البراهين القاطعة

فجأة اقترب مني أحدهم، وقال: مرحبا بك يا تلميذ الإيمان.. لقد أخبرنا معلم الإيمان عنك، وعن زيارتك لنا، ونتشرف بأن نكون أول من يستقبلك.
قلت: من أنت؟
قال: لن تعرفني.. ولا حاجة لك بمعرفتي.. لأن كل من تراه هنا تخلى عن اسمه ورسمه منذ عرفه..
قلت: أنت تذكرني بذلك الولي الصالح الذي سئل عن اسمه، فقال: لقد ذهب عني، لا أعاده الله إلي.
قال: صدق.. فمن عرف الله لم يحجب عنه بغيره كائنا من كان حتى نفسه التي بين جنبيه..
قلت: إن هذا من الحجب التي حالت بين بعض قومي وبين الإيمان.. فقد خافوا على وجودهم أن يلغى بسبب وجود الله.. فلذلك راحوا يلغون وجود الله ليبقى لهم وجودهم.
قال: وهل لهم وجود من دون مدده.. إن إلغاءهم لوجود الله هو إلغاء لوجودهم، فلا وجود إلا منه، ولا وجود إلا به..
قلت: هنيئا لك هذه المرتبة الرفيعة.. وهذا المقام السامي.. لاشك أنك سليل أسرة من الصالحين الذين توارثوا الولاية وأمجادها.
قال: بل أنا سليل أسرة من الملاحدة الذين ألغوا لله من حياتهم.. ولولا أن منّ الله علي بالهداية لكنت الآن في فندق الملاحدة، لا في روضات جنات المؤمنين التي تراها.
قلت: فكيف تخلصت من قيود الإلحاد.. وكيف هربت من سجونهم؟
قال: هلم بنا إلى مجلسنا، وسترى نفرا من أصحابي، وسنحدثك جميعا عن نعمة الله علينا بالهداية، وكيف أخرجنا الله من ظلمات الغواية إلى نور الهداية.
قلت: أتقصد هذه الأرائك التي يجلس عليها أولئك النفر من النوارنيين؟
قال: أجل..
قلت: فلم أرى حلقات كثيرة منفصلة.. لم لم تجتمعوا جميعا في محل واحد، بحيث يسمع بعضكم بعضا، ويحكي بعضهم لبعض؟
قال: ألم تسمع ما قاله معلم الإيمان لك.. لله طرائق بعدد الخلائق؟
قلت: أجل.. لقد قال لي ذلك.
قال: فكل من تراه له طريقته الخاصة التي وصل بها إلى الله.. فالله يدلي حبال فضله لعباده كل حين.. فمن شاء أن يتعلق بها تعلق.. ومن شاء أن يبقى في عوالم نفسه بقي.
قلت: فبأي حبل تعلقتم؟
قال: أنا وأصحابي تعلقنا بحبل [البراهين القاطعة]
قلت: فلم تعلقتم بها دون غيرها؟
قال: لقد كنا قبل تنعمنا بنعمة الإيمان من الفلاسفة الذين توهموا أن العقل يرفض الله.. ولا يثبت وجوده.. أو يتوقف في ذلك.. لكنا بعد البحث والتحري، والتأمل والتدقيق وصلنا إلى الحقيقة العظمى، وهي أن الله هو الدليل على خلقه، وليس الخلق هو الدليل على الله.. فلولا الله ما كان شيء من الأشياء.
قلت: لقد ذكرتني بقولك بهذا بـ[فرنسيس بيكون]، فقد قال: (القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق فيها ينتهي بالعقول إلى الإيمان.. إذا أمعن (العقل) النظر وشهد سلسلة الأسباب كيف تتصل حلقاتها فأنه لا يجد بدًا من التسليم بالله)([1])
قال: صدق فرنسيس بيكون.. لقد كان في يوم من الأيام صديقي.. والحمد لله كانت نصيحته تلك سببا من أسباب هدايتي.
قلت: فهلا حدثتني عن ذلك.
قال: هلم بنا نجلس إلى تلك الأرائك حيث يجتمع أصحابي، وهناك ستسمع مني ومنهم.
جلسنا في حلقة من الحلقات، وبمجرد جلوسنا اقتربت أرائك الإخوان المنورين بنور الإيمان من بعضها بحركات آلية في منتهى الدقة والجمال، مما جعلني أعيش قوله تعالى في وصف أهل الجنة: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]
كان الجو ممتلئا بالأنوار الجميلة الهادئة.. وكان النسيم مملوءا بالعطر الفواح الطيب.. فانشرحت نفسي انشراحا شديدا، ورحت أقول من حيث لا أشعر: هلم بنا إلى الحديث عن سر وجودكم هنا.. فما أرسلني معلمي معلم الإيمان إلا لهذا؟
قال أحدهم، وهو صاحبي الذي جاء بي إلى ذلك المجلس: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)} [الصافات: 51-53].. ويقول لي: هل تصدق حقا أن هناك إله في هذا الوجود.. فإن كان هناك إله، فأين هو، ولم لا نراه، ولم لا يظهر لنا نفسه؟
وكنت أصدقه في كثير مما يقوله تبعية طوعية مني، لانبهاري بالكثير من منجزاته، والتي جعلتني أعطيه العصمة المطلقة، وأقول في نفسي: يستحيل على من استطاع أن يصل إلى كل ذلك المال والجاه، وأن يصطاد كل تلك القلوب والعقول، أن يكون كاذبا فيما ادعي..
لكن الله بفضله الكريم خلصني منه بواقعة بسيطة وقعت لي، لم أكن أعلم أنها تخرجني من جحيم الإلحاد إلى جنات الإيمان.. فإن شئتم أن أذكرها لكم فعلت.. وإن شئتم اقتصرت منها على البراهين التي أخرجني الله بها من أوهامي.
قال أحدهم: هلم اذكرها لنا تفاصيلها.. فما تحلو مجالسنا هذه إلا بالتفاصيل.
قال الرجل: في ذلك اليوم دعيت للشهادة في المحكمة من طرف صاحبي الذي ذكرته لكم.. وقد ذهبت إليها على الرغم من أنني لم أعاين شيئا.. ولكني كنت واثقا تماما أن صاحبي صاحب العلم والمال والجاه لا يمكن أن يظلم أو يغدر.. فقد كانت ثقتي فيه لا حد لها.. لكن الله شاء أن يجعل ذلك اليوم سببا في اكتشافي لحقيقته، واكتشافي بعد ذلك لله تعالى.
وقد وضح لي صاحبي، ومدراء أعماله ما علي أن أقوله بدقة.. فحفظته عن ظهر قلب.. لكني ما دخلت القاعة، وسمعت كلام المتهم، ورأيت سنحة وجهه حتى نسيت كل شيء.
لقد كان أول ما بدأ به المتهم كلامه، هو شهادته على نفسه، وإقراره بأنه صاحب الفعلة التي اتهم بها، وأنه لا يحتاج إلى أي شهود يثبتون ذلك أو ينفونه.. وسرني ذلك كثيرا، فقد ألقى عن ظهري تبعة الشهادة بما لا أعلم([2])..
لكن المتهم لم يكتف بذلك، بل راح يقول للقاضي، والمدعين عليه: لكن اسمعني ـ سيدي ـ قبل أن تحكم علي بما تشاء لأذكر لك سر فعلتي تلك.. ولعلك بعدها تعذرني.. ولعلك تنزل علي ما تشاء من العقوبة.
لم يجد القاضي ومن حوله من المستشارين سوى أن يأذنوا له بالحديث، فقال: كل ما سأقوله لكم حقيقة مطلقة يشهد عليها صاحب المعمل الذي ادعى علي، ويشهد عليها كذلك العمال الذين حضروا، فإن رأوا أني أضفت شيئا من عندي، فيمكنهم أن يكذبوني.
قال ذلك، ثم التفت الى العمال الكثيرين الذين حضروا قاعة المحاكمة، وقال: سيدي القاضي.. إن هؤلاء العمال الذي تراهم يشهدون أن المدعي علي كان يجمعنا كل أسبوع ليلقي علينا محاضراته التشكيكية في كل الحقائق، مما جعل الكثير منا يكاد يفقد عقله، وبعضنا خرج من جميع معتقداته التي ورثها، وكان سعيدا بها من دون أن يجد أي معتقدات صحيحة نافعة يمكن أن تعوضها.. ولذلك فإنني أدعي على المدعي علي بأن جريمته أكبر من جريمتي.. فأنا لم أفعل سوى أن قطعت التيار الكهربائي عن الآلات عدة ساعات، مما أحدث بعض الخسارة في المعمل.. لكن هذا الرجل قطع تيار الحياة عن أرواح أصحابي من العمال قطعا أبديا.. وهو بذلك قد قام بقتلهم من حيث لا يشعر.
قال القاضي: وضح ما تقول.. فنحن لا نفهم شيئا.
قال المتهم: أنتم تعلمون أن الرجل الواقف أمامكم، والذي يطلق عليه الناس اسم [ديفيد هيوم([3])]، ليس رجل أعمال فحسب، وإنما هو فيلسوف أيضا، مثله مثل زملائه في الفلسفة ديكارت وسبينوزا وبيكون وكانط وجون ستيوارت ميل وبرنارد راسل.. وغيرهم.
قال القاضي: نعم نعلم ذلك.. فهل في ذلك مشكلة؟
قال المتهم: لكن فلسفته ـ سيدي ـ ليست فلسفة عادية، إنها نوع من السموم القاتلة.. إن أفكاره تنخر العقل والروح، فلا تبقي منهما شيئا.. بل تجعل الإنسان يشك في كل شيء.
قال القاضي: وضح أكثر.
قال المتهم: إن المتهم الواقف أمامكم سيدي يتميز عن غيره من الفلاسفة بأنه سلك خطاً فلسفيا جديداً خطيرا.. فلا هو سقط في المثالية المشغولة بالتأمل العقلي.. ولا هو ناصر المذهب التجريبي.. لقد كان يذكر لنا كل حين أن مصدر المعرفة للإنسان لا يكون بالعقل، كما أنه لا يكون بالحواس.. بل هو يرى أن مصدر المعرفة عند الإنسان لا يكون إلا بالعادة والتكرار..
ولذلك أنكر وجود ما يسمى بالعقل البشري، وقال: إن العقل ليس سوى ذاكرة نحفظ بها تجاربنا وتجارب الآخرين.. وبهذا أبطل العلية، وفتح الباب على مصراعيه لهدم المنهج الإستقرائي، ومنه لهدم المنهج التجريبي.. وبذلك أحدث هذا الرجل من الفضائح الفلسفية ما هو وبال على البشرية جميعا.. و..
قاطعه القاضي، وقال: قبل أن تكمل، دعنا نسأل صاحب الدعوى ديفيد هيوم عن مدى صحة ما قلت.. وهل هو حقا يرفض السببية؟
قال ديفيد: أجل ـ سيدي القاضي ـ فقد اكتشفت أن السبية ليست سوى نتيجة للبرهان الاستقرائي القائم من الملاحظة المستمدة من الاطراد في الطبيعة كوسيلة للنظر للمستقبل والتنبؤ به.. فلو رأينا ظاهرتين تتبع إحداهما الأخرى على الدوام، فالنتيجة أنهما سيستمران في التتابع إلى الأبد..
التفت القاضي إلى المتهم، وقال: واصل حديثك..
توجه المتهم إلى ديفيد هيوم، وقال([4]): اسمعني ـ ديفيد ـ لأقول لك بكل صراحة: لقد حجبك حسك الممتلئ بالزهو والغرور عن كل شيء.. فرحت تعتبره المجال الوحيد للمعرفة، والمنبع الفريد للإدراك.. ورحت تحصر المعارف في المادة الجامدة، وما ارتبط بها.. ورحت تعتبر كل ما يتحدث عنه العقلاء من مصادر للمعرفة غير الحس والمادة أوهاما لا حقيقة لها، وخرافة لا وجود لها إلا في مخيلة أصحابها.
ولم تكتف بذلك، بل رحت تعتبر كل معتقدات الإنسان وآراءه عن العالم الخارجي مجرد خيالات وأوهام لا وجود لها.. وأنها مجرد مدركات ذهنية مختزنه، وأن الإنسان لا يفعل سوى أن يسقط كل ذلك على العالم الخارجي، ويفسره به، فتكون الحصيلة أن يعلن عن ذاته، وعن مكونات نفسه، ولا يعلن عن الحقائق الخارجية التي يزخر بها العالم الواقعي.
ولم تكتف بذلك، بل رحت تمعن في الحس والكثافة، فتعتبر كل أفعال الإنسان وكل سلوكاته مجرد ردود أفعال لما يعتمل في نفسه من إحساس باللذة أو الألم، واستجابة لكل ما يشعر به اتجاه الأشياء من سعادة أو شقاء.. وبذلك أصبحت الحواس الظاهرة هي المتحكمة في كل شيء ابتداء من الإحساس باللذة والألم.
بل إنك اعتبرت الحواس الباطنة مجرد تابع ذليل للحواس الباطنية.. فألغيت بذلك وجودها وحقيقتها.
أتدري ما فعلت بفلسفتك الرعناء هذه.. لقد قضيت على كل حقائق الوجود، كما قضيت على كل القيم النبيلة.. وكيف لا تقضي عليها، وقد جعلت الأخلاق قائمة على أصول حسية مادية بحتة.. وكيف لا تقضي عليها، وقد جردت الإنسان من مسئوليته على أفعاله، وجعلت حركاته كلها مجرد ردود أفعال لما يحس به من لذة، أو ما يحس به من ألم..
سكت قليلا، ثم قال: إن المدعي علي الواقف أمامكم ليس من أولئك المترددين المتوقفين اللاأدريين من أصحاب الإلحاد السلبي.. بل كان من أصحاب الإلحاد الإيجابي الذين راحوا يحاولون التماس الأدلة على نفي وجود الله.. وقد رأى أن من أصحابه في كل تاريخ البشرية من وضع لذلك مبادئ ونظريات ممتلئة بالعبث واللاعقلانية كنقض مبدأ الخلق، ومشكلة العدل والشر، واستحالة الوحي، ونقد الكتب المقدسة للأديان، واستحالة الحياة بعد الموت.. فراح يضيف إليها شيئا جديدا لم يسبقه إليه أحد، بل لم يفكر فيه أحد أصلا، وهو [إبطال مبدأ السببية]([5]) الذي اتفقت عليه جميع العقول، بل اعتبر من (إحدى بدائه الفكر الأساسية)، ذلك أنه (لا يحدث شيء بلا علة، أو على الأقل بلا سبب محدد)([6])
بل إن الفطرة تقتضيه، فالطفل الصغير إن تعرض لتأثير مؤثر ما؛ تراه يطلب ذلك المؤثر ويبحث عنه، فيلتفت ليبحث عمن ضربه خلسة، لكونه مما ارتكز في فطرته، وفي مبادئ عملياته العقلية الأولى أن لكل فعل فاعلا، ولكل مصنوع صانعا.. بل إنه إن لم يجد ذلك المؤثر يرتبك، بل لعله يخاف ويهلع، وسبب ذلك الخوف ليس الجن أو الشياطين.. فالطفل لا يدرك وجود تلك القوى غير المنظورة أصلا في تلك المرحلة المبكرة من حياته، ولكن سبب ذلك هو الاضطراب النفسي الذي يصيبه نتيجة اختلال المبادئ التي يفهم بها الوجود.
ولهذا كان البحث في العلل قديما قدم الفكر نفسه، فمنذ العصور الفلسفية لليونان اهتم أرسطو بدرس العلل، وقسمها إلى علل أربع: المادية، والصورية (الهيولى)، والفاعلية، والغائية([7]).. وقد أثبت بالأدلة العقلية أن الله هو العلة الأولى، وليس معلولا لشيء آخر.
لكن صاحبنا هذا أثناء دفاعه عن الإلحاد، وحقده على الإيمان أنكر هذا المبدأ لسبب وحيد، وهو أن جميع المؤمنين من فلاسفة ورجال دين يعتمدون عليه لإثبات وجود الله.
التفت القاضي إلى ديفيد، وقال: هل حقا ما يقول الرجل؟
قال ديفيد: أجل.. كل ما قاله صحيح.. وأنا فخور بأني وجدت من عمالي من فهم فلسفتي.. لاشك أن هذا العامل قرأ كتابي الأكبر(بحث في الطبيعة الإنسانية)، والذي ذكرت فيه أن فكرة العلية قائمة على أسس ثلاثة: هي الاتصال ([8])، والأسبقية ([9])، والارتباط الضروري.. ثم رحت أفند السبية فيهما جميعا.
لقد عبرت عن مقولتي في نفي الارتباط الضروري بقولي: (رؤية أي شيئين أو فعلين، مهما تكن العلاقة بينهما، لا يمكن أن تعطينا أ ي فكرة عن قوة، أو ارتباط بينهما، وأن هذه الفكرة تنشأ عن تكرار وجودهما معا، وأن التكرار لا يكشف ولا يحدث أي شيء في الموضوعات، وإنما يؤثر فقط في العقل بذلك الانتقال المعتاد الذي يحدثه، وأن هذه الانتقال المعتاد من العلة إلى المعلول هو: القوة والضرورة)
وقلت: (ليست لدينا أية فكرة عن العلة والمعلول غير فكرة عن أشياء كانت مرتبطة دائما، وفي جميع الأحوال الماضية بدت غير منفصلة بعضها عن بعض، وليس في وسعنا النفوذ إلى سبب هذا الارتباط.. وإنما نحن نلاحظ هذه الواقعة فقط، ونجد أنه تبعا لهذا الارتباط المستمر فإن الأشياء تتحد بالضرورة في الخيال، فإذا حضر انطباع الواحد كوَّنا نحن في الحال فكرة زميله المرتبط به في العادة)([10])
التفت القاضي إلى المتهم، وقال: واصل.. لكن لا تغرق بنا في بحر الفلسفة العميق.. حدثنا فقط عن آثار أقواله عليك وعلى أصحابك من العمال.
قال المتهم: أجل ـ سيدي ـ فهدفي من كل ذلك الحديث هو الوصول إلى هذه النقطة الخطيرة.. فقد كان لأقواله تلك، والتي شهد بها على نفسه أمامكم آثار كثيرة على أصحابي من العمال وغيرهم.. فقد كان له دوره في إمداد الملاحدة بمادة لاعقلانية جديدة يقضون بها على كل الحجج العقلية للمؤمنين.
لقد عبر بعضهم عن ذلك، فقال: (هيوم أول فيلسوف أوروبي نقل فكرة العلة من معانيها الأرسطية إلى معنى التتابع المجرد بين السبب والمسبب، أي التتابع الذي لا يعني شيئا أكثر من أن السبب سابق لمسببه فيما دلت عليه العادة (التجربة). وقد كان يمكن عقلا أن يجيء الترتيب على صورة أخرى، لكنه جاء هكذا)([11])
وقد استفاد من مقولته تلك عمانويل كانط ([12])، الذي أعطى الملاحدة المبرر العقلي لنفي وجود الله، باعتبار أنه لا يمكن التدليل عليه بالدليل العقلي.. بل راح ـ تحت تأثير تلك المقولة ـ يزعم أنه يستحيل إثبات وجود الله بالعقل، كما أنه يستحيل إثبات عدمه.. ثم ترك القضية بعد ذلك للضمير، ولمصادرات العقل العملي.
لقد كان قبل احتكاكه به وبأفكاره المسمومة لا يقول بذلك، بل كان يقرر العلية في كتبه، لكنه بعد اطلاعه على مقالته تحول إلى كانط المؤمن الوحيد الذي يحبه الملاحدة، ويستدلون بمقالاته لضرب الدين.. لقد قال في ذلك: (إن هيوم أيقظني من سباتي الاعتقادي، وكان ذلك برأيه في مبدأ العلية بنوع خاص، إذ كان قد قال: إن مبدأ العلية ليس قضية تحليلية، أي: إن المعلول ليس متضمنًا في العلة أو مرتبطًا بها ارتباطًا ضروريًّا، وإن الضرورة التي تبين له ما هي إلا وليدة عادة تتكون بتكرار التجربة)([13])
سكت قليلا، ثم قال ([14]): لقد كان المدعي يجمعنا ـ معشر العمال البسطاء ـ كل حين، ويقول لنا: أنتم تزعمون أنه إذا كان للبيت مهندس، فلا بد أن يكون للكون خالق.. وهذا قياس فاسد.. فنحن لم نشاهد عالَما آخر لنقارنه بعالمنا كي نستنتج أن هذا العالم مخلوق بالضرورة.
كان يقول هذا، وهو مدرك تمام الإدراك أن البيت والكون من جنس واحد، فكلاهما كيان مادي حادث في الزمان والمكان، وكلاهما يحتاج إلى طاقة، والاختلاف بينهما يقتصر على الصفات فقط، وليس الجنس.
قال القاضي: سمعنا ما قلت.. لكنا لم ندرك بعد علاقة ذلك بالجريمة التي فعلتها.
قال المتهم: لقد فعلت تلك الجريمة التي اعترفت بها أمامكم بكل طواعية، لأثبت له قانون العلية الذي راح ينفيه، ويتهم المؤمنين بالجنون لقولهم به.. لقد ذكرت له في بعض المجالس التي عقدها لنا لتلقين الإلحاد قصة العجوز التي سئلت عن سر إيمانها، فقالت: (من آلة النسيج هذه، فعند ما أمسك مقبضها وأدوّره بهذا الدوران ينسج الحبل، وحيث أرفعُ يدي وأتوقف عن التدوير تتوقّف ويبقي الصوف والقطن على حاله، عندها لا نسيج ينسج، ولا ليف يبرم.. من هنا أيقنت أن للأفلاك والنجوم والكواكب السيّارة والشمس والقمر والأرض ونظام الخلق بأجمعه خالقاً مقتدراً، متى شاء عطّل الوجود ورماه في هوّة العدم. وإن شاء أمدّه بأسباب الحياة وأدار عجلة استمراره)([15])
وذكرت له أن طائفة من الملاحدة طلبوا من بعض العلماء أن يثبت لهم وجود الله، فقال لهم: (قبل أن أناظركم هلم بنا إلى الشاطئ، فقد علمت أن هناك سفينة مملوءة من البضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرست في الميناء، ونزلت الحمولة وذهبت، وليس فيها قائد ولا حمالون ولا عساكر ولا حراس.. فهي فرصة لنا للغنيمة منها).. ضحك الملاحدة لقوله، وقالوا له: (كيف تريد أن تناظرنا وأنت لا عقل لك.. فهل يعقل أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟! حتى صبياننا لا يصدقون هذا).. فقال: (كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟)
وذكرت له قول الأعرابي عندما سئل: بِمَ عرفتَ ربك؟ فقال: (البَعرةُ تدل على البعير، والأثَر يدل على المسير، ليل داجٍ، ونهار ساجٍ، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير؟!)
لكنه بدل أن يواجه حججي بالحجج راح يسخر مني أمام العمال، ويحول المسألة عن مسارها، ويقول: إن هذه المقولة مليئة بالمغالطات المنطقية.. وأولها لم البعير؟!.. لم لا يكون الجاموس أم البقر أم الماعز أم الجمل؟!.. وهذا ينطبق على الكون، فلماذا هو الله؟ لم ليس فيشنو أو أودين أو زيوس أو أهووا مازدا؟
والثاني أننا نعرف شكل البعرة من الخبرات السابقة، ونعلم كيف يتم تكوينها؛ لذا عندما نراها يساعدنا دماغنا على إمدادنا بمعلومة سابقة تمكننا من التعرف على الجسم الموجود أمامنا، والآن تأملوا معي ذلك الأعرابي الذي وجد البعرة وأثر السير، تخيلوا لو أنه رأى حفرة على شكل مثلث.. ماذا كان سيقول؟ البعرة تدل على البعير، والحفرة تلك تدل على.. ببساطة لن يعلم؛ لأنه ليست لديه خبرات سابقة تمكنه من التعرف عليه.
كان العمال يضحكون من أمثال هذه الكلمات، وهم لا يدركون الكم الكبير من المغالطات التي تحويها..
التفت القاضي إلى ديفيد، وقال: هل صحيح ما ذكره الرجل؟
قال ديفيد: أجل.. فقد نسي أنه يتحدث مع فيلسوف.. فمن العجوز ومن الأعرابي حتى أتلقى منهم معارفي.. إنهم عوام بسطاء لا عقول لهم.. فكيف أسلم لهم عقلي؟.. ولو أنه بدل ذلك حدثني بطريقتنا ـ نحن الفلاسفة ـ لربما أكون قد ناقشته مناقشة علمية، أو ربما أكون اتبعته في دعواه.
رفع رجل من القاعة يده، وقال: ما دام قد طلب هذا، فليسمح لي ـ سيدي القاضي ـ أن ألبي رغبته في هذا المجلس، وأن أحدثه بالطريقة التي يريدها.. فأنا ضيف على هذه المدينة، وأشتغل بالفلسفة، ولدي فيها أبحاث وكتب.. وقد أتيت إلى هنا عندما سمعت بالقصة، لأرى هل يحتفظ صديقي ديفيد بمبادئه في إنكار العلية أم تراه يتركها لتعارضها مع مصالحه.. وقد رأيت أنه تركها بسهولة وبساطة، فهو بمجرد حصول الحادثة في مصنعه تأكد أن هناك من يقف وراءها، فراح يتحرى عنه إلى أن وجده.. وهكذا لو تعامل مع الحقائق الكبرى، وتحرى عنها لوجد كل الأدلة التي ترشد إليها.
قال القاضي: لقد طلب أن تحدثه بطريقة الفلاسفة.. لا بطريقة العوام.
قال الفيلسوف: أجل.. سأحدثه بذلك.. إن ما عبر عنه العامل بلغته البسيطة هو ما يعبر عنه في الفلسفة بدليل العلية وهو دليل من بين آلاف الأدلة على وجود الله.. بعضهم يسميه الدليل الكياني([16]).
والمقدمة الأولى من هذا الدليل هي أننا نرى في العالم حادثات، وتقلبات، حتى إن وجودنا نحن من جملة تلك الحادثات.. وهذه مقدمةٌ، مبنية على الإحساس والمشاهدة، ومسلم بها عند أهل العلم القديم، والعلم الحديث.
أما المقدمة الثانية، والتي أنكرها صاحبنا، فهي أنه [لا بد لكل حادثٍ من علةٍ]، وهذه المقدمة، وإن كانت لا تستند بكليتها إلى الإحساس، والتجربة، والمشاهدة؛ بناءً على أن العلية أمر معنويٌّ، لا يشاهَد، ولا أناَّ لم نشاهِد كل حادثٍ، إلا أنها ليست دون المقدمة الأولى المبنية على الحسِّ في القوة؛ بل أقوى منها.
قال القاضي: كيف ذلك؟
قال الفيلسوف: لأن حصول العلم بالمحسوس، بواسطة الإحساس، يتوقف عند التحليل العلمي على تصديق هذه المقدمة الثانية، ولهذا، يحق القول، بأن: (الشبهة في مبدإ العلية، تستلزم الشبهة في وجود المحسوسات)
قال القاضي: كيف ذلك؟
قال الفيلسوف: ذلك أن هذا المبدأ، القائل بلزوم علة لكل حادثة من مبادئ الذهن الأولى، بل هي من القضايا التي يتوقف عليها عقل كل إنسانٍ، ويحكم بها، قبل الحكم بسائر القضايا، ويجعل لها قيمة، وأهمية تجعلانها فوق كل مناقشة.. فتلك القضايا للتفكر، كالعضلات للمشي، على تشبيه الفيلسوف [له بينج]
ذلك أن كل إنسانٍ يستخدمها ـ حتى ديفيد هيوم نفسه ـ ربما البعض لا يعرفها في حالته الابتدائية، أي يستخدمها من حيث لا يشعر، وهي آخِرُ تأمين على ما يعرف الإنسان، وما يريد أن يعرفه من الحقائق؛ ولولاها، لما تقررت أي حقيقة في الأذهان.
لقد قال أرسطو معبرا عن ذلك: (للمبادئ الأولى خصلتان؛ الأولى: عدم احتياجها إلى الإثبات بالدليل.. والثانية: كونها معلومة بيقين، أعلى من جميع النتائج، التي يمكن أن تُستنتج منها؛ لأن الاستنتاج مجرى اليقين، والمبادئ معادنه).. وقال: (لو احتاج كل معرفة إلى البرهنة، لاستحال العلم).. أي، للزم التسلسل في البراهين.
فجميع العلوم ـ سيدي القاضي ـ مدينة لمبدإ العلية؛ لأن العلم معرفة الشيء بسببه؛ وبعبارة أخرى بدليله؛ فلولا مبدأ العلية في الإنسان، لما انبعثت نفسه إلى تحري الأسباب، والعلل، وارتفعت العلوم.
و هذا الذي ذكرته ـ سيدي القاضي ـ لا خلاف فيه بين المذاهب الفلسفية؛ وإنما الخلاف في أن تلك المبادئ: فطرية مطلقاً؛ أو فطريةٌ للفردِ، مكتسبةٌ للنوع؛ أو مكتسبةٌ للفرد أيضاً؛ وأصح المذاهب أولها، كما أن الأخير أضعفها.
التفت القاضي إلى ديفيد، وقال: هل ترى الرجل حدثك باللغة التي تناسبك؟
قال ديفيد: لا.. أريد لغة أخرى أكثر وضوحا..
قال الفيلسوف: لا بأس سأعرض لك البرهان على الطريقة المتبعة في علم الكلام، وهي: كل حادثٍ، يلزم أن يكون ممكناً؛ لا مستحيلاً، وإلا لما حدَثَ؛ ولا واجباً، وإلا لما سبقه العدم.. والممكن، ما لا يقتضى لذاته أن يكون موجوداً، ولا أن يكون معدوماً.. فالوجود والعدم، سيان بالنسبة إليه؛ فإذا وُجدَ، وُجدَ لعلةٍ ترجحه لهُ، لئلاَّ يلزم الرجحان من غير مرجحٍ، وهو محالٌ، ومستلزمٌ لعدم تساوي الوجود والعدم، فيما فُرض تساويهما فيه.
و عدمُ التساوي فيما فُرضَ فيه التساوي، يستلزم خلاف المفروض، المؤدي إلى التناقض.
فعلى هذه الطريقة، تكون المقدمة الثانية من مقدمات البرهان على وجود الله، القائلة بأن لكل حادث علةٌ، ثابتةً بالبرهان، وعلى الطريقة الأولى تكون بديهية.
فمقدمات هذا الدليل، أدناها درجةً في اليقينية، هي المقدمة الأولى، المبنية على الحس([17]).. فإذا كانت مقدمات الدليل يقينية، كانت النتيجة المترتبة عليها أيضاً يقينية، إلا أن مرتبتها في اليقين، تكون على قدر أدنى المقدمات مرتبةً فيهِ، لأن نتيجية القياس المنطقي تتبع أخس المقدمتين اللتين يتألف منهما القياس.. حتى إن هذه الكائنات المحسوسة، التي نسميها [العالم]، إن لم تكن موجودةً، وكانت حواسنا تغالطنا، فعند ذلك ينهار الدليل الذي أقمناه لإثبات وجود الله، بانهيار مقدمة من مقدماته.
لكنا ـ جميعا سيدي القاضي ـ نحمد الله على أننا لسنا من الحسبانية، الذين لا يستيقنون وجود العالم، وينفون اليقين في كل شيء.. ولسنا كذلك من [أشباه الحسبانيين] القائلين بأن العالم عبارة عن صورة نفسية، أنشأتها أذهاننا في نفسها، ومخيلاتُنا في الخارج، وهم الذين يتزعمهم الفيلسوف [كانت].. كما أننا لسنا من القائلين بوحدة الوجود، والذين أعدموا الدليل على وجود الله بإعدام العالم؛ لأنهم لم يُعدِموا الدليل، وإنما ألحقوه بالمدلول.
نحن لسنا جميع أولئك.. ولذلك نرى أن العاقل يدرك وجود الله، كما يدرك وجود المحسوسات.. أي أن إدراك وجودها، ليس أقوى من إدراك وجودهِ بدليله العقلي المنطقي.
لقد عبر عن ذلك [له بينج]، وهو من أكبر الفلاسفة الغربيين الألمان، فقال: (إن اليقين البرهاني، عبارة عن اليقين البديهي، الذي ينطبق على رابطة بين الحقائق المتعددة، بدلاً من انطباقه على حقيقة منفردة)
وهكذا قال [ديكارت]: (نحن ندرك وجود الإدراك، ووجود الله، المستنبَطَ منه، بلا واسطةٍ؛ أما وجود العالم، فليس له مؤيدٌ غير صدوقية الله، الذي لا يحتمل أن يخدعنا، فيما جعلَنا ندرك وجود العالم، ونعاينه).. وقول ديكارت هذا، طورٌ آخر في إدراك وجود الله، وهو طورٌ يليق بخواص العقلاء.
قال ذلك، ثم التفت للحضور، وقال: إني من موقفي هذا أتحدى حضرة الفيلسوف هيوم، وكل من يأبون الاعتراف بقوة هذا الدليل وقطعيته، أن يأتوا باعتراضهم عليه، من أي ناحية استطاعوا.
قام أحد الحضور، وقال: ما دمت ذكرت أن المقدمة الأولى من مقدمات هذا البرهان ليست في أعلى درجات اليقين، فإن نتيجة القياس المنطقي بذلك تكون تابعة لأخس المقدمات.. وبذلك لا يثبت بهذا البرهان وجود الله، على الوجه المطلوب، الذي هو أن يكون وجوده ضرورياًّ، والذي به يتحقق كونه [واجب الوجود]
ابتسم الفيلسوف، وقال: لاشك أنك أيها السائل، وأنتم يا جميع الحاضرين، لا تشكون في ذواتكم ووجودكم، ولا تشكون في وجود الأشياء من حولكم.. وإلا لما كنتم موجودين هنا.. فأنتم جئتم إلى هنا لتثبتوا التهمة على هذا الرجل المسكين.. فإن لم يكن موجودا، ولم يكن ما فعله سببا في حصول ما حصل.. فلم وجودكم هنا، ولم ادعاؤكم عليه؟
قال الرجل: فلم ذكرت أن هذه المقدمة ليست في أعلى درجات اليقين؟
قال الفيلسوف: لقد ذكرت ذلك لأولئك الذين خرجوا من طبيعتهم البشرية، فراحوا يشككون في حقائق الأشياء.. ولذلك فإن الشبهة في ثبوت وجود الله على الوجه المطلوب عندهم، تأتي من الشبهة في ثبوت وجود العالم نفسه.. فهم لا ينكرون وجود الله فقط، وإنما ينكرون وجود العالم أيضا.. وهؤلاء بلا شك لا يخالفون عامة الناس فقط، وإنما يخالفون أيضا بداهة الحس.
ولهذا سمينا هذا النوع من الضرورةِ: [الضرورةَ بشرط المحمولِ]؛ وهي كافيةٌ لاستلزام الضرورة المطلقة، لوجود الله، بناء على صدق قولنا: (إن كان العالم موجوداً، ضروري الوجود، ما دام موجوداً؛ فوجود الله ضروريٌّ ضرورةً مطلقةً، ليكون موجدَ هذا العالم المحتاج إلى الإيجاد)، فيندفع تأثير الشبهة الثانية أيضاً، المتصلة بوجود العالم، في قضية (وجود الله، الضروري الوجود)
و لو أننا تنازلنا، وأعرنا الفلاسفة الريبيين شيئاً من الاعتداد، وقلنا في تصوير قضيتنا: (إن كان العالم موجوداً؛ فالله موجودٌ بالضرورةِ)؛ كفانا ذلك في إثبات المطلوب.
و لا يرد علينا انتفاء هذه الضرورة، لوجود الله على تقدير عدم وجود العالم، لأنا لا نكتم أن دليلنا على معرفة وجود الله، هو وجود العالم.. فإذا انتفى الدليل، يكون انتفاء المدلول، الذي هو معرفة وجود الله طبيعياًّ..
وبهذا الكلام ينقطع دابر كل شبهة تحوم حول المقدمة الأولى لدليل إثبات الواجب.. فإن كان لكم ـ سيدي القاضي أو للحضور الكرام ـ شبهة أخرى، فأنا مستعد لجوابها هنا.
قام رجل، وقال([18]): صدقت في كل ما ذكرت.. ولكن لم لا تعتبر علة وجود العالم هي قوانين الكون نفسها.. أو هي الطبيعة.. لم يشترط أن يكون ذلك هو الله.. أو واجب الوجود، كما ذكرت؟
قام آخر، وقال: ألا ترى أن الكون فيه أنظمة وقوانين تُسيِّره؛ وهو بذلك ليس بحاجة إلى خالق يدبر أموره؟
قال آخر: العالم تحكُمُه قوانين، ولسنا بحاجة إلى أن نفترضَ وراء القوانين خالقًا.
قال آخر: قوانينَ الكون هي التي تحكُمُ الكون، ولا داعيَ للقول بوجود خالق يدبِّرُ أمر الكون ويُسيِّرُه.
ابتسم الفيلسوف، وقال: مع احترامي الشديد لكم أيها السادة إلا أن قولكم هذا يشبه من يعتقد أن القوانين التي تعمَل بها السيارة يمكن أن تُسيِّر السيارةَ دون الحاجة لمن يقُودها.. ومثله مثل من يعتقد أن القوانين التي تعمل بها الطائرة يمكن أن تجعَلها تطير دون الحاجة لمن يقودها.. ومثله مثل من يعتقد أن القوانينَ الحسابية يمكن أن تُجريَ عملية حسابية دون الحاجة إلى محاسبٍ مالي.
ولا يخفى عليكم ـ سادتي الكرام ـ تفاهةُ هذا الاعتقاد.. إذ قوانينُ الكون ليست عندها المقدرة على تدبير وتسييرِ الكون، سواء أكانت مجتمعة أم متفرقة.. فقوانين السيارة ليست عندها المقدرة على قيادة السيارة، سواء أكانت مجتمعة أم متفرقة.. وقوانين الطائرة ليست عندها المقدرة على طيران الطائرة، سواء أكانت مجتمعة أم متفرقة!
وهكذا، فإن قوانين الكون هي وصفٌ لطريقة سَيْر الكون، وليست هي مَن يُسيِّر الكون، كما أن قوانين الطائرة هي وصفٌ لطريقة طيران الطائرة، وليست هي مَن يقود الطائرة.
إن قوانينَ الكون ـ سادتي الأفاضل ـ تدل بَداهةً على وجود مُقنِّن لها، سنَّ هذه القوانين، وأودَعها في الكون، والعلمُ بذلك كالعلم بوجود كاتبٍ للكتابة، وبانٍ للبناء، ومؤثِّر للأثر، وفاعل للفعل، ومحدِث للحدَث، وهذه القضايا المعيَّنة الجزئية لا يشكُّ فيها أحدٌ مِن العقلاء، ولا يُفتَقَر في العلم بها إلى دليلٍ؛ فهي واضحةٌ ظاهرة.
قام رجل، وقال: إذا كانت قوانينُ الكون تدلُّ بَداهةً على وجود مُقنِّن لها سنَّ هذه القوانينَ وأودَعها في الكون؛ فلم لا يعتبر الكون نفسه هو الذي سن هذه القوانينَ.. أي سن القوانين لنفسه؟
ابتسم الفيلسوف، وقال: لو كان الكونُ هو الذي سنَّ هذه القوانين لنفسه، لاستطاع أن يُغيِّرَها كما يشاء، لكن الواقع أنه لا يستطيع تغييرَها، ولا الخروج عنها، وإنما هي مفروضةٌ عليه فرضًا؛ فدلَّ ذلك على أن هذه القوانينَ ليست مِن الكون نفسِه.
قال آخر: فلم لا نقول بأن الذي سنَّ هذه القوانينَ هي القوانينُ نفسُها؟
ابتسم الفيلسوف، وقال: هذا تصويرٌ للقوانين على أنها فاعلٌ محرك، وهذا تصوُّر غير صحيح، والواقع يرفضه؛ لأن القوانينَ مجردُ وصفِ سلوك الظواهر الطبيعية التي تحدُثُ في الكون وتتكرَّر تحت نفس الظروف، وليست هي الفاعلَ المحركَ للكون.
قال آخر: فلم لا نقول بأن الذي سنَّ قوانينَ الكون هي الصدفةُ؟
ابتسم الفيلسوف، وقال: الصُّدفةَ تصف كيفية الحدث، ووصفُ كيفية حدوث الفعل لا ينفي وجودَ فاعلٍ له.. ومعنى أن الفعلَ حدَث صدفة أنَّ الفعل حدَث دون قصدٍ وترتيب مسبق مِن الفاعل، وليس أن الفعلَ ليس له فاعلٌ.
التفت للرجل، وقال: على التسليم الجدلي بما ذكرت.. أليس مِن الممكن أن توجَد صدفةٌ أخرى تُلْغي هذه القوانينَ وتقضي عليها؟
سكت الرجل، فقال الفيلسوف: إن العلامة المميزة للصدفة: هي عدمُ الثبات، وعدم الاطِّراد، بينما قوانينُ الكون ثابتةٌ مطَّردة.. والصُّدفة لا تنتج قوانينَ مطردة ثابتة.. ولو سلَّمنا جدلًا وتنزُّلًا أنها أنتجت قوانينَ مطردة، فسَرْعان ما تزول هذه القوانينُ.
التفت للحضور، وقال: أجيبوني ـ معشر الحضور الكرام ـ إذا كانت قوانينُ الكون وُجدت صدفةً، فكيف تبقى وتستمرُّ دون وجود قوة خارجية تحافظُ على بقائِها واستمرارِها؟!
لم يجبه أحد، فقال: ما دامت كل الاحتمالات التي ذكرتموها مفندة بدليل الحس والواقع والمشاهدة، فلم يبق إلا احتمال واحد، وهو أن الذي سنَّ قوانينَ الكون شيءٌ خارجٌ عن الكون.. هذا هو الصحيحُ الموافقُ للعقل.. وهذا هو ما نعبر عنه بأنه [الخالقُ الذي خلَق الكونَ، وخلَق القوانين التي يَسِير بها الكون]
سكت قليلا، ثم قال: سأبسط المسألة أكثر.. لو سُئل أي شخص منكم يعمل في هذا المصنع: مَن يُدير هذا المصنع؟.. فأجاب: إن هناك قوانين تَسِيره تطبَّق على الجميع.. هل ترون إجابته صحيحة عند العقلاء؟!
سكتوا، فقال: إن وجود قوانينَ تحكُمُ الكون ويَسِير بها لا يمنَع ولا يستلزم عدمَ وجود خالقٍ للكون، بل وجودُ قوانينَ تحكُمُ الكونَ ويَسِير بها يدلُّ – بوضوح – على وجودِ مُقنِّن لهذه القوانين، يحفَظها ويرعاها، ويجعلها مستمرةً ثابتةً مطردة.
بعد أن قال هذا، وبعد أن شعرت كما شعر الجميع بقوة الحجج التي أدلى بها، قام صاحبي ديفيد هيوم يحاول أن يتدارك الموقف بكل ما أوتي من صنوف الحيلة، فقال([19]): إن ما ذكرته أيها الفيلسوف المراوغ من مغالطات لا يساوي عندي شيئا.. فوجود الله ـ بالنسبة لي ـ مجرد فرضية كفرضية وجود الوحش الاسباجيتي الطائر..
ثم التفت للحضور، وراح يؤدي دور المهرج، ويقول: هل تستطيعون ـ معشر الحضور ـ إثبات أن وحش المكرونة.. أو السباغيتي.. كما شئتم.. الطائر الذي يأكل البسكويت غير موجود؟.. أليس السؤال المنطقي هنا هو كوني أملك دليلًا على وجوده أم لا؟.. هل عدم قدرتكم على إثبات أنه غير موجود يعني أنه موجود؟
بنفس الطريقة، الله غير موجود؛ لأنكم لا تستطيعون إثبات وجوده، والبرهان لا يقع على عاتقنا للإثبات بأن الله غير موجود، بل يقع على عاتق المؤمن أن يثبت أن الله موجود بالدليل، بنفس الطريقة التي يقع على عاتقي إثبات أن وحش السباغيتي الطائر موجود إذا ادعيت ذلك، وما قلته أنا هو قاعدة علمية؛ فعبء الإثبات يقع على عاتق المدَّعِي، وليس عبء الإنكار يقع على عاتق المستمع.
قال الفيلسوف: كلامك صحيح.. وأنا في حواري معكم لم أذكر سوى برهان واحد من البراهين الدالة على وجود الله، وهو برهان ممتلئ بالعقلانية.. فكل حياتنا ممتلئة بإرجاع الأحداث لأسبابها.. وما دمنا قد رأينا الكون بهذه الصفة، فلابد أن يكون هناك من خلقه، ودبر أموره بالشكل الذي نراه.
غضب صاحبي ديفيد، وقال: وجود علة أولى لا يعني وجود إلهك الديني.. فخلق الكون ليس مسجلًا كبراءة اختراع للإله الذي تعتقد به، ولا أي إله آخر.. لماذا يفترض أن الفرضية المقبولة هي فكرة أحد آلهة الأديان، وليس مثلًا وحش السباغيتي الطائر، أو إذا أردنا فرضية اقترحها بعض علماء الفيزياء النظرية، فلدينا [نظرية – إم] التي يرى ستيفن هوكنج أنها تفسر وجود الكون دون حاجة إلى خالق؟
إن مثلك أيها الفيلسوف مثل رجل ذهب إلى الغابة، وعندما عاد ذكر لقومه أنه رأى وحشًا بسبعة أرجل وعشرين جناحًا، ونظرًا لاستحالة الأمر كذبه الجميع، لكن بدلًا من أن يثبت لهم أن الوحش موجود، طلب منهم محاولة نفي وجوده، فإن لم يستطيعوا نفي وجوده، فهذا يعني أنه موجود.
ألا ترون أن المنطق الذي قام عليه السؤال غبي جدًّا، إذا ادعيت أن عندي إلهًا اسمه وحش السباغيتي الطائر، هذا الإله أوحى برسالة لنا، وطلب منا أن نعبده، هل تستطيع أن تكذب كلامي؟ هل علي أن أثبت لك أن وحش السباغيتي الطائر موجود أم عليك أنت أن تحاول نفي وجوده؟
وبقي يلقي أمثال هذه المغالطات إلى أن أمر القاضي بانفضاض الجمع، وحكم على العامل بالبراءة، لاقتناعه التام بكل ما طرحه الفيلسوف من آراء.
أما صاحبي ديفيد فقد اعتزل الناس جميعا في تلك الأيام.. وراح يؤلف الكتب التي ملأها بكل ألوان الضلالة.. وعندما التقيت به آخر مرة، بعد أن ذقت حلاوة الإيمان راح يتجهم في وجهي، ويقول: حتى أنت أيها الأحمق التهمك وحش السباغيتي.
قال ذلك، ثم التفت إلينا، وقال: هذه قصتي مع الإيمان، وكيف نجاني الله تعالى من كيد صاحبي ديفيد.. ولست أدري الآن ما حل به بعد أن فارقته فراقا أبديا.
ما إن انتهى الرجل من حديثه حتى سمعنا نداء من السماء يقول: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات: 54]
فاطلعنا جميعا إلى مرآة عجيبة تنزلت من السماء، وكان فيها رجل يتألم ألما شديدا، ما إن رآه صاحبها حتى راح يقول له: { تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)} [الصافات: 56 – 61]
بعد أن انتهى الرجل الأول حديثه، قام آخر، وقال: أظن أن الدور وصل إلي، وسأحدثكم ـ أنا العبد الفقير إلى الله ـ عن فضل الله علي بالهداية، وإخراجي من ظلمات الجهل والغواية، وكيف أنقذني ربي من جحيم الملاحدة.. وزج بي في روضات جنات المؤمنين.
قالوا جميعا: يسرنا ذلك.. فهلم حدثنا بنعمة الله عليك.. فلا نعمة أفضل من الهداية.. ولا سعادة أعظم من إذن الله لعبده بالتواصل معه.
قال: في ذلك الزمان الذي كنت أتيه فيه بعقلي على كل شيء، كان لي الكثير من الأصدقاء الفلاسفة الذين زينوا لي أنه حتى لو قلنا بمبدأ العلية، وأنه لا سبب إلا ويقف وراءه مسبب، فإننا مع ذلك لا نحتاج إلى القول بضرورة وجود إله.. لأن الكون قديم قدما أزليا([20]).. ولذلك لن يحتاج لمن يوجده.
وقد كانوا يذكرون لي ـ ليملأوني بالانبهار ـ أسماء الكثير من كبار الفلاسفة والعلماء في كل العصور.. ويذكرون لي معها جدلهم مع خصومهم، وكيف استطاعوا أن ينتصروا عليهم بالحجج والبراهين الدامغة.
وكنت مستسلما لكل ذلك، مع أنه لم يكن لدي أي علم قطعي بحقيقة الأمر.. لأن مداركي العقلية والعلمية لم يتح لها ذلك.. فلذلك اكتفيت بالتقليد.. وكان هو المرحلة الأولى من مراحل موقفي من هذه القضية.
أما المرحلة الثانية، فقد تمثلت في خروجي من القول بقدم العالم، إلى التوقف في شأنه، وقد كان ذلك بسبب حضوري مناظرة علمية بين طرفين أحدهما يدعي قدم العالم، والآخر يدعي حدوثه.
فقد قال مدعي حدوث العالم مخاطبا مدعي قدمه: إذا افترضنا أن العالم بدون بداية في الزمان، فإن هذا يعني أن كل حادثة فيه قد سبقتها حوادث أخرى لانهاية لها.. ولا يمكن أن تأتي حادثة من سلسلة لامتناهية من الحوادث.. فكي نثبت ظهور حادثة يجب علينا افتراض بداية أولى للزمان.. وهذا القول نفسه يسرى على المكان، فإذا افترضناه كلاً لامتناهياً، فلا معنى لوجود الأمكنة الجزئية، لأن المكان الجزئي ما هو إلا تركيب لبعض خصائص المكان الواحد الكلي، أي اللامتناهي.. واللامتناهي لا يمكن أن يُخصَّص أو يُجزأ، ولذلك لا يمكن انقسام المكان اللامتناهي، لأن المنقسم هو المتناهي وحده.. وبما أن هناك أمكنة جزئية، وبما أنه من الممكن أن ينقسم المكان، فيجب القول بتناهي المكان.
وقال الآخر، أي مدعي حدوث العالم، ردا عليه: لا بأس.. فلنفترض كما زعمت أن للعالم بداية.. وبما أن كل بداية تفترض زماناً خالياً سبقها، فمعنى هذا أننا نفترض زماناً سابقاً على وجود العالم كان خالياً منه.. لكن لا يمكن ظهور شئ من زمان خالٍ، لأن الزمان الخالي لا يمتلك شرطاً يميز وجود أو عدم وجود العالم.. أي ليس به مرجح للوجود على العدم.. وهكذا بالنسبة لمحدودية المكان، فإن القول بذلك يعني أن هذا العالم يقع في مكان خالٍ، وهذا مستحيل، إذ ينطوي على القول بأن للعالم صلة بمكان خالٍ، أي باللاشئ.. فلا يبقى إلا القول بأن العالم لامتناه من حيث الامتدادين الزماني والمكاني.
وهكذا بقيا يشاغبان ويجادلان إلى أن خرجت منهما بهذه الفائدة الجديدة، وهي التوقف في شأن بداية الكون.. وقد كان لذلك أثره الإيجابي الكبير علي في انتقالي من مرحلة الإلحاد المطلق إلى مرحلة الإلحاد النسبي.. فقد صار في نفسي شعور أنه ما دام من المحتمل أن يكون لهذا الكون بداية، فمن الممكن أن يكون له صانع أخرجه من العدم إلى الوجود بناء على مبدأ العلية الذي تتفق عليه العقول.
ثم ما لبثت حتى بدأت نسبة الإلحاد تنقص إلى حد كبير بعد أن التقيت ببعض فلاسفة المسلمين القائلين بقدم العالم، والذي تعجبت منه حين ذكر لي أنه لا تنافي بين الإيمان بالله، وبين قدم العالم.. فالعالم ـ حتى لو قيل بقدمه ـ يظل عاجزا فقيرا محتاجا، ولذلك يحتاج إلى من يعتني به ويرعاه وينظمه ويعطيه من المدد ما يستمر به وجوده([21]).
وذكر لي أن أكثر القائلين بقدم العالم من الفلاسفة كانوا من المؤمنين الموحدين، من أمثال أرسطو والفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم كثير..
قلت له: لكن كيف يستقيم الإيمان بالله مع القول بقدم العالم.. فالعالم إن كان قديما، فإنه لا يحتاج إلى علة توجده.. وبذلك تنتفي ضرورة وجود الإله؟
ابتسم، وقال: هذا بالنظر المبدئي، أو ببادئ الرأي.. لكن عند التأمل في القضية بعمق تجد أن الأمر لا علاقه له بذلك.. سأشرح لك ذلك على ضوء الإيمان بالله.. وكيف أن الإيمان بالله يقتضي القول بقدم العالم.
رحت أستمع له بكل جوارحي، فقد كان له أسلوب مميز في الكلام يأسر القلوب والعقول أسرا شديدا.. لقد قال لي: أجبني.. لو أراد شخص ما أن يصنع شيئا.. ثم تأخر عن صنعه.. ما ترى أسباب ذلك؟
قلت: أسباب ذلك كثيرة.. فيمكن أن تكون المشكلة في عدم توفر المادة.. أو في عدم توفر الوسيلة.. أو في عدم توفر الإرادة.. أو أسباب أخرى.
قال: فإن توفر كل ذلك.. فهل يمكن أن يتأخر الصانع عن صنع يريده ويرغب في حصوله؟
قلت: ذلك يستحيل.
قال: فهكذا الأمر بالنسبة لله تعالى..
قلت: كيف؟
قال: لو فرضنا أن العالم الّذي هو صنع الله لم يكن قديما.. أي أنه كان في فترة من الفترات غير موجود.. فإن هذا لا يخلو من وجوه.. فإمّا أنّ الله كان عاجزا ثمّ صار قادرا، وحين صار قادرا قام بصنعه، وهذا محال.. وإمّا أن يكون قد افتقر لآلة من الآلات، ثمّ وجدت، وهذا أيضا محال، لأنّه من ضروريات كون الإله إلها قدرته المطلقة، وكون كل ما سواه محتاجا له، والآلات مفعولة له، فكيف تكون شرطا في الخلق؟.. وإمّا أنّ الله لم يكن مريدا لوجود الكون، ولذلك بقي معلّقا في العدم حتى أراده.. وهذا أيضا محال، لأنّه يجعل الذّات الإلهيّة محلاّ للحدوث والتغيّر.. ولأنّه ولو افترضنا جواز كونه محلاّ لتجدّد هذه الإرادة، فإنّ هذه الإرادة نفسها المتجدّدة الّتي كانت سببا لإيجاد العالم الحادث، هي نفسها محتاجة لإرادة أخرى متجدّدة لتوجدها لكونها هي نفسها حادثة.. فيتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، وهذا محال.
قلت له: لكن كيف يستقيم أن يكون العالم قديما، وفي نفس الوقت محتاجا لصانع.. فهو مصنوع بذاته.. ومن كان مصنوعا بذاته لا يحتاج إلى صانع؟
قال: لا.. ليس بالضرورة ذلك..
قلت: كيف ذلك؟
قال: ألا ترى أن ظلك تابع لك، ولا يمكن أن يكون موجودا بدونك، ومع ذلك يظل موجودا معك في كل حين.. وهكذا نور الشمس يظل تابعا للشمس مرتبطا بها في كل الأزمنة، مع أنه لا وجود له من دونها.. وهكذا الخالق.. فمن ضروريات كونه إله كونه خالقا.. ولذلك ينشأ الخلق عنه كما تنشأ عن الشمس أشعتها من غير ارتباط بزمن.
***
عندما قال لي هذا بدأت نسبة كبيرة من الإلحاد تتلاشى وتتبخر لأشعر بنوع من الراحة النفسية تجاه هذه المسألة.. فالله قد صار في ذهني مثل الشمس تماما، والشمس ضرورية لوجود النور.. وكذلك الله ضروري لوجود خلقه.
لكن المسألة.. وبعد التطورات العلمية الكثيرة التي شهدها العالم حينها.. راحت تميل بعقلي إلى القول بحدوث العالم.. والذي ينفي كل شبهة تتعلق بوجود الله مهما كانت هزيلة وحقيرة.. وقد حصل لي ذلك اليقين بعد حضوري مجلسا من المجالس العلمية، والتي اجتمع فيها نخبة العلماء من المتخصصين في مجالات مختلفة.
سأحكيها لكم طبعا.. ولكن قبل أن أحكيها لكم، سأذكر لكم حديثا جرى لي مع بعض فلاسفة المسلمين من القائلين بحدوث العالم، فقد التقيت به حينها، وأخبرته عن زميله القائل بقدم العالم، والعلل التي تعلل بها لذلك.. فقال لي([22]): ما ذكره أخي في الفلسفة من الأسباب الداعية للقول بقدم العالم لا يمكن قبولها جملة، ولا رفضها جملة.. فليس من العلم ولا من الفلسفة ولا من الأدب أن نعمم الإنكار والنقد.. ولهذا فأنا أنكر ـ مثلما أنكر ـ أن يكون سبب حدوث العالم هو فقد المادّة، أو فقد الآلات، لأنّ ذلك يتعارض مع القدرة الإلهيّة المطلقة، وكون كلّ الموجودات ما سوى الله معلول له.. لكنّ المسألة لا تتعلق بذلك.
قلت: وبم تتعلق إذن؟
قال: إن زميلي في الفلسفة قد مال إلى القول بقدم العالم لتوهمه أن حدوث العالم يستدعي القول بتجدد إرادة الله.. وهذا غير صحيح.. فقد توهم ذلك لمقارنته بين إرادة الله وإرادة خلقه، فقاس الغائب على الشاهد، والخالق على المخلوق..
قلت: ما تعني؟
قال: سأضرب لك مثالا يقرب لك ذلك.. عندما يريد النجّار صناعة باب لا شكّ أننا نقول أنه قد تجدّدت إرادته بتلك الصناعة.. أي أنه حدثت فيه صفة لم تكن.. وهذا عيب فيه، ودال على حدوثه.. ولذلك توهم صاحبي في الفلسفة أن القول بحدوث العالم يعني نفس القصور بالنسبة لله تعالى.. بينما الأمر يختلف.
قلت: كيف يختلف.. أنا أرى أن لقوله قوة وحجة صحيحة.
قال: سننظر إلى الأمر من زاوية أخرى.. ألا يمكن أن يكون النجّار قد يريد صناعة الباب، ولكنه بدل صناعته في الحين، يعلّق تحقيق إرادته بوقت متأخّر يراه مناسبا، كأن يقول: إنّي عزمت على أن أصنع بابا، لكنّي سأصنعه السّبت القابل..
قلت: أجل يمكن ذلك.
قال: وحين يحين الموعد الذي حدده.. ويأخذ في صنعه الباب.. هل ترانا نذكر أنه صنعه بإرادة متجدّدة.. أو بنفس الإرادة الأولى؟
قلت: بنفس الإرادة الأولى..
قال: فهكذا الأمر بالنسبة للقول بحدوث الكون، فإنّ تأخّر صنعه قد نعزوه إلى الإرادة الإلهيّة من غير أن يلزم عن ذلك محال تجدّد صفة الإرادة في الله..
قلت: لكن هناك إشكالا خطيرا يعرض لما ذكرت.
قال: أجل.. أعرفه.. وحله بسيط جدا.
قلت: كيف عرفته، وأنا لم أنطق به.
قال: فكيف أكون فيلسوفا، وأنا لا أعرف الإشكالات التي قد ترد على أي برهان من البراهين؟
قلت: لا بأس.. فاذكره لي إذن.
قال: أنت تريد أن تذكر لي بأنه إذا كانت الأوقات كلّها متماثلة بالنسبة للإرادة الإلهية، فلم تخصّص وقتا دون غيره؟.. وما الذي جعلها ترجح وجود العالم في ذلك الوقت، وليس في وقت آخر؟
قلت: أجل.. هذا بالضبط ما كنت أريد طرحه عليك.. وهو لازم عن مبدأ مدرك ببديهة العقل، وهو أنّه إذا كان هناك أشياء متشابهة، فإنّ الإرادة لا يمكن أن تتعلّق بواحد دون آخر إلاّ اعتباطا واتّفاقا، لا بموجب مخصّص يرجّح جانب الشّيء عن مثله.. فلو افترضنا مثلا رجلا عطشانا ووضعنا بين يديه قدحين من ماء ليس بينهما أيّ اختلاف لا في ذاتهما، ولا بالإضافة للرّجل، فهو إمّا أن لا تترجّح إرادة الرجّل بتاتا لأخذ القدح، وإن ترجّحت فترجّحها لن يكون بحسب مخصّص في قدح منهما، بل اعتباطا واتّفاقا.. وهكذا الأمر في تعلّق الإرادة الأزليّة بإيجاد العالم في وقت دون وقت، لو سُلِّمَ بصحّة ذلك، فإنّه لن يكون إلاّ اتّفاقا، ولكن لو جاز أن يكون ترجّح جانب الوجود عن العدم في العالم قد حصل اتّفاقا، لجاز أن يكون العالم قد وُجِدَ منذ القدم، وعلى الهيئة التّي وجد عليها إنّما كان اتّفاقا.
قال: أنت بهذا المثال تقع فيما وقع فيه أخي في الفلسفة، فتقيس الغائب على الشاهد، والله على عباده.. وإرادة الله على إرادة البشر.
قلت: فهل هناك خلاف بينهما؟
قال: أجل.. كما أن الله يختلف عن خلقه.. فصفاته تختلف عنهم أيضا.. فإرادتنا نحن لكوننا بشرا ذوي نقص لا يمكنها أن تخصّص شيئا عن مثله إلاّ بوجود مرجّح في الشّيء نفسه، فمثلا الرّجل العطشان الذي ذكرته حين يرى أنّ القدحين متشابهين من كلّ الوجوه، لكن أحدهما أيسر مأخذا من الآخر، فإنّ هذا الصّفة االموجودة في القدح الأوّل تجعل إرادته تميل إلى أخذه.. وهذا يختلف اختلافا جذريا عن إرادة الله تعالى صاحب الغنى المطلق، والقدرة المطلقة.
قلت: إن قولك هذا يبقي السؤال كما هو.. فكيف تجيبني، وكيف تجيب إخوانك في الفلسفة؟
قال: أجيبهم بنفس المنهج الذي يفكرون به.. فهم أنفسهم مضطرّون للقول بتخصيص الشّيء عن مثله بالإرادة القديمة.
قلت: كيف ذلك؟
قال: ألا ترى أنّهم قد قالوا بأنّ العالم قد صدر بالضّرورة عن الواجب.. وأنه ذو هيئة خاصة ونظام خاص..
قلت: بلى.. ذلك ما قالوه.
قال: ألا ترى أن هناك وجوها أخرى لا نهائيّة كان يمكن للعالم أن يخلق بها.. فلِمَ اختصّ بهذا الوجه دون الآخر؟ وماالشّيء الّذي كان قد خصّصه، وهو يماثل من حيث الامكان تمام المماثلة الوجه الّذي قد وجد عليه بالفعل؟
قلت: قد يجيبون على ذلك بأنّ نظام العالم الكلّي لا يمكن أن يستقيم إلاّ على الوجه الّذي وُجِدَ عليه، وكلّ الوجوه الأخرى مع كونها ممكنة إلا أنها قد تسبب خللا فيه.. فلو وُجِدَ أكبر أو أصغر، أو ذو عدد أقلّ أو أكثر من الكواكب والأفلاك لاختلّ هذا النّظام.. لذلك فإنّ تخصيص الإرادة القديمة له دون الهيئات الأخرى الممكنة ليس من باب تخصيص الشّيء عن مثله بخلاف حدوث العالم في وقت دون وقت فهو بالضّرورة من باب تخصيص الشّيء عن مثله، لأنّه كلّ الأوقات هي متشابهة، والعالم إن وجد في وقت قبل الوقت الّذي وجد فيه أو بعده لا يتصوّر تغيّر من نظامه شيء.
قال([23]): أجل.. يمكنهم الاعتراض بهذا.. ولكني أرى أن هذا فيه الكثير من التحكم والتنافي مع الإرادة الإلهية المطلقة عن كل قيد.. فلم لا نترك الأمر لله في شأن خلقه من دون أن نفرض عليه زمنا ولا هيئة ولا نوعا ولا شكلا.. فمن نحن حتى نحجر على الله؟
***
كانت تلك نهاية حديثي مع هذا الفيلسوف المسلم الذي أسرني بحديثه وأدبه مع المخالفين له.. ولا أكتمكم أني ملت إلى قوله كثيرا، وبدأت الكثير من الإشكالات تنحل بعد هذا المجلس الذي جلسته معه.
وقد زاد في حلها مجلسا علميا آخر حضرته، عقد في بلدتي في ذلك الحين، بين أكابر علماء ذلك العصر من مختلف التخصصات.. سأحكي لكم بعضه، لأن هناك الكثير من التفاصيل التي قد لا يحتاج إليها تلميذ الإيمان.
بدأ ذلك المجلس برجل كنت أعرفه تماما، وكنت أعرف دفاعه عن الإلحاد، وعن كل المقولات التي تساهم في نشره وتثبيته، ومن بينها القول بقدم العالم..
قام، وقال بحماسة لا نظير لها: اسمعوني يا قوم.. فقدم العالم لم يعد فقط مجرد طروحات فلسفية قال بها العقل المجرد.. وإنما تحول إلى علم.. فالعلم الآن بكل أدواته يثبت أن العالم قديم قدما أزليا سرمديا.. لقد ذكر هذا كبار علماء العالم في كل المجالات.. ومنهم ثلاثة من كبار علماء الفلك يعملون في جامعة كامبردج بلندن، إنهم فريد هويل، وهيرمان بوندي، وتوم غولد([24]).. فقد أثبوا بكل الأدلة العلمية أن المادة كانت الشيء الوحيد الموجود في الكون، وأن الكون وجد في الزمن اللانهائي، وسوف يبقى إلى الأبد.
لقد قال العلامة الجليل (بولتزر) في كتابه [المبادئ الأساسية في الفلسفة] يعبر عن هذا: (الكون ليس شيئاً مخلوقاً، فإذا كان كذلك فهذا يقتضي أنه خلق في لحظة ما من قبل إله، وبالتالي ظهر إلى الوجود من لا شيء، ولقبول الخلق يجب على الإنسان أن يقبل في المقام الأول أنه كانت توجد لحظة لم يكن فيها الكون موجوداً، ثم انبثق شيء من العدم، وهذا أمر لا يمكن للعلم أن يقبل به)
عندما انتهى من حديثه قام رجل آخر، كنت أعرفه جيدا، وأعرف جمعه بين العلم والإيمان، قام وقال: اسمح لي ـ سيدي الكريم ـ أن أذكر لك أن حديثك هذا مبني على معلومات قديمة، وأن قولك هذا مفند الآن تفنيدا علميا مطلقا.. طبعا لن أتحدث لكم إلا عن اختصاصي، وأنا كما تعرفون باحث في الفلك.. ولذلك سأذكر لكم آخر الحقائق العلمية المرتبطة بهذا الجانب.
لاشك أنكم تعلمون أن علم الفلك الحديث تقدم تقدماً كبيراً في هذا العصر.. وكان من نتائج تقدمه تقديمه الدليل المادي لنشأة الكون.. بل إنه أجاب عن كثير من التساؤلات المرتبطة بكيفية ذلك.
طبعا.. نحن هنا لا تعنينا الكثير من التفاصيل المرتبطة بالكيفية، فقد يكون بعضها صحيحا صحة مطلقة، وبعضها مجرد تخمين.. لكن الذي يعنينا هو القول ببداية الكون..
وأول ما يدل على ذلك الاكتشاف الرهيب الذي توصل إليه العالم الفلكي الأمريكي [أدوين هابل] عام 1929م، والذي أدى إلى إحداث تغيير كبيرفي علوم الفضاء.. وبسبب هذا الاكتشاف سمي منظار ناسا الشهير فيما بعد باسم (هابل) نسبة إليه.
لقد كان هذا العالم يراقب النجوم بمنظاره.. فاكتشف أن لون الطيف الصادر من النجم الذي كان يراقبه يتحول إلى اللون الأحمر.. ومعنى هذا حسب نظريات علم الفيزياء الفلكية أنه عندما ينقلب لون الطيف الصادر من جسم سماوي (سوبر نوفا) إلى الأشعة الحمراء.. فإن هذا يعني أن النجم يبتعد عن الأرض، وأما إذا كان هذا النجم يقترب من الأرض فإن الطيف يظهر اللون الأزرق، وكان هذا أول اكتشاف لهابل من ناحية حركة النجوم.
ثم تابع هابل أبحاثة، فاكتشف أن النجوم لا تبتعد عن الأرض فحسب، بل يبتعد بعضها عن بعض.. بما يشبه البالون عند نفخه.. وهذا يدل على أن هذا الكون في تمدد دائم كل ثانية.
وقد توصل هابل بعد ذلك إلى أن الكون يتمدد باستمرار وبسرعة متزايدة.. واكتشف أيضاً أن المجرات التي ولدت تبتعد عن مركز الانفجار الأول، وكذلك تبتعد عن بعضها البعض..
التفت العالم المؤمن للحضور، وقال: أتدرون ما يعني هذا؟
قالوا: وما يعني؟
قال: إن هذا يعني أن كل المعارف السابقة، والتي تتبنى سرمدية الكون وأزليته قد تبخرت مع هذا الاكتشاف.. ولهذا، فقد بادر الكثير من العلماء إلى تكذيب هذه النظرية قبل التثبت من صدقها.. لأن الإيمان بها كان يستوجب الكثير من التغيير في طريقة التفكير التي كان يتبعها العلماء في نشأة الكون واستقراره.
قام العالم الملحد، وقال: أنا لا أشك في القدرات العلمية لهابل، ولكني لا أرى أي علاقة بين اكتشافاته، وما تدعيه من حدوث الكون.
قال العالم المؤمن: ألا ترون أن من أبرز مقتضيات هذه النظرية أنه إذا كان الكون اليوم يتباعد، فلابد أنه كان في يوم ما متقارباً؟
قالوا: بلى.. هذا ضروري.
قال: ولو فرضنا أن بداية ذلك التباعد قديمة أزلية.. فهل يمكن أن نرى شيئا من الأشياء؟
قالوا: لم نفهم..
قال: تصوروا معي.. لو أن مجموعة رجال يبتعد بعضهم عن بعضهم كل يوم مسافة متر واحد فقط.. فهل يمكن أن يرى بعضهم بعضا بعد مليون سنة؟
قالوا: ذلك مستحيل.. لأن المسافة بينهم حينها ستكون مليون متر.. أي ألف كيلومتر..
قال: فلو فرضنا أن المسافة بينهما كانت أكثر من ذلك..
قالوا: ذلك أدعى بأن تكون مستحيلة استحالة مطلقة.
قال: فهكذا لو جمعنا بين هذه الحقيقة العلمية التي دلت عليها كل الأدلة، والقول بتلك النظرية الفلسفية القديمة القائلة بقدم العالم.. فلو فرضنا أن العالم يتباعد منذ ما لا نهاية فإن هذا يجعلنا لا نرى شيئا من العالم.. ورؤيتنا له دليل على حدوثه.
قالوا: ذلك صحيح، ومنطقي.
قال: ولهذا، فإن علم الفلك الحديث يبذل كل الجهود ليحدد عمر الكون([25]) بناء على ما لديه من معطيات علمية.. ونحن وإن كنا لا نثق ثقة مطلقة في كل النتائج التي قد يصل إليها، لأنها قد تتغير مع الزمن، لكن الذي يعنينا هو وجود بداية للكون.. ووجود بداية للكون يستدعي بالضرورة العقلية وجود إله صاحب علم وإرادة وقدرة مطلقة قام بإخراجه من العدم إلى الوجود.
قام آخر، وقال: لقد أدلى زميلي الفلكي مشكورا بما لديه من معلومات لها علاقة بتخصصه.. وسأتحدث أنا بما له علاقة بتخصصي.. فأنا مختص في [الديناميكا الحرارية].. طبعا لن أصدع رؤوسكم بالتفاصيل العلمية المرتبطة بذلك([26]).. ولكني سأقتصر على ما له علاقة بحدوث العالم.. وسأقتصر بالتحديد على ما يطلق عليه [تبرد الكون]، أو [قانون الديناميكا الحرارية الثاني]، وهو القانون الذي ينص على أن الكون يستمر باستنفاد طاقته حتى يصل إلى حالة التوازن.. أي الحالة التي تستوي فيها درجات حرارة جميع أجزاء الكون.. حتى يصل في نهاية المطاف إلى ما يسمى عندنا ـ معشر الفيزيائيين ـ بالموت الحراري.. هل تدركون ما علاقة هذا بحدوث الكون؟
قال رجل من الحاضرين: إن كان الأمر كما تقول، فإن هذا يعني بالضرورة وجود بداية للكون.. وإلا لوصل الكون إلى حالته الأخيرة من التوازن قبل زمن طويل لا حدود له.
قال العالم المؤمن: صدقت.. فقوانين الديناميكا الحرارية تثبت بكل وضوح أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليا، فهناك انتقال حراري مستمر من الأجسام الحارة إلى الأجسام الباردة، ولا يمكن أن يحدث العكس بقوة ذاتية.. ومعنى ذلك أن الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها حرارة جميع الأجسام، وينضب منها معين الطاقة.. ويومئذ لن تكون هناك عمليات كيماوية أو طبيعية.. ولن يكون هنالك أثر للحياة نفسها في هذا الكون.. لذلك فإن النتيجة الطبيعية لهذا هي أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزلياً، وإلا لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد، وتوقف كل نشاط في الوجود.
وهكذا توصل العلم إلى أن لهذا الكون بداية.. وهو بذلك يدل دلالة قطعية على وجود الله.. ذلك أن ما كان له بداية لا يمكن أن يكون قد بدأ بنفسه، ولا بد له من مبديء، أو من محرك أول، أو من خالق.
قام عالم آخر، وقال: شكرا جزيلا سادتي العلماء على هذه المعلومات القيمة.. واسمحوا لي أن أشارك في نفس الموضوع، وبحسب تخصصي العلم، والذي كشف لي بطريقة قطعية ليس فيها ارتياب عن أن الكون له بداية.
وحتى أبسط لكم هذا وأختصره، أقول: أنتم تعلمون جميعا أن ذرات الكون كلها مؤلفة من جزيئات كهربائية سالبة وموجبة.. وتعلمون أن الموجبة يطلق عليها اسم البروتون.. والسالبة يطلق عليها اسم الإلكترون.. وتعلمون أن أنوية الذرات إلا ذرة الهيدروجين فيها زيادة على ذلك شحنة معتدلة تسمى نيترون.. وأن البروتون والنيترون يشكلان نواة الذرة بينما الإلكترونات تشكل الكواكب السيارة لهذه النواة.. وهي تدور حولها بسرعة هائلة بحركة دائرية إهليلجية.. وبسبب هذه السرعة الهائلة في حركة الإلكترون يبقى الإلكترون متحركا هذه الحركة، إذ لولا هذا الدوران لجذبت كتلة النواة كتلة الإلكترون.
قالوا: نعلم ذلك جميعا، فما علاقته ببداية الكون؟
قال: بناء على ذلك.. وبناء على أن هذه الحركة التي نجدها في الإلكترون نجدها في كل جرم في الفضاء، نقول: إن الشيء الدائر لا بد أن تكون له نقطة بداية زمانية ومكانية بدأ منها دورته.. ولما كانت الإلكترونات والأجرام كلها في حركة دائرية.. ولما كانت هذه الحركة غير مستأنفة كما يبدو.. فإذن لا بد أن تكون هناك بداية زمانية ومكانية لحركة الإلكترون.. وهذه البداية في الحقيقة هي بداية وجود الذرات نفسها.. وبهذا نكون قد وصلنا إلى أن لهذا الكون بداية ونشأة وخالقا من العدم.. إذ العدم لا ينتج عنه وجود.
قام آخر، وقال: قبل أن أذكر لكم وجهة نظري أحب أن أرسم لخيالكم معنى الأزلية.. لأن البعض قد لا يفهم معنى ما نقوله بسبب تبسيطه لمعناها.. لو فرضنا أننا وضعنا الرقم 1 وأمامه أصفار ممتدة منه إلى محيط الكرة الأرضية، فإن هذا الرقم الكبير من السنين لا يمثل إلا جزءا كالصفر تقريبا بالنسبة إلى اللانهاية أو اللابداية.. ونفس الشيء لو كان الرقم 1 أمامه أصفار من أول الكون إلى نهايته فإن هذا الرقم لا يمثل إلا جزءا من اللانهاية يشبه الصفر.. وكذلك هو بالنسبة للأزل.
وهكذا، فإن الذين يقولون بقدم المادة إنما يعطونها هذا المعنى، وهذا الذي تثبت الظواهر كلها استحالته.. ومن الأمثلة البسيطة على ذلك الطاقة الشمسية.. فمن أين تأتي الشمس بطاقتها؟ وكيف تحافظ على حرارتها؟
قام رجل، وقال: لقد أجيب عن هذا السؤال أجوبة كثيرة.. لعل آخرها هو أن ذراتها هي وسائر النجوم تتحطم في قلبها مرتفع الحرارة.. وبواسطة هذا التحطم الهائل الواسع المستمر تتولد هذه الطاقة الحرارية التي لا مثيل لها.
قال العالم المؤمن: لا شك أنكم تعلمون أن الذرة عندما تتحطم تفقد جزءا من كتلتها، حيث يتحول هذا الجزء إلى طاقة.
قالوا: أجل.
قال: بحسب هذا، فإنه لا يمر يوم على أي شمس حتى تفقد ولو جزءا بسيط من كتلتها.
قال رجل منهم: أجل.. وقد حسب بعضهم المقدار الدقيق لذلك.. لكني لا أذكره.
قال العالم المؤمن: فلو أن هذه الشمس قديمة أزلية هل يمكن أن تكون في وضعها الحالي، أو أنها تكون قد استنفدت طاقتها، وانتهى أمرها؟
قالوا جميعا: لا شك أنها تكون قد استنفذت طاقتها..
قال: فطبقوا هذا على سائر مواد الكون.. وسترون أنها جميعا ستنفذ كل طاقتها.. قبل ما لا يمكن عده من السنين.
قال رجل من القوم: فلم لا نقول بأن الكون كله كان في الأصل طاقة، ثم تحول إلى مادة.. وهو الآن مادة يتحول إلى طاقة.. وهكذا يبقى مترددا بين المادة والطاقة؟
قال العالم المؤمن: إن المغالطة في هذا واضحة.. ذلك أن الطاقة كطاقة إنما تظهر إذا وجدت مادة ما تقوم بها، فالطاقة تحتاج إلى ذات، وبدون ذات تكون أشبه بمعدوم، أو بتعبير الفلاسفة القدامى: الطاقة عرض تحتاج إلى جوهر لتظهر فيه.. فإشعاع الشمس عندما يصادف الأرض مثلا تأخذ ذرات الأرض حرارته، وبهذا تصبح ذرات الأرض مشحونة بالطاقة الحرارية، ولكن إذا لم يصادف هذا الشعاع مادة فلن يتحول هو نفسه إلى ذرة مادية.
وبهذا يتضح بما لا شك فيه أن هذا الكون ليس قديما، وأن له بداية، وأنه لا يتصور وجوده لولا أن له خالقا هذا الخالق هو ابتدأ خلقه ووجوده بعد إذ لم يكن.
قام رجل من القوم، وقال: اسمحوا لي ـ أنا تلميذ الفلاسفة القدامى ـ أن أعبر لكم عن هذا بلغة أساتذتي من الفلاسفة.. فقد قسموا ما في الكون إلى نوعين: نوع يقوم بذاته، ونوع لا يقوم بذاته.. فمثلا الجسم يقوم بذاته.. لكن المرض لا يكون بلا جسم.. والذرة تقوم بذاتها.. ولكن الحرارة لا تكون بلا ذات.
وقد سموا ما يقوم بذاته [الجوهر].. وسموا مالا يقوم إلا بالجوهر [عرض].. فالذرة جوهر وحرارتها عرض.. والجسم جوهر والصحة عرض..وبناء على هذا ذكروا أن الجوهر لا ينفك عن الأعراض، فما رأينا جوهرا إلا ويلازمه عرض ما.. وكل عرض حادث.. فالظلام حادث، فمنذ فترة كان قبله نهار.. والنهار حادث، فمنذ فترة كان قبله ليل.. وحرارة الذرات مهما كانت فإن لها بداية.. وإذا كان لا جوهر إلا بعرض فلا جوهر إلا وله بداية، فالكون جواهره وأعراضه كله حادث وليس أزليا.
بعد أن انتهى الرجل الثاني حديثه، قام آخر، وقال: أظن أن الدور وصل إلي، وسأحدثكم ـ أنا العبد الضعيف ـ عن فضل الله علي بالهداية، وإخراجي من ظلمات الجهل والغواية، وكيف أنقذني ربي من جحيم الملاحدة، وزج بي في روضات جنات المؤمنين.. وكل ذلك بفضل برهان بسيط واضح أطلق عليه المنافحون عن عرض الحقيقة لقب [برهان التطبيق]، وهو البرهان الذي يدل على استحالة التسلسل([27]).
قالوا جميعا: يسرنا ذلك.. فهلم حدثنا بنعمة الله عليك.
قال: أذكر جيدا أنه في ذلك الحين كنت تلميذا وفيا للكثير من الفلاسفة والعلماء الذين أخرجوني من حصون فطرتي المنيعة، وألقوني في صحراء الشكوك والعبثية وكل أنواع الفوضى الفكرية.. وكانت خطتهم التي تسللوا بها إلى حصوني ليس ما مارسه ديفيد هيوم ومن تبعه من الفلاسفة، مثلما حكى لكم صاحبي.. وإنما خطة جديدة كانت أكثر ذكاء وحنكة.. استثمرت مبدأ العلية، واستخدمته في غير موضعه.
وكان أستاذي الأكبر فيها فيلسوف يقال له [اللورد برتراند راسل].. وقد تبعته تبعية طوعية، لا بسبب اقتناعي بطروحاته الفكرية، ولكن بسبب بعض مواقفه الإنسانية، مثل رفضه التجنيد في الحرب العالمية الأولى، ومثل تحريضه المواطنين الإنجليز على العصيان، وقد تحمل السجن نتيجة لذلك، إضافة إلى تأليفه قرابة سبعين كتاباً في الفلسفة والرياضيات والسياسة والأخلاق والاجتماعيات، وقد كانت كتبه حينها ثورة في المنهج التحليلي والمنطقي، ولذلك كرم بجائزة نوبل في الأدب..
وقد كان لتلك الصفات، وذلك التكريم أثره الكبير علي، وعلى الكثير من جيلي.. فقد كنا نتصور أن جائزة نوبل لا تعطى إلا لمن كانت له عصمة عقلية وفكرية تحول بينه وبين الخطأ.
ولهذا لم نكن نناقش ما يقول، وإنما نسعى بكل جهدنا أن نفهم ما يقول، ثم نعتقد رغما عنا، وإلا اعتبرنا من حولنا من زمرة المتخلفين الرجعيين الذين لم يرتقوا في سلم التطور الإنساني إلى مداه الأعلى.
في ذلك الزمان البعيد حضرت محاضرة لراسل بعنوان [لماذا لست مسيحيا]، ذكر فيها سبب الحاده، فقال: (لقد قبلت لوقت طويل بفرضية المسبب الأول، حتى جاء اليوم الذي تخليت عن هذه الفرضية، وذلك بعد قراءتي لسيرة حياة جون ستيوارت ميل، حيث قال فيها: (لقد علمني والدي إجابة السؤال عمّن خلقني. وبعدها مباشرة طرحت سؤالاً أبعد من هذا، من خلق الإله؟).. إن هذه الجملة القصيرة، علمتني، إلى الآن، كيف أن مبدأ المسبب الأول هو مبدأ مغالط ومسفسط. فإذا كان لكل شيء مسبب، فيجب أن يكون لله مسبب أيضاً. وإذا كان كل شيء بلا مسبب، فسيكون العالم هو الله! لهذا وجدت أنه لا مصداقية في هذه الفرضية)
أذكر جيدا أنه عندما قال هذا صاح الكل معجبين، وصحت معهم، وقد خرجنا جميعا وقد تخلينا على الله في ذلك المجلس.. من دون أن نناقش ما قال أدنى مناقشة، فقد كانت طريقة راسل في الحديث تشبه طريقة السحرة.. ولذلك خدعنا بها انخداعا تاما.
ولم أكتف بخداع نفسي بذلك الزخرف من الحديث الذي ألقاه علينا، بل رحت أبشر به من حولي.. وقد كان الكثير منهم يستقبل ما أطرحه فرحا مسرورا، وكأنه اكتشف الاكتشاف العجيب الذي يخلصه من ربه، ليرفع عنه إصر كل القيم النبيلة.
لكن رجلا واحدا، قال لي، وهو يضحك: لو دخلت إلى مكتبك ووجدت كتابا على الطاولة.. ووجدت في نفس الوقت رجلا جالسا على كرسي، ثم خرجت ورجعت، فوجدت الكتاب الذي كان على الطاولة داخل الدرج، ووجدت الرجل جالسا على البساط.. فلا شك أنك ستسأل من نقل الكتاب إلى الدرج.. دون أن تسأل عمن نقل الرجل إلى البساط.
قلت: أجل.. ذلك صحيح.
قال: أتدري لم؟
قلت: أجل.. فالكتاب ليس له إرادة، ويحتاج إلى من ينقله، ولا يتحرك بذاته، فلذلك كان السؤال منطقيًا واقعيًا.. بخلاف السؤال عن الرجل، ذلك أن لديه قوة وطاقة واختيارا وارادة يستطيع بها أن ينتقل بنفسه من غير أن ينقله أحد.
قال: فطبق هذا على تلك الشبهة التي أثارها لكم ذلك الفيلسوف.. وستصل إلى الجواب..
كان في إمكاني حينها أن أطبق ما قاله، فأكتشف أن من ضروريات خالق الكون أن يكون صاحب إرادة وقدرة، وأنه يختلف تماما عن كونه.. ولذلك لا يمكننا أن نطبق عليه نفس المقاييس التي نطبقها على الكون.. لكنني لم أفعل.. ربما لأنني كنت أبله وحريصا على تلك الفكرة التي تزينت لي بسببها كل أنواع الرذائل، بعد أن أخليت وجودي من ربي.
***
لكن الله برحمته لم يدعني، بل كان يرسل لي كل حين من ينبهني إلى غفلتي، ويسد علي تلك الأبواب الشيطانية التي فتحها راسل على عقلي وقلبي.
ومن تلك الأبواب أنني بعد أن ألقيت تلك الشبهة في بعض المجالس، قام رجل بكل هدوء، وقال: إن في هذا الإعتراض مغالطة كبيرة لا تتناسب مع فيلسوف مثل برتراند.. لأنه يفترض أن الاله مثله.. أي له مادة مثل مادة الكون، مما يمكن سحب القياس عليها، وهذا غير صحيح.. فالله لا يشبه مخلوقا في شيء..
ولهذا لا يصح أن نخضعه لتصوراتنا، لأنه ليس شبيها بشئ نعرفه حتى نقيسه عليه.. فإذا كان فوق تصوراتنا ومعارفنا، بل فوق قدرات عقولنا مهما تضخمت ملايين المرات، فإن هذا السؤال يعد مستحيلا فى حقه، بل وغير منطقى أيضا.
ذلك أن جميع المخلوقات يصح فى حقها هذا السؤال، لأنها تتحرك وفق قوانين نكاد نعرفها جميعا، ويمكن إخضاعها للتجربة والقياس والحسابات الرياضية، لكن الله ليس خاضعا لكل هذا، لأنه فوق علمنا وتصوراتنا، وما يمكن أن نقترحه على مانعرفه لايمكن اقتراحه على ماهو فوق معارفنا وتصوراتنا.. بل الشئ الوحيد الذى نتأكد منه أنه ليس مشابها لكل مانعرف وما نتوقع معرفته، ولا يمكن أن تسرى عليه تخيلاتنا.
بعد أن أنهى حديثه الهادئ، قام آخر، وقال: وفق أى قانون يمكن أن نسأل هذا السؤال، وهل يمكن للعقل البشرى أن يجعل الله مادة لمعرفته فى ذاته.. إن معنى ذلك هو أن هذا العقل البشرى بلغ من القدرة أن يكون إلها.. ولكن الثابت أن هذا العقل بكل وسائله، وبكل معارفة الحديثة لايزال عاجزا عن تفسير أشيئا كثيرة فى عالم الماديات، ورغم كل معارفه فلا يزال الكون مجهولا بالنسبة له، وهو مازال يطور ويصحح فى معلوماته كل يوم، ومع كل كشف جديد.. فإذا كان العقل ومقاييسه ومعارفه لايمكنه إدراك أغلبية الحقائق المخلوقة، فكيف فى وثبة من الغرور يريد أن يخضع خالقه وخالق معارفه ومقاييسه لأدواته البدائية هذه.. إن المنطق لا يقبل أن يكون الطفل الذى يحبو، ويستطلع الأشياء من حوله قادرا على فهم ما يفهمه الشيخ المجرب العالم.
***
بعد أن قال هذا وغيره بعض ما ذكرته لكم بدأت بعض التشكيكات تتسرب إلى الشبهة التي أودعها في نفسي راسل وغيره من فلاسفة الإلحاد..
لكن الشبهة لم تزل زوالا كليا إلا في ذلك اليوم الذي التقيت فيه ذلك الفيلسوف المسلم الذي راح يخاطب عقلي باللغة التي تتناسب معه، واستطاع أن يضع مشرطه على الورم الذي غرسه راسل في عقلي، وأزاله إزالة كلية.
لقد قال لي، وهو يحاورني: إن ما طرحه أستاذك في الفلسفة مع احترامنا له ولمواقفه الإنسانية وقدراته العلمية والأدبية يتنافى مع بعض القوانين العقلية المهمة التي تتفق العقول على الإذعان لها.. ولذلك اسمح لي أن أناقشه من هذه الزاوية فقط.. لا من زاوية مواقفه الإنسانية التي أحترمها كثيرا.
كان يتكلم بطريقة ممتلئة بالأدب والهدوء، ولذلك لم أملك إلا أن آذن له أن يحدثني..
قال لي ([28]): إن ما ذكره أستاذك المحترم ينطبق عليه ما يطلق عليه الحكماء [التسلسل]، وهو باطل عقلا عند جميع العقلاء.
وقد نصوا على هذا بذكرهم أن عالمنا الذي نعيش فيه غني بمجموعة من الظواهر الطبيعية.. وكلّ ظاهرة إمّا أن تكون علّة أو معلولة، فهي علّة للظاهرة التي تليها، ومعلولةً لظاهرة قبلها.. ولولا وجود العلّة لم يحدث المعلول، وبانعدام العلّة ينعدم المعلول.. وهكذا يتحقّق وجوده بوجودها.
وفي هذه الحالة نحن في العلل التي نشأت بها الظواهر الكونية بين أمرين.. إما أن نصل بها في التسلسل إلى علة نهائية هي العلّة الموجدة للكون.. وهي الله تعالى، وهو الغني بالذات، ويعتبر هو الخالق لهذه السلسلة.
وإما أن نستمر في التسلسل إلى ما لا نهاية له من العلل.. وهذا مستحيل عقلا.
قلت: كيف اعتبرته مستحيلا؟
قال: كيف يمكننا أن نتصوّر مجموعة من الكائنات الحيّة ـ والتي كانت فاقدة للحياة يوماً ما، ثم أصبحت فجأة قادرة عليها ـ أنها أوجدت نفسها من العدم من دون أن يكون هناك طرف خارجي صاحب قدرة مطلقة هو الذي أوجدها؟
ذلك أن كلّ كائن في هذا العالم يشهد بصدق بأنّه لم يكن صانع نفسه، بل يعترف بوجود علة موجدة له.. وجميعهم يشهدون بأنّ وجودهم وحقيقتهم لم تكن من ذات أنفسهم.. إذن من أين أتى وجودهم وخلقهم، وكيف؟
ليس أمامنا إلاّ طريق واحد، وهو الاعتراف بأن كلّ موجود حادث وناتج عن موجود غني بالذّات، وعنده يتوقّف التسلسل، إذ يعتبر هو العلّة الرئيسية لجميع المعلولات، وهو الخالق القدير.
ثم ابتسم، وقال ـ وقد رأى الحيرة في وجهي ـ: إن من يدّعي بأنّ الكائنات قد أوجدت نفسها من العدم دون استعانة بكائن خارجي، يشابه من يدعي بأننا يمكن أن نحصل على عدد صحيح عند اجتماع ما لا نهاية له من الأصفار، أو يمكننا الحصول على الوجود أو الحياة عندما تتراكم ما لا نهاية من العدوم.
عندما قال ذلك، ورآني أهم بالانصراف عنه، وأنا ممتلئ بالحيرة، ربت على كتفي، وقال: لابد لكلّ متفكّر عاقل أن يعترف بأنّ وجود هذه المخلوقات قد انحصر تحقّقها بكائن حي غني على الإطلاق، إذ يعتبر نهاية للتسلسل، ومنبعاً للكائنات جميعاً.. وأنه هو العلّة المطلقة.. وما دام كذلك، فهو ليس بمعلول.. فيستحيل على العلة المطلقة أن تكون معلولة.. ذلك أن وجودها ينبع من نفسها، وهي غير محتاجة إلى سواها.
ثم قال لي: إن قدر لك أن تلتقي أستاذك في الفلسفة، فوجه إليه نفس السؤال.. قل له: (إذا كان كلّ موجود معلول لعلّة، والعلّة له هي المادّة، فما هي إذن العلّة الموجدة للمادة؟)
***
طبعا.. لم يقدر لي أن ألتقي بأستاذي برتراند.. ولكني التقيت بالكثير من أمثاله، وكلهم راح يتلاعب بالألفاظ ليصرفني عن الحقيقة.. لكن زخرف الألفاظ لم يعد يتلاعب بعقلي أو يتحكم فيه خاصة وأنه قيض لي بعد ذلك أن ألتقي بالكثير من الباحثين الصادقين الذين وضحوا لي الأمر بكل وسائل التوضيح، حتى صرت أرى وجود الله أكثر وضوحا من وجود كل شيء.. لأن كل شيء منه ينبع، وإليه يعود.
ومن أولئك الباحثين الصادقين رجل سمعته يتحدث في جمع من الملاحدة، يخاطبهم بقوله: من كان لديه أي شبهة بعد هذا في وجود الله.. فليطرحها، وسأجيبه عنها بإذن الله.
حينها قام أحدهم، وكان من زملائي الذين تتلمذوا على برتراند راسل وغيره من الفلاسفة، وقال([29]): لا شك أنكم أيها المؤمنون بوجود إله، انطلقتم في بحثكم عن الله من السؤال عن علة وجود المادة الأولى للكون.. ثم أجبتم أنفسكم بأن علة وجود المادة الأولى للكون هي الله، ونحن نسألكم بنفس ما سألتم به: وما علة وجود الله؟.. لاشك أنكم ستحتالون علينا بأن الله غير معلول الوجود.. وإن كان الأمر كذلك، فلماذا توقفون مبدأ السببية وتعطلونه عندما يتعلق الأمر بالله؟.. وهنا نجيبكم: ولماذا لا نفترض أن المادة الأولى غير معلولة الوجود؟! وبذلك يُحسم النقاش بيننا وبينكم.. وطبعا يحسم النقاش لصالحنا.
صفق الكثير من الحضور على كلامه، فقال الرجل المؤمن بهدوء: هل انتهيت من طرح إشكالك، لأجيبك عليه؟
قال الملحد: بل أنهيت به كل ما يمكن أن تقوله من حجج.. فهل يمكنك أن تضيف بعد هذا شيئا، وقد ألجأتك إلى هذه المضايق الحرجة؟
قال المؤمن: لا بأس دعني أجيبك بما أراه.. وليس عليك أن تقتنع بما أقول.. إننا معشر المؤمنين نرى بمقدمات عقلية كثيرة أن الأصل في الخالق الوجودُ؛ إذ لو كان الأصل فيه العدم لَمَا أوجد الكون؛ ففاقد الشيء لا يعطيه، وإذا كان وجود الله هو الأصل، فهذا يستلزم أنه لا يحتاج إلى موجِدٍ يوجده، ولا علة لوجوده؛ إذ لا يُبحَث عن علةِ وجودِ ما الأصلُ فيه الوجود!
ولهذا، فإن قول القائل: إن خالق الكون بحاجة إلى خالق، رغم أنه خالق، قريب من قول القائل: إن المِلح يحتاج إلى ملح كي يكون مالحًا رغم أنه مالح.. وإن السكر يحتاج إلى سكر حتى يكون حلوًا رغم أنه سكر.. وإن الأحمر يحتاج إلى اللون الأحمر كي يكون أحمرَ رغم أنه أحمر.
وهكذا، فإن قول القائل: (من خلق الله؟) يساوي قوله: ما الذي سبق الشيء الذي لا شيء قبله؟.. ويساوي قوله: ما بداية الشيء الذي لا بداية له؟.. ويساوي قوله: ما بداية وجود الشيء الذي لا بداية لوجوده؟.. وهذه الأقوال جميعا في غاية السخف والسقوط والاستحالة.
قال الملحد: إن قولك بأن الله لا علة لوجوده، يستلزم أن الله توقف في وجوده على نفسه؛ أي: إن الله هو الذي أوجد نفسه بنفسه، وهذا يستلزم أن الله علة لنفسه.
ابتسم المؤمن، وقال: إن كلامك هذا يمكن قبوله لو كان الله ممكن الوجود؛ إذ ممكن الوجود هو ما كان حادثًا بعد عدم؛ أي: وجوده له بداية، فيتصور العقل وجوده وعدم وجوده، فيمكن أن يوجد، ويمكن ألا يوجد، وهذا الحادث بعد عدم لا بد له من موجد يوجده، ومحدثٍ يُحدِثه.. ولكن الله – عندنا معشر المؤمنين – واجب الوجود؛ أي أن وجوده ذاتي لا ينفك عنه، فلم يكُنْ في زمن من الأزمان بمفتقرٍ إلى الوجود.. ولم يكن في زمن من الأزمان معدومًا حتى يحتاج إلى من يخرجه من العدم إلى حَيِّز الوجود.. سبحانه، فهو خالق الزمان والمكان، وعليه فإن الله لا يصدُقُ عليه أنه مخلوق ومعلول حتى نسأل عن خالقه وعلته، أو أن نقول بأنه خلَق نفسه بنفسه.
قال الملحد: فلماذا توقفون مبدأ السببية وتعطلونه عندما يتعلق الأمر بالله؟
قال المؤمن: جواب ذلك بسيط، وهو أن الأصل في الخالق الوجود؛ إذ لو كان الأصل فيه العدم لما أوجد الكون؛ لأن فاقد الشيء الذي لا يملِكه ولا يملِك سببًا لإعطائه لا يعطيه، وإذا كان الأصل في الخالق الوجود، فلا يصح أن نسأل عن سبب وجوده.
هذا أولا.. ثانيا.. إن الله ـ كما تدل عليه الأدلة العقلية الكثيرة ـ أزليٌّ؛ فوجوده ذاتي لا ينفك عنه، فلا يصح أن نسأل عن سبب وجوده، ووجوده ليس له بداية.
ثالثا.. إن الله له الكمال المطلق؛ إذ هوواهبُ الكمال لمخلوقاته؛ فهو أحق بالاتصاف به من الموهوب، وكل كمالٍ ثبت للمخلوق الممكن، فإنه يكون ثابتًا للخالق من باب أَوْلى.. وإذا كان الكمال المطلق لله، والاحتياج يناقض الكمال المطلق، فالكامل المطلَق لا يحتاج إلى غيره، وعليه فالخالق لا يحتاج إلى غيره، وإذا لم يحتَجْ إلى غيره فهو غير معلول، وإذا كان غير معلول فلا يصح أن نسأل عن علته.
رابعا.. إن السؤال عن سبب وجود شيء يصح فيما كان الأصل فيه الحدوث، وأنه لم يكن موجودًا ثم أصبح موجودًا بعد عدم، والله قديم وليس حادثًا.
خامسا.. لو قلنا بأن كلَّ خالق له مَن خلَقه؛ أي: خالق الكون له مَن خلقه، ومَن خلَق خالقَ الكون له مَن خلَقه، ومَن خلَق خالقَ خالقِ الكون له مَن خلَقه، وهكذا إلى ما لا نهاية، فإن هذا يستلزم أنْ لا خالقَ للكون، وهذا باطل لوجود الكون؛ فوجود الكون يستلزم عدم تسلسل الفاعلين إلى ما لا نهاية؛ إذ لا بد أن تصل سلسلة الفاعلين إلى علة غير معلولة، ولا بد مِن سبب تنتهي إليه الأسباب، وليس هناك أسباب لا تنتهي إلى شيء، وإلا لم يكن هناك شيء؛ أي: إن التسلسل في الفاعلين ممنوع، بل لا بد أن نصل إلى نهاية، وهذه النهاية في الفاعلين أو المؤثرين هي إلى الله تعالى.. وهذا ما نص عليه كتابنا المقدس في قوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42].. أي أن كل شيء ينتهي إليه.
ضحك الملحد بصوت عال، وقال: ألا ترون غباء المؤمنين.. نحن نطلب منه الدليل على وجود الله.. وهو يذكر لنا كلام من يصفه بالإله ليستدل لنا به.
قال المؤمن: أنا لم أذكر لك كلام ربي كدليل عليه، وإنما ذكرته لك لأنه يحوي الدليل.. فالله أخبر أن نهاية كل شيء إليه، كما أن بداية كل شيء منه.
لم يجد الملحد ما يقول، فقال المؤمن، موجها كلامه للحضور: لا شك أن فيكم من خدم في يوم من الأيام الخدمة العسكرية.
قالوا: كلنا فعل ذلك.. فهل لذلك علاقة بوجود الله؟
قال: لو أنكم تدبرتم نظام الجندية وقوانينها لوصلتم إلى الله بسهولة.
قالوا: كيف ذلك؟
قال: ألستم ترون أن هناك مراتب في القيادة في النظام العسكري، حتى أنه لا يطلق جندي رصاصة إلا بعد أمر القائد له بذلك؟
قالوا: أجل.. فهل ترى في ذلك حرجا؟
قال: فلنفرض أن هذا النظام لا نهاية لتسلسله.. أي أن الجندي قبل أن يرمي الرصاصة يستأذن من المجند الذي فوقه مرتبة، وهو كذلك لا يعطي الإذن حتى يستأذن ممن فوقه، وهكذا إلى ما لا نهاية.. أجيبوني.. هل يمكن في هذه الحالة أن يطلق الجندي النار؟
سكت الجميع، لكن بعض الملاحدة قال: لا يمكن أن يطلق الرصاصة في هذه الحالة، لأنه لن يصل إلى الجندي الذي سيعطيه الإذن بإطلاق النار.
قال المؤمن: صدقت.. إذن لابد من انتهاء السلسلة إلى شخص لا يوجد فوقه أحد ليعطيه الإذن بإطلاق النار، حينها ستنطلق الرصاصة.. وبدون هذا الشخص، ومهما كثُر عدد الأشخاص، لن تنطلق الرصاصة؛ لأنهم حينها كالأصفار إذا وضعتها بجانب بعضها البعض، فمهما كثرت وبلغت حدًّا لا نهاية له، فستظل لا تساوي شيئًا، إلا أن يوضع قبلها رقم: 1 فأكثر.. حينها يصبح لها وجود واعتبار.
تأثر الكثير من الملاحدة بقوله هذا إلا رأسهم، فقد راح يشاغب ويجادل، ويسخر، وبما أننا في محل {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} [الطور: 23]، فلا يصح أن أذكر لكم ما قاله.
بعد أن انتهى الرجل الأول من حديثه، قام آخر، وقال: أظن أن الدور وصل إلي، وسأحدثكم ـ أنا العبد الضعيف ـ عن فضل الله علي بالهداية، وإخراجي من ظلمات الجهل والغواية، وكيف أنقذني ربي من جحيم الملاحدة.. وزج بي في روضات جنات المؤمنين.
قالوا جميعا: يسرنا ذلك.. فهلم حدثنا بنعمة الله عليك.
قال([30]): أذكر جيدا أنه في ذلك الحين كنت تلميذا وفيا للكثير من الفلاسفة والعلماء الذين كانوا يصيحون في عقلي كل حين: إن كل ما تراه من أنواع الجمال والنظام، والإبداع والإتقان ليس سوى نتاج خلق إلهي محكم، وإنما هو ثمرة لصدفة([31]) عشوائية تنقلت طورا فطورا إلى أن تحولت إلى العالم الذي نراه بأحيائه وجماداته.
وكان أحدهم، ويدعى [توماس هنري هاكسلي([32])]، والذي كنا ندعوه (كلب داروين) نتيجة إخلاصه الشديد لدارون ونظرية التطور يقول لنا كل حين: لو تركنا ستة قرود تضرب على آلة كاتبة تحوي 26 حرفا، و4 رموز، ومسافات، وزمنا طويلا، فإنها يمكنها أن أن تكتب الاعمال الكاملة لويليام شكسبير..
وقد حاولنا تجربة ذلك على مجموعة من القردة، وبعد تدريبها على الضرب على لوحة المفاتيح، وبعد أن تركناها مدة طويلة، لم تتمكن من كتابة كلمة واحدة كاملة ([33]).
وعندما أخبرنا بعض أصحابنا من الملاحدة بذلك راح يجري تعديلا على النظرية، فاستبدلها بنظرية جديدة، وهي [نظرية القردة اللا متناهية]
وقال لنا آخر: لا نحتاج إلى ذلك.. فلو جلس ستة من القردة على آلات كاتبة، وظلت تضرب على حروفها لملايين السنين، فلا نستبعد أبدا أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير..
وقال لنا آخر: دعونا من القردة.. فالحياة نشأت صدفة عبر سلسلة طويلة من التطور الكيميائي ما قبل الحيوي استمر لملايين السنين، ابتداءً من الكيميائيات البسيطة، مرورًا بالجزيئات المتعددة، والجزيئات المتعددة الناسخة ذاتيًّا داخلة بدورات تحفيزية، وصولًا إلى كائنات [ما قبل بكتيرية]، وأخيرًا وصولًا إلى بكتريا بسيطة.
وصور لنا آخر ذلك بدقة، وكأنه كان شاهد عيان لما حصل بالضبط، أو كأنه نصب كاميرات على الكون قبل تشكله، فقال: إن الكون الذي نراه بهذا الانتظام لم يتكون إلا صدفة نتيجة سلسلة من العلل المادية غير العاقلة وغير المدركة.. ونتيجة لتوافر الظروف والعلل المادية لنشأة الكون نشأ الكون دون حاجة لقوة عاقلة مريدة أرادت إنشاءه على هذا الشكل.
وهكذا ظللت مدة طويلة أرتع في أمثال هذه المراعي إلى أن تحولت الحقائق عندي إلى مغالطات، وانطمست فطرتي انطماسا تاما، إلى أن من الله علي بذلك اليوم الذي التقيت فيه بعض العلماء العقلاء ممن لم تتدنس فطرهم بأرجاس الهوى.. فقد كان أول من بذر في عقلي بذور التشكيك في الصدفة وأصحابها.
التقيته في متحف طبيعي كان قد وضع فيه الكثير من الآثار القديمة، وكان بجانبها بعض الجماجم وغيرها..
وكان مما شد انتباهي آلة قديمة على شكل اصطرلاب، وفيها رسوم ذات ألوان زاهية لم يؤثر فيها التاريخ الطويل.. فقلت له: إلى أي حضارة تعود هذه التحفة الأثرية الثمينة؟
فقال لي، وكان يعرفني، ويعرف مذهبي: هذه تحفة طبيعية.. وجدت هكذا في الطبيعة، وليست ثمرة لأي حضارة.. ألا ترانا وضعناها بجانب الجماجم وغيرها؟
قلت: أتقصد أن هذه التحفة وجدت هكذا صدفة؟
قال: أجل.. ما دامت الجماجم التي تراها، والتي هي أكثر إبداعا وإتقانا منها وجدت صدفة.. فما المانع أن توجد هذه التحفة صدفة؟
لم أستسغ ما قاله، بل رحت في نفسي أرميه بالخرف.. وقلت له مختبرا: أتظن أن أهرامات المصريين أيضا وجدت صدفة؟
قال: أليس من الممكن أن تهب الزوابع والعواصف وتتجمع الأحجار الكثيرة لتتشكل منها تلك الأهرامات العجيبة؟
قلت: إن ما تقوله محال، ولست أراك إلا صاحب خرافة، ولا علاقة لك بالعلم؟
قال: كيف تقول لي هذا، وأنا العالم الذي أدير هذا المتحف.. وكل ما تراه من تحف هنا من اكتشافي.. وكل ما سجل من تاريخ حولها هو من كتابتي؟
قلت: لكن كلامك يتناقض مع ما تدعيه.
قال: أخبرني أنت عن هذه الجماجم كيف وجدت.. وأنا حينها يمكنني أن أعدل من موقفي.. فأنا مطالب أن أخاطب الناس على قدر عقولهم.
قلت: الذي أعرفه أن هذه الجماجم تشكلت منذ ملايين السنين نتيجة حركة تطورية للكائنات الحية بدأت عن طريق الصدفة..
قال: ألم يحتج التصميم العجيب لها لأي عقل مدبر أو إرادة حكيم أو صانع خبير؟
قلت: لا.. هي لم تحتج لذلك كله.. ولماذا تحتاج ما دامت قوانين الصدفة موجودة؟
قال: دعنا من مصدرها، وأخبرنا عن حقيقتها، فهل هي أكثر إتقانا من هذه التحف التي أعجبتك أم أقل إتقانا منها؟
قلت: بل هي أقل إتقانا بكثير.. لأن الذي صمم هذه التحف ليس سوى جمجمة من هذه الجماجم.
قال: ألا ترى أنك تتناقض مع نفسك.. فتزعم أن الجمجمة الممتلئة بالغرابة وجدت هكذا صدفة، بينما اختراع بسيط من اختراعاتها تراه من المحال أن ينشأ صدفة..
قال ذلك، ثم انصرف عني، وتركني لحيرتي، بعد أن بذر أول بذور التشكيك في نفسي.
***
بعدها التقيت ببعض الأصدقاء ممن تلمذ معي على [كلب دارون([34])]، وأخبرته عما حصل لي مع مدير المتحف، فقال لي: صدق.. فمن الصعب أن نقبل الصدفة في أمثال تلك المحال.. يمكننا قبول الصدفة فقط باعتبارها تصف كيفية الحدث.. لكننا لا يمكن قبولها لنفي وجود فاعل للحدث.
قلت: لم أفهم.. ما الذي تقصده؟
قال: سأضرب لك مثالا يوضح لك ذلك.. عندما اكتشف أهالي إحدى قرى المنوفية بمصر عن طريق الصدفة مدخل مقبرة فرعونية أثناء إجراء حفائر لتشييد مسجد، وقاموا بإبلاغ مسؤولي المجلس الأعلى للآثار، الذين أوفدوا لجنة فنية وأثرية متخصصة، وتبين لهم ـ بعد البحث والتنقيب ـ أنه من الاكتشافات الأثرية المهمة، وأنه يعود إلى العصر الفرعوني المتأخر للدولة الفرعونية القديمة.
فهنا عبرنا عن الاكتشاف بكونه صدفة.. لكنا لم نعبر عن المكتشَف بأن حصوله كان صدفة، وإنما رحنا نبحث بجد عن حقيقته وتاريخه والتفاصيل المرتبطة به، ولو اعتبرناه صدفة لما فعلنا ذلك.
وهكذا عندما نسمع أن أحد القوانين الفيزيائية اكتشف صدفة.. مثل اكتشاف أرشميدس لقانون الطفو، واكتشاف نيوتن للجاذبية.. لا نفهم من ذلك أن القانون ليس له مكتشِف.. وإنما طريقة الاكتشاف فقط كانت عن طريق الصدفة.
وهكذا عندما نسمع أن شيئًا من الأشياء اخترع صدفة.. مثل اختراع هانز ليبرش للنظارة الطبية، واختراع جون واكر لأعواد الثقاب، واختراع ليبارون سبنسر للميكروويف.. لا نفهم من ذلك أن هذا الشيء ليس له مخترِع.
وهكذا عندما نسمع أن جريمة من الجرائم اكتشفت صدفة لا نفهم من ذلك أن هذه الجريمة ليس لها مرتكب.
قلت: أتعني بذلك أن اعتبار أصحابنا، وخصوصا [كلب دارون] لنشأة الكون بكونها ليست دليلاً على وجود خالق؛ لأن الكون نشأ صدفة نتيجة سلسلة من التفاعلات الطويلة، دون تنظيم أو تخطيط سابق.. مقولة غير صحيحة؟
قال: إذا اعتبرنا ذلك.. فلم لا نعممه في كل شيء؟.. لم نقصره فقط لإزالة الإيمان بالخالق؟.. لم لا نطبقه على كل الأشياء حتى لا نقع في المكاييل المزدوجة؟
***
لم أدر ما أقول له، لكني تذكرت حينها ذلك الملحد الذي كان يصيح كل حين بأن الكون نشأ صدفة، وأنه لا يحتاج إلى خالق، ولا إلى مدبر..
تذكرت [كارل ساغان]، وروايته [اتصال] التي حولتها [هوليود] إلى فلم سينمائي يحكي قصة عالِمة فلك تدعى [إيلي] كانت تدرس مع زملائها في مركز أبحاث [سيتي] إشارات واردة من أعماق الفضاء، وتبين من خلال البحث أنها تتمتع بصفتي التفرد والتعقيد، وذلك ما جعل أعضاء فريق البحث يؤكد أنها يستحيل أن تكون قد نشأت بالصدفة، ولذا يصيحون: (إنها ليست تشويشا كونيا.. إنها تحمل نظاما).. ثم تكشف أحداث الفيلم عن ورود تلك الرسائل بالفعل من عوالم أخرى.
فالرواية، والفيلم الذي مثلها يؤكد أن رسالة معقدة واحدة كانت كافية لإثبات وجود مرسل ذكي، لكن هذا الرجل نفسه وملايين الملحدين لم يستخدموا نفس هذا المنطق عندما يرون تعقيد الحمض النووي..بل يعتبرونه نشأ عن صدفة عشوائية.
بعد أن فارقت صاحبي، وما أثاره في من شكوك جديدة، التقيت مسلما ربت على كتفي، وقال بهدوء، وهو يبتسم([35]): ألا ترى من الغرابة أن بعض الناس ممن يدعون العقل والحكمة والعلم يرى حجرين موضوعين في نظام معين أو قُطّعا لغرض معين، فيستنتج أن هذا من عمل إنسان ما في الزمان القديم.. لكنه إذا وجد بالقرب من الحجر جمجمة بشرية أكثر كمالاً وأكثر تعقيداً بدرجة لا تقارن لن يفكر في أنها من صنع كائن واع، بل ينظر إليها باعتبارها نشأت بذاتها وصدفة.
أردت أن أجيبه، فأكمل دون أن يتلتف إلي قائلا: وهكذا ترانا نقيم مشاريع عملاقة للبحث عن مؤشرات لوجود كائنات حية في كواكب أخرى، وذلك برصد الإشارات اللاسلكية والميكروية القادمة من أعماق الكون، أملا في أن تحمل رسائل مشفرة تختلف عن النبضات والموجات الكونية العادية.. وهذا يدل على أننا نعتقد فعلا بأن العوالم الأخرى لا يجب أن تنسحب عليها مبادئنا العقلية.
قال ذلك، ثم انصرف عني، وقد بذر بذورا تشكيكية جديدة، كان لها دورها في سقي شجرة الإيمان في عقلي وقلبي.
***
التقيت بعدها عالما آخر، لست أدري من أي دين كان، ولا على أي مذهب، قال لي بكل هدوء: اسمعني يا تلميذ [كلب دارون] الوفي هذه الكلمة التي قد لا تنفعك اليوم، ولكن لا شك أنها ستنفعك غدا.. إذا سلمنا جدلا بأن الكون نشأ صدفة نتيجة سلسلة من التفاعلات الطويلة دون تنظيم أو تخطيط سابق، فإن هذا لا ينفي وجود خالق للكون، ومكون له؛ لأن الصدفة ليست فاعلة، ولكنها صفة للفعل الصادر من الفاعل، والفعل لا يوجد بدون فاعل.
قلت: لم أفهم.. ما الذي تقصد؟
قال: لو أن الكون نشأ نتيجة سلسلة من التفاعلات الطويلة دون تنظيم أو تخطيط سابق، فإنه لا بد من وجود موجِد للكون هو الذي أنشأ المادة التي كونت الكون.. وهو الذي جعل جزيئاتها تتفاعل.. وهو الذي أعطاها القابلية للتفاعل والتشكل.. وهذه السلسلة من التفاعلات لها شروط معينة للحدوث.. ولذلك تحتاج إلى من يهيئ لها الشروط المعينة لحدوثها.. وتحتاج إلى من يحافظ عليها كي تعطي نتائجها.. ولذلك فإنه حتى لو سلمنا بالصدفة، فإنها لا تلغي حاجة الكون إلى مكون، والمخلوق إلى خالق.
قلت: ولكن لم لا يقال بالصدفة المحضة.. وهي لا تحتاج لكل ما ذكرت؟
قال: إن قول ذلك ممتلئ بالمحالات العقلية.. ذلك أنه يقتضي أن تكون خصائص مادة الكون هي التي أنشأته.
قلت: أجل.. لم لا نقول بذلك؟.. وبذلك لن يحتاج الكون إلى قوة خارجية.
قال: إن هذا يعني أن الكون أنشأ نفسه بنفسه.. أي أنه علة لنفسه.
قلت: فما المانع من ذلك؟
قال: إن ذلك يقتضي أن يكون الكون سابقًا على نفسه في الوجود من حيث هو علة، ومتأخرًا على نفسه في الوجود من حيث هو معلول.. فهل يمكن لعقلك أن يقبل كل هذا التناقض؟
***
لم أدر ما أجيبه.. فقد كان لحجته من القوة ما لم أملك معه أي رد.. لكني ذهبت إلى بعض كلاب دارون الأوفياء الذين لم يفعلوا سوى أن أضافوا قرودا جديدة لتتعاون جميعا على كتابة المجموعة الكاملة لأعمال شكسبير.
التقيت بعدها بعض المخترعين ممن كانت لهم اليد الطولى في صناعة الكثير من الأجهزة والأدوات، وسألته عن دور الصدفة في اختراعاته، فقال لي: من واقع خبرتي في تخصصي.. فإن الصدفة وحدها أصغر من أن تفسر شيئا.. ذلك أن الاختراعات التي يذكر الناس أنها حصلت لي صدفة.. كنت أنا الذي وفرت لها كل وسائل الظهور إلى أن ظهرت بالشكل الذي هو عليه.. ولذلك لا أستطيع أن أعتبر تلك الاختراعات نشأت صدفة.. وإنما نشأت بسببي، وبسبب الظروف التي وفرتها.
قلت: وما تقول في نشأة الكون صدفة؟
قال: من واقع تجربتي مع اختراعاتي البسيطة، مقارنة بالأجهزة المعقدة الموجودة في الكون، فإن نشأة الكون صدفة مستحيل.. ذلك أن تكوين هذا الكون من ذرات على النحو الذي هو عليه يستلزم أن تكون هذه الذرات قد صممت وهيئت، بحيث إنها إذا اجتمعت بطريقة معينة يتكون منها شيء معين في الكون.. مثلاً تتجمع الذرات بطريقة معينة تكون ماءً.. وبطريقة أخرى تكون أكسجين.. وبطريقة أخرى تكون نيتروجين.. وبطريقة أخرى تكون ذهبًا، وهكذا، فلا بد من وجود مصمم لها ومهيئ لها قبل وجودها وقبل نشأة الكون.
قلت: ما تعني بذلك؟
قال: إن فروع العلم كافة تثبت أن هنالك نظامًا معجزًا يسود هذا الكون، أساسه القوانين والسنن الكونية الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل.. فمن الذي سن هذه القوانين وأودعها كل ذرة من ذرات الوجود، بل في كل ما هو دون الذرة عند نشأتها الأولى؟ ومن الذي خلق كل ذلك النظام والتوافق والانسجام؟ من الذي صمم فأبدع وقدَّر فأحسن التقدير؟ هل خلق كل ذلك من غير خالق أم هم الخالقون؟ إن النظام والقانون وذلك الإبداع الذي نلمسه في الكون حيثما اتجهت أبصارنا يدل على أن هناك عليما خبيرا وراء كل ذلك([36]).
قلت: ولكن أصحابنا يذكرون أن نشأة الحياة ليست دليلاً على وجود خالق؛ لأنها نشأت صدفة عبر سلسلة طويلة من التطورات الكيميائية ما قبل الحيوية استمر لملايين السنين ابتداءً من الكيميائيات البسيطة، مرورًا بالجزيئات المتعددة، والجزيئات المتعددة الناسخة ذاتيًّا داخلة بدورات تحفيزية، وصولًا إلى كائنات ما قبل بكتيرية، وأخيرًا وصولًا إلى بكتريا بسيطة.
قال: كلامهم هذا لا يمكن أن يصح في موازين العقول، بل هو ينم عن جهلهم بمفهوم الصدفة.. فحتى لو سلمنا جدلا أن الحياة نشأت صدفة نتيجة سلسلة من التفاعلات، فهذا لا ينفي وجود خالق للحياة؛ لأن الصدفة ليست فاعلة، ولكنها صفة للفعل الصادر من الفاعل، والفعل لا يوجد بدون فاعل.
قلت: ولكن نفرا من أصحابي وصفوا الكثير من المشاهد عن نشأة الحياة صدفة.
قال: أعرفهم.. إنهم تكلموا عن كيفية نشأة الحياة ـ بحسب أوهامهم ـ وليس لماذا نشأت الحياة.. ومن الذي أنشأها؟.. ومن الذي جعلها تنشأ بتلك الطريقة؟.. وعذرهم الوحيد الذي قد نلتمسه لهم هو أن العلم يبحث عن الفعل، ولا يبحث عن الفاعل.. ويبحث عن الحدث، ولا يبحث عن المحدث.
ولهذا، فإنه لو كانت الحياة قد نشأت ـ كما يذكرون ـ نتيجة سلسلة من التفاعلات، فإنه لا بد من وجود موجِد للمواد التي تتفاعل.. ولا بد من وجود من أعطى هذه المواد القابلية للتفاعل.. ووفر لها الشروط التي تحتاجها للتفاعل..
وهكذا لو كانت الحياة قد تطورت من مادة غير حية، فمن الذي طور هذه المادة؟.. إذ أي تطور لا بد له من مطوِّر.
قلت: هم يذكرون أن المادة هي التي طورت نفسها عبر ملايين السنين.
قال: إن هذا يستلزم أن الأدنى يتطور بنفسه إلى الأعلى.. والتطور الذاتي إلى الأكمل دون تدبير حكيم عليم قدير خالق، أمرٌ مستحيل عقلًا؛ إذ الناقص لا ينتج الكامل في خطةٍ ثابتة، وهو بمثابة إنتاج العدم للوجود.. بالإضافة إلى ذلك، فإنه يلزم من هذا قبول تحول الناقص إلى الكامل بنفسه، وهذا نظير وجود الشيء من العدم الكلي المحض([37]).
***
لم أدر ما أجيبه.. لكني ذهبت إلى بعض أصدقائي، وحدثتهم بما حصل لي مع الرجل، فلم يجيبوا عن إشكالاتي، وإنما علموني حيلا جديدة، وكأن مشكلتي لم تكن في عقلي الذي صار لا يستوعب الصدفة، أو يتقبلها، وإنما في الانتصار على أولئك الذين يلقونني كل حين من الحجج ما لا أملك معه أي رد.
بعدها التقيت رجلا آخر لا يقل عقلا عن سابقيه، قال لي، وقد رأى حيرتي: خذ مني هذه الحكمة.. وتأمل فيها.. فعساها تنفعك.. إن (احتمال وقوع الحدث لا يستلزم وقوعه)
قلت: ما تعني؟
قال: لو كان عندك قطعة معدنية بها وجه صورة، ووجه كتابة عندما نلقيها على الأرض، فاحتمال وقوع وجه الصورة في كل مرة واحد من اثنين.. أليس كذلك؟
قلت: بلى.. هذا ما تقوله قوانين الاحتمالات.
قال: ولكن مع ذلك يمكن أن تلقي القطعة المعدنية عشر مرات، ولا تحصل على وجه الصورة.. بل يمكن أن تلقيها عشرين مرة ولا تحصل على وجه الصورة.
قلت: ذلك صحيح..
قال: فلذلك لا تستسلم لمغالطاتهم في الحساب، وفي تكثير القردة، وفي تطويل الزمان.. فالاحتمالية الرياضية لا تعني قبول الحدث للخروج إلى حيز الواقع دون أن تتوافر له المقدمات التي تنسجم مع القوانين الموجدة له([38]).
قلت: هلا ضربت لي مثالا يوضح لي ذلك.
قال: إن قال لك طالب لا يراجع دروسه: إن احتمال نجاحي هو بنسبة 50 بالمائة، ألست تقول له: إن النجاح له أسبابه.. وليس معنى احتمالية نجاحك في الامتحان إمكان أن تنجح دون مراجعة؛ فمن جد وجد، ومن زرع حصد.
قلت: صدقت في ذلك.. ولكن من أساتذتي من لقنني أن أقول لك.. إذا كان هناك احتمال – ولو ضئيلاً – في أن تنشأ الحياة من المادة صدفة بلا خالق عبر ملايين السنين، فمن الممكن أن تنشأ الحياة من المادة صدفة عبر تلك المدة الطويلة.. وفي ظل وجود الكثير من الوقت فإن المستحيل يصبح ممكنًا.. والممكن يصبح من المحتمل.. والمحتمل قد يصبح مؤكدًا.. وما على المرء إلا الانتظار، والوقت نفسه ينفذ المعجزات.
ابتسم، وقال: إن هذا القول يستلزم أن المادة التي لا حياة فيها يمكن أن تعطي الحياة لغيرها، وهذا باطل مستحيل؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.. فلا يعطي الشيء إلا من يملِكه ويملك أسبابه.. وبما أن المادة تفتقد الحياة، فكيف تهب الحياة لغيرها؟.. وبما أن الحياة شيء غير مادي، فكيف تكون ناتجة من شيء مادي؟
ألا ترى أن كلام هؤلاء يستلزم قبول تحول الناقص إلى الكامل بنفسه، وهذا لا يختلف عن دعوى وجود الشيء من العدم الكلي المحض([39]).
قلت: ولكنك نسيت عنصر الزمن.. فله دوره الكبير في تحقيق المعجزات.
قال: الوقت عامل هدم لا عامل بناء.. فالكائنات من إنسان وحيوان ونبات وأسماك وطيور وحشرات كلها تهرَمُ وتموت بمرور الوقت.. والجمادات من بيوت وقصور تفسُدُ وتبلى بمرور الوقت.. وإذا تركت طعامًا أو لحمًا تجده يفسد بعد مدة معينة.. حتى النجوم فإنها بمرور الوقت تفقد وقودها من غاز الهيدروجين الذي يزودها بالطاقة.. أضِفْ إلى ذلك كله فإن الشيء الممكن قد يصير مستحيلاً بمرور الوقت.
لم أجد ما أرد عليه، فقد نفذ كل ما لقنني إياه أصدقائي من أسلحة المواجهة، ولما رأى صمتي، قال: أضف إلى ما ذكرت لك هذه القاعدة الذهبية التي تمسح عن عقلك كل فيروسات الصدفة.. إن [تكرار الحدث يقلل من احتمالية الصدفة]
قلت: ما تعني بذلك؟
قال: أنت ترى الباحثين عندما يرون حادثة تتكرر بنفس النمط، فإن أول ما يستبعدونه هو الصدفة، ولهذا يبحثون عن الأسباب الحقيقية للحادثة.. فالصدفة لا تکون أکثرية أو دائمية في الحدوث، بل عشوائية، لا قصد فيها ولا ترتيب، ولا يمكن التنبؤ بها قبل حدوثها.
قلت: فهلا ضربت لي مثالا على ذلك.
قال: لو أنك وجدت حادثة من الحوادث تتكرر من حين لآخر في نفس المكان، وبنفس النمط، لا شك أنك ستستبعد الصدفة، وتبحث عن سبب وراء ذلك، وهذا السبب ربما يكون خللاً ما في هذا المكان، أو شخصًا معينًا يتسبب في ذلك.
قلت: ذلك صحيح.
قال: ومثل ذلك ما لو رسب طلاب مدرسة معينة في امتحان معين دون باقي المدارس، لا شك أنك ستستبعد الصدفة، وتبحث عن سبب وراء ذلك، ربما يكون خللاً في المنظومة التعليمية، أو إهمال أُسَرِ الطلاب لأبنائهم.
قلت: ذلك صحيح.. وكل الدراسات الميدانية تنطلق من هذا لتصل إلى النتائج العلمية التي تعالج المشكلة.
قال: وهكذا لو أن شخصا كان يسكن في شقة وحيدًا، يذهب لعمله صباحًا ويأتي ليلاً، لكنه عندما عاد في مرة من المرات وجد نافذة حجرة النوم مفتوحة، رغم أنه يغلق جميع نوافذ الشقة قبل خروجه منها، فإنه يشك في البدء بكونه نسي، لكن إن تكرر هذا الأمر، فلا شك أنه سيستبعد الصدفة، ويبحث عن سبب وراء ذلك، ويفكر في أن شخصًا ما يتسلل إلى شقته.
قلت: ذلك صحيح.. وربما أكون أنا ذلك الشخص، فقد حصل لي بعض ما ذكرت.
عندما قلت له هذا، قرأ لي من القرآن الكريم قوله تعالى: { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، ثم انصرف عني، وتركني لأفكاري التي صارت أقرب ما تكون إلى تلمس الحقيقة المجردة من أي وقت مضى.
***
لكني عندما ذهبت إلى أصدقائي وأساتذتي من الملاحدة راحوا يقولون لي: لا تلتفت لكلام أولئك الخرافيين.. فمادة الكون كانت موجودة، ثم انفجرت وتباعدت أجزاؤها وتناثرت، وفي اللحظات الأولى من الانفجار الهائل ارتفعت درجة الحرارة إلى عدة تريليونات، حيث كونت فيها أجزاء الذرات، ومن هذه الأجزاء كونت الذرات، وهي ذرات الهيدروجين والهليوم، ومن هذه الذرات تألَّف الغبار الكوني الذي نشأت منه المجرات فيما بعد، ثم تكونت النجوم والكواكب، وما زالت تتكون حتى وصل الكون إلى ما نراه عليه اليوم، وكل هذا صدفة دون تدخُّل قوى عاقلة مريدة.
وبعد أن غادرتهم، رحت إلى بعض أصدقائي من الفيزيائيين، وطرحت عليه المشكلة، فقال لي: إن ما ذكروه من الصدفة المجردة يتنافى مع أول قانون من قوانين الفيزياء، وهو أن الجسم الساكن يبقى ساكنًا ما لم تؤثر عليه قوة خارجية فتحركه، والجسم المتحرك بسرعة ثابتة في خط مستقيم يبقى على هذه الحالة ما لم تؤثر عليه قوة خارجية فتغير الحالة الحركية له.. وبما أن مادة الكون الأولى كانت ساكنة ثم انفجرت، فلا بد من وجود قوة خارجية أدت إلى ذلك؛ فكل حدث لا بد له من محدِث.
قلت: صدقت.. كيف غاب عنهم هذا؟
قال: ليس ذلك فقط ما غاب عنهم.. لقد غاب عنهم أيضا أن أي انفجار يتبعه تناثر لأشلاء عديدة وجسيمات صغيرة، فكيف يتبع الانفجار تجمُّع للجزئيات والجسيمات، وتكوين أرض وجبال وكواكب ونجوم ومجرات وغير ذلك دون وجود قوة خارجية حكيمة عالمة أدت لذلك.. فتناسق الكون وانتظامه يشهد بذلك، وكل شيء في الكون يوجد في المكان المناسب له، وجمال الطبيعة دليل على حكمة وعلم وإبداع خالقها، والعشوائية لا تنتج نظامًا.
قلت: أجل.. كلامك صحيح.. فكيف غاب عنهم كل هذا؟
قال: ليس ذلك فقط ما غاب عنهم.. لقد غاب عنهم أيضا أن أي انفجار يتبعه دمار، فكيف يتبع الانفجار الكوني العظيم عمار، وتكوين أرض وجبال وبحار ومحيطات وأنهار وكواكب وأقمار ونجوم ومجرات دون وجود قوة عالمة حكيمة..
عندما أردت الانصراف من عنده، قال لي: هل سألت نفسك عن السر في توقف الصدفة التي أنشأت هذا الكون عن العمل؟
قلت: ما تقصد؟
قال([40]): إذا كان وجود هذا الكون عن طريقة الصدفة، أليس من الممكن، والحال هكذا، أن توجد صدفة أخرى تقضي على هذا الكون؟..وعلى التسليم الجدلي بأن تكوين كوكب من الكواكب كان صدفة، فكيف تفسر الصدفة تكوين الكواكب الأخرى؟.. ولو كان تكوين أحد الأقمار صدفة.. فكيف تفسر الصدفة تكوين الأقمار الأخرى؟.. فإذا سلمنا جدلاً أن الصدفة أحدثت كوكبًا، أفلا يمكنها أن تكرر إحداث كوكب آخر كل مرة؟
***
بعد أن تركته سرت في طريقي، وقد قررت حينها قرارا جازما أن أتخذ أصدقاء جددا، يملؤون قلبي بالحقائق بدل الخرافات.. ويصدقونني، ولا يكذبون علي.. وما أسرع ما لبى الله أمنيتي.
ففي مسيرتي تلك إلى بيتي، وجدت نفرا من أترابي يتحدثون، فاقتربت منهم، وكانوا في قمة الأدب والأخلاق..
قال أحدهم: لقد أجريت بعض الحسابات التي طلبتموها مني.. وها أنذا أذكرها لكم.. لقد ذكرتم لي أنه لو أن هزة أرضية قلبت صناديق الحروف في مطبعة، بها نصف مليون حرف، فخلطتها ببعضها، فأخبرنا صاحب المطبعة أنه تكون من اختلاط الحروف صدفة عشر كلمات متفرقة؛ وقد وجدت بحساب الاحتمالات أن المسألة تحتمل التصديق، وتحتمل النفي.
لكنه لو أخبرنا بأن الكلمات العشر كونت جملة مفيدة، لازدادت درجة النفي والاستبعاد، لكننا قد لا نجزم بالاستحالة.
لكنه لو أخبرنا بأن الحروف المبعثرة كونت كتابًا من مائة صفحة، وبه قصيدة كاملة منسجمة بألفاظها، وأوزانها، فالاستحالة في هذه الحالة بحكم البديهية.
قال آخر: بورك فيك.. هذه حجة قوية للرد على أولئك السفسطائيين القائلين بالصدفة.. فالكون وأجزاؤه، وما فيها من إتقان وإحكام وعناية أعقد بكثير من مثال حروف المطبعة؛ لأن الحروف هنا جاهزة معبأة في صناديقها.. والصدفة في مجال الكون مستحيلة في ذاتها، فضلًا عن أن ينبثق عنها هذا الإحكام والنظام، ولو سلمنا جدلًا بصدفة واحدة في البداية، فهل يقبل عقلنا بسلسلة طويلة متتابعة من المصادفات([41])؟
قال آخر: وهكذا لو قال شخص: وجدت قصرًا شديد الجمال، مكونًا من خمسة طوابق، فيه ثلاثون غرفة، كل غرفة مفروشة بأجمل أنواع الفرش، ومزخرفة بأجمل أنواع الزخارف، وهذا القصر ليس له بانٍ، ولا مصمم، وإنما تكوَّن صدفة عبر عشرات السنين، أترى أحدًا يصدق هذا الكلام؟.. وإذا لم يصدق أحد أن هذا القصر تكون صدفة، وهو جماد لا حياة فيه، ولا وعي ولا إدراك ولا مشاعر ولا أحاسيس، فكيف يصدق أحدٌ أن هذا الكون تكون صدفة دون قوة عالمة حكيمة رغم ما في الكون من جمال وإبداع؟
قال آخر: يقال لكل قائل بالصدفة: ما تقول في دولاب دائر على نهر، قد أحكمت آلاته، وأحكم تركيبه، وقدرت أدواته أحسن تقدير وأبلغه، بحيث لا يرى الناظر فيه خللًا في مادته ولا في صورته، وقد جعل على حديقة عظيمة فيها من كل أنواع الثمار والزروع يسقيها حاجتها، وفي تلك الحديقة من يلم شعثها، ويحسن مراعاتها وتعهدها والقيام بجميع مصالحها، فلا يختل منها شيء، ولا يتلف ثمارها، ثم يقسم قيمتها عند الجذاذ على سائر المخارج بحسب حاجاتهم وضروراتهم، فيقسم لكل صنف منهم ما يليق به، ويقسمه هكذا على الدوام، أترى هذا اتفاقًا بلا صانع ولا مختار ولا مدبر، بل اتفق وجود ذلك الدولاب والحديقة وكل ذلك اتفاقًا من غير فاعل ولا مدبر؟ أفترى ما يقول لك عقلك في ذلك لو كان؟ وما الذي يفتيك به؟ وما الذي يرشدك إليه([42])؟
قال آخر: وهكذا لو قال شخص: وجدت كتابًا محكَمًا في علم من العلوم، يتكون من مجلدين، والمجلد يتكون من جزأين، وكل جزء مكون من ثلاثمائة صفحة، وكل صفحة بها عشرون سطرًا، وكل سطر به عشرون كلمة، وهذا الكتاب ليس له مؤلف، ولا كاتب، وإنما تألف وكتب صدفة عبر عشرات السنين، أترى أحدًا يصدق هذا الكلام؟!.. وإذا لم يصدق أحد أن هذا الكتاب كُتب وأُلِّف صدفة، وهو جماد لا حياة فيه، ولا وعي ولا إدراك ولا مشاعر ولا أحاسيس، فكيف يصدق أحد أن هذا الكون تكوَّن صدفة بما فيه من آلاف الحيوانات، وآلاف الطيور، وآلاف الزواحف، وآلاف النباتات، ويمكن أن تكتب عشرات المجلدات في إحكام ونظام كل نوع من هذه الكائنات؟
***
ما أنهى صاحبنا حديثه حتى انتشرت أنوار لطيفة على تلك الروضة الجميلة التي اجتمعت فيها كل تلك العقول الكبيرة، وقد سرى أريج تلك العطور إلى كل لطائفي، فحلت به الكثير من العقد التي كنت أحاول كل جهدي فهمها، فلا أفهمها.
وحينذاك عرفت أنه ـ كما أن الله صاحب العقول التي نفكر بها ـ فهو كذلك صاحب تدبيرها.. فمن لم يحل عقله بين وبين ربه.. ومن جعله عقله يتقرب من ربه.. فإن الله بفضله الكريم، يزيده عقلا على عقل، ووعيا على وعي، وفهما على فهم.. ومن حجبه عقله القاصر عن ربه، حجب عن عقله، وصار أبعد الناس عنه.. بل صار أغبى الأغبياء، وأكثر الغافلين غفلة، وإن توهم نفسه أذكى الناس، وأكثرهم إعمالا لعقله..
وكيف يكون صاحب عقل من يكل عقله عن فهم كل تلك الضرورات والبديهيات والمسلمات التي اتفقت عليها كل العقول السليمة؟
وكيف يكون صاحب عقل من راح يجحد الحقيقة
العظمى التي شهد لها كل شيء، ودل عليها كل شيء، ونطق بالتنزيه لها والثناء عليها
لسان كل شيء؟
([1]) مُلحدون محدثون معاصرون، د. رمسيس عوض، ص 58.
([2]) استلهمنا هذا المعنى من قصة إبراهيم عليه السلام، وما فعله مع الأصنام ليقيم الحجة على قومه.
([3]) ديفيد هيوم (1711، 1776)، فيلسوف واقتصادي ومؤرخ اسكتلندي ولد وتوفي بأدنبره، أهم كتبه: بحث في الطبيعة الإنسانية، ثلاثة أجزاء، وفحص عن الفهم الإنساني، وفحص عن مبادئ الأخلاق، والتاريخ الطبيعي للديني، وغير ذلك راجع تاريخ الفلسفة الحديثة ليوسف كرم 172 ـ 173.
([4]) النص الوارد هنا مقتبس بتصرف من كتاب [ما قاله الملاحدة ولم يسجله التاريخ]
([5]) استفدنا المادة العلمية هنا من مقال مهم بعنوان: الأسس اللا عقلية للإلحاد.. مشكلة مبدأ العالم نموذجاً، لعمرو بسيوني.
([6]) المعجم الفلسفي لجميل صليبا، 1/649.
([7]) تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم، 148.
([8]) يقصد بالاتصال أن الأسباب والمسببات متصلة ببعضها، وأن الشيء لا يمكن أن يحصل في زمان أو مكان يبْعُد عن زمانه ومكانه بالفعل.
([9]) لا يرى هيوم ضرورة أن تكون العلة ـ بحسب الظاهر ـ سابقة على معلولها، بل يراها أمرا يحتمل (الجدل )، ومع تسليمه أن التجربة في معظم الأحيان تنتصر لأسبقية العلة على المعلول، لكن مبدأ الأسبقية يبقى ـ عنده ـ دائما غير قابل للتدليل بنوع من الاستنتاج أو البرهان !.
([10]) انظر: تحقيق في الذهن البشري لهيوم، ترجمة د محمد محجوب، 116 ـ 117، و 126 وهيوم لزكي نجيب محمود 148.
([11]) مناهج البحث عند مفكري الإسلام لعلي سامي النشار، 164.
([12]) عمانويل كانط (1724 ـ 1804 )، حاول التوسط بين التجريبية والعقلانية المثالية، ووجه نقدا عقليا للدين، أهم كتبه: نقد العقل الخالص النظري (المشهور بنقد العقل المحض )، ونقد العقل العملي، ونقد الحكم، وميتافيزيقا الأخلاق، ورسالة في السلام الدئم راجع يوسف كرم 208 ـ 216.
([13]) تاريخ الفلسفة الحديثة، ليوسف كرم 210.
([14]) انظر: الإلحاد ووجود الله، أحمد محمد حسن وأحمد دعدوش.
([15]) معرفة الله، ج1، ص: 148.
([16]) استفدنا بعض التقريرات هنا من [موقف العلم والعقل من رب العالمين]، مصطفى صبري.
([17]) أي المقدمة القائلة بوجود أي حادث في الدنيا..
([18]) اقتبسنا بعض المعلومات الواردة هنا من مقال بعنوان: مغالطات أكذوبة الملاحدة: أن الكونَ يسير بقوانينَ؛ فلا يحتاج إلى خالق ليدبِّرَ أمره..
([19]) اقتبسنا هذه المقولات الإلحادية الساخرة من مقال بعنوان [فساد أكذوبة الملاحدة أن وجود الله مجرد فرضية كفرضية وجود الوحش الاسباجيتي]
([20]) القدم: أو الوصف بالقديم تعني عند الفلاسفة والمتكلمين ما ليس له أوّل البتّة. فكلّ موجود لم يسبقه عدم البتّة، أو كلّ موجود خلا بتاتا من حال لم يكن موجودا ثمّ كان، سمّوه قديما. وكلّ موجود كان له أوّل أو سُبِقَ بعدم، فمهما امتدّ في الماضي ولو كانت مدّته آلاف آلاف السّنين، فهو ليس بقديم، بل إنّه حادث.
([21]) اقتبسنا بعض المادة العلمية هنا من مقال بعنوان: شرح اعتراضات الغزالي على دليل الفلاسفة الأوّل في إثباتهم لقدم العالم، لطفي خيرالله..
([22]) أشير هنا باختصار لانتقادات الغزالي لقول الفلاسفة بقدم العالم.
([23]) أجاب الغزالي على هذا بذكره بعض ما يقوله الفلاسفة على حسب علم الفلك القديم، وقد أعرضنا عنه لصعوبة فهمه على الكثير من القراء، ولعدم الحاجة إليه.
([24]) انظر: الموسوعة الكونية الكبرى، د. ماهر أحمد الصوفي، 2/57..
([25]) من الأمثلة على ذلك إعلان وكالة أبحاث الفضاء الأمريكية ناسا أن عمر الكون 13،7 مليار سنة ضوئية، وذلك من خلال استعمال مجسات فضائية متطورة جداً ومناظير إلكترونية محمولة على أقمار صناعية، وهذا الاكتشاف إقرار من الوكالة بأن لهذا الكون بداية.
([26]) سنعرض لها بتفصيل في الجزء الخاص بـ [الإلحاد .. والكون]
([27]) ننبه فقط الذين يشكلون على هذا البرهان ويعترضون عليه بأنه نُظم في الأصل لإبطال حوادث لا أول لها كما نعلم…وليس لإبطال ما لا آخر له، و الفرق بينهما أنّ وجود حوادث لا آخر لها جائز -عقلًا- لأن سبب وجود هذه السلسلة من الحوادث خارج عن ذاتها، و هذا ما لا يمكن أن تقوله في سلسلة الحوادث التي لا أول لها دون أن تقع في تناقض يرفضه العقل السليم..
([28]) انظر: مصدر الوجود بين العلم والفلسفة، الشيخ جعفر السبحاني.
([29]) انظر: مقالا بعنوان [الملحد وسؤاله الخاطئ من خلق الله؟]، وانظر:الفيزياء ووجود الخالق د. جعفر شيخ إدريس.. صراع مع الملاحدة حتى العظم الشيخ عبدالرحمن الميداني.. كواشف زيوف الشيخ عبدالرحمن الميداني.
([30]) استفدنا الكثير من المادة العلمية المرتبطة بهذا المطلب من كتاب [الملحد واستدلاله الخاطئ بالصدفة] د. ربيع أحمد.
([31]) يقصد بالصدفة عدة معانٍ، منها: حدوث الشيء دون علة؛ كغليان الماء دون أي سبب، وهذا مستحيل؛ فمن المستحيل حدوث شيء دون علة وسبب.. ومنها: حدوث الشيء بعلة مجهولة، مثل صديق كان يمشي في شارع لزيارة أحد أقاربه، فوجد صديقًا له كان ذاهبًا لشراء طعام من السوق صدفة، وهنا ترافق وتزامن.. ومنها: حدوث الكون وانتظامه عبر سلسلة من العلل غير العاقلة وغير المدركة، ومنها: التقاء عرضي لسلسلتين من الأسباب، ومنها: توفر مجموعة من العوامل بطريقة غير واعية لتُشكل ظاهرة..
([32]) توماس هنري هاكسلي: (1825- 1895) عالم أحياء بريطاني.. كان قد لقب بـ (كلب داروين) لدفاعه القوي عن نظرية تشارلز داروين النشوء والتطور.. التقى تشارلز داروين في حوالي 1856.. وهو صاحب نظرية القرد .
([33]) أراد المركز البريطاني للبحوث اختبار هذه النظرية حاسوبياً .. فوضع ستة قردة افتراضية بدأت تضرب على الآله الكاتبة لمدة شهر كامل لم يجدوا فيها كلمة مكونة من حرف واحد .. في الإنجليزية، مع العلم أن الحرف في الإنجليزية يعتبر كلمة اذا كان مسبوقاً ومتبوعاً بفراغ..
([34]) لقب كان يلق به توماس هنري هاكسلي كما مر معنا.
([35]) الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيجوفيتش.
([36]) من مقدمة مترجم كتاب: الله يتجلى في عصر العلم، الدكتور الدمرداش عبدالمجيد ص 7.
([37]) كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني ص 331.
([38]) خرافة الإلحاد للدكتور عمر شريف ص 337.
([39]) كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني ص 446.
([40]) المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها في المجتمعات للدكتور غالب عواجي 2/1174 – 1175.
([41]) عقيدة التوحيد للدكتور محمد ملكاوي ص 149 – 150.
([42]) مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/214.