التدين بين الإلزام والإقناع

التدين بين الإلزام والإقناع

من أخطر المفاهيم التي تنتشر بين الكثيرمن الدعاة تصورهم أن الدين يفرض فرضا، ويلزم إلزاما، وأن على المتلقي له أن يصيخ سمعه، ويمتد كالميت بين يدي الغسال عندما يتحدث إليه الداعية، فلا يحرك لسانه ببنت شفة، ولا يقول له: لم.. ولا كيف.. ولا غيرها من الأسئلة، فإن قال ذلك، فالويل له من سوط الداعية ولسانه البذيء وأحكامه الممتلئة بالتعسف.

هذا حال الكثير من الدعاة الحداد الشداد أصحاب الوجوه المكفهرة، واللسان السليط.. وهم يتصورون أنفسهم دعاة لله.. وهم حجب عنه.. بل هم دعاة الشيطان.. فالشيطان يستعملهم لتبغيض الخلق في الدين، وتنفيرهم منه.. ويستعملهم مع المغفلين ليحولهم من دين الله إلى دينه، ومن قيم الشريعة إلى قيمه.

وسبب هذا السلوك الخاطئ، بل الإجرامي هو هجر القرآن الكريم والسنة المطهرة، والرجوع للمشايخ سواء كانوا سلفا أو خلفا.. والذين اتخذوهم أندادا من دون الله.

فالقرآن الكريم ينهى عن فرض دين الله بالإلزام، أو بالتعسف والتشدد، بل يدعو إلى إقامة الحجج والاكتفاء بالتبليغ، ثم ترك الأمر بعدها لصاحب العقل، ليستعمل عقله في تلك الحجج، وقد يقتنع حينها، أو يقتنع بعدها، أو لا يقتنع أصلا.. وكل ذلك لا يهم الداعية في شيء، لأن دوره أن يضع دين الله في قالب جميل ممتلئ بالعقلانية، وممتلئ بالطهر والجمال.. وبعدها يترك الحرية للمدعو في أن يقبل ما عرض عليه أو يرفضه..

هو يتعامل في ذلك تماما مثل الشركات المحترمة التي تسوق بضائعها بطريقة مهذبة، وتختار لإشهارها أجمل العبارات، وتسوقها تسويقا لطيفا جميلا مملوءا بالمحفزات، لتكون الحرية بعدها للمشتري.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا في مواضع كثيرة جدا.. بل صرح به.. فقد ذكر العقل باسمه ومشتقاته نحو خمسين مرة([1])، وذكر أولي الألباب ستة عشر مرة([2])، ومثلهم ذكر أولي النهى([3]).

بل إن خطاباته مملوءة بالحجاج والبراهين المختلفة، والتساؤلات الكثيرة التي يدع للعقول بعدها الحرية في التفكير في الإجابة عليها،كما قال تعالى في آخر سورة الطور: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ الله سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)} [الطور: 29 – 43]

وكل هذه تساؤلات عميقة يحتاج العقل للتدبر فيها، ومحاولة الإجابة عنها ليصل إلى الحقيقة بنفسه، وبحرية، ومن غير أن يلزمه أحد.. لأن الإلزام لا ينشئ مؤمنا، وإنما ينشئ منافقا يحتال على نفسه، أو يحتال على الناس.

ولهذا أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن مهمته قاصرة على البلاغ والتبيين وإقامة الحجة بالدليل والبرهان.. وليس عليه بعدها أن يحرك العقول لتقتنع أو لاتقتنع لأن ذلك يخضع لاعتبارات نفسية كثيرة.. فقد لا يقتنع الشخص حين إقامة الحجة عليه، ولكنه بعد أن يعمل عقله، ويفكر في البراهين، يتغلب على نفسه، ويؤمن بعد ذلك.

ومن الآيات الواردة في ذلك، والتي تحدد بدقة دور سيد الدعاة وإمامهم وقدوتهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) } [الغاشية: 21 – 22]، وقوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [الشورى:48].

فالله تعالى في هذه الآيات الكريمة يحدد وظائف رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم بدقة.. وأنه ليس عليه ولا علي أي داعية يستن بسنته أن يمارس استبداده وتسلطه مع أي كان.. لأن الهداية من الله، والجزاء لله، قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]

وهكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فلم يكن يستعمل إلا هذه الأساليب التي كلف برعايتها.. وقد ورد في الحديث أن شابا جاء يستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الزنا، وبكل جرأة وصراحة، فهمَّ الصحابة أن يوقعوا به؛ فنهاهم صلى الله عليه وآله وسلم ثم أدناه بتلطف، وقال له:(أترضاه لأمك؟!)، قال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(فإن الناس لا يرضونه لأمهاتهم)، ثم قال:(أترضاه لأختك؟!)، قال: لا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(فإن الناس لا يرضونه لأخواتهم)([4])، وهكذا صار الزنى أبغض شيء إلى ذلك الشاب فيما بعد، بسبب هذا الإقناع العقلي.

وفي حديث آخر عن بعض الصحابة قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت:(يرحمك الله)، فرماني القوم بأبصارهم فقلت:(ما شأنكم تنظرون إلي)، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال:(إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) ([5])

لكن الكثير من الدعاة للأسف تصوروا أن لهم من الصلاحيات ما ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، فلذلك راحوا يستعملون كل ما في قلوبهم من كبرياء مع من يتصورون أنفسهم أوصياء عليهم.. ولا يكتفون فقط بدعوتهم.. وإنما يضيفون إليه كل ألوان البذاءة والوقاحة والعنف.. ثم يتصورون بعد ذلك أن القلوب والعقول تقتنع بحججهم.. وهل يمكن لعاقل أن يقبل حجة تفرض عليه؟

ولذلك نراهم يتركون هدي القرآن الكريم في الدعوة، والذي بينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير بيان.. ويستدلون بسلفهم وخلفهم على ذلك الاستبداد الدعوي، والتسلط الذي يلبس لباس الدين.

ومن الأمثلة على ذلك إشادتهم بما فعله الظالم المستبد خالد القسري الذي كان واليا علي العراق لهشام بن عبدالملك، والذي ذبح الجعد بن درهم يوم العيد بسبب بعض آرائه العقدية، ثم خطب الناس وقال: (أيها الناس! ضحوا، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسي تكليما)، ثم نزل وذبحه أمام الناس([6]).

فقد أثنى على هذا السلوك الداعشي الإجرامي كل سلف هؤلاء السلفية ابتداء من ابن تيمية وابن القيم وانتهاء بابن عثيمين الذي قال في درس من دروسه العمومية: (جزاه الله خيرا، فالناس يضحون بالغنم والشاة والمعز والبعير والبقر.. وهذا ضحي بشر منها، فإنه شر من الإبل والغنم والحمير والخنازير.. وإني أسأل الآن: البعير عن سبع، والبقر عن سبع، وهذا الرجل عن كم.. عن آلاف آلاف وقي الله شرا كبيرا، لكن بعض الناس _ والعياذ بالله_ يقولون إن هذا العمل من خالد بن عبد الله القسري ليس دينا، ولكنه سياسي، ونقول لهم هذا كذب، لأن الرجل صرح أمام الناس أنه قتله من أجل هذه البدعة)([7])

هذه هي سنة الدعاة الفتانين الذين تركوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعلقوا بخالد القسري وابن بطة والبربهاري وابن عثيمين ووجدي غنيم والقرضاوي والقرني والعريفي وغيرهم من الحجب.


([1])  انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ص 468، 469.

([2])  المعجم المفهرس ، ص644.

([3])  المعجم المفهرس ، ص722.

([4])   رواه أحمد: 5/256، وغيره.

([5])   رواه مسلم، ح(537)

([6])  البخاري في (خلق أفعال العباد) ص 69..

([7])  هذا الكلام للشيخ محمد بن صالح العثيمين في شرح العقيدة الواسطية..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *