التطور.. والعلم

التطور.. والعلم

بعد أن انتهى الأول من حديثه، قال الثاني، وهو يلتفت لي: أرجو أن تكون قد سجلت كل ما ذكره زميلي وصديقي بكل دقة.. فهناك من يصطاد في الماء العكر، ويتصيد حصى الأخطاء ليقضي بها على جبال الحقائق.

قلت: لا تخف.. فلقلمي من الورع ما يمنعه من الزيادة والنقصان.. لكن مع ذلك ارحموني، وارحموا مستواي العلم، فأنا أفهم من كلامكم جمله، ولا أحيط بتفاصيله.

قال: ونحن لا نطلب منك التفاصيل.. بل نطلب منك فقط أن تفهم منه ما يفهم منه سائر الناس.. فلكل علم أهله..

قلت: كلام صديقكم في الحقيقة مع كونه يدخل بنا في بعض متاهات العلم الضيقة إلا أنه مملوء بالجمال.. فقد أشعرتني كلماته بمحبة الله وتعظيمه.. وأخرجتني من كثير من ظلمات التعتيم والوهم التي كنت أتصور بها حقيقة الحياة.. فقد كنت أراها ممتلئة بالبساطة، ولم أكن أعلم أبدا أنها بذلك التعقيد. وقد كنت فوق ذلك أتصور أن لأولئك الماديين بعض الحجة فيما يقولون.. لكني اكتشفت أنهم أبعد الناس عن العلم وحججه، وأنهم لا يختلفون في تلاعبهم بالعلم عن تلاعب سدنة الأديان المزيفة.

قال: صدقت في هذا.. وما دمت قد اقتنعت به.. فهلم لتسجل عني كل ما أقوله.. وبالدقة التي سجلت بها حديث صاحبي.. فهو قد حدثكم عن رحلته من الصدفة إلى الخلق.. وأنا سأحدثكم عن اكتشافي للخدع التي يمارسها التطوريون، والخرافات التي ينشرونها.

قلت: ما تعني بذلك؟

قال: أنت تدعوني بهذا للبدء من حديثي من آخره، لا من أوله.

قلت: لا بأس.. فأحيانا لا يفهم أول الشيء إلا بعد فهم آخره.

قال: أنت تعلم حسبما حدثك صديقي الأول أن هناك نظريتان في تفسير بداية الخلق.. النظرية التي تقول بالعشوائية والصدفة.. والنظرية التي تقول بالخلق والغائية.

قلت: أجل.. علمت هذا.. وقد ذكر من الأدلة الكثير ما يؤيد وجهة النظر الثانية، والتي تدل عليها كل حقائق الوجود.

قال: فهكذا الأمر فيما نراه من مظاهر الحياة في الكون وتنوعها، فقد اضطر القائلون بالصدفة إلى حيلة التطور، حتى يتهربوا من نظرية الخلق المقصود..

قلت: هذه نظريتهم.. فما نظرية المؤمنين؟

قال: المؤمنون يؤمنون بنظرية الخلق الجديد.

قلت: ما تعني بها؟

قال: أعني بها تلك الحقيقة العظيمة التي نص عليها قوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ق: 15]، فهي النظرية العلمية البديلة لنظرية التطور القديمة أو الحديثة، والتي وجهت لها إشكالات كثيرة تجعل من المستحيل أن تتحقق بالعلمية المطلقة أو بالعلمية النسبية.

ذلك أن نظرية الخلق الجديد لا تلغي وجود تقارب بين المخلوقات.. وإنما تعني أن الله تعالى باعتباره خلاقا، لا يطور الخلق السابق ليتحول إلى خلق جديد، وإنما يخلقه ابتداء، كما صور ذلك بدقة عند ذكره لخلق آدم عليه السلام، والذي ورد في النصوص القرآنية والنبوية أنه خلق من طين، ومن حمأ مسنون..

وكما صوره بدقة عند ذكره لناقة صالح عليه السلام، والتي أخرجها من الصخر آية من آيات الله.. كما قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [الأعراف: 73]

قلت: صدقت في هذا.. فقد كان لهذه الناقة المخلوقة خلقا جديدا من الصفات والمميزات ما لم يكن لسائر النوق، فقد كانت تعطيهم لبنا كثيرا، كما أنها تستقي كثيرا، قال تعالى:{قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155]

قال: وهكذا فإن من مقتضيات الإيمان بالبعث الإيمان بالخلق الجديد، فالإنسان عند بعثه لن يتطور من كائن آخر، وإنما سيخلق من جديد من تراب الأرض، وبخصائص جديدة تخالف الخصائص التي ولد بها في هذه النشأة.

ولهذا رد الله تعالى على الذين يفرضون عليه ماذا يفعل، وكيف يفعل، بقوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ق: 15]، ومعناها ـ كما يذكر المفسرون ـ: (أعجزنا عن الخلق الأول حتى نعجز عن الخلق الجديد؟ أي لم نعجز عن الخلق الأول وهو إبداؤه فلا نعجز عن الخلق الجديد وهو إعادته)

والمراد بالخلق الجديد (تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة أخرى ذات نظام آخر وراء النظام الطبيعي الحاكم في الدنيا فإن في النشأة الأخرى وهي الخلق الجديد بقاء من غير فناء وحياة من غير موت)

قلت: بورك فيك.. وقد ذكرني حديثك هذا بما ورد في القرآن الكريم من القدرات العظيمة التي آتاها الله للمسيح عيسى عليه السلام، ومنها إحياء الموتى، وإبراء الأكمة والأبرص.. والتي وصلت إلى حد القدرة على الخلق بإذن الله.. والتي وردت في مواضع من القرآن الكريم، وبصيغ متعددة، منها قوله تعالى على لسان المسيح معبرا عن فضل الله عليه:{وَرَسُولًا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49]

ومنها منة الله عليه بالقدرة على ذلك، قال تعالى: { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي } [المائدة: 110]

وهذه الآيات فيها رد شديد على أولئك الذين يحيلون على الله أن يخلق أي أمة من الأمم ابتداء، ويتصورون أنه يفتقر إلى أن يطور خلقا سابقا، ليحصل منه خلق جديد، وكأنه عامل في مصنع، أو مخترع في مخبر، وليس قادرا على كل شيء.. يخلق ما يشاء.. متى يشاء.. كيف يشاء.

ولذلك هم يصادمون النصوص الصريحة التي تنص على أن آدم عليه السلام خلق من تراب، ومن طين، ليحولوه إلى كائن متطور على كائن سابق، وأن تلك التسوية التي ذكرها القرآن الكريم ليست سوى ألفاظا عبثية اعتباطية لا دلالة حقيقية لها.

والمشكلة أن هؤلاء في تكلفاتهم يربطون ذلك بالقرآن الكريم، فيستدلون بقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [آل عمران: 59]، ويلبسون على أنفسهم وعلى الناس، بأن الله شبه المسيح بآدم غافلين عن أن المشبه به لا يساوي المشبه في كل الوجوه.. وغافلين عن أن الله تعالى ما ذكر ذلك إلا ليبين أن له الإرادة المطلقة، ولذلك ـ كما خلق آدم عليه السلام ـ من غير أبوين، فهو قادر على خلق المسيح من غير والد.

قال: صدقت.. ولو أن هؤلاء تخلوا عن كبريائهم، وراحوا يحترمون لغة القرآن الكريم، ويتدبروا قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 28، 29] والذي ورد في مواضع متعددة من القرآن الكريم.. لما وقعوا فيما وقعوا فيه.. ولما فضلوا أي فرضية مهما كانت على هذه الحقائق المقدسة.

قلت: بورك فيك وفي إيمانك.. ولو أن هؤلاء نظروا فيما يخترعونه من مخترعات يزهون بها، لكان ذلك وحده كفيلا بتسليمهم لخالقهم، واعترافهم بقدرته المطلقة على الخلق ابتداء من غير حاجة لأي وسائط.

قال: صدقت.. فهل كان الجيل الثاني من جهاز الكمبيوتر صناعة جديدة، أم أن المخترعين راحوا إلى نفس الجهاز القديم ينقصون منه ويضيفون، حتى تحول إلى جيل جديد.. لاشك أن الواقع لم يدل على هذا.. بل إن كل جيل من الأجيال يقتضي أن يصنع صناعة خاصة تتناسب معه، مهما كان القرب بينه وبين الأجيال السابقة.

قلت: بورك فيك.. وقد ذكرني موقفك الإيماني هذا بأولئك السلبيين الذين يقرؤون قوله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا } [الكهف: 51]، ويقرؤون معها قوله تعالى: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } [الإسراء: 36] ثم يظلون مصممين في الدفاع عن هذه الفرضية التي لم تستوف حقها من الأدلة..

مع أنه لا علاقة لها بكفر ولا إيمان.. فالله تعالى قادر أن يخلق كل أمة من الأمة خلقا سويا منفصلا من دون أن يحتاج إلى هذه الفواصل التطورية، التي تنبئ عن القصور أكثر من إنبائها عن العلم الشامل.. كما أنه قادر على أن يجعل بعضها يرتبط ببعض.. فكل ذلك في قدرة الله تعالى.

قال: الإشكال ليس في ذلك فقط.. وإنما في أمرين آخرين سأوضحهما من خلال سردي لقصتي.. أما أولهما فهو أن هذه النظرية في حال ثبوتها أو عدم ثبوتها لا علاقة لها بأي مجال من المجالات العلمية الواقعية، فسواء قلنا: إن الزرافة تطورت عن حيوان سابق، أو خلقت خلقا جديدا.. فإن ذلك لن يغير من الزرافة، ولا من فوائدها أو مضارها شيئا.. وبذلك فإن البحث في هذا نوع من الترف العقلي مثله مثل البحث في أيهما السابق البيضة أم الدجاجة.

والثاني: أن هذا فيه الكثير من التكلف.. فالله تعالى ما أشهدنا خلق كونه، ولا شيء منه، والاستشهاد بالحاضر على الغائب قياس فاسد.. مع أنه لم يثبت في المخابر أي دليل على التطور.. كل ما فيه بضاعة كلامية مزجاة خالية من كل دليل.. لا يهدف أصحابها إلا إلى تفسير كيفية نشوء الحياة، ومحاولة عزل الله عن ذلك النشوء، ابتداء أو استمرارا.

***

بعد توضيحه للفرق بين التطور والتنوع، أو التطور والخلق الجديد، اعتدل في جلسته، وحمد الله وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.. ثم قال: ما عساي أقول لكم.. ومن أين يا ترى سأبدأ قصتي؟

ثم سكت قليلا، وقال: ربما أحسن بداية لحديثي هي تلك المحاضرة التي سمعتها في بعض المؤتمرات، والخاصة بأبحاث التطور.. فقد نزلت علي حينها أول أنوار الهداية التي جعلتني أراجع كل معارفي ومواقفي، وأضع نفسي في السكة الصحيحة التي يجتمع فيها العلم مع الإيمان.

لقد كنت قبلها مجرد إمعة مقلد، أحفظ ما يقال لي، ثم أردده كالببغاء دون أن أن يمر على مراكز التحليل والوعي في عقلي، لكني بعد سماع تلك المحاضرة، وما حصل فيها من تعقيبات رحت أفكر جيدا في كل معارفي، وأصححها وفق ما تقتضيه الحقيقة، لا وفق ما يقتضيه الهوى.

لقد كانت المحاضرة بعنوان [تطور الحيتان من أسلاف برية] ([1])، والتي راح صاحبها يمارس كل صنوف الحيلة ليقنعنا بأن بعض الثدييات تطورت قبل 60 مليون سنة إلى حيتـان، حيث غامرت بعض الثدييـات، ونزلت إلى المـــاء بحثا عن الطعـام، فبدأت تختفي مع الوقت الأرجل الخلفية، وتحولت الأرجل الأماميـة إلى زعـانف، وتغير شكل الأنف، واختفى الشعر وتحول إلى جلد.

وبدل أن يحدثنا صاحب المحاضرة عن التجارب العملية المثبتة لهذا راح يقص علينا حكايات من سماهم كبار أحبار العلم الذين أرقهم البحث عن سر وجود الحيتان في البحر.. وكأن الله الذي خلق هذا الكون العظيم يعجز أن يجعل في البحر من الكائنات من يشابهه في البر.

فذكر لنا تلك النقاشات العلمية حول أصل الحيتان في فترة ما قبل النظرية الداروينية، والتي كانت تدور حول أصل الحيتان، وعلاقته بالثدييات البريّة.. وذكر لنا من ذلك ما كتبه [جون راي] عام 1693 من أنّ الحيتان حيوانات ثديية معتمداً في ذلك على التشابه بين الحيتان والثدييات البريّة.

ثم ذكر لنا نظرية داروين المرتبطة بهذا، وهي أن الحيتان تطورت من الدببة، مقدماً فرضية عن إمكانية أن تكون الضغوط الاصطفائية ساهمت في تطور الدببة إلى حيتان..

ولم ينس أن يذكر لنا أن داروين اضطر تحت وطأة السخرية التي تعرض لها لسحب فرضية الدببة السابحة هذه من النسخ اللاحقة من كتابه [أصل الأنواع]

ثم ذكر لنا اقتراح [فلاور] عام 1883 والذي يذكر بأن الحيتان تمتلك صفات أولية وأثرية غير وظيفية تتميز بها الثدييات البرّية، وذكر لنا بحماسة أن (هذا ما أكدَّ أن اتجاه تطور السلف كان من نوع بريّ إلى نوع بحري وعلى أسس علم التّشكل (المورفولوجيا) ربط [فلاور] بين الحيتان وذوات الحوافر)

ثم ذكر لنا أنه في بدايات القرن العشرين اقترح كل من [ايبرهارد فراس] و[تشارلز اندروز] أن السريدونتات، وهي حيوانات مفترسات من آكلة اللحم البدائية، وهي منقرضة حالياً هي أسلاف الحيتان.

ثم ذكر لنا أنه في وقتٍ لاحق، افترض [ويليام ديلر ماثيو]، وهو من متحف التاريخ الطبيعي الأميركي أن الحيتان أصلها حيوانات ملتهمة الحشرات.

ثم ذكر لنا أن [ايفرهارد يوهانس سليبر] حاول أن يمزج بين الفكرتين، فافترض أن الحيتان هي سليلة ما دعاه [بارنس] بالـ [creodonts ـ cum ـ insectivores]، وهو حيوان مفترض يجمع بين صفات الحيوانات المفترسة والحيوانات آكلة الحشرات.. مع العلم لم يُكتشف حيوان هكذا حتى الآن.

ثم ذكر لنا أن [فان فالن] ربط عام 1966 و[سزالاي] عام 1969 بين الحيتان الأولى والـ [mesonychid condylarths]، وهي آكلات لحوم بدائية من ذوات الحوافر منقرضة حالياً وحجمها تقريباً بحجم الذئب، اعتماداً على صفات الأسنان.

ثم راح يرجح لنا هذا الاحتمال الأخير بتخرصات كثيرة صدعت رؤوسنا، وملأت القاعة شغبا.. فبعد انتهاء محاضرته، خرجت التعقيبات الكثيرة التي ترد عليه، وبعضها كان ينتصر للدببة.. وبعضها لتلك الحيوانات الافتراضية.. وبعضها لذوات الحفريات.

لست أدري حينها كيف تذكرت ما يطلق عليه [الجدل البيزنطي]، لعلكم تعرفونه.. إنه ذلك التعبير المستعمل للدلالة على المناقشات التى لاتؤدى إلى شئ فى النهاية.. لأنه لا يمكن لأحد من الناس أن يرحل إلى أحقاب التاريخ ليرى حقيقة ما جرى.

ولم يكن هذا موقفي لوحدي، بل كان موقف رئيس الجلسة الذي لم يستطع إدارتها ولا التحكم في القاعة بعد الشغب الكثير الناتج عن انتصار كل فريق لوجهة نظره.. حينها اضطر لأن يضرب بمطرقته ضربا عنيفا على مكتبه، وهو يقول: اسمعوا مني هذه القصة أولا.. ثم عودوا إلى ما كنتم عليه.

أطرق الجميع ساكتين، فقال: حدثني جدي أن أهل بيزنطة كانوا محاصرين بجيش، وطال الحصار، وبدل أن يبحثوا في مخرج لأزمتهم راحوا يبحون في أيهما الأسبق البيضة أم الدجاجة.. وانهمكوا فى النقاش والجدل حول هذه القضية، وطال خلافهم حولها.. ثم ما لبث الخلاف أن تحول إلى معركة.. وحين دخل أعداؤهم عليهم المدينة وجدهم أرضا رخوة لتحقيق جميع مآربة.. لأن ذلك الجدل البيزنطى شغلهم عن كل شيء.

بعد أن انتهى رئيس الجلسة من حديثه، قال: والآن يمكنكم أن تعودوا للجدل التطوري الدارويني الذي لا يقل عن الجدل البيزنطي.. ولا تنسوا أن عقولكم ومعاملكم التي تشغلونها بمثل هذه القصص التي لا معنى لها محتاجة لأن تبحث فيما يرتبط بواقعنا العملي.. فالبشرية بحاجة لأن تعالج الكثير من الأمراض، والبيئة بحاجة لأن تستعيد عافيتها بفعل السموم التي أفرزتها هذه الحضارة، ولذلك إن كان لكم فراغ من وقت فاملأوه بالبحث في هذه الأمور، قبل أن تدمر عليكم الأرض، ويحصل لكم ما حصل للديناصورات.

بعد أن انتهى رئيس الجلسة من حديثه هذا، ساد صمت طويل القاعة، قطعه رئيس الجلسة بقوله: اسمحوا لي ما دمت رئيسا لهذه الجلسة، واحتراما لهذا السكون الذي عاد للقاعة بعد القصة التي سردتها أن أسألكم سؤالا وجيها أرجو أن تجيبوني عنه بكل علمية ومصداقية.

أشاروا إليه أن يسأل، فقال: أرى أننا قبل أن نتساءل عن أصل الحيتان.. وهل هي الدببة، أم آكلات الحشرات، أم ذوات الحوافر، أم تلك الحيوانات الافتراضية.. أن نتساءل أولا عن مدى علمية نظرية التطور في حد ذاتها.. وهل هي ضرورة علمية، أم أن هناك خيارات علمية أخرى غيرها؟

وأرجو من الذين يودون الإجابة على هذا السؤال الخطير أن يتركوا اللغة المنغلقة في الحوار، بل يتعاملوا مع المسألة بعلمية مجردة، وبعيدا عن التشخيص.. لأنا هنا نناقش هذه النظرية من ناحية علميتها، ولا يهمنا من قال بذلك أو لم يقل..

قام أحد الحاضرين، وقال: لم أقم هنا لأجيب على السؤال الكبير الذي سأله حضرة رئيس الجلسة، وإنما أردت ـ وباعتباري أستاذا في المنهجية العلمية ـ أن أذكر لكم بأننا نحتاج للإجابة على ذلك السؤال أن نحتكم للمعايير العلمية التي يعتمدها الخبراء في هذا المجال.

وبما أنني عضو مؤسس لمجلس البحوث الوطني بالولايات المتحدة الأمريكية، فسأعرض على حضراتكم التقرير الذي نشرناه بخصوص هذه المعايير.. والذي قصدنا منه المحافظة على سلامة واستقامة تدريس العلوم.. فالمنهج العلمي يتميز عن غيره من مناهج وهيئات المعرفة باستخدام المعايير التجريبية، والحجج المنطقية، ومبدأ الشك.

ويجب أن تلبي التفسيرات العلمية بعض المعايير المحددة.. منها مثلا أن تكون متسقة مع الأدلة التجريبية والرصدية حول الطبيعة.. ويجب أن تكون لها القدرة على التنبؤ بدقة بخصوص الأنظمة التي يتم دراستها.. ومنها أن تكون بعيدة عن التفسيرات المبنية على الأساطير، والآراء الشخصية، والقيم الدينية والإلهامات الذاتية، والمعتقدات الخرافية.. فكل هذه الأمور قد تكون مفيدة شخصيا أو اجتماعيا، ولكنها ليست تفسيرات علمية.

ثم راح يفصل لنا معايير النظرية العلمية الستة، ويطلب من الحضور أن يطبقوها على نظرية التطور.

التطور.. والبيانات الرصدية:

بعد أن انتهى من حديثه قام بعض العلماء، وقال: بخصوص المعيار الأول.. وهو البيانات الرصدية، فإني أحب أن أصرح لحضراتكم بأن ما يذكره التطوريون من أن التطور عملية قابلة للملاحظة غير صحيح.. ذلك أنهم يتعمدون الخلط بين معنيين كلاهما يطلقان عليهما لقب [التطور]، أحدهما مقبول وعلمي، وآخرهما مرفوض وخال من العلمية.. ثم يحاولون الاستدلال بالأول على صحة الثاني.

قال بعض الحضور: كيف ذلك.. هلا وضحت لنا أكثر.

قال([2]): أنتم تعلمون أن نظرية التطور مرت بمراحل متعددة.. فمنها القديمة.. ومنها الحديثة.. أو التركيبية الحديثة.. وهي امتداد لنظرية داروين القديمة، والتي افترضت أن التنوع الحيوي يعود إلى أصل واحد..

ولما كانت هذه النظرية لا تهتم بآلية التطور، فقد جاءت الدارونية الحديثة لتقدم شرحًا لآلية التطور استنادًا على علم وراثة العشائر مع إبقاء أسس الدارونية الكلاسيكية كالانتقاء الطبيعي والجنسي وغيرهما.

وبناء على ذلك، فقد ظهر تعريف آخر للتطور، وهو مقدار التغير في تكرار المورث في العشيرة، مع إبقاء التعريف الأول.. ومن هنا صار عندنا مفهومان منفصلان للتطور: التطور الدقيق، والتطور الكبير.

أما التطور الكبير، وهو المقصود بالأصالة، فيعني التغيّر في الصفات المورفولوجية والجينية مما يتسبب في الانتقال من نوع إلى نوع آخر.. بخلاف التطور الدقيق أو الصغير، والذي يتم التغير فيه على مستوى النوع الواحد نفسه، كتطوير كائن حي لمقاومته نحو جسم غريب، أو تغيير لون لجلد، أو تغيير في حجم عضو معين من الجسم، أو نحو ذلك.

وهذا مما لا إشكال فيه، ذلك أن هجرة الأوروبيين مثلا إلى أستراليا واختلاطهم بالشعب الأسترالي الأصلي، أدت إلى اختلاط العرقين، وقد أثر ذلك على أولادهم، بحيث أصبحت أشكالهم تمزج بين الأصلين.. وهم يعبرون عن هذا بالتطور البيولوجي للأستراليين.. ومن أمثلته أيضا ظهور فيروس الأنفلونزا كل مرة بصورة جديدة، بحيث لا تؤثر فيه اللقاحات السابقة.

ولهذا كان لوجود تعريفين للتطور أثر كبير في إحداث الخلاف بين أنصار نظرية التطور ومعارضيها، إذ حين يقدم البعض أدلة صحيحة على التطور كظهور فيروس الأنفلونزا الجديد، يمتعض الآخرون، ويأخذون بنقد جوانب أخرى للنظرية تفترض الأصل المشترك للإنسان أو كل الأحياء.

وقد عبر عن هذا الخلط [مايكل بيهي] بقوله: (الدارونية الحديثة فسرت التطور الدقيق بشكل رائع، لكن عند الحديث عن التطور الكبير فعلى التطوريون أن يصمتوا)

وهذه المقولة هي واقع الحال في معظم الخلافات الني نراها، فالمؤمن ينتقد التطور الكبير فيرد عليه الملحد بأدلة على التطور الدقيق، ولذلك لا يصلون لأي نتيجة.

ولهذا ذكر [نيكولاس كومنينلس]، الأستاذ بجامعة ميزوري ـ كنساس، في كتابه [Darwin’s Demise]، أنه من الأخطاء الشائعة في الاستدلال العلمي استخدام التكيُّفات الملحوظة في التطور الصغير لافتراض صحة التطور الكبير، والانتقال من نوع إلى نوع آخر.

وكمثال على ذلك التحايل والخداع قام أحد أشهر المواقع المؤيدة للتطور (Talk origins) بإيراد أكثر من عشرين حالة ادّعى فيها الموقع رصد الانتواع بالفعل (أي الانتقال من نوع إلى نوع)، لكن قام الجيولوجي الأمريكي كيسي لَسكين بفحصها جميعًا، فتبيّن له أن هذه الادّعاءات غير صحيحة على الإطلاق، وأنه في الحقيقة ليس هناك حالة واحدة من الحالات المذكورة حدث فيها التطور الكبير الذي يتسبب في ظهور نوع جديد، بل كانت جميع التغيّرات على مستوى النوع الواحد فحسب.

وفي تجربة ملفتة، قام الباحث التطوري بجامعة ميتشيجن الأمريكية، ريتشارد لينسكي، برصد علامات التطور في البكتريا لمدة 20 سنة بتعقب 40،000 جيلًا من البكتيريا، وفي النهاية أقرّ أنه لم يكن هناك تغيّر جين واحد مفيد أو بنّاء طوال هذه المدّة.

وقد علّق أستاذ علم الجراثيم بجامعة بريستول البريطانية [آلان كلينتون] على ذلك متسائلًا: (ولكن أين هو الدليل التجريبي؟ لا يوجد ادّعاءٌ في الأدبيات العلمية أن نوعًا من الكائنات الحية قد تطور إلى آخر. البكتريا، وهي أبسط صور الحياة المستقلة، تُعتبر مثالية لهذه الدراسة، فهي تنتج أجيالًا كل 20 إلى 30 دقيقة وتمثل مجاميع كل 18 ساعة. ولكن طوال 150 عامًا من علم الجراثيم، لا يوجد دليلٌ واحد أن نوعًا من البكتيريا قد تغير إلى آخر)

قال بعض الحضور: بناء على هذا، أيهما يخلو من العلمية.. هل التطور الدقيق أم التطور الكبير؟

قال: بلا شك.. التطور الكبير هو الذي يخلو من العلمية، وهو الذي يقصد عند الإطلاق.. ولذلك نرى دوائر المعارف العلمية تعرف نظرية التطور بأنها (النظرية التي تفترض أن كل الكائنات قد نشأت من أصل واحد، والذي نشأ بدوره من مادة غير عضوية)

بل إننا إذا سألنا أي عامي أو مثقف عن معنى [نظرية التطور]، فإنه حتما سيجيب بأنها (النظرية التي تفترض أن أصلنا من القرود)

وبناء على هذا، فإن عرض أمثلة، مثل تطور الفراشات الداكنة والفاتحة لا يعتبر دليلا علي التطور.. ذلك أنها لا تدخل في إطار التطور الكبير.

ولهذا نجد التطوريين عاجزين عن تقديم أي معلومة عن كيفية تطور الامبيا إلى الإنسان عن طريق اكتساب معلومات وراثية جديدة على مدار الحقب الجيولوجية القديمة التي لم يشهدها أحد.

بل إن التطوريين أنفسهم يعترفون بذلك، وقد عبر عن ذلك أحدهم بقوله: (تثبت التجارب أن عملية الانتقاء الطبيعي تحدث بالفعل، ولكنها لا تثبت حدوث تطور الكائنات، مهما تباينت أعداد الأنواع المختلفة من الفراشات في الشكل واللون تظل كل الفراشات من البدايه للنهايه Biston betularia)

وقال آخر: (لم تظهر آليات التطور المزعومة [الانتقاء الطبيعي والطفرات العشوائية] أي قدرة علي زيادة المحتوي الجيني لأي كائن حي، كما أنه لم ير أحد عملية تطور من قبل)

ولأجل هذا نرى المشاهير من التطوريين أمثال [دوكنز] يراوغون عندما يجبرون علي الدفاع عن موقفهم الإيماني من التطور، ففي إحدى مناظرات دوكنز على إحدى القنوات التلفزيونية على يد أحد القائلين بنظرية الخلق، قال دوكنز: (التطور بالفعل تتم ملاحظتة،كل ما في الأمر أنه لم يتم ملاحظته أثناء حدوثه)

ثم راح يراوغ للاستدلال على ذلك بقوله: (إن رفض التصديق بشئ لم تره بعينيك هو أمر مناف للعقل، فكر في الأمر، أنا لم أر نابليون بعيني من قبل، ولكن هل هذا يعني أن نابليون غير موجود؟)

وهذا الرد يدل على أن دوكنز والتطوريين يعتمدون لإثبات نظريه التطور، وبشكل أساسي على الأدلة التاريخية لا الأدلة العلمية التجريبية، وهم بذلك يقعون فيما يتهمون به المؤمنين بالأديان والغيبيات.

وهكذا فإن نظرية التطور سقطت في الاختبار الأول الذي وضعه مجلس البحوث الوطني [NSES]، والذي ينص على أن (أي نظرية علمية لابد أن تعتمد على الأدلة التجريبية والرصدية).. وقد فشلت نظرية التطور في أول اختبار لمصداقيتها كنظرية علمية بتخلفها عن هذا المعيار.

التطور.. والتنبؤات الدقيقة:

بعد أن انتهى من حديثه، قام آخر، وقال: بعد أن ذكر لكم زميلي وصديقي تخلف نظرية التطور عن تطبيق المعيار الأول من المعايير العلمية، فسأذكر لكم أنا تخلفها عن تطبيق المعيار الثاني، وهو [التنبؤات الدقيقة]

وهذا التخلف ابتدأ من واضع النظرية نفسها، فقد اعتراف داروين بأن هناك تحديات خطيرة تقف عقبة في طريق إثبات نظريتة.

ومن الأمثلة على ذلك قوله: (لماذا لا نجد الأشكال الانتقالية مطمورة بشكل كبير في كل الطبقات الجيولوجية، لا تظهر الجيولوجيا أبدا أي شئ عن مثل تلك السلاسل العضوية المتدرجة بدقة، وهذا أخطر اعتراض يمكن أن يوجه ضد صحة نظريتي)

وقد كان داروين يطمع في أن تثبت الاكتشافات اللاحقة في السجل الاحفوري نظريتة، وبناء على ذلك فإن التنبؤ الدقيق لنظرية التطور هو اكتشاف كميات كبيرة من الأشكال الانتقالية.

لكن صار المستقبل الذي كان يحلم به داروين بحد ذاته عبئا على الداروينية وكما يقول جونثان وليز: (إن الاكتشافات العلمية الجديدة جاءت لتقضي على هذا الأمل تماماً، وربما أنكم لم تقرأوا عن هذا في الكتب الدراسية، إلا أن الحقيقة هي أن شجرة التطور الخاصة بداروين أصبحت بالفعل في وضع المنهار)

وبعد مرور 100 عام على تلك النبوءة الداروينية خرج علينا [ستيفين جاي جولد] ليقول: (إن الندرة الشديدة للأشكال الانتقالية في السجل الأحفوري لا تزال السر التجاري لعلم الأحافير)

كما اعترفت مجلة [National Geographic] مؤخرا بقولها: (مضيء ولكن متقطع، يبدو السجل الأحفوري كفيلم للتطور فقد منه 999 من اصل 1000 صورة)

وهكذا يعترف التطوريون أن 99.9 بالمائة من الدليل مفقود، ومع ذلك يحاولون دائما خداعنا بنماذج مزيفة لحلقات انتقالية ليبرروا بها نظريتهم.

وبناء على تلك المخادعات التي يمارسونها، فقد خرج علينا بعضهم، وهو [ستيفن جولد] في عام 1972م بآلية جديدة للانتخاب الطبيعي سمّاها بـ [التوازن المتقطع]، ليعطي تفسيرًا تطوريًا للحفريات الجديدة المكتشفة، فاقترح أن الكائنات الحية تمر بفترات استقرار لا تظهر فيها أنواع جديدة، تعقبها فترات تحول عنيف، مما يتسبب في ظهور أنواع جديدة مختلفة بشكل مفاجئ.

ليس ذلك فحسب، وإنما طرح جولد كذلك أن السلف المشترك المفترض في نظرية التطور ليس سلفًا واحدًا، وإنما عدة أسلاف في الحقيقة.

لكن تلك الطروحات جميعا لا تتوافق وأصل نظرية التطور.. فقد أورد داروين في كتابه [أصل الأنواع] أن الطبيعة كلٌّ مستمر، لا انقطاع فيها ولا فجوات، ولا قفزات.

وهي النظرة المتفقة مع [الباراديم]، أو التصوّر الذهني الحتمي العلمي السائد حينئذٍ، الذي آمن فيه العلماء بعمومية قوانين الطبيعة وثبوتها واطّرادها، بلا تخلف ولا مصادفة.

لكن سواء تغيّر هذا البارادايم أم بقي، إلا أن هذه الفكرة، وهي تقطّع التطوّر، رفضها داروين تحديدًا بشكل قاطع، لأن القول بأن التغيّرات ـ كما يذكر داروين ـ (تحدث بشكل متواتر ومستمر هو قول يحتوي في الحقيقة على معجزة)

وبناء على هذا يمكننا أن نتساءل عن قيمة استبعاد معجزة الخلق الإلهي إذا تم استبدالها بمعجزة التطوّر المتقطع.

ثارت بعض الضجة في القاعة، أوقفها رئيس الجلسة، ثم طلب من العالم أن يتحدث، قائلا له: نرجو أن تلتزم بالموضوع، فأنت تتحدث عن مدى تطبيق نظرية التطور للمعيار الثاني، وهو [التنبؤات الدقيقة]

قال العالم: أجل.. فهذا التحول المفاجئ من تنبؤ داروين بوجود سلسلة عضوية دقيقة التدرج إلى فرضية جولد هو بمثابة اعتراف عام بعدم قدرة التطور علي تقديم تنبؤات دقيقة، وهكذا وبقليل من المرواغة أصبح غياب الدليل أكبر دليل على صحة النظرية.

لم تكن تلك النبوءة الوحيدة التي فشلت النظرية في إثباتها، ولكن بشكل مماثل فشلت كل التكهنات الأخري مثل [الاعضاء الضامرة] إذ كان التطوريون يظنون أن تلك الاعضاء وال [دى إن إيه] هي بقايا أسلافنا التي تناقلتها عبر الحقب الجيولوجية حتى فقدت وظيفتها، وكانت تعتبر من الأدلة الدامغة على صحة نظرية التطور.

لقد عبر بعض العلماء عن فشل نبوءة نظرية التطور المرتبطة بهذا، فقال: (إن في الفشل في التعرف على آثار الـ [دى إن إيه] غير المشفر للبروتين سوف يخلد كأكبر غلطة في تاريخ الأحياء الجزيئية)

ومثل ذلك أيضا فشل نبوءات داروين في اعتباره أن الاكتشافات الحديثة ستقودنا إلى اكتشاف الأصل المشترك لكل الكائنات الحية على الأرض.. حيث أنه لم يكشف لنا السجل الأحفوري عن أي حياة قبل العصر الكامبري، وهو الحقبة الجيولوجيه التي ظهرت فيها أول أشكال الحياة على الأرض وظهرت بشكل معقد، ويبلغ عمر تلك الحقبة 600 مليون سنه تقريبا، وبذلك لم يتم إيجاد الأصل البدائي المشترك للكائنات الحية.

لقد علق [دوكنز] على ذلك الموقف الحرج قائلا: (على سبيل المثال، تعتبر طبقات الصخور الكامبرية (التي يبلغ عمرها حوالي 600 مليون سنة) أقدم الطبقات التي وجدنا فيها معظم مجموعات اللافقاريات الأساسية.. ولقد عثرنا على العديد منها في شكل متقدم من التطور في أول مرة ظهرت فيها.. ويبدو الأمر وكأنها زُرعت لتوها هناك دون أن تمر بأي تاريخ تطوري.. وغني عن القول أن مظهر عملية الزرع المفاجئ هذا قد أسعد المؤمنين بالخلق)

وبناء على هذا كله، وبالعودة إلى [NSES]، فإن العلم الحقيقي يجب أن يقدم توقعات وتنبؤات دقيقة، ولكننا نجد نظرية التطور يتم اثبات فشلها بشكل مستمر نتيجة تنبؤاتها الخاطئة.

ولذلك، فإن النتيجة التي أخرج بها هي أنه (إذا كان 100 عام من البحث الدقيق لم يؤيد أكبر تنبؤ لنظرية التطور، فإن نظرية التطور غير علمية)

التطور.. والمنطقية العلمية:

بعد أن انتهى من حديثه، قام آخر، وقال: بعد أن ذكر لكم زميلي وصديقي تخلف نظرية التطور عن تطبيق المعيار الثاني من المعايير العلمية، فسأذكر لكم أنا تخلفها عن تطبيق المعيار الثالث، وهو [العقلانية المنطقية]

وحتى يتضح لكم هذا جيدا، تخيلوا معي أنكم أبصرتم إنسانا آليا يسير على قدمين، وهو يحمل بكفيه طردا ملصقا عليه عنوان دقيق.. ثم يذهب إلى ذلك العنوان بالضبط، ويسلم له الطرد.

ألستم عندما ترون هذا تسبحون بحمد من صنعه وصممه وأبدعه، وتعتبرون من جادل في ذلك، وتصور أنه مجرد آلات تجمعت بطريقة عشوائية عبر الزمن الطويل مجرد خرافة، وأنه قول لا يستند للعقلانية، ولا المنطقية؟

سكتوا جميعا، فقال: هذا هو الواقع الذي نقع فيه نحن أنصار نظرية التطور.. ففي الوقت الذي نعتبر فيه التقانة وما توصلت إليه من إنجازات عبقرية أنجزها العقل الإنساني نعتبر في نفس الوقت التجمع الحيوي الذي يتشكل منه الإنسان مجرد تشكل عشوائي انطلق من الصدفة والطفرة، وليس من مبدع حكيم مصمم.

ثارت ضجة في القاعة، فقال العالم: لا بأس.. لن أذكر الإيمان.. ولا الخالق.. وسأعود إلى ما كنت فيه.. فقد كنت أود أن أذكر لكم بأن اكتشافات علم التقانة الحيوية قد دفع بمبدأ [التجميع الذاتي] إلى اعتباره مجرد سذاجة فكرية.

سأضرب لكم مثالا يقرب لكم هذا.. أنتم تعرفون ذلك البروتين المسمى [kinesin]، والذي يعتبر نموذجا مصغر لرجل البريد، وهو يوجد بشكل كبير في كل خلية حية ليؤدي دوره المتمثل في نقل حزم البروتين مستخدما طرقا سريعة ذاتية التجميع تسمي [micro tubule]، وهو يتحرك على قدمين بشكل يشبة حركه الإنسان تماما، وبطريقة ما تعرف الخلايا أيا من الاجزاء الخلوية يجب تصنيعها، ويتم ذلك في مصانع صغيرة توجد في الخلايا تسمي [Ribosome]، ثم يتم بعد ذلك تغليفها في عضيه خلويه تسمي [Golgi apparatus]، وبطريقة ما ترسل هذه الأجهزة إشارات للبروتين الناقل [Kinesin] لكي يحمل تلك الشحنه التي تم تغليفها، وينقلها إلى مكانها المناسب.

إن هذا يشبه تماما ذلك الإنسان الآلي الذي تحدثنا عنه.. بل إنه أكثر تعقيدا منه، وهو من الصغر بحيث لا نستطيع أن نقارن بين مدى الإبداع بينهما.. فلذلك كان من العقلانية والمنطقية أن نضع أحكاما واحدة للجميع، فلا نميز بين ما نصنعه وبين ما نجده جاهزا.. فكما احتاج ما نصنعه إلى عقل مبدع، فكذلك يحتاج ما وجدناه جاهزا إلى صانع أكثر إبداعا وعلما وخبرة.

قامت ضجة أخرى في القاعة.. فقال العالم: لا بأس.. لن أتعرض في حديثي للإيمان.. أنا أدعوكم فقط إلى تطبيق شفرة أوكام([3]) على الدعاوى المرتبطة بنظرية التطور، مثلما تطبقونها على كل الدعاوى..

ألستم تعتبرونها أحد أهم المبادئ المنطقيّة التي تشمل تطبيقاتها طيفا واسعا من المجالات المتباينة من علم المنطق، ونظرية المعرفة، والاقتصاد، وحتى الفلك والفيزياء وربما الرّياضيات؟

ألستم جميعا تطبقونها، وبتلقائية، ومن حيث لا تشعرون في كل المجالات.. ففي الاقتصاد تعتبرون هذه الشيفرة من أهم المبادئ الاقتصادية.. وفي الرياضيات تفضلون أقل البراهين تعقيدا عند تساوي تلك البراهين بالنتيجة ودرجة عموميتها.. وفي الفيزياء والفلك تفضلون أقل التفاسير تعقيدا لظاهرة طبيعية ما عند وجود عدة تفاسير محتملة.. وبفضل هذا المبدأ استطعتم التفريق بين الفيزياء والميتافيزياء.. وبين الكيمياء والخيمياء([4]).

فهلموا طبقوا هذه الشيفرة على نظرية التطور.. ولتكن لكم مكاييل واحدة، فلا يصح للعالم أن تكون له مكاييل مزدوجة.

شرب قليلا من الماء، ثم قال: ما أذكره لكم ليس كلامي فقط.. بل هو كلام جماهير كبيرة من العلماء الذين نحاول التستر على تصريحاتهم..

منهم [جوناثان ويلز] عالم الأحياء الأمريكي الذي سافر على متن سفينة، وظل يراقب مناقير البط، مثله مثل السيد داروين تماما.. وقد تحدث في كتابه الذي سجل فيه ملاحظاته عما ذكرته لكم، فقال: (من النادر للغاية أن يتم إطلاع المجتمع كله بما يقوم به العلماء المتخصصون من تفسيرات علمية تتعلق بالإبهام والغموض العميقين بخصوص أصل الإنسان، وبديلا عن ذلك نتلقى مجرد خبر عن آخر نظرية لهذا الشخص أو ذاك، ولا ينقلون لنا الحقيقة التي لم يستطيعوا هم أيضا فهمها بخصوص هذا الموضوع، فيتم الترويج للنظرية وتزيبها بشكل دقيق وبالاستعانة ببعض الرسوم والصور المتخيلة لإنسان الكهف أو لجد الإنسان بوضع كثير من الماكياج عليها، والواضح أن أحدا من قبل لم ينسج خيالا واسعا إلى هذا الحد بخصوص جزئية بسيطة إلى هذا القدر في أى فرع من فروع العلم المختلفة)

إن [جوناثان ويلز] عالم الأحياء المتخصص ينص بكل صراحة على أن الداروينية لا تعدوا أن تكون خيـالا علميا، لا حظ له من العقلانية، ولا المنطقية.

وقبله صرح العالم [ريتشاد ليكي] وهو أحد علماء [الباليوأنثروبولوجيا]، وهو العلم الذي يبحث في أصول الإنسان القديم، فقد قال: (لو أنكم جئتم برجل علم ذكي ماهر من فرع مختلف من فروع العلم، وأطلعتموه على ما لدينا من دلائل غير كافية فإنه سيقول لكم وبكل تأكيد: انسوا هذا الموضوع، فليس لديكم دعامة أو سند كاف للاستمرار فيه.. فالدلائل لدينـا غير كافية إطلاقا)

وقال: (لقد أصبحت الفكرة التي تقول بأن تاريخ تطور الكائنات الحياة عبارة عن مسألة أو قضية استكشافية مجرد خرافة.. فلو كان بهذا الشكل ووجدنا حفريات كثيرة لكائنات شبيهة بالإنسان لكان من الضروري أن تتحول حكاية التطور إلى شكل أكثر وضوحا غير أن الحقيقة هي أنه عندما كان يحدث شيء كان يحدث شيء آخر على النقيض تماما من الأول)

وهكذا صرح [هنري جي] المحرر العلمي في مجلة الطبيعة بقوله: (إن عملية أخذ مجموعة من الحفريات والقول بأنها تعكس وجود سلسلة قرابة هي في الواقع ليست فرضية علمية يمكن إخضاعها للاختبار، وكل ما في الأمر أنها مجرد حكاية أو حدوته من أحاجي منتصف الليل المسلية التي قد تكون موجهة أو مرشدة للإنسان في كثير من الأحيان إلا أنها ومع ذلك لا تستند لأي أساس علمي)

وهكذا صرح [ميلفورد ولبوف] و[آلان ثورن]، فقد ذكرا أن (الإنسان منتصب القامة ليس إلا تصنيفا خياليا لا وجود له، وأن الحفريات التي أدمجت في هذا التصنيف هي عبارة عن الإنسان العاقل من أعراق مختلفة)

بل إن الكثير من العلماء الآن في بلادنا ينادون قائلين: (نحن في حاجة ماسة وعاجلة إلى عدم الدفع بالعلم إلى دائرة الخرافة.. فما الذي يستفيده العلم من معرفة درجات القرابة بين الحيوانات المختلفة.. إن العلماء كفوا عن أن يكونوا علماء أنساب!!)

لقد عبر [جريج كيربي] عن الإفلاس الذي وقع فيه التطوريون قائلا: (لو أنكم قضيتم حياتكم كلها في جمع العظام والقطع الصغيرة من الجمجمة والذقن، فإنكم ستشعرون برغبة ملحة في أن تبالغوا في أهمية هذا القطع الصغيرة التي قمتم بجمعها)

سكت قليلا، ثم قال: إن كل الدلائل العلمية الآن تقف ضد نظرية التطور.. وبفضل هذه الدلائل والقرائن تعرضت نظرية التطور للسقوط في الكثير من المناطق التي كانت تتبناها..

ففي الولايات المتحدة الأمريكية اعتبارا من النصف الثانى من التسعينات، اتخذت عدد من الولايات القرار بضرورة تدريس القرائن التي تشير إلى عدم صلوحية تدريس نظرية التطور في مدارسها.. وجميع أعضاء هذه الحركة من رجال العلم الذين لهم رصيد مهني في أكبر جامعات الولايات المتحدة الأمريكية.

حتى إن البروفيسور كينيون، وقد كان واحدا من أشهر المدافعين عن نظرية التطور بأطروحته التي قدمها في السبعينات فيما يتعلق بأصل الحياة والتطور الكيميائي، تحول هو أيضا إلى واحد من ممثلي الحركة المضادة لنظرية التطور، وتحدث عن أن أصل الحياة لا يمكن أن يفسر بالتطور وإنما بالخلق.

التطور.. والانفتاح للنقد:

بعد أن انتهى من حديثه، قام آخر، وقال: بعد أن ذكر لكم زميلي وصديقي تخلف نظرية التطور عن تطبيق المعيار الثالث من المعايير العلمية، فسأذكر لكم أنا تخلفها عن تطبيق المعيار الرابع، وهو [الانفتاح للنقد]

ثم رفع كتابا بيده، وقال: هذا الكتاب واحد من عشرات أو مئات النماذج التي تدل على الانغلاق الفكري الذي يعانيه الدراينيون.

لاشك أنكم تعرفونه إنه كتاب [التطور: نظرية في أزمة] الذي أصدره [مايكل دنتون] عام 1985، والذي أثار الكثير من الجدل، بل من العنف والمواجهة من طرف التطوريين، لسبب بسيط، وهو أنه أقر فيه بالحقيقة، وصرح فيه بما جبن غيره أن يصرح به، لقد ذكر فيه أن نظرية التطور بالاصطفاء الطبيعي نظرية في أزمة علمية حقيقية.

ولهذا وُصف من قبل العديد من البيولوجيين بأنه نقض لأركان نظرية التطور وهدمها بأسس علمية.. وبسبب هذا تعرض الكتاب ومؤلفه إلى حملة كبيرة من التشويهات، لا لكونه غير علمي، ولا غير منسجم مع المنطق.. ولكن لكونه ناقض الخط العام المرسوم مسبقا، والقائل بقبول نظرية التطور حتى وإن كانت تناقض في كثير من نقاطها الحقائق العلمية الواضحة.

سكت قليلا، ثم قال: إن هؤلاء المنغلقين من التطوريين يستخدمون نفس الأسلوب الذي حصل في الاتحاد السوفييتي إبان عهد ستالين.. ففي تلك الفترة، اعتبرت الشيوعية، الأيديولوجية الرسمية للاتحاد السوفييتي فلسفة (المادية الجدلية) هي الأساس لكل العلوم.. ولذلك أمر ستالين بأن تتمشى كل البحوث العلمية مع المادية الجدلية.

ومع ذلك، تم رفع هذا الالتزام عند انهيار الاتحاد السوفييتي، وعادت الكتب إلى كونها نصوصا علمية فنية عادية تحتوي على نفس المعلومات.. بل إن التخلي عن سخافات مثل المادية الجدلية لم يتسبب في تخلف العلم، بل أزال عن كاهله الضغوط والالتزامات المفروضة عليه.

وهكذا نرى في الوقت الحاضر أنه لا يوجد سبب يدعو إلى ربط العلم بنظرية التطور، فالعلم يقوم على الملاحظة والتجريب، بينما تعبر نظرية التطور، من ناحية أخرى، عن فرضية متصلة بماض لا يمكن إخضاعه للملاحظة.

سكت قليلا، ثم قال: اسمعوني أيها العلماء لأقول لكم بكل صراحة: إن ما يقع فيه دعاة نظرية التطور من انغلاق وتشدد لا يختف عن ذلك العصر الذي كان هناك فيه إجماع علي سطحية الأرض.. وقد اتهم حينها بالزندقه والتكفير كل من خالفهم، واتبع الدليل.. وهذا هو واقعنا الحالي مع أصحاب نظرية التطور، والمؤسسات العالمية الكبرى التي تدعمها.

ولهذا نراهم يتركون الاحتجاج العلمي المبني على الأسس المنطقية التجريبية، ويلجؤون إلى أساليب لا علاقة لها بالعلم من أمثال ادعائهم أن النظرية مقبولة بشكل واسع في المجتمع العلمي.

وكأن صحة أي نظرية تعتمد على الأغلبية المفترضة لأتباعها، لا على ما يدل عليها من أدلة.. ولهذا يمارسون نوعا من الضغط النفسي والدعاية الخالية من اللغة العلمية.

لقد أقر الدكتور [أدرا دينكل]، وهو برفيسور في الفلسفة، ومساند لنظرية التطور، بالطبيعة الخاطئة لهذا الأسلوب، فقال: (هل الحقيقة التي يؤمن بها العديد من الأناس البارزين أو المنظمات أو الهيئات يثبت صحة نظرية التطور؟.. هل يمكن اثبات النظرية بقرار المحكمة؟.. هل الحقيقة التي يؤمن بها الشخصيات أصحاب السلطة يجعلها صحيحة؟)

ثم راح يجيب على هذه التساؤلات بقوله: (أريد أن أسترجع حقيقة تاريخية.. ألم يقف جاليلو ضد الشخصيات الهامة والمحامين، وخصوصًا العلماء في ذاك الوقت، وتكلم عن الحقيقة لوحده، وبدون أي دعم من أي شخص؟.. ألم تكشف محاكم الإستقصاء حالات أخرى مشابهة؟)

وفي الأخير ختم كلمته بقوله مخاطبا أولئك التطوريين المنغلقين: (إن كسب دعم الدوائر البارزة والمؤثرة في صنع القرار لا يصنع الحقيقة، وليس له علاقة بالحقيقة العلمية)

سكت قليلا، ثم قال: وأحب أن أضيف إلى ما ذكره الدكتور [أدرا دينكل] أننا إذا تأملنا الواقع العلمي جيدا، وبنظرة حيادية، فإننا نجد نظرية التطور غير مقبولة من المجمتع العلمي كله، كما يشيع أنصار نظرية التطور.. بل إنه خلال العشرين سنة ماضية، نرى أعدادا محترمة من العلماء ترفض الداروينية بشكل متصاعد.

لقد ترك معظمهم عقيدتهم الدوغماتية في الداروينية بعد رؤية تصميم لا عيب فيه في الكون وفي الكائنات الحية.

والأهم من ذلك كله أن الذين تخلوا عن النظرية هم أعضاء من جامعات مشهورة، ومن جميع أنحاء العالم، خاصة في الولايات المتحدة، فهم خبراء وأكاديميون في مناصب علمية مثل البيولوجيا والبيوكيماء والميكروبيولوجي وعلم التشريح وعلم الدراسات القديمة وغيرها من الحقول العلمية.. فلذلك، فإنه الخطأ الكبير القول بأن الأغلبية من المجتمع العلمي تؤمن بالداروينية.

سكت قليلا، ثم قال: لا بأس.. حتى لو فرضنا أن هناك إجماعا على قبول هذه النظرية، فهل الاحتكام إلى الإجماع من الناحية العلمية احتكام صحيح؟.. وهل الإجماع العلمي معصوم من الخطأ؟

إن التاريخ أكبر شاهد على أن الإجماع العلمي أخطأ في مواقف كثيرة.. فأنتم تعرفون ما حدث لجاليلو عندما خالف نموذج أرسطو العلمي للكون، والمجمع عليه من العلماء في ذاك الوقت.. وكانت الكنيسة تساند هذا النموذج.

نفس الحالة تنطبق على نظرية التطور، فهي النموذج الحالي المستخدم في الأحياء والمجمع عليه في وقتنا هذا، والذي يسانده اللوبي الإلحادي.. فالإحصائيات وجدت أن 93بالمائة من العلماء الأعضاء في (أكاديمية الولايات المحدة الوطنية للعلم) هم ملاحدة.. وهذه النتائج تشير أن تغير النموذج المستقبلي لنظرية التطور سيكون بطيئًا بالنسبة للنظريات المنافسة بعد معرفة عقيدة الكثير من العلماء.

ليست قضية جاليلو وحدها الحالة الفريدة المتضررة من الإجماع العلمي.. ففي عام 1847، اكتشفَ [إجناز سيميلويز] أن تطهيرِ الأيدي خفّضَ حادثة الحُمَّى الولادية بشكل كبير في عيادات الولادة.. والتي كانت السبب الوحيد والأكثر شيوعاً في وفيات الأمهات في القرونِ الثامنة عَشرة والتاسعة عشرة..

لكن الإجماع العلمي لَم يَقبل حينها دليل [سيميلويز] التجريبي.. ورفض نتائجَه التي وصل إليها.. بل نظر إليها باحتقارِ، بحجة أنه لَمْ يوافق الرأي المؤَسَّس في تلك الفترة.. وقد قيل عنه حينها: إنه لا قاعدةَ علميةَ لادّعاءاتِه.. وقيل إنه لم يأت بشيء جديد.

وهذا ما حصل أيضا عام 1843، حين نَشرَ [أوليفير ويندل هولمز] مقالةً عن قابلية عدوى الحُمَّى الولاديةِ لكن وجهاتَ نظره هوجمتْ من المؤسسة العلمية بحجة مخالفتها للإجماع.

بل إنه وفي عام 1795 نَشرَ الدّكتور [ألكساندر جوردن] ورقة عن الطبيعةِ المعديةِ للحُمَّى الولاديةِ وأهميةِ سلوكيات النظافةِ الصحيحة لكي تمنع من انتشار المرض.. لكن ورقته قوبلت أيضا بالمعارضة القوية.

تصوروا لو أن ما يطلق عليه [الإجماع العلمي] تواضع، وسمع لتلك الأبحاث وناقشها، وجربها، واستفاد منها.. كم يا ترى من أرواح ستنقذ؟

ولكم أيضا أن تتساءلوا كم من الأرواح تسبب فيها ذلك الإجماع العلمي الذي يرفع الآن شعارا لتمرير هذه النظرية؟

لقد عبر عن هذا المعنى [مايكل كريتشتون] حين ذكر أن الإجماع يمكن استخدامه في مجالات الدين أو السياسة، ولكن لا مكان له في العلم، ذلك أنه يعتمد فقط على الأدلة المكتشفة من التجارب العلمية، ولا يعتمد على أعداد العلماء..

لقد عبر عن ذلك بقوله: (دعنا نكن واضحين: الأسلوب العلمي ليس له أي علاقة بالإجماع، الإجماع هو عمل السياسة.. العلم في الوجه المقابل، يحتاج إلى محققين يصادف أنهم على صواب، وهذا يعني أن لديه معلومات قابلة للإثبات بالمراجع في العالم الواقعي.. أما الإجماع العلمي فليس له علاقة، فالذي له علاقة هي النتائج القابلة للإنتاج.. أعظم العلماء في التاريخ كانوا عظماء بالفعل لأنهم كسروا الإجماع.. لا يوجد شيء اسمه إجماع علمي.. إذا كان هناك إجماع فهو ليس علما.. وإذا كان هناك علم فهو ليس إجماعا.. نقطة على السطر)

وعبر عن ذلك في موقف آخر بقوله: (الإجماع يستخدم عندما لا يكون العلم صلبًا بما فيه الكفاية.. لا أحد يقول إن إجماع العلماء يتفق على أنّ بعد الشمس عنا هو 93 مليون ميل.. لم يحدث أبدًا أن تكلم أحد بهذه الطريقة)

وقال: (أريد أن أتوقف هنا لمهلة وأتكلم عن فكرة الإجماع، والفكرة التي انتشرت بكثرة وهي الإجماع العلمي.. أنا اعتبر الإجماع العلمي تطورا خبيثا يجب إيقافه بدون رحمة.. فتاريخيًا، ادعاء الإجماع كان مأوى الأوغاد.. إنها طريقة لتجنب المناظرة بإدعاء أن القضية صارت محلولة.. كلما سمعت عن إجماع العلماء في الموافقة على شيء ما أو آخر، فابحث عن محفظتك، لأنه يتم شراؤك..أو تفقد مخك، لأنه يتم غسيله)

سكت قليلا، ثم قال: لقد عبر جاليلو عن موقفه من قضية الإجماع العلمي، فقال: (في الأسئلة العلمية، سلطة الآلاف لا تستحق التفكير المتواضع لشخص واحد)، هذا هو القانون الصحيح الذي يحتكم إليه في العلم، لا تفكير القطيع الذي يتصور أنه كلما كبر العدد كانت الحقيقة.

وما ذكره جاليليو هو نفسه ما أشار إليه الفيزيائي [جيوفاني أميليون] حين تحدث عن المساءلات التي تعرضت لها نظرية النسبية لآينشتاين، وهي أعز نظرية على قلوب الفيزيائيين على حد وصفه.. وذلك حين اكتشفت جسيمات النيوترينو والتي كان يظن أنها تجري بسرعة تفوق سرعة الضوء.. ولكن رغم أنه تم إثبات خطأ ذلك، حيث أنه تبين أن التنيوترينو لا يجري بسرعة أكبر من سرعة الضوء، إلا أنه مجرد تعريض النظرية النسبية للمساءلة رغم أهميتها ومدى تمسك الفيزيائيين جميعا بها يحد أمرا صحيا وإيجابيا بحد ذاته..

لقد عبر عن ذلك بقوله: (فمن يدري؟ لعل الاكتشاف العظيم القادم يكون على بعد خطوة صغيرة منا ونحن لا ندري.. فربما تبين خطأ النظرية النسبية وظهور نظرية أهم منها وأدق!)

ثم راح الكاتب يتندر على الحال مع نظرية التطور، ويذكر أنه (على عكس ما يحصل عند الفيزيائيين من استعداد تام لتعريض أهم نظرياتهم للمساءلة، فإن التطوريين لا يبدون أي استعداد لفعل الشيء نفسه مع نظريتهم. بل على العكس، فإنك ستجد دوما مقالات وكتابات تصر وتلح بعناد ومكابرة على أن نظرية التطور هي حقيقة تامة ولا تشوبها شائبة!)

التطور.. والمعلومات الدقيقة:

بعد أن انتهى من حديثه، قام آخر، وقال: بعد أن ذكر لكم زميلي وصديقي تخلف نظرية التطور عن تطبيق المعيار الرابع من المعايير العلمية، فسأذكر لكم أنا تخلفها عن تطبيق المعيار الخامس، وهو [المعلومات الدقيقة]، فلا يمكن أن نثق في نظرية تتلاعب بالمعلومات، أو تزورها، أو تفسرها على خلافا ما تدل عليه النتائج العلمية المنطقية..

ويكفي لأي نظرية تفعل هذا أو بعضه أن تتهم في مصداقيتها وموضوعيتها وصفتها العلمية.. بل يمكن أن تطرح أصلا مثلما يطرح ذلك الكاتب الذي اكتشفت لصوصيته العلمية، أو راح يزور الحقائق، أو راح ينسبها لنفسه.

لن يصعب علي أن أجد أمثلة على ذلك.. لكني لن أذكرها لكم جميعا، فوقتكم أنفس من أن أضيعه في أمثال هذه التفاصيل.

ولهذا سأكتفي بأن أريكم بعض الصور التي تلاعب بها أصحاب هذه النظرية، وخدعوا بها جماهير عريضة، لفترة طويلة من الزمن، بل إن بعضها قررها في مدارسه وجامعاته، باعتبارها حقائق نهائية مع أنها لم تكن سوى أكاذيب وخدع.

أخرج لهم صورة لقرد شبيه بالإنسان، أو إنسان شبيه بقرد، ثم قال: لاشك أن هذه الصورة مرت بكم كثيرا، ولاشك أنكم رأيتموها في يوم من الأيام في تلك السلسلة التي وضعها الدارينيون للرحلة التي تحول فيها القردة إلى بشر.

إنها ما يسمونه [إنسان بلتداون].. أو ما يطلق عليها الآن بـ [خدعة بلتداون]([5])، ففي عام 1912، ادعى فريق بحثي بقيادة عالم حفريات بريطاني هاوٍ يُدعى [تشارلز داوسون] اكتشاف حفرية.. وقد كان الأمر حينها عجيبا ومثيرا.. ذلك أن عظام فك تلك الحفرية التي تم عرضها تشبه عظام فك القرد، بينما الجمجمة كانت تمتلك صفات جمجمة الإنسان.

وقد اهتمت الهيئات الكثيرة بذلك الاكتشاف الخادع، وتم إطلاق اسم [إنسان بلتداون] على تلك الحفرية، والتي عُرضت في أهم متاحف العالم لأكثر من 40 عامًا متتالية على أنها دليل قاطع على صحة نظرية التطور.

وكان صداها هائلًا على المستوى الأكاديمي، حتى أن ما يقرب من 500 أطروحة للدكتوراه تمت كتابتها عن هذا الأمر لمدة 40 عامًا، بل كانت توصف بكونها رمزًا لانتصار نظرية التطور المزعومة، وُضعت للعرض والمشاهدة في المتحف البريطاني، والذي يعتبر واحدًا من أشهر المؤسسات في العالم.

وقد تم فحصها ودراستها في تلك الفترة الطويلة من قبل أشهر العلماء من جميع أنحاء العالم، بل حتى من قبل أعداد لا تُحصى من الزائرين.

وفي الأخير، وبعد كل ذلك الانتصار الكاذب الذي لبس لباس العلم اكتشف أن الأمر كله لا يعدو أن يكون مجرد خدعة.

ففي عام 1949، استطاع [كينيث أوكلي] من قسم الحفريات في المتحف البريطاني أن يطور طريقة جديدة لتحديد أعمار الحفريات.. وبدأ باستخدام هذه التقنية التي أُطلق عليها اختبار الفلوريد على الحفريات الموجودة داخل المتحف.

وما إن راح يطبقها على جمجمة [إنسان بلتداون] حتى ذهل للمفاجأة، فقد اكتشف أن عظام الفك خالية من مادة الفلوريد، بينما احتوت الجمجمة على نسبة صغيرة منه.. وهذا يعني أن عظام الفك لا يتجاوز عمرها بضع سنوات، والجمجمة لا يتجاوز عمرها بضع المئات من السنين على أقصى تقدير.

ومع تكثيف التحقيقات، اكتشف أن تلك الحفرية التي تم تصويرها على أنها أفضل دليل تم التوصل إليه لإثبات نظرية التطور كانت في الحقيقة محض كذب.. فعظام الفك تنتمي إلى إنسان الغاب المتوفى حديثًا.. والجمجمة تنتمي إلى إنسان متوفٍّ منذ فترة قاربت 500 عام..

ومن خلال الفحص عن قرب عرف أن الأسنان تم إرفاقها بعظام الفك في وقتٍ لاحق، وتم استخدام أداة صلبة لكشطها.. ثم تم غمرها في سائل ثنائي كرومات البوتاسيوم، وذلك لإعطائها مظهرًا قديمًا.

وقد أثبتت التحاليل المفصلة التي أجراها [جوزيف وينر] بما لا يدع مجالًا للشك أن هذه الحفرية كانت مجرد خدعة.

وكان البروفيسور [لو جروس كلارك] أستاذ التشريح بجامعة أوكسفورد واحدًا من هؤلاء العلماء الذين كشفوا هذا الغش والاحتيال.. وفي نهاية التحقيقات التي قام بها، قال: (بالفعل فإنه يبدو جليًا افتعال هذه الخدوش، ويبدو أنه من الجيد طرح السؤال الأهم، وهو: كيف أن هذه الخدوش لم يتم ملاحظتها من قبل؟.. إنهم لم يبحثوا عن هذا الأمر من قبل.. لم يقم أي شخص في السابق ممن فحصوا عظام فك بلتداون بوضع فكرة وجود تزييف محتمل نُصب عينيه، إنه تلفيق متعمد)

أما [كلارك هاول] أستاذ الأنثروبولوجيا، فقد قال معلقا على هذه الخدعة الخطيرة: (اكتُشفت بلتداون عام 1953 ولم تكن سوى عظام فك لقرد تم إدخالها على جمجمة إنسان، فهي خدعة قد تم وضعها عن عمد، فهم لم يقروا بشكل واضح عما إذا كان هذا الفك ينتمي لقرد أو إذا كانت الجمجمة تنتمي لإنسان، وبدلًا من ذلك فقد أعلنوا أن كل جزء من الجزئين السابقين هو شيء في المنتصف ما بين القرد والإنسان.. وقد أرجعوا تاريخه لحوالي 500 ألف عام مضت، وأطلقوا عليه اسم [الإنسان الفجرى الدوسوني أو إنسان داون]، وكُتب ما يقرب من 500 كتاب عن هذا الأمر خدع هذا الاكتشاف علماء الحفريات لمدة 45 عامًا)

سكت قليلا، ثم قال: هذا مجرد مثال.. والأمثلة كثيرة جدا.. بل إننا في كل يوم نسمع كذبة جديدة وخدعة جديدة، ويصدقها الكثير، لا لكونها علمية، ولكن لكونها تصب في ذلك التفكير الرغبوي المزاجي الذي جعلنا ننتصر لهذه النظرية بالصدق أو بالكذب.

سأضرب لكم مثالا آخر.. إنه عن خدعة أخرى اسمها [إنسان نبراسكا].. وتبدأ قصة هذه الخدعة عام 1922، وهو الوقت الذي كانت الجهود المكثفة تبذل فيه بهدف الوصول لبرهان على نظرية التطور.

حينها كان الجميع مهووسون بالوصل إلى ذلك الإثبات.. أو بالوصول إلى الحلقة المفقودة التي تصل الإنسان بالقرد أو بغيره من الحيوانات..

حينها أعلن [هنري فيرفيلد أوزبورن] رئيس قسم الحفريات بالمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي عن اكتشافه حفرية لضرس يعود تاريخه إلى الحقبة البليوسينية بالقرب من وادي الأفاعي غرب نبراسكا.

وقد حدث توافق بشكل تام بناءً على ضرس واحد فقط بأنه ينتمي إلى ما يسمى بالرجل القرد.. ثم دارت العديد من النقاشات العلمية العميقة حول هذا الدليل المزعوم، والذي لم يكن في الحقيقة أكثر من مجرد خيال.

لقد أُطلق على هذه الحفرية ـ والتي سببت جدلًا واسعًا ـ اسم [إنسان نبراسكا].. بل سرعان ما تم إعطاء اسم علمي عليها، وهو [هسبيروبايثيكوس هارولدكوكي].. وسرعان ما لقي مكتشفها الكثير من الدعم والاهتمام.

انظروا أيها السادة الفضلاء.. لقد تم إجراء العديد من الرسومات لإعادة بناء جمجمة وجسد إنسان نبراسكا اعتمادًا على ضرس واحد فقط.. بل ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث نُشرت العديد من الرسومات الإيضاحية لإنسان نبراسكا مع أولاده وزوجته في بيئتهم الطبيعية التخيلية.

بل بدأ التطوريون مرة أخرى بحشد جميع الوسائل المتاحة لهم من أجل هذا السيناريو الوهمي..

ومع أن بعض العقلاء في ذلك الحين أقر بأن الأدلة المتعلقة بخصوص [إنسان نبراسكا] غير ملائمة تمامًا، وأن الدليل المتاح لا يبرهن على أي شيء، وأن على هؤلاء الانتظار مزيدًا من الوقت.. إلا أن التطوريين، ولحرصهم على نظريتهم، وخوفهم من فقدان هذا الدليل الكاذب راحوا يشنون حملة مضادة تضمنت الدعاية التطورية المعتادة ضد من يخالفهم، باعتبارهم غير علماء ولا متخصصين ولا متطورين عقليا.

لكن بعد كل ذلك بفترة من الخداع والوهم اكتشف أن هذا الضرس لا ينتمي لا للبشر ولا للقردة، وإنما لفصيلة منقرضة من الخنازير البرية.

امتلأت القاعة بضحك كثير، قطعه العالم بقوله: هناك مثال ثالث سأورده لكم، وأختم به، وسأحاول أن أختصر الحديث عنه مراعاة للوقت المتاح لي..

إنه لا يتعلق بالإنسان، ولا بالقردة، وإنما بطائر مكذوب موهوم حاول التطوريون أن يحولوه إلى كائن حقيقي، مثلما حاولت الأساطير القديمة أن تحول من التنين أو عروس البحر كائنات موجودة مع أنها كائنات لا توجد إلا في خيال أصحابها.

والأساس الذي جعلهم يفكرون بهذه الطريقة هو بحثهم عن سلف للطيور الحديثة، وبناء على ذلك فقط، لا على المعطيات العلمية ذكروا أن هذا الطائر الموهوم [الأركيوبتريكس] هو السلف المزعوم للطيور الحديثة، وأنه وجد قبل 150 مليون سنة تقريبا.

وهم يزعمون من غير أي معطيات علمية أن بعض الديناصورات الصغيرة مثل الفيلوسيرابتور أو الدروماصور هي التي تطورت من خلال تحور أيديها إلى أجنحة ثم بدأت في الطيران.

وعلى هذا افترضوا أن الأركيوبتركس شكل انتقالي تفرع عن أسلافه الديناصورات، وأنه يحمل صفات خليطة بين الزواحف والطيور.

وبناء على هذا راحوا يبحثون في الحفريات إلى أن وجدوا بعض العظام التي تصوروا أنها عظام لذلك الطائر، وهي متراوحة بين بين عظمة أو اثنين أو مجموعة، ولم يكن من ضمنها عظمة القص، وهي عظمة أسفل صدر الطيور وتثبت فيها العضلات المرنة للجناحين، وعلى هذا افترضوا أنه لا يملك عظمة قص مثل الطيور رغم أن لديه جناحين.

وقد استنتجوا من هذا أن هذا الطائر هو الحلقة المفقودة بين الديناصورات والطيور، وأنه أصل الطيور، وأن منشأه كل قبل 150 مليون عام.

ثم راحوا يسجلون كل هذه المعلومات المبنية على الأوهام المجردة في الكثير من الكتب المدرسية والجامعية، ويعتبرونه من الحقائق المطلقة.. بل من الأدلة التي تدعم نظرية التطور.

لكن.. وبالضبط في 23 يونيو عام 2000 م نشرت صحيفة (النيويورك تايمز) خبرا علميا صادما بعنوان [اكتشاف حفرية تهدد نظرية تطور الطيور]، ثم تم نشر الخبر في مجلات علمية شهيرة..

والمفاجأة الكبرى التي وردت فيه، والتي تقوض نظرية التطور من أساسها هي أن الحفرية الجديدة المكتشفة للأركيوبتريكس من الشرق الأوسط كان عمرها يعود إلى 220 مليون سنة..وليس 150 مليون سنة.. والمفاجأة الأكبر هي أن هذا الطائر كان مغطى بالريش مثل الطيور تماما.. وكان لديه عظمة قص مثل الطيور تماما.. وكذلك لديه عِراق ريش مجوف.

وكل ذلك يدحض المزاعم التطورية السابقة جملة وتفصيلا.. ويكفي من تلك المفاجآت أن يكون زمن وجوده كطير يسبق ما زعمه التطوريون بـ 75 مليون سنة كاملة.

لكن المفاجأة الأكبر من ذلك كله، ورغم الخبر القاصم عن حفرية الشرق الأوسط التي حسمت الخلاف، لكن التطوريين لم يسلموا بالحقيقة العلمية، بل راحوا يجادلون فيها ويشاغبون.

ومن أمثلة ذلك الشغب ما ورد في مجلة نيتشر التطورية الشهيرة.. والتي نقلت التشكيك من الطيران نفسه إلى التشكيك في الطيران لمسافات بعيدة كنوع من الخداع والحيلة.

فقد ورد فيها هذا النص: (تحتفظ العينة السابعة المكتشفة حديثا من الأركيوبتركس بجزء من قص مستطيل لطالما دار شك حول وجوده، ولكنه لم يوثَق قط من قبل، ويشهد ذلك على قوة عضلات الطيران في هذا الطائر، ولكن قدرته على الطيران لمسافات طويلة ما زالت موضع تساؤل)

هل رأيتم كيف أن التطور ليس حقائق علمية، وإنما هو توجهات عقدية أيديولوجية يتم ترقيعها والالتفاف على أسباب انهيارها بشتى الصور، فبعدما طعنوا في طيران الأركيوبتريكس بالمرة صاروا يطعنون في كونه لا يستطيع الطيران لمسافات بعيدة رغم اعترافهم بقوة عضلاته للطيران لوجود عظمة القص، ورغم اعترافهم أيضا بالتكوين غير المتماثل لريش الأركيوبتركس، والذي لا يمكن تمييزه عن نظيره في الطيور الحديثة الموجودة اليوم، وهو ما يشير إلى أن ذلك الطير كان بمقدوره الطيران على أكمل وجه مثل أي طائر، أو كما قال عالم الحفريات البارز كارل أو. دانبر: (لا ريب في أن يُصنف الأركيوبتركس تحت فئة الطيور بسبب ريشه)

بالإضافة إلى هذا اكتشف أن الأركيوبتريكس كان من ذوات الدم الحار، وقد عرفوا ذلك من خلال ريشه الذي يحافظ على دفء الجسم، وذلك بعكس الزواحف والديناصورات ذوات الدم البارد.. وهذا ما يدعونا إلى التساؤل عن إمكانية حمل كائنات وسيطة بين الزواحف والطيور خصائص انتقالية بين ذوات الدم البارد وذوات الدم الحار.

قد يذكر البعض أنه وجدت مخالب في طرف الجناحين، ووجدت أسنان لهذا الطائر.. وجواب هذا بسيط جدا.

فأما بالنسبة للمخالب، فهناك أنواع من الطيور الحية اليوم تملك مخالب في أطراف جناحيها، مثل طائر الطَّوْرَق والهوآتزن واللذين لهما مخالب تمكنهما من التمسك بالأغصان، وهما طيور باعتراف الجميع.

وأما بالنسبة للأسنان، فإن أسنان الأركيوبتريكس أو الطيور المنقرضة لا تطابق أسنان الزواحف ولا الديناصورات.. ثم إن وجود الأسنان ليس سمة خاصة بالزواحف فقط، فنحن نعرف اليوم زواحف ليس لديها أسنان.. فهل بذلك تم استبعادها من تصنيف الزواحف؟

فالسلحفاة (وهي من الزواحف) ليس لها أسنان ولكن لها فم شبه منقاري قوي قد تصل قوة ضغطه إلى 80 كيلو جرام يطحن به الطعام.. فهل نستثني السلحفاة من الزواحف لأنها بلا أسنان؟.. أم تراهم يجعلونها من الطيور لأنه لها شبه منقار؟

بناء على هذا كله، فإن الحقائق العلمية تشير بكل تأكيد إلى أنه لا الأركيوبتركس ولا الأنواع الأخرى من الطيور القديمة المشابهة له كانوا أشكالا انتقالية.. بل لا تشير الحفريات إلى أن أنواع الطيور المختلفة تطورت من بعضها البعض.

بل على العكس من ذلك تماما، يثبت سجل الحفريات أن طيور اليوم الحديثة وبعض الطيور القديمة مثل الأركيوبتركس عاشت في الواقع مع بعضها البعض في نفس الوقت.

صحيح أن بعض أنواع هذه الطيور، مثل الأركيوبتركس والكونفيوشسورنيس قد انقرض، لكن الحقيقة المتمثلة في أن بعض الأنواع التي كانت موجودة فيما مضى قد تمكنت من البقاء حتى يومنا هذا لا تدعم في حد ذاتها نظرية التطور.

التطور.. وعدم التحيز:

بعد أن انتهى من حديثه، قام آخر، وقال: بعد أن ذكر لكم زميلي وصديقي تخلف نظرية التطور عن تطبيق المعيار الخامس من المعايير العلمية، فسأذكر لكم أنا تخلفها عن تطبيق المعيار السادس، وهو [عدم التحيز]، فلا يمكن أن نثق في نظرية تتحيز لوجهة نظرها تحيزا مطلقا، يجعلها تلغي غيرها من غير أي أدلة علمية.

ولا نحتاج إلى الأدلة المثبتة لهذا، فهو واضح في سلوكهم ومواقفهم من مخالفيهم من أنصار نظرية الخلق، والذين يعتبرونهم علماء مزيفين نتيجة انحيازهم لأفكارهم الدينية، إلا أننا نستطيع أن تستنتج أن التطوريين علماء مزيفون بطريقة مماثلة.

ذلك أنه على التطوري حتى يكون محايدا، ولايتبني أي أفكار مسبقة في تناوله لأي قضية، يحتاج عند مناقشته لأصل الحياة أن يتقبل وجهه النظر التي تذكر أن الحياة يمكن أن تكون قد نشأت بآليات طبيعية تماما.. وفي نفس الوقت يتقبل الرأي القائل بأن هناك عقلا مدركا واعيا وراء نشأة الحياة.. ثم بعد ذلك يقوم بأجراء التحقيقات ليري الفرضية الأصلح والأكثر توافقا مع الأدلة المتاحة.

لكن هذا للأسف لم يفعله التطوريون، ذلك أن أغلبهم إن لم يكن جميعهم ملحدون.. ذلك أنهم في حال إيمانهم بإله، لا يحتاجون إلى كل تلك التكلفات التي لا مبرر لها حتى يؤيدوا مثل هذه النظرية..

لقد اعترف التطوري [ريتشارد ليونتين] بهذا، فقال: (ليست الأساليب والمناهج العلمية هي التي تدفعنا لقبول التفسيرات الماديه للعالم المشاهد، ولكن على العكس التزامنا المسبق بالتفسيرات المادية هو الذي يفرض علينا أن نخلق نظاما للتحقيقات، ومجموعة من المفاهيم ينتج عنها تفسيرات مادية،مهما كانت محيرة للمبتدئين، علاوة على ذلك، المادية مطلقة لأننا لا يمكننا السماح بتقبل فكره الله)

وهكذا اعترف [الدوس هكسلي] بأن العدمية.. أي عدم وجود اله.. هو محور رؤيتة الكونية، فقال: (كان لدي حافز يدفعني لإنكار وجود أي معنى للكون، لذلك افترضت أنه ليس للكون معنى، وكان الأمر سهلا أن أجد أدلة مقنعة لذلك الافتراض، الفيلسوف الذي يؤمن بأنه لا معنى في للحياة ليس فقط مهتما بمشكلة ميتافيزيقيه بحتة، ولكن أيضا مهتم بإثبات أنه لا يوجد سبب مقنع يمنعه عن القيام بما يشتهي، ويمنع أصدقائه من الاستيلاء على السلطة السياسية والحكم بما يخدم مصالحهم، بالنسبة لي لقد كانت الفلسفه العدمية أداه تحرر جنسي وسياسي)

هذا التصريح من الدوس هكسلي يدلنا على أن الفلسفه الهيومانية الإنسانية التي لا تحكمها أي حدود أخلاقية ليس لديها أي مشكلة في الاستيلاء على السلطة السياسية من أجل الترويج لآرائها الإلحادية.

ولذلك لا نعجب إذا رأينا مثل هذا التصريح منشورا في المنشورات الهيومانيه، والذي يقول صاحبه فيه: (لدي اقتناع أن معركه مستقبل البشرية يجب أن تشن في فصول المدارس على أيدي المعلمين، والذين يعتبرون مبشرين بإيمان جديد، سوف تصبح الحجرة الدراسية ساحة للصراع بين الجديد والقديم: الجثة المتعفنة للمسيحية، والإيمان الجديد بالهيومانية)

وعندما ننظر إلى المسألة من هذه الزاوية نجد أن التطوريين ذوو توجه أيديولوجي لا يختلف عن الدين نفسه، ذلك أن الدين ليس سوى مجموعة المعتقدات حول سبب وطبيعة وهدف الكون.. أو هو مجموعة خاصة من المعتقدات الأساسية والممارسات يتفق عليها مجموعة من الناس بشكل عام.. والهيومانيه بهذا المعنى دين يروج له في المدارس.. ومن الأسلحة التي يستخدمونها لذلك نظرية التطور.

لقد صرح بعضهم بهذا، فقال: (إن الايمان بالداروينيه الحديثة يجعل من الناس ملحدين، فمن الممكن للشخص أن يكون لديه معتقد ديني يتلائم مع الداروينية فقط اذا كان هذا المعتقد الديني هو الالحاد)

***

بعد أن استمعت إلى هذه التعقيبات وغيرها، والتي اكتشفت من خلالها خلو نظرية التطور من العلمية والمصداقية والعقلانية.. وكونها لا تعدو أن تكون وسيلة من وسائل الترويج للدعايات المادية..

حينها.. استطعت أن أتخطى أكبر عقبة كانت تحول بيني وبين الإيمان.. فقد رحت بعدها أشك في كل المعارف التي تأسست عليها المادية سواء كانت تلك التي ارتبطبت بالعلوم الكونية المحضة، أو تلك التي ارتبطبت بالعلوم الإنسانية والاجتماعية وغيرها.

وبعد ذلك الشك المنهجي الذي حصل لي استطعت أن أفرق بين العلم صاحب المنتجات العملية المحضة، والذي استفادت منه البشرية كثيرا.. وبين العلم الذي وجه توجيها خاطئا لخدمة المادية والعنصرية وكل القيم الظلامية.

وقد وجدت أن كل العلماء الذين خدموا البشرية في جانب العلم الأول.. العلم النافع.. كانوا ممتلئين إيمانا وروحانية وقيما أخلاقية.. بخلاف غيرهم الذين راحوا يركبون العلم ليمرروا به مشاريع الإلحاد والعنصرية والقيم الشيطانية.

وقد دعاني ذلك إلى اللحاق بركب العلماء الأوائل.. والسير على منهاجهم.. لا في العلم وحده، وإنما في الإيمان أيضا.

وقد رزقني الله منذ فترة طويلة صحبة [معلم الإيمان] الذي راح يجيب عن كل تساؤلاتي وإشكالاتي، والتي جعلتني أبحث عن الإيمان الحقيقي، والدين الحقيقي الذي يعرف بالله الحقيقي..

ولم يطل بي الأمر حتى وجدت الإسلام.. فآمنت بالله ورسله وكتبه.. لكني كتمت ذلك إلى اليوم الموعود الذي التقيت فيه بأصدقائي.


([1]) استفدنا المادة العلمية الواردة هنا من مقال مطول بعنوان: تطور الحيتان من أسلاف برية، وهو من موقع: أنا أصدق العلم.. وفيه المصادر، والتفاصيل الكثيرة المرتبطة بالموضوع..

([2]) انظر في هذا مقالا رائعا بعنوان [تطور نظرية التطور]، إسماعيل عرفة.

([3]) هذه الشفرة أو المبدأ منسوب للفيلسوف الإنكليزي [ويليام أوكام] هو أول من صاغ هذا المبدأ عام 1285 حيث استنتج في أبحاثه المتعلقة بهذا المبدأ أن (التعددية لا ينبغي أن تفرض دون ضرورة، أي أن الأولوية للأبسط وللأقل تكلفة، والأقل تشعبا بطبيعة الحال)، وقد عبر عن ذلك بقوله: (من العبث القيام بعدد أكبر من الخطوات لإنجاز شيء ما، بينما يمكننا إنجازه بعدد خطوات أقل)

([4]) الخيمياء: هي علم ينظر في المادة التي يتم بها تكوين الذّهب والفضة بالصّناعة، ويشرح العمل الذي يوصِل إلى ذلك، وتلجأ الخيمياء إلى الرّؤية الوجدانية في تعليل الظّواهر، وكثيراً ما لجأ الخيميائيّون إلى تفسير الظّواهر الطّبيعية غير المعروفة لديهم على أنّها ظواهر خارقة، وترتبط بالسّحر.

([5]) انظر: مقالا بعنوان: خدعة إنسان بلتداون، هارون يحي.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *