البداية

البداية

في صباح ذلك اليوم الذي حدثت لي فيه هذه القصة التي سأحكيها لكم كنت مارا على بعض المراكز الثقافية.. وهناك رأيت جمعا من الشباب يتحدثون بأصوات مرتفعة، وقد جذبني إليهم أني سمعت بعضهم يذكر دارون، وكتابه عن أصل الأنواع، ويذكر معه أسماء كثيرة، فاقتربت منهم، لأسمع حديثهم.

فرأيتهم يلتفون حول إعلان عن حضور سبعة من كبار علماء الحياة لإلقاء محاضرات في ذلك المركز الثقافي، الذي بدا له أن يقيم أياما ثقافية علمية أطلق عليها وصف [الأيام التنويرية لكشف أسرار الحياة: بدايتها، وتطورها]

وقد امتلأت عجبا أن يهتم ذلك المركز، وفي تلك المدينة البسيطة بمثل هذه المسائل.. في نفس الوقت الذي يغفل فيه عن التنوير بالقيم الأخلاقية والحضارية والعلمية والصحية التي يحتاجها المجتمع أكثر من حاجتهم إلى التعرف على تاريخ الحياة، وكيف بدأت، وكيف تطورت.. والذي لا يعدو أن يكون نوعا من الرجم بالغيب، أو الحديث الذي لا معنى له.

وامتلأت بالعجب أكثر أن أولئك الشباب الذين اقتربت منهم لأسمع حديثهم، كانوا يتحدثون بسرور عظيم، وكأن وليا من أولياء الله قادم إليهم، لينيلهم من بركاته..

قال لي بعضهم، وهو لا يكاد يملك نفسه من الفرح: أرأيت يا عم.. نحن الذين اقترحنا على مدير هذا المركز استضافة هؤلاء العلماء الكبار، حتى نساهم في تنوير مدينتنا، ونبعد عنها شبح الجهل..

قلت: عن أي جهل تتحدث؟.. الناس بحاجة إلى توعية وتربية.. ولا يحتاجون إلى الحديث في مثل هذه المسائل التي لم تثبت علميا..

بمجرد أن قلت هذا، راح أحدهم يصرخ بغضب شديد غير مراع فوارق السن بيننا، وهو يقول: دع عنك هذه الأغلوطات.. فالتطور حقيقة علمية، تدعمها ملايين الحفريات، والتجارب المعملية، والأبحاث الجينية.

قال آخر، وهو لا يقل عن صاحبه غضبا: التطور واقع مثبت، وآلياته أصبحت معروفة تماما، ولهذا يتم دراستها كل يوم في كل معامل العالم.. ويتم تدريسها في جميع جامعات العالم المعترف بها.. بل لا يستطيع اليوم عالم محترم أن ينفي أو يرفض التطور، وإلا فإنه ينتحر بذلك انتحارا علميا أكاديميا.

قال آخر: بل إن نظرية التطور تضاهي في درجة إثباتها نظريات نيوتن وأينشتين التي ثبتت بالأدلة المعملية والرصدية مئات الألوف من المرات.

قال آخر: ألا تعرف [دوكنز] ذلك العبقري الألمعي، صاحب كتاب [الجين الأناني] الذي صحح فيه ما وصفه بسوء الفهم للداروينية.. حيث ذكر أن الانتقاء يكون على مستوى الجينات، وليس مستوى الأنواع أو الأفراد كما كان يُعتقد.

قال آخر: لقد أثبت دوكينز أن مجتمع الإنسان المبني على قانون الجينات الأناني، من الممكن أن يكون منفراً ومزعجاً العيش فيه.. لكن استنكارنا ذلك كله لن يؤدي إلى تعديله.. فنحن ولدنا أنانيين.. هكذا خطط لنا في جيناتنا الأنانية، ولن نستطيع إفساد خططها.

ثم التفت لي، وهو يقول: أرأيت أهمية هذه الأفكار.. إنها ليست أطروحات علمية مجردة، بل إن لها صلة مباشرة بحياتنا.. فبدونها لا يمكننا أن نعرف حقيقتنا.

لم أجد ما أقول له.. إلا أنني عدت أدراجي إلى بيتي، وأنا ممتلئ بالألم والغثاء من هذه الموضات الجديدة التي صارت تخرج لنا كل حين، لتملأ حياتنا بكل ما يبعدنا عن ربنا وديننا.. وحينها تذكرت مقولة [ألكسيس كاريل]: (إن نظريات النشوء والارتقاء هي مصدر كل الهموم الإنسانية، وإنها في الحقيقة ليست إلا حكايات خرافية وجدت من يحميها ومن يقدمها للجماهير بحلة خادعة لا يعرفها كثير من الناس)([1])

وصدق في ذلك، فما كان الاستعمار ولا الرأسمالية ولا كل تلك الجرائم البشعة التي ارتكبت في القرون الأخيرة إلا ابنة شرعية لنظرية التطور في تجلياتها الاجتماعية.

وهكذا.. ما كانت بدع الموضة التي تخرج لنا كل حين، والتي يطرح معها الكثير من الحياء والعفة والأدب إلا مظهر من مظاهر ذلك الفكر الخطير الذي حول من الإنسان لعبة يُتلاعب بها باسم التطور والتقدم والسير إلى الأمام.. والذي لا يختلف أحيانا كثيرة عن السير إلى الهاوية نفسها.

لكني بمجرد أن دخلت بيتي انبعثت في همة عجيبة، أردت من خلالها أن أستعيد تجربة أولئك الشباب الذين مررت عليهم في رحلتي السابقة.. رحلتي إلى الكون الموحد.. فقلت في نفسي: دعي عنك الحزن والألم.. فلن ينفعك في هذا المحل إلا الإرادة والعزيمة..

ثم رحت أشحذ إرادتي وعزيمتي، وأخرج من بيتي قاصدا مدير ذلك المركز، طالبا منه أن يسمح لي ببعض الوقت للحديث مع أولئك الزائرين الذين يريدون أن ينشروا سمومهم بيننا.

قال لي المدير، وهو يتملقني، أو يريد أن يصرفني بأدب: ما بك يا رجل.. كيف تنزل بنفسك إلى هذا المستوى.. فأنت لك قيمتك وحرمتك.. وهؤلاء الذين تتحدث عنهم ـ مع شهرتهم الكبيرة ـ لن يحلموا بالحديث معك، ولا بالجلوس إليك، فشتان بينك وبينهم.. فلا تضع وقتك الثمين في الحديث إليهم.. وامكث في بيتك لتخرج لنا من كنوز المعرفة ما تعودت أن تخرج.

قلت: أتريدني أيضا ألا أحضر ما يريدون تقديمه من محاضرات؟

قال، وهو يبتسم بخبث: أجل.. فوقتك أثمن من أن تضيعه في الاستماع إليهم.. وإن احتاجوا إلى الحديث إليك، فسيأتون هم إليك بأنفسهم، من دون أن تتوسل وتتوسط للحديث إليهم.

لم أجد ما أقول له.. لكني عرفت بعد ذلك أنه لم يكن يريد من قوله ذلك إلا أن يصرفني، وقد تأكدت من ذلك من بعض الذين حضروا مجلسه، وأخبروني أنه كان حريصا على توفير الجو لهؤلاء الزوار حتى لا يعكر صفوهم أحد.. وحتى يظهر هو الآخر بصورة المتقدم المتحضر الذي تقدم في سلم الارتقاء، ولم يبق في مستنقع الثباب والاستقرار.

***

وقد ازداد يقيني بالنية المبيتة لمدير المركز عند بداية أشغال الأيام الدراسية، وفي اليوم الأول منها.. فعندما دخلت القاعة امتلأت عجبا من الرجل الذي كلف برئاسة الجلسة، فقد كنت أعرفه جيدا، وأعرفت تقلباته وتطوراته المختلفة، وغير المنضبطة.. والتي يربطها جميعا بالدين..

أذكر جيدا أنه عندما زارنا بعض الشيوعيين، وكلف حينها بتقديم محاضرته، راح يثني عليه وعلى الشيوعية، ويحول منها دينا سماويا، ويحول من كتاب [رأس المال] لكارل ماركس كتابا من الكتب المقدسة.. بل يضيف إلى ذلك كله اعتباره المادية الديالكتيكية من الإسلام.. بل راح يتلاعب بالآيات الكريمة ليستدل بها على شيوعية الإسلام.

وهكذا عندما زارنا بعض دعاة الغرائز من تلامذة فرويد.. راح يحطم كل جدران العفة والحياء والأدب التي جاء بها الإسلام ليحول منه إلى دين غرائزي بهيمي ممتلئ بالفحش والبذاءة.

وهكذا عندما زارنا بعض رجال الأعمال من الرأسماليين.. فقد راح يلقي خطبة طويلة يحاول أن يثبت فيها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن مليونيرا فقط، بل كان ملياديرا أيضا.. ثم راح يصف لنا الحياة المترفة التي كان يعيشها.. مقتنصا في ذلك كل شادرة وواردة، يقبل ما يشاء هواه، ويرفض ما يشاء.

وهكذا لم يختلف أمره في ذلك اليوم.. فبعد أن اجتمعت الجموع راح بصوته المجلجل، يصيح: لا شك أنكم جميعا تتطلعون لمعرفة حقيقة الحياة.. وكيف نشأت.. وكيف تطورت إلى ما هي عليه الآن.. وقد جاءكم من أقصى الأرض من يشرح لكم ذلك..

وأحب قبل أن يتقدم هؤلاء الأعلام الكبار ليشرحوا لكم بتفصيل ما ينص عليه العلم الحديث في آخر تطوراته أن أخبركم أن كل ذلك لا يتناقض مع القرآن، ولا مع الدين.. فديننا دين التطور، لا دين الثبات والسكون..

ثم راح يذكر المعترضين على نظرية التطور، متهما إياهم بالتخلف والمروق والإساءة للدين، ويقول في ذلك([2]): افهموني جيدا.. فالاعتراض على نظرية التطور ليس له أي سبب علمي.. بل إني أكاد أجزم أنه أيضا ليس بسبب ديني.. فلا يوجد تعارض بين الدين وبين التطور إطلاقا([3])..

السبب في إنكار هذه النظرية هو بمنتهي البساطة [الغرور الإنساني]، فهو الذي دفعه لأن يتوهم أنه أفضل من الكائنات الأخرى.. ولذلك يحاول أن يربأ بنفسه من أن يكون من سلالة القردة أو غيرها من الكائنات.

لكنا إن عدنا إلى قرآننا، وقرأناه قراءة جديدة بعيدة عن قيود السلف والخلف، بل بعيدة عن قيود اللغة التقليدية.. فسنراه ينص على نظرية التطور بصراحة ليس دونها صراحة([4]).

اسمعوا إلى القرآن الكريم، وهو ينص بصراحة على [نظرية الأبيوجينيسيس] التي تقول بنشأة الحياة في أعماق المحيطات..

ثم راح يرتل بصوت خاشع قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [الأنبياء: 30]، ويعقب عليها بقوله: لقد استنبط المفسرون من هذه الآية استنباطات كثيرة منها أن الماء له فوائد للجسم.. وأننا نحتاج إليه لنعيش.. وأن كل الأحياء تتكون من نسبة عالية من الماء..

لكن كل هذه التفاسير وهمية خاطئة ذلك أن أي قارئ منصف يستطيع أن يري بجلاء أن كل هذه التفاسير هي تقويل على النص.. فالآية لا تتحدث عما ذكروا، وإنما تتحدث تحديدا عن نشأة الحياة.. إنها تتحدث عن الخلق الأول، وليس عن فوائد الماء.

ويؤكد ذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور: 45].. فالماء المقصود هنا هو مياه المحيطات كما أسلفنا، والتي نشأت منها أول خلية حية.

راح يتمعن في أثر كلامه على جمهور الحاضرين الممتلئين بالاستغراب، ثم قال: بعد هذا.. ماذا عن تطور الكائنات؟.. ماذا يقول القرآن في ذلك؟

راح يقلب صفحات مصحف بين يديه، ثم يقول: اسمعوا لهذه الآية التي تنص على نظرية التطور بكل صراحة.. فالله تعالى يقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12].. المفسرون القدامى بحكم معارفهم المحدودة راحوا يفسرون الآية بأنها تعني أن كل منا كبشر هو نهاية سلالة طويلة بدأت بخلق الإنسان الأول من طين.. لكن لغة القرآن القوية الواضحة تعاند هذا التفسير بوضوح.. فهي تنص على أن بين الإنسان وبين الطين يوجد سلالة..‏ والسلالة لاهي طين ولا هي إنسان، أليس هذا واضحا وضوح الشمس؟.. كيف لايستطيع كل من يقرأ هذا الكلام أن يتساءل كيف يكون تفسير المفسرين صحيحا؟.. كيف يكون المقصود من السلالة أنها سلالة البشر حتي سيدنا آدم إذا كانت الآية توضح أن السلالة لم تكون أناسا مثلنا؟

ثم راح يتساءل: أتعلمون ماهو الطين؟.. أليس هو مركبات جمادية مخلوطة بالماء؟.. فالله إذن خلق من هذا حياة.. ومن الحياة نشأت سلالة.. ومن السلالة نشأ الإنسان.. أليس هذا وصفا رائعا ودقيقا لما تقوله نظرية التطور؟

صفق بعض الحضور من الشباب، وتبعتها تصفيقات أخرى كثيرة.. فازداد انتفاخ الرجل.. وراح يزيد في درجات تصعيده ليجعل من القرآن الكريم كتابا لأصل الأنواع، مثلما حوله في مجالسه السابقة إلى كتاب في الرأسمالية أو الشيوعية أو الفوضى الأخلاقية.

بعد انتهائه من حديثه، وبعد أن كدت أنفجر من ذلك التلاعب بالنصوص المقدسة، بدأ العلماء حديثهم، وقد حمدت الله على أنه كان حديثا ممتلئا بالمصطلحات الغريبة، والأرقام الكثيرة، والتي لم يفهمها أحد من الناس..

بعد انتهاء الجلسات، رفعت يدي طالبا التعقيب.. لكن مدير المركز بعد أن لمح يدي، وهي ترتفع تقدم إلي، وكأنه لم يرني إلا تلك اللحظة، ثم راح يصافحني بحرارة، بل يعانقني، وكأنه لم يرني منذ سنوات، ثم راح يأخذ بيدي إلى مكتبه، ويطلب من العمال أن يحضروا لي بعض الحلويات والقهوة والشاي، وهو يقول بكل تزلف: مرحبا بك في مركزنا.. كم نفرح بزيارتك يا رجل.. لم لا تشرفنا كل حين؟

ثم تملص مني، بعد أن تركني محجوزا في مكتبه، وكلما كنت أنوي الخروج منه، يقسم علي السكرتير بالبقاء ريثما يحضر القهوة والشاي.. ثم يخبرني بأن المدير سيغضب منه أو يفصله إن خرجت من غير أن أشرب شيئا..

وهكذا بقيت في انتظار القهوة والشاي إلى أن انفض المجلس، وخرج الناس.. وخرجت معه من دون أن أقف أي موقف، أو أدلي بأي حديث.

***

لكن.. وفي وقت متأخر من الليل سمعت طرقا شديدا على الباب، فخرجت مسرعا، فرأيت أولئك العلماء السبعة يقفون أمام الباب، ويطلبون مني أن أدخلهم إلى البيت بسرعة، ثم ما لبثوا أن دخلوا مسرعين، وكأنهم يخشون أن يتعقبهم أحد.

تصورت في البداية أن مدير المركز هو الذي أرسلهم لي.. لكني علمت منهم أنهم خرجوا خلسة من الفندق الذي يقيمون فيه، وأن الذي أرسلهم لي، ليس مدير المركز، وإنما معلم الإيمان.

قلت: أتقصدون أن معلم الإيمان هو الذي أرسلكم لي، ودلكم على بيتي؟

قال أحدهم: أجل.. ونحن لم نقصد هذه البلاد إلا لزيارتك..

قلت: لكن كيف تعرفتم إلى معلم الإيمان.. وكيف دلكم علي.. ولماذا؟

قال: رويدك، فنحن أضعف مما تتصور.. وأنت أقل من أن تفهم حقائق الوجود، فلذلك سلم لربك، ولا تسأل مما لم تؤت علمه.

تعجبت أن يكون المتحدث إلي بهذه الصيغة، وهذا الأسلوب، وهذا الإيمان هؤلاء العلماء الذين جاءوا لنشر الإلحاد في البلدة، وتهديم عقائدها.

لكني بعد أن عاينت ما عاينته في رحلتي السابقة إلى الكون الموحد لم أستغرب ذلك، بل رحت أقول لهم: مرحبا بكم، وأنا طوع أمركم، ومسلّم لكم، ولمعلمي معلم الإيمان.. فهل تطلبون مني شيئا؟

قالوا: أنت تعلم لما أرسلنا إليك.. فهلم أحضر قلمك ودواتك وقراطيسك لنملي عليك قصة رحلتنا إلى الحياة الموحدة.

قلت: الحياة الموحدة.. ما تعنون بذلك؟

قال أحدهم: لقد رحلت في رحلتك السابقة من الكون الملحد إلى الكون الموحد.. وسترحل في هذه الرحلة معنا من الحياة بحسب الرؤية الإلحادية إلى الحياة بحسب الرؤية التوحيدية.

قلت: هل تريدون مني أن أسافر أيضا؟

قال: ما دام لك خيال يمكن أن يسافر، فلا حاجة لك أن تتعب قدميك.

قلت: لم أفهم ما تعنون؟

قال: لقد مررنا في حياتنا برحلة طويلة، مررنا فيها بتجارب مختلفة، واعتقدنا اعتقادات متباينة إلى أن هدانا الله للإيمان، ونحن نريد منك أن تسجل حديثنا، وخبر رحلتنا من الإلحاد إلى الإيمان.

قلت: ولكنكم سبعة.. فهل رحلتم جميعا رحلة واحدة؟

قال: لا.. بل لكل منا رحلته الخاصة به.. وقد التقينا في الأخير في رحاب الإيمان.. وقد دعانا معلمنا إلى أن نزورك لتكتب أخبارنا، كما نقصها عليك، فلعل ذلك يشفع لنا عند ربنا.

قلت: ما دمتم قد عدتم للإيمان.. فكيف جئتم لهذه البلدة لتنشروا الإلحاد؟

قال: نحن لم نأت لننشر الإلحاد.. وإنما جئنا لننشر الإيمان.

قلت: والمحاضرات التي ألقيتموها في الصباح، والأرقام التي نطقتم بها.. وذلك الشيخ الذي قدم لكم بتلك الأحاديث الرعناء.

قال: لا شأن لنا به وبتخرصاته.. وما ذكرنا تلك الأرقام إلا لندعم الإيمان.. وسترى من حديثنا مع أهل مدينتك بعد أن نقص عليك قصتنا ما يملؤك بالعجب.

قلت: فهلا أذنتم لي لأقدم لكم طعاما قبل أن تبدؤوا حديثكم..

قالوا: لا شأن لنا في طعامك.. فوقتنا محدود جدا.. فأحضر سلاحك، وتعال لتكتب ما نمليه عليك.

لم أجد إلا أن أسلم لهم، فأحضرت أقلامي ودواتي وقراطيسي، ورحت أجلس إليهم، بهيئة التلميذ الذي يكتب كل ما يملى عليه فهمه أو لم يفهمه.


([1]) الإنسان ذلك المجهول، ص 158.

([2]) من مقال بعنوان: نظرية التطور والقرآن، بتصرف.. وانظر في الموضوع مقالا بعنوان: الاستدلال بالقرآن على فرضية التطور الموجه.. قراءة نقدية، سلطان العميري، مجلة البيان.

([3])  نذكر هنا للأسف أولئك الباحثين من المسلمين الذين لم يتمعنوا جيدا في مدى علمية نظرية التطور، وراحوا يلوون أعناق النصوص المقدسة ليثبتوها من خلال القرآن الكريم بتكلف كبير ممقوت.

وقد قال المفكر المسلم الهندي [وحيد الدين خان] في هؤلاء كتابه [الاسلام يتحدى]: ( هناك نوع آخر من علمائنا يدركون موقف الفكر الحديث من قضية الدين و لكنهم، لشدة تاثرهم بالفكر الحديث، يرون ان كل ما توصل اليه أئمة الغرب يعد من المسلمات العلمية، و من ثم تقتصر بطولتهم على اثبات هذه النظريات،التي سلم بها علماء الغرب،هي نفس ما ورد في القرآن الكريم و كتب الاحاديث الاخرى) و يتم قوله بعد ذلك: ( وأوضح مثال في هذا،هو تلك الجماعة من علمائنا الذين قبلوا نظرية النشوء والارتقاء، لان علماء الغرب اعلنوا اقتناعهم الكامل بصدقها، بعددراساتهم و مشاهداتهم، و اضطروا بناء على هذا الى تفسير جديد للاسلام في ضوء النظرية الجديدة،و حين احتاجوا الى لباس جديد، قاموا بتفصيل ثوب للاسلام مرة أخرى، ولكنه ثوب مشوه المعالم، لا أثر فيه من روح الاسلام، التي ضاعت مع الاجزاء المقطعة في عمليىة التلفيق الجديدة)

و يقول د. عمرو عبد العزيز صلاح في كتابه [الداروينية المتاسلمة]: (اراد العقلانيون المسلمون محاكاة عقلانيي العرق التاريخي الغربي، في ترويج ان دينهم يقبل نظرية التطور، و القذة بالقذة قاموا طبعا بترويج الداروينية بالاسلام عنوة، و بالرغم من انها ملحدة اصلا و لايصح الزواج منها، الا انهم انطقوها الشهادتين بعجالة ثم اعلنوا انتصارهم: قد تزوجت الداروينية بالاسلام..هكذا خرج الى النور مولودها المشوه:الداروينية المتاسلمة!)

([4]) سنذكر الرد المفصل على هذه المقولات بتفصيل في ثنايا الرسالة، وخاصة في مقدمة فصل [التطور والعلم]، وإن كان الكتاب ردا عليها.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *