيرة وعشوائية وضارة.. وهي تتسم بندرة حدوثها، وتتمثل أفضل الاحتمالات في كونها غير مؤثرة.. وتلمّح هذه السمات الأربع إلى أن الطفرات لا يمكن أن تؤدي إلى أي تقدم على صعيد التطور.. ذلك أن حدوث تغير عشوائي في كائن حي يتسم بقدر عال من التخصص، إما أن يكون غير مؤثر أو ضاراً)

ثم ضرب مثالا على ذلك بالتغير العشوائي في ساعة اليد، والذي (لا يمكن أن يحسن أداء الساعة، بل أغلب الظن أن هذا التغير سيضرّ بها أو لن يؤثر فيها على أحسن تقدير).. ومثله (الزلزال الذي لا يطور المدينة، بل يجلب لها الدمار)

قلت: كلامه جيد ومنطقي.. فهل هناك غيره؟

قال: أجل.. فمنهم عالم التطور [وَرن ويفر]، فقد علق على التقرير الصادر عن لجنة التأثيرات الجينية للأشعة الذرية، والتي شُكلت لدراسة الطفرات التي يمكن أن تكون قد نتجت عن الأسلحة النووية المستخدمة في الحرب العالمية الثانية قائلاً: (سيتحير الكثيرون من حقيقة أن كل الجينات المعروفة تقريباً التي أصابتها طفرة هي عبارة عن جينات ضارة، فالناس يظنون أن الطفرات تشكل جزءاً ضرورياً من عملية التطور، فكيف يمكن أن ينتج تأثير جيد (أي التطور إلى شكل أعلى من أشكال الحياة) من طفرات كلها ضارة تقريبا؟)

قلت: دليله قوي جدا.. ومنطقي لا يمكن رفضه.

قال: ومثله قال عالم الوراثة التطوري [غوردون تايلور]: (من بين آلاف التجارب الرامية إلى إنتاج ذباب الفاكهة التي تم إجراؤها في جميع أنحاء العالم لأكثر من خمسين سنة، لم يلاحظ أحدٌ أبداً ظهور نوع جديد متميز.. أو حتى إنزيم جديد)

قلت: لقد ذكر حجة قوية من الصعب دحضها.

قال: ومثله قال [مايكل بيتمان]: (لقد قام [مورغان] و[غولدشميدت] و[مولر] وغيرهم من علماء الوراثة بتعريض أجيال من ذباب الفاكهة لظروف قاسية من الحرارة، والبرودة، والإضاءة، والظلام، والمعالجة بالمواد الكيماوية والإشعاع فنتج عن ذلك كله جميع أنواع الطفرات، ولكنها كانت كلها تقريباً تافهة أو مؤكدة الضرر.. هل هذا هو التطور الذي صنعه الإنسان؟ في الواقع لا، لأنه لا يوجد غير عدد قليل من الوحوش التي صنعها علماء الوراثة كان بإمكانه أن يصمد خارج القوارير الذي أنتج فيها.. وفي الواقع، إن هذه الطفرات إما أن يكون مصيرها الموت، أو العقم، أو العودة إلى طبيعتها الأصلية!)

قلت: هذه أمثلة قوية، كان يمكنها أن تكون كافية لدحض نظرية التطور.. لكن ما تقول في القدرات التطورية لبعض الكائنات في مواجهة المضادات الحيوية والمبيدات ونحوها؟

قال: لقد كتب بعض أصدقائي من علماء الحياة في مجلة المعرفة الأمريكية، وهي من المجلات الداعية للتطور يقول ـ جوابا على سؤالك هذا ـ: (كثير من البكتيريا كانت لديها معلومات وراثية للمقاومة قبل استخدام المضادات الحيوية التجارية.. ولا يعرف العلماء سبب وجود هذه المعلومات الوراثية، كما لا يعرفون لماذا تم الحفاظ عليها وإبقاؤها!)

قلت: كيف ذلك؟

قال: إن هناك غموضا كبيرا يكتنف معارفنا المرتبطة بالشفرات الوراثية، فهناك مناطق كاملة على الشريط الوراثي لم يقف العلماء على حقائقها بعد.. بل إن من العلماء من ذهب إلى أن الشفرات ليست خطية.. بل تحتوي على علاقات أعقد وأكثر تراكبا ًوخوارزميات ضغط وتشفير كأي كود برمجي متطور نعرفه.. ذلك لأن ثلاثة مليارات شفرة مثلاً كما في الإنسان: هو عدد صغير جدا ًمقارنة ًبكل الوظائف المعقدة التي تتحكم في الجسد البشري.. وربما يفسر هذا سبب وجود بعض المناطق على الشريط الوراثي، والتي لا يعرف العلماء لها وظيفة حتى الآن.

قلت: أبهذا يمكن تفسير سر وجود البكتيريا المقاوِمة؟

قال: أجل.. ففي دراسة أُجريت عام 1986، تم العثور على جثث بعض البحّارة الذين أصابهم المرض وماتوا أثناء رحلة قطبية استكشافية عام 1845محفوظة في حالة تجمد، كما عُثر في أجسامهم على نوع من البكتيريا كان منتشراً في القرن التاسع عشر.. وعندما أُجريت على هذه البكتيريا فحوص معملية وُجِد أنها تحمل خواص مقاومة ضد كثير من المضادات الحيوية التي لم يتم إنتاجها إلا في القرن العشرين.

وقد قال عالِم الأحياء [فرانسيسكو أيالا]، وهو من دعاة التطور: (يبدو أن التنوعات الوراثية المطلوبة لاكتساب المناعة ضد أكثر أنواع المبيدات الحشرية، كانت موجودة لدى جميع الحشرات التي تعرضت للمركّبات الكيميائية التي صنعها الإنسان ضد الحشرات)

وقال العالِم [سكادينغ] في مقال له تحت عنوان [هل تشكل الأعضاء التي بلا وظيفة دليلاً على نظرية التطور؟]: (حيث إنه لا يمكن تحديد الأعضاء التي ليس لها وظيفة دون لبس، وحيث إن الطريقة التي يُبنى بها النقاش المستخدَم في هذا الموضوع ليست ذات قيمة علمياً، فأنا أخلص إلى أن الأعضاء الضامرة لا تشكل أي دليل لصالح نظرية التطور قطعاً)

وهو يشير بحديثه هذا إلى جانب مهم ينقض نظرية التطزر ويفضحها، وهو الأعضاء الزائدة بزعمهم، والتي ليس لها فائدة.. إذ ثبت مع الأيام ومع تطور العلم: أنها لها فوائد.

قلت: كيف ذلك؟.. هل ثبت هذا فعلا.. إن هذا لو حصل فلن يبقى لنظرية التطور أي إمكانية للصمود.

قال: لقد أصبح هذا من الحقائق الثابتة في الوقت الحالي.. فالزائدة الدودية التي اعتبرت سابقا من الأعضاء اللاوظيفية تعرف الآن بكونها (عضو لِمفاوي يحارب إصابات الجسم بالجراثيم)

وقد ورد في بعض المقالات العلمية: (تعد أعضاء وأنسجة الجسم الأخرى مثل غدة التيموس والكبد والطحال والزائدة الدودية ونخاع العظم ومجموعات الأنسجة اللمفاوية الصغيرة مثل اللوزتين في الحلق ورقع باير في الأمعاء الدقيقة جزءاً من الجهاز اللمفاوي.. فهذه الأعضاء تساعد الجسم على مقاومة العدوى)

وقال عالم الأحياء الشهير [إنوس]: (للإنسان زائدة دودية، بينما هي لا توجد لدى أقربائه البعيدين من فصائل القردة الدنيا (الأقدم تاريخياً).. ولكن الزائدة الدودية تظهر مرة أخرى بين ثدييات من مراتب أوطأ، مثل حيوان الأبوسوم.. فكيف يمكن لمؤيدي نظرية التطور تفسير ذلك؟)

وقال أحد مشاهير دعاة التطور، وهو [فرانك سالزبوري]: (إن عضواً معقد التركيب مثل العين قد ظهر أكثر من مرة: في الحبّار والفقاريات والمفصليات على سبيل المثال.. إن من العسير التفكير في الكيفية التي ظهر بها مثل هذا العضو مرة واحدة، فكيف بالتفكير في ظهوره كل هذا العدد من المرات، كما تقول النظرية التركيبية الحديثة؟.. إن التفكير في هذا يصيبني بالدوار)

وقال الدكتور [مايكل دانتون]: (إن كل نوع من الأحياء يُعَد ـ على المستوى الجزيئي ـ فريداً ووحيداً وغير مرتبط بوسطاء.. ومن ثَم فقد عجزت الجزيئات ـ شأنها شأن المتحجرات ـ عن تقديم الوسطاء الذين يبحث عنهم علماء الأحياء من دعاة التطور منذ زمن طويل.. فعلى المستوى الجزيئي، لا يوجد كائن هو جد مشترك أعلى، أو كائن بدائي أو راقٍ مقارنة بأقربائه.. ولا يكاد يوجد شك في أنه لو كان هذا الدليل الجزيئي متاحاً قبل قرن من اليوم، فربما لم تكن فكرة التطور العضوي لتجد أي قبول على الإطلاق)

ويقول أحد مؤسسي الدارونية الحديثة، وهو [جورج جايلورد سيمبسون]: (لقد شوَّه هيغل المبدأ النشوئي الذي تناوله، فقد ثبت اليوم علمياً بما لا يدع مجالاً للشك، أن الأجنة لا تمر بمراحل ارتقاء الأجداد)، وهو يشير بذلك إلى فضيحة رسومات هيغل عن الجنين البشري وظهور الخياشيم المزعومة لديه ومروره بأطوار الحيوانات.

قلت: لقد استوعبت كل ما ذكرت.. وأحسبه كافيا في نقض نظرية التطور من أساسها، لكني أريد أن أستفسر منك بالضبط عما يحدث في عددٍ من البكتريا لمقاومة المضادات الحيوية، ومثلها بعض الحشرات.

قال: عليك أن تعلم أولا أنه لا توجد بكتريا واحدة تحولت إلى نوع آخر.. لا بالطفرات، ولا بغيرها.. وأما ما يحدث بالضبط، فهو أن مناعة البكتيريا تحدث بواسطة آليتين مختلفتين، كلتيهما لا تشكلان دليلا على نظرية التطور.. أولهما نقل جينات المقاومة الموجودة فعليا في البكتيريا.. وثانيهما بناء مقاومة نتيجة لفقدان بيانات وراثية بسبب الطفرة.

قلت: فكيف يتم ذلك؟

قال: لقد وُهبت بعض الكائنات المجهرية جينات تقاوم هذه المضادات الحيوية، ويمكن أن تتجسد هذه المقاومة في حل جزيء المضاد الحيوي أو طرده من الخلية… وبإمكان الكائنات المالكة لهذه الجينات أن تنقلها إلى بكتيريا أخرى، وتجعلها مقاوِمة أيضا.. وعلى الرغم من أن آليات المقاومة تتخصص في مقاومة مضاد حيوي بعينه، فإن معظم البكتيريا المسببة للأمراض قد نجحت في تجميع مجموعات متعددة من الجينات مما أكسبها مقاومة ضد تشكيلة متنوعة من المضادات الحيوية.

قلت: ألا يمكن اعتبار اكتساب البكتريا مقاومة ضد المضادات الحيوية على هذا النحو نوعا من التطور؟

قال: لا.. ذلك مستحيل.. ذلك أن التغييرات الوراثية التي يمكن أن توضح النظرية ينبغي ألا تضيف معلومات إلى جينوم البكتير فحسب، بل ينبغي أن تضيف معلومات جديدة للكون الحيوي، كما أن النقل الأفقي للجينات ينتشر فقط حول الجينات الموجودة فعليا في بعض الأنواع.

وانطلاقا من هذا، لا يمكننا أن نتحدث عن أي تطور هنا نتيجة لعدم إنتاج معلومات وراثية جديدة؛ فالمعلومات الوراثية الموجودة فعلا تتناقلها البكتيريا فيما بينها فحسب..

ومثل ذلك النوع الثاني من المناعة، والذي حدث نتيجة طفرة، هو ليس مثالا ًعلى التطور أيضا، حيث أن الكائن المجهري يستطيع أحيانا أن يكتسب مقاومة ضد المضاد الحيوي من خلال الاستبدال العشوائي لنكليوتيد وحيد… فالستربتومايسين الذي تم الإعلان عنه لأول مرة في سنة 1944، هو مضاد حيوي تستطيع البكتيريا أن تقاومه بتلك الطريقة. ولكن على الرغم من أن الطفرة التي تخضع لها البكتيريا أثناء العملية تفيد الكائن المجهري في وجود الستربتومايسين، فإنها لا تصلح لأن تكون نموذجا أوليا لنوع الطفرات التي تحتاجها النظرية الداروينية الجديدة. ذلك أن نوع الطفرة التي تمنح مقاومة ضد الستربتومايسين يتضح في الريبوسوم ويقوم بحل تكافئه الجزيئي مع جزيء المضاد الحيوي.

قلت: هلا وضحت لي هذا أكثر.

قال: إن هذا يُشبه اختلال العلاقة بين المفتاح والقفل، فالستربتومايسين، مثله مثل مفتاح ملائم لقفله تماما، يتعلق بريبوسوم البكتيريا بإحكام ويوقف نشاطه، وتقوم الطفرة، من ناحية أخرى، بحل الريبوسوم، وبالتالي تمنع الستربتومايسين من التعلق بالريبوسوم.. وعلى الرغم من أن ذلك يُفسَّر على أن البكتيريا تكتسب مناعة ضد الستربتومايسين، فإن هذه ليست فائدة للبكتيريا، بل هي بالأحرى خسارة لها.. فهذا التغيير في سطح ريبوسوم الكائن المجهري يمنع جزيء الستربتومايسين من التعلق بالريبوسوم وتأدية وظيفته كمضاد حيوي. وقد اتضح أن هذا التحلل هو فقدان للخصوصية، وبالتالي خسارة للمعلومات. والنقطة الأساسية هنا هي أن التطور لا يمكن أن يتحقق بواسطة طفرات من هذا النوع، مهما كان عددها. ذلك أن التطور لا يمكن أن يُبنى على تراكم طفرات لا تحقق شيئا سوى حل الخصوصية.

قلت: وعيت هذا.. فما تقول في المناعة التي تكتسبها الحشرات ضد المبيدات الحشرية؟

قال: نفس الشيء يقال هنا أيضا.. ففي معظم تلك الحالات، تُستخدم جينات المناعة الموجودة فعليا، وقد اعترف عالم الأحياء التطوري [فرانسسكو أيالا] بهذه الحقيقة، فقال: (يبدو أن الاختلافات الوراثية اللازمة لمقاومة أكثر أنواع المبيدات تنوعا كانت موجودة في كل مجموعة من مجموعات الكائنات التي تعرضت لهذه المركبات التي صنعها الإنسان)

بالإضافة إلى هذا كله، فإن بعض الأمثلة الأخرى التي تم تفسيرها بواسطة الطفرة، هي عبارة عن ظواهر تسبب عجزا في المعلومات الوراثية الخاصة بالحشرات.. وفي هذه الحالة، لا يمكن الادعاء بأن آليات المناعة في البكتيريا والحشرات تشكل دليلا على نظرية التطور. ذلك أن هذه النظرية تستند إلى التأكيد على أن الكائنات الحية تتطور من خلال الطفرات.

الحفريات.. وحقيقتها العلمية:

قال ذلك، ثم استأذنني في الذهاب بكل لطف وأدب، بعد أن ألح علي أن تبقى أحاديثه بيننا، فوعدته بذلك، ولم أخبر أحدا بها إلا أنتم في هذا المجلس..

بعدها قررت أن أفند كل شبهة لي تتعلق بهذه النظرية التي جعلتني أسيرا لها لسنين طويلة.. وكان أول ما قصدته متحفا طبيعيا يحوي صورا لحفريات كثيرة يزعم الداروينيون كل حين أنها تمثل التاريخ الحقيقي للحياة وتطورها.

في مدخل المتحف وجدت رجلا يقف أمامه جمع من الزائرين، وهو يقول لهم: لقد بدأت رحلة الحياة في التطور منذ أكثر من 3.5 مليار سنة.. وذلك بكائن ينقسم ذاتيا.. ثم تحول إلى وحيد الخلية البسيط بروكريوتك.. ثم تحول إلى معقد يوكاريوتك.. ثم تحول إلى عديد الخلايا.. ثم تحول إلى الاسفنجيات.. ثم تحول إلى الكائنات البحرية القديمة.. ثم تحول إلى الأسماك القديمة.. ثم تحول إلى البرمائيات.. ثم تحول إلى الزواحف القديمة ثم المتوسطة فالحديثة.. ثم تحول إلى الثدييات القديمة.. ومنها ظهرت القردة القديمة.. ومنها تطور الجد المشترك للإنسان والقردة من أقل من 7مليون سنة.. ومنها مراحل تطور قبل الإنسانيات من 4 مليون.. ومنها مراحل الإنسانيات القديمة من أقل من 2.5 مليون سنة حتى الإنسان الحديث الذي ظهر من أقل من مائتي ألف سنة.

قال ذلك، ثم أشار إلى المتحف، وهو يقول: وستجدون هنا في هذا المتحف كل الحفريات التي تؤكد ذلك مع تاريخ اكتشافها ومكتشفها ومدى دلالتها على ما ذكرنا.

بعد ما انصرف الناس عنه إلى داخل المتحف، اقتربت منه، وقلت: هل حقا يوجد في هذا المتحف كل ما ذكرت؟.. هل يوجد فيه الأدلة على تاريخ الحياة وفق ما تنص على نظرية التطور؟

حدق في بعمق، ثم قال: من أنت أولا؟.. وهل أنت من هذه البلاد، أم من غيرها؟

عرفته بنفسي، وببلدي، فقال: مرحبا بك.. أنا أيضا كنت أسكن في ذلك البلد.. وبما أننا من بلد واحد، فلا يحق لي أن أكتم عنك الحقيقة التي أؤمن بها، والتي يدل عليها كل شيء، ولكن إياك أن تذكر لأحد من الناس أني ذكرت لك ذلك.. حينها سأكون مهددا في وظيفتي.

قلت: لا تقلق.. فأنا لا يمكنني أن أفعل ذلك.. أريدك فقط أن تخبرني الحقيقة.

قال: كل ما ذكرته نوع من الإشهار والدعاية والتمثيل الكاذب، والذي دُربنا عليه في مراكز مختلفة، لنجعل من نظرية التطور حقيقة لا يناقشها أحد، بينما هي في واقع الحال مجرد ألغاز وتخمينات ليس هناك شيء يدل عليها.. بل كل شيء يفندها.

قلت: ولكن الناس سيكتشفون عند دخولهم للمتحف هذه الحقيقة.

قال: أكثر الناس يأتون سواحا لا متعلمين.. ولذلك لا يعملون عقولهم، ويكتفون بما يذكره لهم المرشدون العلميون الذين لا يختلفون عن المرشدين السياحيين.

قلت: ولكن ما الذي يجعلك تقف هذا الموقف السلبي من هذه النظرية على الرغم من أنك تعمل في متحف من متاحفها الذي تعتبره دليلها الأول والأكبر.

قال: عملي في هذا المتحف، ورؤيتي للحقيقة هو الذي جعلني أقف منها هذا الموقف.. وقد كنت سابقا أؤمن بها، وأدافع عنها، لكني عندما اكتشفت ضحالة الأدلة التي تعتمدها أنكرها عقلي إنكارا تاما.

قلت: فهلا ذكرت لي ما الذي جعلك تقف هذا الموقف.

قال([7]): وفقا لنظرية التطور فإن كل نوع حي قد نشأ من سلف له، مثلما كنت أكذب على الناس المحيطين بي.. فهم يذكرون أنه وبمرور الوقت، تحول النوع الموجود أصلا إلى نوع آخر، وبهذه الطريقة تكون كل الأنواع قد دخلت إلى حيز الوجود تدريجيا خلال ملايين السنين.. وهذا يستدعي بالضرورة العقلية وجود العديد من الأنواع المتوسطة التي عاشت خلال هذه الفترة الانتقالية الطويلة.

قلت: ما تعني بقولك هذا؟

قال: إن نظرية التطور تستدعي وجود كائنات يكون نصفها أسماكا، ونصفها الآخر زواحف عاشت في الماضي، واكتسبت بعضا من خواص الزواحف، بالإضافة إلى خواص الأسماك التي تتمتع بها فعليا.. وهكذا يفترض أن تكون قد عاشت بعض الزواحف الطيور، التي اكتسبت بعضا من خواص الطيور بالإضافة إلى خواص الزواحف التي تتمتع بها فعليا.. لكنا لا نجد كل ذلك في الحفريات على الرغم من أن دعاة التطور يذكرون هذه الكائنات الخيالية، ويؤمنون بأنها عاشت في الماضي، باسم [الأشكال الانتقالية]

قلت: ولكن..

قاطعني، وقال: لا يمكنك أن تبرر عدم وجودها بأي مبرر من تلك المبررات الخادعة التي يذكرها التطوريون.. ذلك أنه إذا كانت مثل هذه الحيوانات قد عاشت بالفعل، فإنه من المفترض أن توجد منها الملايين، بل البلايين، من حيث العدد والتنوع.. ويفترض وفقا لذلك أن تكون بقايا هذه الكائنات الغريبة موجودة في سجل المتحجرات.. كما يفترض أن يكون عدد هذه الأشكال الانتقالية أكبر بكثير من عدد الأنواع الحالية من الحيوانات.. كما يفترض أن توجد بقاياها في جميع أنحاء العالم.

قلت: ألا يوجد كل ما ذكرت؟

قال: طبعا لا يوجد.. وهذا غريب جدا، ويتناقض مع ما نص عليه داروين نفسه، فقد قال في كتابه [أصل الأنواع]: (إذا كانت نظريتي صحيحة، فمن المؤكد أن هناك أنواعا لا حصر لها من الأشكال المتوسطة قد عاشت في الماضي، إذ تربط هذه الأنواع معا كل الأنواع التابعة لنفس المجموعة برباط وثيق جدا.. وبالتالي، لا يمكن أن تتوفر أدلة على وجودها في الماضي إلا بين بقايا المتحجرات)

قلت: فهل كان داروين على دراية بغياب مثل هذه الأشكال الانتقالية؟

قال: أجل.. ولذلك كان يأمل في العثور عليها في المستقبل.. ولهذا اعتبر أن أكبر حجر عثرة في طريق نظريته هو هذه الأشكال الانتقالية المفقودة؛ وبناء على ذلك كتب في [أصل الأنواع] عند ذكره للتحديات التي تقف في وجه نظريته يقول: (إذا كانت الأنواع قد انحدرت من أنواع أخرى عن طريق التسلسل الدقيق، فلماذا ـ إذن ـ لا نرى في كل مكان أعدادا لا حصر لها من الأشكال الانتقالية؟.. لماذا لا تكون الطبيعة كلها في حالة اختلاط، بدلا من أن تكون الأنواع ـ كما نراها ـ محددة تحديدا واضحا؟.. ولكن، وفقا لما ورد في هذه النظرية، ينبغي أن يكون هناك عدد لانهائي من الأشكال الانتقالية. لماذا ـ إذن ـ لا نعثر عليها مطمورة بأعداد لا تعد ولا تحصى في قشرة الأرض؟.. لماذا لا نجد الآن في المنطقة المتوسطة، التي تتسم بظروف حياتية متوسطة، أنواعا متوسطة تربط بصفة دقيقة الأشكال البدائية بالأشكال المتقدمة؟.. لقد حيرتني هذه الصعوبة منذ فترة طويلة من الوقت)

قلت: لكن كيف راح يصرح بنظريته على الرغم من افتقادها للأدلة الكافية؟

قال: إنه حب السبق العلمي.. وهو لا يختلف عن السبق الصحفي.. والذي قد يكون معاكسا للمصداقية ومضادا لها.. فداروين بحكم الفترة التي عاش فيها أراد أن يخرج بجديد، فذكر ذلك، ثم طلب من الأجيال بعده أن تثبت ما ذهب إليه.

ولذلك، وتحسبا ـ لمواجهة الاعتراضات التي قد توجه له، وتطالبه بالدليل ـ راح يذكر بأن سجل المتحجرات الذي اكتشف في ذلك الوقت لم يكن كافيا، وأكد أنه عند دراسة سجل المتحجرات بالتفصيل سيتم اكتشاف الحلقات المفقودة.

ونتيجة إيمان دعاة التطور بنبوءة داروين فإنهم ما زالوا يفتشون عن المتحجرات، ويحفرون في كل بقاع الأرض منذ منتصف القرن التاسع عشر باحثين عن الحلقات المفقودة.

وعلى الرغم من جهودهم الحثيثة، لم تكتشف حتى الآن أية أشكال انتقالية.. بل أثبتت كل المتحجرات المكتشفة أثناء الحفر أنه ـ على عكس ما يعتقد دعاة التطور ـ فإن الحياة قد ظهرت على الأرض فجأة في تكوين كامل، وهكذا فإنهم بينما كانوا يحاولون أن يثبتوا نظريتهم، تسببوا ـ دون قصد ـ في انهيارها.

قلت: كيف ذلك.. أو ما تعني بذلك؟

قال: لقد اعترف عالم المتحجرات الإنكليزي المشهور [ديريك آجر] بهذه الحقيقة على الرغم من كونه أحد دعاة التطور قائلا: (تتمثل نقطة الخلاف في أننا إذا فحصنا سجل المتحجرات بالتفصيل، سواء على مستوى الترتيب أو الأنواع، فسنكتشف ـ مرارا وتكرارا ـ عدم وجود تطور تدريجي، بل انفجار فجائي لمجموعة واحدة على حساب الأخرى)

وهكذا ذكر داعية آخر من دعاة التطور، هو عالم المتحجرات [مارك سيزارنكي] ذلك، فقال: (إن المشكلة الأساسية في إثبات النظرية تكمن في سجل المتحجرات؛ أي آثار الأنواع المنقرضة المحفوظة في التكوينات الجغرافية للأرض. ولم يكشف هذا السجل قط أية آثار للأشكال المتوسطة التي افترضها دارون، وعوضا عن ذلك تظهر الأجناس وتختفي فجأة. ويدعم هذا الشذوذ حجة دعاة الخلق القائلة بأن الأنواع قد خلقها الله)

قلت: ولكن ما هي الحجج التي يدلي بها دعاة نظرية التطور بعد هذه الاعترافات؟

قال: لا شيء.. وقد أوضح أستاذ علم المتحجرات بجامعة غلاسكو، [نيفيل جورج] ذلك، فقال: (لا داعي للاعتذار عن فقر سجل المتحجرات؛ فقد أصبح هذا السجل غنيا لدرجة يكاد يتعذر معها السيطرة عليه، وأصبح الاكتشاف فيه يسبق التكامل.. ومع ذلك، ما زال سجل المتحجرات يتكون بشكل أساسي من فجوات)

قلت: لقد ذكرت لي بأن سجل الحفريات يتناقض مع ما ذكره دعاة نظرية التطور.. فكيف ذلك؟

قال: عند دراسة طبقات الأرض وسجل المتحجرات، نجد أن كل الكائنات الحية قد ظهرت في وقت واحد.. فأقدم طبقة من طبقات الأرض اكتشفت فيها متحجرات لكائنات حية هي تلك التي تكونت في العصر الكامبري، والتي يقدر عمرها بنحو خمسمائة مليون سنة.

فقد ظهرت الكائنات الحية التي اكتشفت في طبقة العصر الكامبري فجأة في سجل المتحجرات؛ أي ليس لها أسلاف سابقون.. فمن المتحجرات التي اكتشفت في الصخور الكامبرية قواقع وحيوانات ثلاثيات الفصوص وإسفنجيات وديدانا أرضية وأسماكا هلامية وقنافذ بحرية، وغيرها من اللافقاريات المعقدة.. وقد ظهر هذا الخليط الواسع من الكائنات الحية المكونة من مثل هذا العديد الكبير من الكائنات المعقدة بشكل فجائي جدا لدرجة أن هذا الحدث المدهش يشار إليه في الأدبيات الجيولوجية باسم [الانفجار الكامبري]

بالإضافة إلى ذلك كله، فإن معظم أشكال الحياة المكتشفة في هذه الطبقة تتسم بنظم معقدة التركيب مثل العين، والخياشيم، وأجهزة الدورة الدموية، والتركيبات الفسيولوجية المتقدمة التي لا تختلف عن نظيراتها الحديثة.

قلت: فهلا ضربت لي أمثلة على ذلك.

قال: من الأمثلة على ذلك اكتشاف عيون الحيوانات ثلاثية الفصوص الممشطة والمكونة من عدسات مزدوجة، وهي معقدة جدا، ومعجزة في التصميم.. وقد قال [ديفيد روب]، أستاذ الجيولوجيا عنها: (إن عيون ثلاثيات الفصوص تملك تصميما لا يستطيع الإتيان به سوى مهندس بصريات معاصر ذو قابليات كبيرة ومتدرب تدريبا جيدا)

ومن الأمثلة على ذلك، ظهور اللافقاريات المعقدة التركيب فجأة في شكل كامل ودون أي حلقة وصل أو شكل انتقالي يربط بينها وبين الكائنات وحيدة الخلية، والتي كانت تمثل ـ قبل اكتشاف اللافقاريات ـ الشكل الوحيد من أشكال الحياة على الأرض.

لقد قال [ريتشارد موناسترسكي]، المحرر في مجلة علوم الأرض التي تعتبر إحدى أشهر المطبوعات الخاصة بأدب التطور موضحا خطورة تلك الاكتشافات على نظرية التطور: (قبل نصف بليون سنة، ظهرت ـ فجأة ـ أشكال الحيوانات التي نراها اليوم، والتي تتسم بقدر لافت للنظر من التعقيد. وتعد هذه اللحظة، عند بداية العصر الكامبري للأرض بالضبط، أي قبل حوالي 550 مليون سنة، علامة على الانفجار التطوري الذي ملأ البحور بأول كائنات معقدة في العالم.. وكانت شعب الحيوانات الكبيرة التي نراها اليوم موجودة بالفعل في أوائل العصر الكامبري، وكانت تتميز عن بعضها البعض بنفس القدر الذي تتميز به عن بعضها البعض اليوم)

التفت إلي، وقال: فكيف أصبحت الأرض تفيض فجأة بمثل هذا العدد الكبير من أنواع الحيوانات؟.. وكيف يمكن أن تكون هذه الأنماط المتميزة من أنواع الأحياء قد ظهرت دون وجود سلف مشترك؟

قلت: حقا.. هذه تساؤلات مشروعة.

قال: لكنها ما زالت تبحث عن إجابة لدى دعاة التطور.. وقد قام عالم الحيوان [ريتشارد دوكنز] أحد أكبر أنصار الفكر التطوري في العالم، بالتعليق على هذه الحقيقة التي تبطل الجذور الأساسية لكل الحجج التي كان يدافع عنها بقوله: (على سبيل المثال، تعتبر طبقات الصخور الكامبرية أقدم الطبقات التي وجدنا فيها معظم مجموعات اللافقاريات الأساسية.. ولقد عثرنا على العديد منها في شكل متقدم من التطور في أول مرة ظهرت فيها.. ويبدو الأمر وكأنها زرعت لتوها هناك دون أن تمر بأي تاريخ تطوري.. وغني عن القول أن مظهر عملية الزرع المفاجئ هذا قد أسعد المؤمنين بالخلق)

التفت إلي، وقال: انظر كيف اضطر [داوكنز] للاعتراف بأن الانفجار الكامبري دليل قوي على الخلق، لأن الخلق هو الوسيلة الوحيدة لتفسير ظهور الحياة على الأرض في شكل كامل.

ومثله شهد آخر بقوله: (إما أن تكون الكائنات الحية قد ظهرت على وجه الأرض وهي كاملة التطور وإما أنها لم تظهر.. وإذا لم تكن قد ظهرت في شكل كامل التطور، فلابد أنها قد تطورت من أنواع كانت موجودة من قبل عن طريق عملية تحور ما.. وإذا كانت قد ظهرت في شكل كامل التطور، فلا بد أنها قد خلقت بالفعل بواسطة قوة قادرة على كل شيء)

بل إن داروين نفسه أدرك احتمال حدوث ذلك عندما كتب يقول: (إذا كانت الأنواع الكثيرة، التي تنتمي إلى نفس الأجناس أو الفصائل، قد دبت فيها الحياة فجأة، فستمثل هذه الحقيقة ضربة قاتلة لنظرية انحدار الأنواع بالتحور البطيء من خلال الانتقاء الطبيعي)

وهكذا كان العصر الكامبري هو الضربة القاتلة لدارون.. ولهذا اعترف عالم المتحجرات السويسري التطوري [ستيفن بنغستون] بعدم وجود حلقات انتقالية أثناء وصفه للعصر الكامبري قائلا: (إن هذا الوضع الذي أربك داروين وأخجله ما زال يبهرنا)

***

بعد أن انتهى من حديثه، ومن إلحاحه علي أن أكتم عنه ما ذكره لي، طلب مني أن أدخل إلى المتحف، وأخبرني أنه يوجد أصدقاء له فيه، كلهم يؤمنون بما يؤمن به، لكنهم يكتمون إيمانهم خشية على أنفسهم، وعلى وظائفهم.. ثم طلب مني أن أنتحي بهم جانبا، وأطلب منهم أن يذكروا لي الحقيقة التي يؤمنون بها.. لا التي يتحدثون بها إلى الناس..

وقد فعلت كل ما طلبه مني بدقة، واستفدت من ذلك كثيرا..

وكان أول فرع أدخله في ذلك المتحف الفرع المخصص للحفريات المرتبطة بالأسماك والحيوانات البحرية.. وقد قال لي المرشد الذي يعمل فيه، بعد أن انتحيت به جانبا، وطلبت منه أن يذكر لي الحقيقة التي يؤمن بها، لا التي يدعو إليها: يذكر التطورون أن اللافقاريات البحرية التي ظهرت في الطبقة الكامبرية قد تحولت بطريقة ما إلى أسماك خلال عشرات الملايين من السنين.. لكنا في الواقع لا نجد أي حلقات انتقالية تشير إلى حدوث تطور بين هذه اللافقاريات وبين الأسماك.. مثلما لا نجد أي أسلاف للافقاريات الكامبرية..

بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك اختلافات تركيبية هائلة بين اللافقاريات والأسماك؛ إذ توجد الأنسجة الصلبة الخاصة باللافقاريات خارج أجسادها في حين تنتمي الأسماك إلى الفقاريات، وتوجد أنسجتها الصلبة داخلها.. ولا بد أن مثل هذا التطور الهائل قد استغرق بلايين الخطوات ليكتمل، ومن المفترض أن توجد بلايين الأشكال الانتقالية التي تصوره.

قلت: ولكن ربما لم يتم البحث جيدا في طبقات الأرض، ولو فعلوا لوجدوا تلك الأجناس الانتقالية.

قال: كيف تذكر أنهم لم يحفروا، وهم لم يدعوا مكانا إلا حفروه.. لقد أخذ دعاة التطور يحفرون في طبقات الأرض منذ 140 سنة بحثا عن هذه الأشكال الافتراضية.. وعثروا أثناءها على ملايين المتحجرات اللافقارية، وملايين المتحجرات السمكية؛ ولكن لم يعثر أحد أبدا ولو على متحجرة واحدة في حالة متوسطة بين الاثنين.

قلت: هل أنت متأكد مما تقول؟

قال: أجل.. بل إن دعاة التطور أنفسهم يذكرون هذا، ويقرون به، فقد اعترف عالم المتحجرات التطوري [جيرالد تود] بهذه الحقيقة في مقال علمي به بعنوان [تطور الرئة وأصل الأسماك العظمية]، فمما جاء فيه: (لقد ظهرت الأقسام الثلاثة الفرعية للأسماك العظمية في سجل المتحجرات لأول مرة في نفس الوقت تقريبا، وتختلف هذه الأسماك فعليا اختلافا واسعا عن بعضها البعض من الناحية الشكلية، كما أنها مصفحة بقوة.. فكيف ظهرت هذه الأسماك؟ وما الذي سمح لها بهذا الكم الواسع من الاختلاف؟ وكيف أصبحت جميعها مصفحة بقوة؟ ولماذا لا يوجد أي أثر لأشكال متوسطة بدائية؟)

قلت: فما تقول في سيناريو التطور الذي يحاول أن يبرهن على أن الأسماك قد تطورت من اللافقاريات، ثم تحولت إلى برمائيات؟

قال: نفس قولي السابق.. فكل هذه افتراضات وتخمينات وتخيلات ينقصها الدليل.. فلا يوجد متحجرة واحدة تؤكد وجود كائن نصفه سمكي ونصفه الآخر برمائي.. وقد قام أحد أشهر علماء التطور [روبرت كارول] مؤلف كتاب [متحجرات الفقاريات والتطور] بالاعتراف بهذه الحقيقة ببعض التردد، فقال: (ليست لدينا متحجرات متوسطة بين الأسماك الرايبدستية وبين البرمائيات الأولى)

وهكذا علق عالم المتحجرات التطوري [كولبرت] على الطوائف الثلاث الأساسية للبرمائيات وهي: الضفادع والسمندرات والسسيأتيات بقوله: (لا يوجد أي دليل على وجود أية برمائيات تعود إلى العصور القديمة وتجمع بين الصفات المتوقع وجودها في سلف واحد مشترك؛ إذ إن أقدم الأنواع المعروفة من الضفادع والسمندرات والسسيأتيات تشبه بدرجة كبيرة أسلافها الحية)

قلت: هذا قول المعاصرين من علماء التطور، فما كان قول السابقين منهم؟

قال: قبل نحو 50 سنة مضت، كان دعاة التطور يعتقدون أن مثل هذا الكائن موجود بالفعل.. وكانوا يتصورون أن الحفريات المرتبطة به ستكتشف قريبا، وقد تم تقديم سمكة تدعى [كولاكانث] التي قدر عمرها بنحو 410 ملايين سنة، بوصفها شكلا انتقاليا لديه رئة بدائية، ودماغ متطور، وجهاز هضمي، وجهاز للدورة الدموية جاهز للعمل على اليابسة، بل ولديه حتى آلية بدائية للمشي.. وقد تقبلت الأوساط العلمية هذه التفسيرات التشريحية بوصفها حقيقة لا جدال فيها حتى نهاية الثلاثينيات، وهكذا تم تقديم [الكولاكانث] باعتبارها شكلا انتقاليا حقيقيا يثبت حدوث التحول التطوري من الماء إلى اليابسة.

لكن حدث اكتشاف مثير جدا في المحيط الهندي سنة 1938؛ إذ تم اصطياد سمكة حية من فصيلة [الكولاكانث]، والتي قدمت في السابق بوصفها شكلا انتقاليا انقرض منذ سبعين مليون سنة مضت.. وقد كان ذلك بمثابة صدمة قاسية لدعاة التطور.. فقد قال عالم المتحجرات التطوري [ج. ل. سميث]: (إنه ما كان ليندهش أكثر لو أنه صادف ديناصورا حيا)

وفي الأعوام الآتية، تم في أحيان كثيرة اصطياد أكثر من مئتي سمكة [كولاكانث] في مختلف أرجاء العالم.

وهكذا كشفت أسماك الكولاكانث الحية مدى تمادي دعاة التطور في اختراع السيناريوهات الخيالية.. وعلى عكس ادعاءاتهم، فلم يكن لدى هذه الأسماك رئة بدائية ولا دماغ كبير، بل تبين أن العضو الذي اقترح دعاة التطور أنه رئة بدائية لم يكن أكثر من مجرد كيس دهني..

بالإضافة إلى ذلك كله، فإن سمكة الكولاكانث التي تم تقديمها باعتبارها مرشحة الزواحف التي تستعد للخروج من الماء إلى اليابسة لم تكن ـ في الواقع ـ أكثر من مجرد سمكة تعيش في أعماق المحيطات ولم تقترب قط بمسافة تقل عن 180 مترا من سطح الماء.

***

بعد أن أدلى لي مرشد ذلك الجناح بكل ما لديه من معلومات حول الحفريات الموجودة في القسم المكلف به.. سرت إلى قسم آخر، وهو المخصص للطيور والثدييات.. وقد فعلت مع صاحبه المسؤول عنه مثلما فعلت مع زميله السابق، حيث انتحيت به جانبا، وطلبت منه أن يذكر لي الحقيقة التي يؤمن بها، لا التي يدعو إليه، فقال لي: وفقا لنظرية التطور، فإن الحياة قد نشأت في البحر، ثم انتقلت إلى اليابسة بواسطة البرمائيات.. ويقترح هذا السيناريو أيضا أن البرمائيات تطورت إلى الزواحف؛ أي إلى كائنات تعيش على اليابسة فقط.

قلت: أعلم كل هذا.. وهو من البديهيات في نظرية التطور.. لكن هل هناك من الحفريات ما يدل عليه؟

ابتسم، وقال: لو كان هناك من الحفريات ما يدل عليه، لسمع به كل الناس حتى الصبيان والرضع.. ولكن لم يكن شيء من ذلك.. بل إن ذلك السيناريو نفسه لم يعد مستساغا من الناحية العقلية نظرا للاختلافات التركيبية الهائلة بين هاتين الطائفتين من الحيوانات.

فبيضة الحيوان البرمائي ـ مثلا ـ مصممة للنمو في الماء، بينما بيضة أي زاحف مصممة للنمو على اليابسة، ومن ثم يعتبر التطور التدريجي للبرمائيات أمرا محالا، لأنه بدون بيضة مثالية كاملة التصميم لا يمكن أن يكتب البقاء لأي نوع.

وفضلا عن ذلك، لا يوجد أي دليل على الأشكال الانتقالية التي يفترض أن تربط البرمائيات بالزواحف.. وقد شهد بهذا المدافعون عن نظرية التطور أنفسهم، فقد قال عالم المتحجرات التطوري [روبرت كارول]: (الزواحف الأولى كانت مختلفة جدا عن البرمائيات ولم يتم العثور على أسلافها بعد)

بالإضافة إلى ذلك كله، فإن هناك مشكلة أكبر تعترض دعاة التطور، وهي في جعل هذه الكائنات تطير.. ذلك أنه بسبب كونهم يؤمنون بأن الطيور لا بد أنها قد تطورت بشكل ما، فإنهم يؤكدون أنها تحولت من الزواحف.. ومع ذلك، لا توجد أية آلية من الآليات المميزة للطيور التي تتصف بتركيب مختلف تماما عن حيوانات اليابسة يمكن تفسيرها عن طريق التطور التدريجي. فتشكل الأجنحة التي تعتبر الخاصية الاستثنائية للطيور مأزق كبير لدعاة التطور.

وقد اعترف أحد دعاة التطور، وهو [أنكين قورور] باستحالة تطور الأجنحة، فقال: (إن الخاصية المشتركة في العيون والأجنحة هي أنهما لا تؤديان وظائفهما إلا إذا اكتمل نموهما.. وبعبارة أخرى، لا يمكن لعين نصف نامية أن ترى؛ ولا يمكن لطائر أجنحته نصف مكتملة أن يطير.. وفيما يتعلق بالكيفية التي تكونت بها هذه الأعضاء، فإن الأمر ما زال يمثل أحد أسرار الطبيعة التي تحتاج إلى توضيح)

ومثل ذلك نرى أن الكيفية التي تكون بها هذا التركيب المثالي للأجنحة نتيجة طفرات عشوائية متلاحقة ما زالت تعتبر سؤالا محيرا يبحث عن إجابة؛ إذ لا توجد وسيلة لتفسير الكيفية التي تحولت من خلالها الأذرع الأمامية للزواحف إلى أجنحة تعمل على أكمل وجه نتيجة حدوث تشويه في أجنتها.

وفوق ذلك كله، لا يعد امتلاك الأجنحة أمرا كافيا لطيران الكائن البري؛ إذ تفتقر الكائنات البرية إلى العديد من الآليات التركيبية الأخرى التي تستخدمها الطيور في الطيران.

فعظام الطيور ـ مثلا ـ أخف بكثير من عظام الكائنات البرية، كما أن رئة الطيور تعمل بشكل مختلف تماما، وتتمتع الطيور بجهاز عضلي وعظمي مختلف، وكذلك بجهاز قلب ودورة دموية على درجة عالية من التخصص.

وتعتبر هذه الميزات متطلبات ضرورية للطيران يحتاجها الطائر بنفس احتياجه للأجنحة.. ولا بد أن تكون كل هذه الآليات قد نشأت معا وفي نفس الوقت؛ إذ من غير الممكن أن تكون قد تشكلت تدريجيا عن طريق التراكم.. ولهذا السبب، تعتبر النظرية التي تؤكد على تطور كائنات اليابسة إلى كائنات جوية نظرية مضللة تماما.

أردت أن أقاطعه، فقال: حتى لو افترضنا أن هذه القصة المستحيلة صحيحة ـ كما يدعي أنصار التطور ـ فإن التساؤل لا يزال قائما حول عدم العثور على أي متحجرات بنصف جناح أو بجناح واحد تدعم قصتهم؟

***

انتقلت إلى مرشد آخر، وتعاملت معه بنفس الطريقة التي تعاملت بها مع زميليه، فقال لي، وهو يشير إلى صورة لطائر سماه [الأركيوبتركس]: هذه صورة لطير منقرض من قبل 150 مليون سنة، وهو من أنواع الطيور ذوات الأسنان الذي يجمع بين صفات الزواحف وصفات الطيور، لذا فهو يعد من الحلقات المتوسطة بين طائفة الطيور والزواحف، وهو أول طير يظهر له ريش في جسمه.

أردت أن أقاطعه، فقال: قال: الأركيوبتركس هو أحد أشهر الأشكال الانتقالية المزعومة من بين القلة القليلة التي ما زال دعاة التطور يدافعون عنها.. وهم يذكرون أنه سلف الطيور الحديثة، ويذكرون أنه عاش قبل 150 مليون سنة.. ويذكرون أيضا أن بعضا من أنواع الديناصورات صغيرة الحجم التي يطلق عليها اسم الفيلوسيرابتور أو الدروميوصور قد تطور عن طريق اكتساب الأجنحة ثم ممارسة الطيران.. ومن ثم، يفترضون أن يكون الأركيوبتركس شكلا انتقاليا تحول عن الديناصور، وبدأ في الطيران لأول مرة.

ومع ذلك، فقد أشارت آخر الدراسات التي أجريت على متحجرات الأركيوبتركس إلى أن هذا المخلوق ليس شكلا انتقاليا أبدا، بل هو أحد أنواع الطيور التي تتسم ببعض الصفات المختلفة عن صفات طيور اليوم.

وحتى فترة قريبة، كانت الفرضية القائلة بأن الأركيوبتركس نصف طائر لا يجيد الطيران بشكل كامل فرضية تلقي شعبية كبيرة في أوساط دعاة التطور.. وقد رأى دعاة التطور أن عدم وجود عظمة القص أي عظمةالصدر في هذا المخلوق، أو على الأقل عدم وجودها بالشكل الذي توجد به في الطيور التي تجيد الطيران، يعتبر أهم دليل على أن هذا الطائر لم يكن يجيد الطيران إجادة سليمة.

ومع ذلك كله، فقد تسببت المتحجرة السابعة لطائر الأركيوبتركس التي عثر عليها سنة 1992 في إثارة قدر كبير من الذهول بين دعاة التطور، ويرجع السبب في ذلك إلى أن متحجرةالأركيوبتركس المكتشفة أخيرا قد وجدت فيها ـ بالفعل ـ عظمة الصدر التي افترض دعاة التطور أنها مفقودة منذ فترة طويلة. وقد وصفت مجلة الطبيعة هذه المتحجرة المكتشفة أخيرا كالآتي: (تحتفظ العينة السابعة المكتشفة أخيرا من طائر الأركيوبتركس بقص شبه مستطيل كان يشتبه في وجوده منذ فترة طويلة ولكن لم يتم على الإطلاق توثيقه من قبل. وتشهد هذه العينة على قوة عضلات الطيران الخاصة بهذا الطائر)

وقد أبطل هذا الاكتشاف الدعامة الأساسية للمزاعم القائلة بأن الأركيوبتركس كان نصف طائر لا يجيد الطيران إجادة سليمة.. ومن ناحية أخرى، أصبح تركيب ريش هذا الطائر أحد أهم الأدلة التي تثبت أن الأركيوبتركس كان طائرا قادرا على الطيران بالمعنى الكامل للكلمة. إذ إن التركيب غير المتناسق لريش الأركيوبتركس الذي لا يختلف عنه في الطيور الحديثة يشير إلى أن هذا الحيوان يجيد الطيران إجادة كاملة.

***

بعد أن مررت على الكثير من المرشدين، الذين اتفقوا جميعا على وجود عدد لا حصر له من الحلقات المفقودة التي تجعل من نظرية التطور مجرد خيال لا قيمة علمية له، قصدت مدير المتحف، وقد كنت أتصوره حازما، ومن أنصار التطور، لكني وجدته عكس ذلك تماما، بل وجدته يعرف كل ما يمارسه موظفوه، ويتستر عليهم.

عندما دخلت عليه، وعرفته بنفسي، ورحت أذكر له أبحاثي، قال لي، وهو يبتسم: إلى متى يمكننا أن نظل نضع هذه النظرية المجنونة تحت رحمة أجهزة التنفس الاصطناعي.. إننا كل يوم نكتشف ما يدل على كونها مجرد حكايات عجائز، لا أحاديث علماء.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لن أكرر لك ما ذكره العلماء الذين رأيتهم، وحدثوك عن عقم هذه النظرية، وافتقارها إلى كل أصناف الأدلة، بل تهاويها كل حين أمام الضربات التي توجه لها عند اكتشف أي حفرية، أو تعقيد في الحياة.. ولكني سأكتفي بالحديث عن أمر منهجي خطير يمارسه الدعاة إلى هذه النظرية.. وهو تلك التأويلات الخادعة للمتحجرات.

قلت: كيف ذلك؟

قال: أنت تعلم أن هذه النظرية تعتمد الأسلوب الدعائي الذي بلغت قدرته إلى إقناع العامة بفكرة وجود كائنات نصفها قرد، ونصفها إنسان قد عاشت في الماضي.. وهذا الأسلوب يعمد إلى استخدام إعادة البناء فيما ينسبه إلى المتحجرات.

قلت: ما تعني بذلك؟

قال: أقصد بذلك ما يقومون به من رسم صورة لكائن حي، أو بناء نموذج له، استنادا إلى عظمة واحدة.. وفي بعض الأحيان إلى جزء من عظمة، تم استخراجها من باطن الأرض.

قلت: أكل ما نراه من الرجال القردة الذين نشاهدهم في الصحف والمجلات والأفلام من هذا النوع؟

قال: أجل.. هي كلها إعادة بناء مملوءة بالخيال والوهم.. ذلك أن المتحجرات عادة ما تكون ناقصة، وفي حالة من الفوضى، ولهذا فإن أي تصور يستند إليها يرجح أن يكون تخمينا محضا.

لقد ذكر [ديفيد بيلبيم]، وهو أحد علماء الأنثروبولوجيا من جامعة هارفارد هذت بقوله: (على الأقل في علم المتحجرات الذي هو ساحتي واختصاصي، فإن النظرية ـ أي نظرية التطور ـ وضعت على أساس تأويلات معينة أكثر من وضعها على أساس من المعطيات والأدلة الفعلية)

بالإضافة إلى ذلك، فإن إعادة البناء القائمة على بقايا العظام لا يمكن أن تكشف سوى الصفات العامة جدا للجسم؛ لأن التفاصيل المميزة الحقيقية المتمثلة في الأنسجة اللينة تختفي بسرعة مع مرور الوقت.. وهكذا، فباستخدام التأويل التخميني للأنسجة اللينة تصبح الرسوم أو النماذج المعاد بناؤها معتمدة تماما على خيال الذي يعدها.

وقد ذكر [إيرنست هوتن]، من جامعة هارفرد، هذا التلاعب التأويلي، فقال: (إن محاولة إعادة بناء أو تركيب الأجزاء اللينة مهمة تحف بها المشاكل والمخاطر، ذلك لأن الشفاه والعيون والآذان وطرف الأنف.. لا تترك أية آثار على الأجزاء العظمية التي تكسوها.. ويمكنك أن تشكل بنفس السهولة من جمجمة شخص شبيه بالشخص النياندرتالي نموذجا بملامح شمبانزي أو بقسمات فيلسوف.. أما فيما يتعلق بإعادة البناء المزعومة لأنواع قديمة من البشر استنادا إلى بعض بقاياها، فإنها لا تحظى بأي قيمة علمية، وهي لا تستعمل إلا للتأثير على العامة وتضليلها، لذا لا يمكن الثقة بإعادة التركيب)

قلت: إن ما ذكرته يتأكد لو أننا وجدنا نماذج متعددة لإعادة بناء عظام واحدة.

قال: الأمر كما ذكرت.. فدعاة التطور ينسبون وجوها مختلفة لنفس الجمجمة.. ومن الأمثلة على ذلك الرسوم الثلاث المختلفة المعاد بناؤها لمتحجرة تدعى القرد الإفريقي الجنوبي القوي.

لم أجد ما أقول له، فقال: ليس الأمر قاصرا على ذلك.. فالتأويلات المتحيزة للمتحجرات، أو تلفيق العديد من إعادات البناء الخيالية تبدو بريئة إذا ما قورنت بأعمال التزييف المتعمدة التي ارتكبت في تاريخ التطور!

قلت: ما تعني؟

قال: من الأمثلة على ذلك أنه لا يوجد أي دليل دامغ من المتحجرات يؤيد صورة الرجل القرد، التي يتم تلقينها باستمرار في وسائل الإعلام والدوائر الأكاديمية لدعاة التطور.. ذلك أن دعاة التطور يمسكون فرشاة الرسم في أيديهم، ويصنعون بها مخلوقات خيالية، إلا أن حقيقة عدم وجود متحجرات مشابهة لهذه الرسوم تمثل مشكلة خطيرة بالنسبة لهم.

والأمر الأخطر من ذلك أنهم يلجأون أحيانا إلى صنع المتحجرات التي لا يستطيعون العثور عليها.. ومن أمثلة ذلك إنسان بيلتداون الذي يعد أكبر فضيحة في تاريخ العلم..

قلت: بناء على قولك.. فإنه لا يوجد أي دليل على تطور الإنسان من قرد.

قال: أجل.. فلا توجد أي آليات في الطبيعة يمكن أن تؤدي إلى تطور الأحياء، فأنواع الأحياء لم تدخل حيز الوجود نتيجة عملية تطورية، بل ظهرت فجأة في تركيبها المثالي الحالي؛ أي أنها خلقت ـ كل نوع منها ـ على حدة.. وهكذا فإن تطور الإنسان عن القردة أو غيرها مجرد أكذوبة.

قلت: ولكنهم يذكرون أنهم يعتمدون في ذلك على الكثير من المتحجرات.

قال: لقد كتب دعاة التطور سيناريو تطور الإنسان عن طريق تنظيم بعض الجماجم التي تخدم أغراضهم بالترتيب من الأصغر إلى الأكبر، وبعثرة جماجم بعض الأجناس البشرية المنقرضة بينها.. وحسبما ورد في هذا السيناريو فإن للبشر والقردة الحديثة أسلافا مشتركة، وقد تطورت هذه الكائنات بمرور الزمن، فصار بعضها قردة اليوم، في حين أصبحت مجموعة أخرى اتبعت فرعا آخر من فروع التطور إنسان اليوم.

غير أن جميع نتائج البحوث البالانتولوجية، والتشريحية، والبيولوجية قد أظهرت أن هذا الادعاء التطوري يتسم ـ كغيره من الادعاءات الأخرى ـ بالخيال والبطلان؛ إذ لم يتم تقديم أية أدلة سليمة أو حقيقية تثبت وجود قرابة بين الإنسان والقرد، اللهم إلا التزييف والتشويه والرسوم والتعليقات المضللة.

بل إن سجل المتحجرات يثبت لنا على مر التاريخ أن الإنسان كان إنسانا، وأن القرد كان قردا.. أما بالنسبة لبعض المتحجرات التي يدعي دعاة التطور أنها أسلاف للإنسان، فإنها تخص أجناسا بشرية قديمة عاشت حتى فترة قريبة جدا، قبل نحو عشرة آلاف عام، ثم اختفت.

وفضلا عن ذلك، فإن العديد من المجتمعات البشرية التي ما زالت تعيش بيننا اليوم تتسم بنفس الهيئة والصفات الجسدية التي تتسم بها الأجناس البشرية المنقرضة، التي يدعي دعاة التطور أنها أسلاف الإنسان. وتعتبر كل هذه الأشياء دليلا واضحا على أن الإنسان لم يمر قط بأية عملية تطور في أية فترة من فترات التاريخ.

وأهم من ذلك كله، هو وجود اختلافات تشريحية لا حصر لها بين القردة والبشر، لا يعد أي منها من النوع الذي يمكن أن يظهر من خلال عملية التطور.. منها مثلا المشي على قدمين.. ومنها سعة الدماغ، والقدرة على الكلام، وغيرها كثير.

وقد صرحت [إلين مورجان]، وهي عالمة باليوأنثروبولوجيا ومن دعاة التطور، حول هذه المسألة بقولها: (هناك أربعة أسرار تعد من أبرز الأسرار التي تحيط بالبشر وهي: لماذا يمشون على قدمين؟.. لماذا فقدوا فراءهم؟.. لماذا أصبحوا يملكون هذه الأدمغة الكبيرة؟.. لماذا تعلموا الكلام؟.. وتعد الأجوبة التقليدية لهذه الأسئلة هي: نحن لا نعلم بعد.. نحن لا نعلم بعد.. نحن لا نعلم بعد. نحن لا نعلم بعد.. ويمكن أن تطول قائمة الأسئلة بشكل بارز دون أن تتأثر رتابة الأجوبة)

وهكذا نرى [اللورد سولي زوكرمان]، وهو أحد أشهر علماء المملكة المتحدة وأكثرهم احتراما، وقد درس ولسنوات عدة، سجل المتحجرات، وأجرى الكثير من الدراسات المفصلة، وقد تم تكريمه بإعطائه لقب لورد نظير إسهاماته في مجال العلوم.

وبما أن زوكرمان من دعاة التطور، فلا يمكن ـ إذن ـ اعتبار تعليقاته حول هذا الموضوع مجرد ملاحظات معاكسة متعمدة. ومع ذلك، فبعد سنين من إجراء البحوث على المتحجرات المتضمنة في سيناريو تطور الإنسان توصل إلى نتيجة تقضي بعدم وجود شجرة عائلة من هذا النوع في الحقيقة.

لقد وضع زوكرمان أيضا طيفا للعلوم يتسم بالإثارة، فقد قام بتشكيل طيف من العلوم يمتد من العلوم التي اعتبرها علمية إلى تلك التي اعتبرها غير علمية.. ووفقا لطيف زوكرمان: (تتمثل أكثر العلوم علمية، أي تلك التي تعتمد على معلومات ملموسة، في علوم الكيمياء والفيزياء، تليهما علوم الأحياء، ثم العلوم الاجتماعية. وعلى الطرف الآخر من الطيف ـ وهو الجزء الذي يضم أكثر العلوم ابتعادا عن الصفة العلمية ـ يوجد الإدراك غير المعتمد على الحواس، وهو يتمثل في مفاهيم مثل التخاطر والحاسة السادسة، وأخيرا يجيء تطور الإنسان)

وقد شرح زوكرمان منطقه هذا قائلا: (وننطلق ـ إذن ـ من سجل الحقيقة الموضوعية إلى المجالات التي من المفترض أنها تتبع علم الأحياء، مثل الإدراك غير المعتمد على الحواس أو تفسير تاريخ متحجرات الإنسان، حيث يصبح كل شيء ممكنا بالنسبة للمؤمن، وحيث يكون المؤمن الغيور أحيانا قادرا على تصديق عدة أشياء متناقضة في نفچ الوقت)

التطور.. والجينات المتقاربة:

خرجت من المتحف، وقصدت مركزا آخر، خاصا بالأبحاث المرتبطة بنظرية التطور، كان اسمه [مركز أبحاث الجينات المتقاربة]، وقد شاء الله أن يكون سببا في رفع آخر شبهة في نفسي كانت بمثابة القشة التي تعلقت بها لتظل على إيمانها بنظرية التطور.

في أحد المخابر الموجودة في ذلك المركز، التقيت بعض الباحثين الكبار، ورحت أسأله قائلا: بما أنك تعمل في هذا المركز، فلابد أن تكون عارفا بمدى الشبه بين جينوم البشر وجينوم القردة.. فقد ذكر لي أن نسبة التقارب وصلت إلى حد 99 بالمائة.. فهل هذا صحيح من الناحية العلمية؟.. وهل في حال صحته يمكن الاستدلال به على نظرية التطور؟

قال: سؤالك من شقين.. أما الشق الأول.. وهو عن نسبة التقارب.. فذلك مما تتبناه كثير من المصادر التي تتبنى نظرية التطور، فهي تنشر كل حين ادعاءها بأن البشر والقردة يشتركون في 99 في المائة من معلوماتهم الوراثية.. وهي تركز بشكل خاص على الشمبانزيات، باعتبارها أقرب القردة إلى الإنسان.

ولهذا يمكننا أن نقرأ في كل أدبية من أدبيات التطور جملا مثل (نحن نتطابق مع الشمبانزيات بنسبة 99 في المائة) أو (لا يوجد إلا واحد في المائة من جزيء (د ن أ) يجعلنا بشرا)

قلت: فما مدى صحة هذا من الناحية العلمية؟

قال: من الصعب الجزم بهذا، ذلك أنه لا توجد مقارنة حاسمة بين جينوم البشر والشمبانزيات.. وقد كشفت إحدى الدراسات التي أجريت عام 2002، أن الدعاية التي ينشرها أنصار التطور حول هذا الموضوع زائفة تماما.. ذلك أن البشر والشمبانزيات لا يتشابهان بتلك النسبة، وإنما بنسبة أقل من 95 بالمائة.. وقد جاء في بعض الأخبار الصحفية تحت عنوان [البشر والشمبانزيات أكثر اختلافا مما نعتقد]: (وفقا لدراسة وراثية جديدة، تبين أن الاختلافات بين الشمبانزي والإنسان أكثر مما كنا نعتقد في الماضي، فلطالما اعتقد علماء الأحياء أن جينات الشمبانزيات والبشر متطابقة بنسبة 98.5 في المائة تقريبا. ولكن [روي بريتن]، عالم الأحياء في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، ذكر في دراسة نشرت هذا الأسبوع أن هناك طريقة جديدة لمقارنة الجينات أظهرت أن التشابه الوراثي بين الإنسان والشمبانزي لا يتعدى نسبة 95 في المائة تقريبا.. وقد استند بريتن في دراسته تلك إلى برنامج كمبيوتر قارن من خلاله 780.000 زوج من بين الثلاثة بلايين زوج الأساسية الموجودة في حلزون جزيء (د ن أ) البشري بتلك الخاصة بالشمبانزي. واكتشف فروقا أكثر من تلك التي اكتشفها الباحثون السابقون، واستخلص أن 3.9 في المائة على الأقل من أزواج جزيء (د ن أ) الأساسية مختلفة.. ودعاه ذلك إلى الاستنتاج بوجود اختلاف وراثي جوهري بين النوعين يبلغ 5 في المائة)

وهكذا ورد في مجلة نيو ساينتست، إحدى المجلات العلمية الرائدة الداعمة بقوة للداروينية، فقد نشرت حول هذا الموضوع مقالة بعنوان [الاختلاف بين جزيء (د ن أ) في الإنسان والشمبانزي يزداد ثلاثة أضعاف]، جاء فيها: (نحن أكثر تفردا مما اعتقدنا في السابق، وذلك وفقا لمقارنات جديدة أجريت على جزيء (د ن أ) في الإنسان والشمبانزي. فلطالما كان هناك اعتقاد بأننا نشترك في 98.5 في المائة من مادتنا الوراثية مع أقرب أقربائنا. ولكن يبدو الآن أن هذا خطأ. وفي الواقع، نحن نشترك في أقل من 95 في المائة من مادتنا الوراثية مع الشمبانزي، وهو ما يعني أن التغاير بيننا وبين الشمبانزيات ازداد ثلاثة أضعاف)

قلت: ولكن مع ذلك فنسبة التقارب حتى لو كانت كما ذكروا، أي 95 بالمائة، فهي نسبة محترمة، وقد تبقى دليلا لنظرية التطور.

قال: ذلك مستحيل من الناحية العلمية.. فجزيء (د ن أ) البشري مشابه أيضا لنظيره في الديدان، والبعوض، والدجاج.. وعلاوة على ذلك، فإن البروتينات الأساسية هي عبارة عن جزيئات حيوية شائعة لا توجد فقط في الشمبانزيات، بل إنها توجد أيضا في كائنات حية كثيرة مختلفة كل الاختلاف عن بعضها البعض.. كما أن تركيب البروتينات في كل هذه الأنواع مشابه جدا لتركيب البروتين البشري.

ومن الأمثلة على ذلك أن التحاليل الوراثية المنشورة في مجلة [نيو ساينتست] كشفت عن وجود تشابه بنسبة 75 بالمائة بين جزيء (د ن أ) في الديدان الخيطية وفي الإنسان.. وذلك لا يعني بالقطع أن الاختلاف بين الإنسان وهذه الديدان يبلغ 25 بالمائة فقط.

ومن ناحية أخرى، ذُكر في اكتشاف آخر، ظهر أيضا في وسائل الإعلام، أن المقارنات التي أجريت بين جينات ذباب الفاكهة المنتمي إلى جنس الدروسوفيلا وجينات الإنسان أثمرت عن وجود تشابه بينهما بنسبة 60 بالمائة.

وعند دراسة كائنات حية أخرى غير الإنسان، يتضح عدم وجود أي علاقة جزيئية كتلك التي يدعيها أنصار التطور.. وهذا يدل على أن مبدأ التشابه ليس دليلا على التطور.

قلت: فما السبب إذن في هذه النسب العالية للتشابه؟

قال: السبب بسيط، وهو التصميم المشترك للكائنات الحية.. فهو يدل على أن صانعها واحد..

قلت: ما تعني بذلك؟

قال: من الطبيعي أن يكون في الجسم البشري بعض أوجه الشبه الجزيئي بالكائنات الحية الأخرى؛ لأنها جميعا مكونة من نفس الجزيئات، وكلها تستخدم نفس المياه والهواء، وكلها تستهلك أطعمة مكونة من نفس الجزيئات.. ولا ريب في أن يكون أيضها، وبالتالي تكوينها الجيني، متشابها. ومع ذلك، لا يعد ذلك دليلا على أنها تطورت من سلف مشترك.

ذلك أن هذه المادة المشتركة ليست نتاجا لتطور، بل لتصميم مشترك، أي، لكونها خُلقت وفقا لنفس الخطة.

قلت: هلا وضحت لي هذا أكثر.

قال: لك ذلك.. ألا ترى أنه تستخدم كل الإنشاءات في العالم بمواد متشابهة من قرميد، وحديد، وإسمنت، وغيرها.. ومع ذلك، لا يعني ذلك أن تلك المباني تطورت من بعضها البعض.. فقد أُنشئ كل منها بشكل منفصل باستخدام مواد بناء مشتركة.. وهذا ما ينطبق بالضبط على الكائنات الحية أيضا.

قلت: وعيت هذا.. ومثالك واضح جدا.

قال: ومع ذلك، لا يمكن بالطبع مقارنة التركيب المعقد للكائنات الحية بذلك الموجود في أنواع الأبنية..

قلت: فما السبب الذي جعل الكثير من العلماء يتشبثون إلى هذه الدرجة بهذه النظرية؟.. ولماذا ظلوا يبذلون قصارى جهدهم للإبقاء على حياتها؟

قال: الإجابة الوحيدة على ذلك هي خوفهم من الحقيقة التي سيضطرون إلى مواجهتها في حال تخليهم عن نظرية التطور.

قلت: فما هي هذه الحقيقة التي يخافون منها؟

قال: هي [الله].. هم يخافون إن تركوا هذه النظرية أن يضطروا إلى الاعتراف بالله، والإيمان به.. وذلك ما يقوض كل فلسفاتهم وأفكارهم وتصوراتهم للكون والحياة.

***

سرت بعدها في أرجاء تلك المدينة، وفوجئت بمركز إعلامي كبير، كتب عليه [المركز الإعلامي لأبحاث التطور].. وعندما دخلت، وسألت بعض العاملين فيه عنه، وعن غرضه قال لي: هذا المركز، وما فيه من وسائل متطورة وسيلة من وسائل نشر نظرية التطور.. بل هو وسيلتها الكبرى.. فالكثير من الندوات والمؤتمرات تعقد هنا، ويسجل كل ما يحصل لتنشره القنوات الفضائية العالمية.

قلت: ولم كل ذلك؟

قال: لنشر هذه النظرية.. فلذلك إذا تأملنا وسائل الإعلام في بلادنا، فإننا نجد أنها لا تكاد تخلو من أخبار عن هذه النظرية، فالمنظمات الإعلامية الرائدة والمجلات الشهيرة الموثوق بها تنشر موضوعات بشكل دوري حولها.. وهي تطرحها كحقيقة علمية ثابتة بصورة قاطعة، مما لا يفسح مجالا لأي نقاش أو جدال.

ولهذا كثيرا ما نرى عناوين بارزة تحتل مساحة كبيرة في وسائل الإعلام تردد كل حين أمثال هذه العبارات: (نقلا عن مجلة تايم: العثور على متحجرة جديدة تسد الفجوة في سلسلة المتحجرات.. أو تشير مجلة الطبيعة إلى أن العلماء قد ألقوا الضوء على آخر وأحدث ما وصلوا إليه في نظرية التطور)

وقد كان لهذا التلقين والفرض من التأثير والفعالية ما جعل نظرية التطور تتحول بمرور الأيام إلى ما يشبه العقيدة، وأصبح ينظر إلى إنكار نظرية التطور باعتباره معارضة لمعطيات العلم وإغفالا للحقائق العلمية الثابتة.

***

بعد أن سمعت هذا وغيره مما حدثتكم عنه رحت أنظف عقلي من كل علم لا دليل عليه.. رحت أنظفه من كل علم فرضه الإعلام، أو فرضته الجامعات، أو فرضته تلك الأصنام التي وضعت في هالة من القداسة، لا يسمح لأحد بالاقتراب منها أو نقدها.

وعندما فعلت ذلك.. عندما وضعت في سلة المهملات علوما كثيرة كانت مجرد أوهام.. أصبحت أشعر بعوز كبير للعلم الحقيقي.. العلم الذي لا تمحوه الأيام، ولا تكذبه الحقائق..

وقد كان أول علم رحت أبحث عنه هو الإجابة عن تلك التساؤلات التي كنت أهيل عليها كل ألوان الغفلة والدجل.. وهي السؤال عن حقيقتي.. وحقيقة الكون.. وحقيقة الحياة.. وحقيقة ذلك النظام البديع الذي يحكم كل شيء.

وقد جعلتني تلك الأسئلة أطالع كتبا كثيرة، وألاقي ناسا كثيرين.. بل أتعلم علوما كثيرة، لا لأكسب بها مالا أو جاها.. وإنما لأعرف بها الحقيقة المجردة عن كل هوى.

وعندما علم الله صدقي أرسل لي معلم الإيمان.. وبواسطته تحولت من الإنسان الطيني المستغرق في عالم الجسد.. المتثاقل إلى الأرض.. إلى الإنسان السماوي الممتلئ بالروحانية.

وقد عرفت حين وصلت إلى ذلك كله مدى العناية الإلهية التي نقلتني من طور الغفلة إلى طور الذكر.. ومن طور الذكر إلى طور الحضور.. ومن طور الحضور إلى طور المشاهدة.


([1]) استفدنا المادة العلمية الواردة في هذا الفصل من كتاب [خدعة التطور]، هارون يحي.

([2]) أشير به إلى بطيء الخطو أو بطيء المشية، والذي يعرف بالتارديغرادا، أو دب الماء أو خنزير الطحلب، ويتميز بأنه يستطيع العيش بدون ماء ولا هواء لمدة عشر سنوات.. وأنه الحيوان الوحيد الذي يستطيع العيش في الفضاء. ففي عام 2007 أرسل في تجربة فضاء علمية لمحطة الفضاء الدولية على متن المركبة الروسية الفضائية (فوتون- إم 3) وبقي على قيد الحياة طوال فترة التجربة التي استغرقت 12 يوماً، وبدأ يتحرك ووضع بيضاً ففقس بنجاح، بالرغم من الضغط المنخفض والاشعاع الشديد ودرجات الحرارة المنخفضة والرياح الشمسية التي لا تهدأ والحرمان من الأوكسجين في فراغ الفضاء.. ويستطيع تحمل درجة حرارة عالية تصل إلى 357 فهرنهايت.. ويستطيع تحمل برودة شديدة تصل إلى 273 تحت الصفر ويستطيع أن يتحمل ضغطاً يزيد عن ست أضعاف ضغط قاع المحيط.. ويستطيع تحمل إشعاعات غاما القاتلة.. ويستطيع أن يعيش لمدة 200 سنة.

([3]) انظر مقالا بعنوان: الطفرات ليست دليل علي التطور.

([4])  انظر كتاب: داروين كان مخطئا: دراسة في قانون الاحتمالات، الدكتور كوهين، ص 81.

([5])  الأنظمة وأصل الأنواع، ماير إيرنيست، ص 296.

([6])  تطور الأنظمة الحية، بيير بول جراس، ص 87:.

([7])  انظر مقالا بعنوان: سجل المتحجرات يدحض نظرية التطور، هارون يحي.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *