البداية

في صباح ذلك اليوم الذي حدثت لي فيه هذه القصة العجيبة التي سأرويها لكم طُرق باب بيتي، فرحت أفتحه، فوجدت أسفله ظرفا مزينا، مرسلا من جمعية كنت أعرفها جيدا، كانت تسمى [جمعية الإيمان العلمي الجديد([1])]، وهي جمعية ليس لها من الإيمان إلا الاسم الذي تستخدمه، لتصطاد به القلوب المؤمنة الطيبة، لتحولها إلى قلوب ملحدة متحجرة.. وتبث فيها بعد ذلك ما تشاء من قيم وسلوكيات ومواقف.
وهي تستخدم لذلك الكثير من الحيل، وأهمها المكتشفات العلمية في الفيزياء والفلك وغيرها، سواء ما ثبت منها أو ما لم يثبت.. وهي تضيف إليها جميعا وصف [الحديث]، أو [الجديد]، لتستقطب أصحاب الموضات الذين يريدون كل حين أن يستبدلوا عقائدهم وقيمهم كما يستبدلون ثيابهم.
وهي توظف ـ فوق ذلك كله ـ الكثير من وسائل وأساليب الإغراء التي تخاطب الغرائز والشهوات أكثر من مخاطبتها للعقول والقلوب.
ولذلك بمجرد أن رأيت اسمها على الغلاف، رميت الظرف من غير أن أعرف ما فيه.. رميته وأنا أستعيد بالله من شرها.. ثم دخلت بيتي، وأغلقت علي بابي جيدا حتى لا تتسرب أي فتنة إلي من أي جهة..
دخلته، وأنا أقول في نفسي: هذا زمن الفتن ما ظهر منها وما بطن.. وليس هناك أفضل للمرء من بيته.. فالفتنة نائمة، وملعون من أيقظها، أو شارك فيها، أو كثر سوادها.
لكن ما إن استقر بي المجلس في بيتي، حتى عاد الباب يُدق من جديد، فرحت أفتحه، وأنا أستعيذ بالله من كل طارق سوء.. فوجدت صبيا صغيرا ممسكا بالظرف، وهو يقول لي: يا عم.. لقد وجدت هذه الورقة الجميلة.. وعليها اسمك.. فطلب مني أصدقائي أن نلعب بها، فأبيت.. وقلت: هذا حرام.. وسيغضب علينا ربنا إن فعلنا ذلك.. ولذلك أتيتك بها.
قلت له: هل أعجبتك؟
قال: أجل.. إنها جميلة جدا.. ولذلك طلب مني أصدقائي أن نبقيها عندنا.
قلت: إذن ما دامت قد أعجبتك.. فخذها.. والعب بها مع زملائك.. وإن شئت أن تحولها إلى طائرة، فافعل.. فلا شك أنها ستكون طائرة جميلة.
قال لي، والفرح قد ظهر على ملامح وجهه: شكرا لك يا عم.. هذه هدية غالية.
ثم راح يسرع إلى أصحابه، وهو ممتلئ سرورا، يخبرهم عما جرى بيني وبينه.. ورحت أنا أغلق بيتي، وأسأل الله ألا يقرؤوا الرسالة.. حتى لا تنفجر فيهم القنبلة المودعة فيها.
لكني ما إن استقر بي المجلس في بيتي حتى دُق الباب من جديد، فأسرعت إليه، وأنا أستعيذ ككل مرة.. فوجدت شابا يحمل الظرف، وهو يقول لي: انظر.. لقد وجدت هذا الظرف عند بعض الصبية يلعبون به، فشدني منظره، فأخذته منهم، فوجدت فيه اسمك.. وها قد أتيتك به.. ولا داعي لأن تشكرني، فما قمت إلا بالواجب.
قمت بشكره، ثم أخذت الظرف منه، وقلت في نفسي: لا حل لهذا الظرف المشؤوم إلا التمزيق، فلو لم أمزقه، فسيمزقني، ويمزق حياتي..
ثم انتظرت حتى يذهب، ورحت لحاوية قمامة قريبة، ثم أمسكت به بكلتا يدي لأمزقه، ففوجئت بيد شيخ كبير تمسك بي، وتحول بيني وبين تمزيقه، ثم سمعت منه قوله: عجبا لمن هرب من جحيم الملاحدة، وسمع كلماتهم التي لم يسجلها التاريخ أن يكون خائفا وجبانا لهذه الدرجة.
رحت أتطلع فيه، وأقول له: من أنت؟.. لا شك أن معلم الإيمان هو الذي أرسلك لي.
قال: ماذا تقول يا بني؟.. ما الذي حصل لك؟.. لقد أمسكت بيدك، لأن دوارا أصابني.. أظن أنه الضغط أو السكري.. هل آلمك فعلي؟.. أنا أعتذر إليك.
قلت: لكني سمعتك تحدثني عن جحيم الملاحدة.. وعن كلماتهم التي لم يسجلها التاريخ.. فمن أعلمك بذلك؟
قال: أظن أنه حصل لعقلك شيء.. فأنا لم أنطق بكلمة واحدة..
ثم انصرف عني، وقد كسا الغضب ملامحه، وهو يقول: يا سبحان الله على هذه الأجيال التي لا تقدر شيوخها.. أمسكت بيده غصبا عني، فبدل أن يقبلها، ويقبل رأسي، راح يؤنبني ويحاسبني على كلمات لم أقلها.. والله لم أقلها.
لم أجد بعد كل ذلك إلا أن أدخل بيتي، ومعي الظرف.. وهناك فتحته، فوجدت فيه دعوة شخصية لي للحضور إلى مؤتمر تقيمه تلك الجمعية، تحت عنوان [الكون بين الرؤية العلمية الجديدة والرؤية الكلاسيكية]، وتذكر فيه أنها استضافت كبار علماء الفيزياء والفلك وكل العلوم الحديثة، بالإضافة لبعض الفلاسفة الكبار من الحداثيين وما بعد الحداثيين، بالإضافة لبعض رجال الدين الذين ينتمون لأديان مختلفة.
وقد كلفت بتقديم محاضرة بعنوان [الكون من خلال الرؤية الإسلامية الكلاسيكية]، ولإغرائي، فقد ذكر في الدعوة أن المحاضر سينال مكافآت مغرية على محاضرته، وأنه سيمنح شهادة تقديرية من الجهة الراعية للمؤتمر، وهي مؤسسة عالمية كبرى معروفة بـ [مؤسسة ريتشارد دوكنز للمنطق والعلوم]، وقد عرّفت في الدعوة بكونها مؤسسة تسعى لتعزيز القبول بالإيمان الجديد، وتدافع عن الأجوبة العلمية للأسئلة حول الكون والوجود، وأنها تشجع هؤلاء المؤمنين الجدد على الظهور والإعلان عن اعتقاداتهم، بل على تنظيم أنفسهم على شكل جمعيات وجماعات.
كنت أعرف هذه المؤسسة، وأعرف أن مؤسسها الحقيقي هو كاهن الإلحاد الجديد الأكبر دوكنز.. فقد سمعت ذلك منه شخصيا عند رحلتي لفندق الملاحدة.
لكن الحيلة التي مارستها تلك الجمعية هي تبديل كلمة [الإلحاد] بكلمة [الإيمان]، حتى تتلاعب من خلال ذلك بالعقول، خاصة عقول الطلبة الذي تريد أن تقيم هذا المؤتمر بينهم، وفي جامعتهم.
بعد حديث طويل لي مع نفسي، وبعد أنواع كثيرة من الاستخارة مارستها، لم أجد إلا أن أذهب إلى هذا المؤتمر، وتلبية هذه الدعوة، خاصة وأن تلك الكلمات التي سمعتها، والتي ذكر الشيخ أنه لم يقلها لم تكن كلمات اعتباطية، بل كانت رسالة إلهية تدعوني إلى الحضور، وعدم الفرار من الزحف.
بعد أن امتلأت قناعة وعزيمة على الحضور، رحت أحضر محاضرتي، وأنا أقول في نفسي: سيرون أين تقع علومهم التي يتباهون بها أمام الإيمان.. وسيرون أن ما يسمونه [الإيمان الكلاسيكي] هو الإيمان الحقيقي الذي يتوافق مع العقل والعلم وكل حقائق الوجود.. ولا يمكن لتلك الخرافات الحديثة والحداثية التي يتشبثون بها أن تنال منه، أو تصل إلى جزء بسيط من قوّته وجماله.
***
ما هي إلا أيام حتى قليلة حتى سرت إلى الجامعة التي يقام فيها المؤتمر، وهناك وجدت الحشود الكثيرة من الطلبة والأساتذة وغيرهم، والذين تشكلوا على شكل صفوف لرؤية أنبياء الإيمان الجدد، وقد كانت الشرطة وغيرها من الأجهزة الأمنية قد طوقت المكان من كل النواحي حتى لا يصيب هؤلاء أي مكروه..
وقد أعطى ذلك كله هالة كبرى لأولئك الوفود في نفوس الطلبة وعقولهم، وذلك مما ملأ قلبي هلعا.. فالخوف ليس من المحاضرات التي تلقى، والتي ينصرف أصحابها بعد ذلك.. إنما الخوف من مشاعر التقديس التي يواجه بها أولئك الذين جعلوا أنفسهم في مراتب الأنبياء والأولياء ليبشروا بآلهتهم العلمية بدل الله.
ما هي إلا ساعات حتى افتتح رئيس الجمعية المؤتمر.. وبدأت معه سهام النقد للإيمان.. وبدأت معه سهام الدعوة للعلم.. وكأن العلم والإيمان عدوان لا يمكنا أن يجتمعا في عقل، أو يسكنا في قلب.
من الكلمات التي لا أزال أحفظها من حديثه قوله([2]): سادتي الحضور الكرام.. إن السؤال عن وجود الكون سؤال علمي بحت مثله مثل أي سؤال آخر نبحث له عن جواب.. فهل هناك شيء ما بعد حدود الكون؟.. هل هناك أكوان أخرى؟.. هل هناك كائنات عاقلة مثلنا تعيش في كواكب أخرى؟.. كل هذه الأسئلة أسئلة مهمة جدا، ونبحث لها عن جواب، طبعا؛ لكن لا علاقة لها بموضوع الله لسبب بسيط جدا، وهو أن وجود الله من عدمه لن يؤثر على النتيجة..
وهذا يدعو عقولنا العلمية إلى التساؤل عن مهمة الخلق بالله تحديدا.. وما هي الدلائل التي تشير الى أن هناك عملية خلق؟.. وهل الخالق هو الله تحديدا دون كل الآلهة الأخرى؟.. ألا يمكن أن يكون سبب وجود الكون هو سبب طبيعي جدا موجود في الكون ذاته، ولا يحتاج إلى قوة سحرية عاقلة لإيجاده؟
ثم راح يبتسم ساخرا، ويقول: إن السؤال عن خلق الكون سؤال قائم على مغالطة منطقية بحتة، يحاول فيها السائل خداع عقل المتلقي من خلال افتراض وجود عملية خلق، وكل ما علينا هو العثور على الفاعل، وفي هذه الحالة يتم افتراضه الله.. كما أن اعتقاد بعض العلماء بوجود الله لا يعني بأن الله موجود، أو بأن الله خالق، بل يعني فقط بأن هناك من يعتقد به فقط.
ثم راح يرفع صوته بكل تبجح غير مراع لمشاعر أولئك الحضور من المؤمنين الذين تم استدعاؤهم: ولذلك استدعيناكم باعتباركم أكبر علماء الدنيا وعباقرتها على مدار التاريخ لتجيبونا الإجابة العلمية الصحيحة عن علاقة أصل الكون بالإيمان بوجود الله من عدمه.. حتى نؤمن الإيمان الصحيح الذي يوافق العلم.. لا ذلك الإيمان الكلاسيكي المملوء بالخرافة والجهل والتخلف.
بعد أن انتهى من افتتاحيته المملوءة بكل ألوان البذاءة والسباب على المؤمنين، بدأت المحاضرة الأولى، وقد كانت لأكبر شخصية علمية في ذلك الوفد، وهو عالم في الفيزياء الحديثة، ومن الأصدقاء المقربين لستيفن هوكينج، وقد بدأ محاضرته بذكره، وبالثناء عليه، وبيان مكانته منه، ثم راح يحدق في وجوه الحاضرين بقوة، وكأنه اكتشف سر الأزل والأبد، ثم قال: سألقي بين أيديكم اليوم أول قنبلة.. فلا تخافوا.. إنها لن تمزق أجسادكم.. هي فقط مصممة لتفجير الخرافة والدجل الذي يسكن العقول..
ثم راح يفجر قنبلته بقوله: ماذا لو اكتشف العلماء في المستقبل القريب طريقة نشوء الكون.. فهل سيتوقف المؤمن إيمانا كلاسيكيا عن الإيمان بالله؟.. ألن يبحث حينها عن فراغ علمي جديد يضع الله فيه؟
ثم راح يجيب: الجواب على هذه الأسئلة لمن يفكر تفكيرا علميا سهل جدا.. فلنتذكر بأن الله في سالف الزمان كان يقوم بالملايين من الوظائف في الطبيعة، والتي تقلصت شيئا فشيئا مع اكتشاف العلم الحديث لأسباب سقوط المطر، وجريان السحاب، وشروق الشمس، وغيرها الكثير.. ففي كل مرة نكتشف أن سبب حدوث الأشياء هي قوانين الطبيعة البحتة، يتم دفع الله درجة إلى الوراء، فيقول المؤمنون بأن الله هو السبب وراء مسبباتها.. وعندما يتم اكتشاف السبب وراء مسبباتها كذلك، يتم دفع الله درجة أخرى للوراء وهلم جرا..
ثم راح يتجول بعينيه مسرورا في أنحاء قاعة المحاضرت الضحمة، ثم يقول: واليوم أبشركم معشر الحضور بأن الله وصل إلى مرحلة لا يفعل فيها أي شيء أكثر من أن يكون السبب والعلة الأولى فقط.. لكن، هل سيختفي الإيمان بالله لو عرفنا أن سبب نشوء الكون هو سبب طبيعي بحت، وهو ما يرجحه العلم؟
ثم سكت على هيئة المتأمل، ثم قال: نعم سيتلاشى الله حينها من الوجود إلا في تلك العقول الممتلئة بالخرافة.. والتي لا تجد حرجا في حشر الله في كل الفراغات العلمية، لأنها بالأساس قائمة على أن وجود الله هو مسألة بديهية، وعلى المؤمن التصديق بها دون أي سؤال، لذلك نجد المؤمن ـ ودفاعا عن هذه الفكرة التي يجد نفسه مجبرا للإيمان بها ـ يسعى لخلق الأسباب لإيمانه، في كل فراغ علمي يخطر على باله.. ورجال الدين يدركون اليوم بأنه إذا لم تكن لله وظيفة، أو غاية، أو هدف؛ فلن يجد المؤمنون سببا للإيمان بالله أكثر من القصص والغرائب التي تمتلئ بها الكتب الدينية. وهذا في حقيقة الأمر لا يسقي ولايشبع من جوع جائع اليوم بسبب ارتفاع مستويات التعليم.
بعد أن انتهى من محاضرته، وألقى ما شاء من هواه، قام ثان، وكان صديقا مقربا هو الآخر من كلورانس كراوس، وريتشارد دوكينز، وغيرهما من الشخصيات التي راح يشيد بها في أول محاضرته، ويشيد بعلاقته الشديدة بها..
قام، وقال([3]): أحب أن أنبهكم فقط إلى أن الاعتقاد الشائع بأن الملحد أو اللاديني أو اللاأدري يمتلك جوابا لكل شيء هو اعتقاد ديني مغلوط، ولا أساس له من الصحة.. لأن سبب هذا الاعتقاد هو عقل المؤمن الكلاسيكي بسبب اعتقاده الأزلي بالأجوبة السحرية لكل مجهول يجهله.. ولهذا يفترض المؤمن بأن هذا المجهول يجب أن يكون معلوما لمن ينكر وجود الله.. ومن هنا يتضح أن الله في عقل المؤمن هو ذلك الفراغ الشاسع الذي يأتي بعد علامة الاستفهام في كل سؤال لا يعرف إجابته.
***
بعد أن انتهت المحاضرتان، وألقي فيهما ما ألقي من القنابل الموقوتة وغير الموقوتة.. طلب منا رئيس الجلسة أن نأخذ بعض الراحة، وأن نغتنم الفرصة خلالها لنشاهد بعض المقاطع من شريط وثائقي بعنوان: [وثائقيات الكون] أو [أوديسة الزمكان]، وأخبرنا أنها وثائقيات علمية مهمة جدا، لا يمكن لطالب الإيمان الجديد أن يستغني عنها.. وذكر لنا أنها من إخراج [نيل ديجرايس تايسون]، والذي أحيا بها وثائقيات [سلسلة الكون] لكارل ساجان.
وقد بدأ المقطع الأول منها بما يسميه سفينة الخيال لاستكشاف الكون بماضيه ومستقبله.. ثم حاول إيضاح مكانتنا كسكان للكرة الأرضية في الكون، وموقعنا من المجموعة الشمسية، ومن المجرة، ومن المجرات الأخرى المجاورة، ومن الكون المرئي جميعا.. وكان الأصل في تلك المشاهد الجميلة التي قدمها أن تكون وثائق للاستدلال بها على عظمة الله، لكن تايسون راح ينحرف بها عن أغراضها، ويبين أن الإنسانية لم تكن دائماً تنظر الى الأرض والكون هذه النظرة العلمية الحالية، وأنها لذلك وقعت في فخاخ الدين ورجال الدين الذين أوهموها أن هناك إلها خالقا ومدبرا لهذا الكون.. ولست أدري الصلة بين ذلك كله.. لكن الإيمان الجديد وضع منطقا خاصا لكل شيء.
بعدها عُرض مقطع آخر يروي فيه تايسون كيفية سيطرة الإيمان الكلاسيكي على البشر حتى جعلهم يلهثون وراء أي علامية كونية، ويوهمون أنفسهم بأنها رسالة مرسلة إليهم حصراً.. وضرب مثالا على ذلك بالمذنبات، وما كانت تحدثه في نفوسهم من آثار.. ثم بين كيف استطاع الإيمان الجديد إزالة ذلك الهاجس القوي الذي كان يوحي بالطوالع السيئة لكل من رأى مذنباً.
ثم عُرض مقطع آخر يتطرق فيه تايسون الى أعمال كبار علماء الفيزياء من أمثال إسحاق نيوتن، وويليام هيرشيل، وجامس ماكسويل والبرت اينشتاين.. ثم يخوض في غمار الجاذبية تلك القوة التي يعتبرها قوة عنيدة، ويتحدث عن صراعنا معها، وعن إنجازاتنا وإنجازاتها، وتحدينا لها، وكيف لها أن تنشئ أكثر وأكبر وأعظم من أي أمر من الممكن أن نتصوره من النجوم المظلمة، والثقوب السوداء، والزمكان..
وهكذا عرضت مقاطع مختلفة تلاعب فيها المخرج بما شاء له من صور الكون الذي هو مجال معرفة بالله، وشاهد من شواهد وجوده، فراح يحولها إلى مشاهد للإلحاد والعبثية والحتمية وكل القيم المرتبطة بها.
***
بعد أن شاهدنا تلك المقاطع الوثائقية ذات الجودة الفنية العالية، طلب منا المنظمون أن نمر على معرض للوحات زيتية، كتبت عليها حِكم أصحاب الإيمان العلمي الجديد الذي لا يحتاج إلى الله.
فذهبنا إلى القاعة الكبرى المعدة لذلك.. فوجدنا لوحات كثيرة مصممة بأحسن تصميم، واستعملت فيها كل أنواع الإبداعات الفنية، وفوقها كتبت عبارات الكثير من كهنة الإلحاد الجديد.
ومن أمثلة ما كتب على بعض تلك اللوحات ما نقله ريتشارد دوكينز عن العلماء الذين أنكروا الله، وذلك في كتابه [وهم الإله]، والذي يعتبر آخر الكتب المقدسة وأهمها عند أصحاب الإيمان الجديد.
ومن تلك العبارات قول [دوجلاس آدمز]: (ألا يكفى النظر لروعة الحديقة وجمالها.. لماذا يجب علينا الإعتقاد بأن هناك جنيات خلفها أيضاً؟)
ومنها قول [جون ستيورات مل]: (من المحتم أنها ستكون صدمة هائلة لو عرف العالم كم هى نسبة المشككين فى الدين بين الحاصلين على أعلى الأوسمة لتميزهم اللامع فى مجالات العلم والفكر)
ومنها قول [فيليب جونسون]: (الداروينية هى قصة تحرير الإنسان من الوهم القائل بأن مصيره مرتبط بقوة أعلى منه)
ومنها قول [روبرت بيرسيغ]: (الجنون صفة لشخص واحد يعاني من وهم ما، أما عندما يعانى العديدون من نفس الوهم يدعى هذا الوهم ديناً)
ومنها قول [توماس جفرسون]: (أستاذ فى علم اللاهوت لا يجب أن يكون له محل فى دستورنا).. وقوله: (رجال الدين من مختلف الطوائف..يعانون من تقدم العلم كما يعانى السحرة من موعد شروق الشمس، ويعبسون فى وجه تلك الإطلاله التى تلعنهم بأن تلك الأوهام التى يعتاشون عليها فى طريقها للزوال)، وقوله: (السخرية هى السلاح الوحيد الواجب استخدامه ضد المقترحات غير الواضحة.. يجب أن تكون الأفكار واضحة قبل الإقبال على أى تصرف بناء عليها، ولا أحد على الإطلاق عنده فكرة واضحة عن الثالوث المقدس.. إنها الـ [افتح يا سمسم للنصابين ممن يسمون أنفسهم كهنة المسيح])
ومنها قول [بيرتراند راسل]: (الغالبية الساحقة من الأذكياء المثقفين لا يؤمنون بالدين، ولكنهم يخفون ذلك عن الجمهور، ذلك لأنهم خائفون على مصدر رزقهم)
ومنها قول [جورج كارلين]: (الدين أقنع الناس بأن هناك رجلاً خفياً يعيش فى السماء ويراقب كل ما تفعل فى كل لحظة من كل يوم. وهذا الشخص الخفى لديه لائحة بعشرة أشياء لا يريدك أن تفعلها. وإن فعلت أياً من تلك العشرة فإن لديه مكاناً خاصاً مليئاً بالنار والدخان والحريق والتعذيب والآلام، وسيرسلك لهناك حيث تعيش وتعانى وتحترق وتختنق وتصيح وتصرخ إلى أبد الآبدين وإلى نهاية الأزمان.. ولكنه يحبك طبعاً).
ومنها قول [مايكل شيرمر]: (ما الذى يستطيع أن يحرك المشاعر الروحية أكثر من النظر فى تلسكوب عملاق إلى مجرة بعيدة أو أن تكون بين يديك متحجرة عمرها 100 مليون عام أو أداة حجرية عمرها 500000 سنة وأنت تنظر إليها. أو وقوفك أمام الهوة الهائلة للمكان والزمان فى وادى جراند كانيون، أو الإصغاء لعالم نظر فى وجه الكون دون أن يرمش له جفن؟ ذلك هو العلم العميق والمقدس)
ومنها قول [كارل ساجان]، صاحب كتاب [النقطة الزرقاء الفاتحة]، والذي التقيت به في رحلتي الأولى إلى فندق الملاحدة: (أعجب أنه لم يحصل قط أن نظر دين ما الى العلم واستنتج [ذلك أفضل ما ظننا ! الكون أكبر وأعظم بكثير بل أدهى وأشد أناقة بكثير مما أخبرنا عنه الأنبياء؟] بدلاً عن ذلك يقولون: (لا، لا، لا.. الهي هو ذلك الإله الصغير وأريد له أن يبقى كذلك.. لو أن ديناً ما قديماً أو حديثاً قد أصر بشدة على الدهشة بعظمة الكون كما كشفه العلم الحديث لحصل ربما على قدر كبير من التقديس بدون أي ضرورة لوجود أي نوع من الإيمان التقليدي المتعارف عليه)
ومنها قوله: (ما يؤمن به غالبية الملحدون هو أنه على الرغم من أن الكون مادي بحت، فإن العقل والجمال والعواطف والقيم الأخلاقية وباختصار كل ما فى سلسلة الظواهر التى تعطى الحياة الإنسانية قيمتها قد أنبثقت منه)
ومنها قول آخر ساخرا: (لو عنينا بكلمة الإله مجموعة القوانين التى تحكم الكون، فهذا الإله موجود بالتأكيد، ولكن مثل هذا الإله لن يشبع رغباتنا العاطفية.. لأنه من غير المنطقي أن تصلي وتطلب غفران الخطايا من قانون الجاذبية)
ومنها قول آخر: (غريب هو وضعنا على كوكب الأرض.. كل منا يأتى فى زيارة قصيرة، لا يعرف لماذا ولكن نشعر فى بعض الأحيان بأن هناك غاية من الحياة اليومية، نعرف بأن هناك شىء مؤكد: وهو أن الإنسان هنا من أجل الإنسان الآخر وقبل كل شىء لأجل هؤلاء الذين سعادتنا تتوقف على سعادتهم وإبتسامتهم)
وغيرها من المقولات الكثيرة التي تفطر قلبي لمرآها.. وتمنيت لو كان معي المعول الذي هدم به إبراهيم عليه السلام الأصنام، لأهدم تلك اللوحات التي لا تقل عن أصنام قوم إبراهيم.
***
حينها رحت أبحث عن أي رجل دين كما ذكروا في الدعوة، لأتخذ معه موقفا، فلم أجد، اللهم إلا أنني، وبعد أن ضاقت نفسي أردت الخروج، فطلب مني بعض المنظمين أن آكل بعض الحلويات، فلم تطاوعني نفسي أن آكل في ذلك المحل.. لكني وجدت من غير قصد مجموعة من رجال الدين بملابسهم التي تدل على أديانهم، يأكلون ويضحكون، وكأن شيئا لم يحصل.
بعدها خرجت قليلا إلى الساحة، وهناك حدثتني نفسي أن أعود إلى بيتي، فرأسي يكاد ينفجر من تلك الجرأة التي يتجرؤون بها على الله.. ولا أكتمكم أني خشيت حينها أن يخسف بنا، أو تنزل من السماء شهب تحرقنا بنارها، فأُحرق معهم، لأني لم أستطع أن أفعل شيئا.
لكني ما إن هممت حتى أمسكت يد بي بقوة، فالتفت إلى صاحبها، فوجدت كهلا ممتلئا بالقوة، وعليه سيما المؤمنين، يقول لي: إلى أين تذهب.. أتريد أن تفر من الزحف؟
قلت: من أنت؟.. وما الذي تقصد؟
قال: لا يهمك من أنا.. وما أقصده واضح.. ولن يحتاج مني إلى شرح.
قال ذلك، ثم سار، وتركني، فلم أملك إلا أن أعود رغم أنفي لأسمع تلك الكلمات التي تتفطر لها القلوب، وتندك لها الجبال.
***
لكني قررت قرارا بيني وبين نفسي، تذكرته عندما خطر على بالي قصة أصحاب الكهف، حين قاموا بين قومهم الجاحدين، وراحوا يصرخون بقوة: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) } [الكهف: 14، 15]
فتحينت فرصة اجتماع الشمل، وهدوء القاعة، قبل أن تبدأ الجلسة الثانية للمؤتمر، ورحت أصيح بكل قوة: اسمعوني أحدثكم..
لكني شعرت بأن فمي يتحرك، لكن الصوت لا يخرج منه.. حاولت جهدي أن أخرجه لكنه أبى علي.. حينها تذكرت زكريا عليه السلام، وكيف مُنع من الكلام، وكان في ذلك آية له.. فحمدت الله، وعلمت أن الأمر ليس بيدي، وأن الموقف ليس موقف صراخ ولا صياح، وإنما موقف هدوء وتريث.. وقد أضاف إلى هذه القناعة التي حصلت لي أني رأيت عدم جدوى ما كنت أنوي ممارسته، فهؤلاء قد سُلحوا بأسلحة السخرية والبذاءة التي تحول الحقيقة الجميلة سما ناقعا.
ربت على كتفي حينها شاب، أظنه كان من طلبة تلك الجامعة، وقال: لا تقلق.. فكل شيء سيسير على ما يرام.. فالشمس أعظم من أن يستطيع أي جاحد نكرانها.
لم أفهم قوله في ذلك الحين إلا بعد أن عاينت ما عاينت من الأحداث التي سأتلوها عليكم.. فلا تستعجلوا.
***
في مساء ذلك اليوم، وبعد أن قُدمت الكثير من المحاضرت، وبعد أن نال الحضور حضهم من التعب والجهد، جاء دوري لإلقاء محاضرتي.. والتي أعددتها إعدادا كافيا لأرد على كل تلك الشبه التي ألقيت.. وقد انتقيت ألفاظها بدقة خشية على الوقت المحدود الذي سمح لي به.
لكني ما إن بدأت حديثي، حتى قاطعني رئيس الجلسة، وقال: أود أن أخبركم فقط بأن الرئيس المسؤول عن [مؤسسة ريتشارد دوكنز للمنطق والعلوم] قد حضر في هذا الوقت، ويمكن لمن شاء أن يزوره، أو يأخذ صورا تذكارية معه، فهو الآن في باحة الفندق.
قال ذلك، ثم سلم لي مكبر الصوت، وقال لي: يمكنك أن تكمل.. واعذرني لأن لدي بعض المهام.. وقد سمحت لك بوقت زائد على كل المحاضرين السابقين.. لا تنس فقط أن تغلق مكبر الصوت عندما تنتهي من الحديث.
قال ذلك، ثم خرج، وتبعه كل من في القاعة.. ولم يبق إلا بعض العمال الذين كانوا ينظرون إلي بسخرية، وأنا أتحدث لوحدي، وبحماسة شديدة، في تلك القاعة الكبرى.
***
لكن المفاجأة التي لم أكن أحسب لها أي حساب هي ما حصل في اليوم التالي، حيث حضرت حافلات كثيرة إلى الفنادق التي كانت تقيم فيها تلك الجموع الكثيرة، ثم سارت بنا مسافات طويلة، وأخبرنا خلالها أننا سنزور بلدة لا زالت تحافظ على الإيمان الكلاسيكي بكل عقائده وقيمه، وأن العلماء الذين جاءوا من بلاد بعيدة أحضروا معهم كاميرات، ليصوروا مشاهد عن تلك البلدة التي لا تزال غارقة في بطون التاريخ، ولم تعرف الحضارة بعد.
عندما دخلنا إليها كانت بسيطة جدا، وكانت مساكنها طينية غير مزخرفة بأي لون من ألوان الزينة.. ومما زاد في كآبتها تجرد أرضها من كل خضرة أو ماء.. فهي صحراء قاحلة لا تكاد توجد الحياة فيها.
سخر الجميع منها.. وراح بعضهم يتهكم على الدين بسببها، ويقول: يكفينا من الأدلة على قيمة الإيمان الجديد رؤية هذه البلدة التي كان الدين سببا في تخلفها.
وقال آخر: هل يمكن أن يعيش بشر على هذه الأرض القاحلة، وفي هذه المساكن التي لا تختلف عن مساكن الحيوانات؟
وقال آخرون كلاما كثيرا يشبه هذا أو يقترب منه..وبعضهم قاله ببذاءة لم أطق سماعها، ويستحيل أن يجرأ لساني على النطق بها، أو قلمي على كتابتها.
***
ما إن وصلنا مركز البلدة حتى وجدنا جمعا كبيرا من الناس، يلبسون ملابس بدوية، وينتظروننا بكل احترام وتقدير، وكأنهم لا يعلمون أن من زارهم قوم لا يعرفون الله، ولا يبالون به.. بل يحاربونه.
لكني عرفت بعد ذلك أنهم كانوا يعلمون ذلك، وموقنون به.. لكن أخلاقهم والقيم التي رُبوا عليها منعتهم أن يسلكوا سلوكا مخالفا لذلك.
وقد أخبرني بهذا بعضهم بهذا، بعد أن قلت له: هل تعرفون عقائد من زاركم حتى تستقبلوه بكل هذه الحفاوة؟
قال: نحن لا تهمنا عقائد الناس، فالله هو الذي يتولاها.. نحن نتعامل معهم وفق قيمنا وأخلاقنا وديننا..
قلت: لكنهم كفرة ملاحدة جاحدون محاربون لله؟
قال: ألم تكن لنا في يوسف عليه السلام.. وكيف تعامل مع أهل السجن، فلم يجدوا إلا أن يعتبروه صديقا؟
قلت: بلى.. ولكن ذلك يوسف.. وأهل السجن قوم سذج بسطاء.
قال: القرآن الكريم ربانا على القيم والأخلاق الرفيعة، ولا يهم من نتعامل معه بتلك الأخلاق هل هم سذج بسطاء أم عباقرة علماء؟
قال ذلك، ثم أسرع يقدم بعض الخدمات لأولئك الجاحدين الغافلين الذين امتلأ قلبي حينها حقدا عليهم.
***
بعد أن قدم الطعام والشراب للزوار في ساحة البلدة، أعدت منصات للعلماء الوافدين، وطلب من الحضور أن يجلسوا على البسط، للاستماع إليهم، ومناقشتهم، وحينها تقدم عمدة البلدة، وقال: لقد شرفنا اليوم علماء كبار، وفلاسفة عباقرة، وهم ـ كما يذكرون ـ من دعاة الإيمان الجديد، وقد رأوا أن إيماننا مثل بيوتنا الطينية، لا يزال قديما، ويحتاج إلى تجديد.. فلذلك استمعوا لهم، وناقشوهم كما تشاءون.
ثم التفت إلى العلماء، وقال: لا يغرنكم مظهر هذه القرية البسيطة فهي تحوي علماء من كل التخصصات، وقد درسوا في بلاد مختلفة.. ولهم اطلاع على الكثير من العلوم.
حينها قال بعض الحاضرين ساخرا للعمدة: إن كان الأمر كذلك، فلم لم يطوروا بلدتهم ليحولوها إلى بلدة جديدة..
ابتسم، وقال: مناخ بيئتنا وتضاريسها اقتضت أن تكون أبنيتنا بهذا الشكل، ونحن متعودون عليها مسرورون بها.. وقد جرب بعضنا أن يرحل إلى بلاد أخرى.. لكنه عاد بعد ذلك، لأنه لم يطق العيش فيها.. هذه طبيعة الحياة، ولكل امرئ من دهره ما تعود.
***
ظللنا في ذلك المكان يوما كاملا إلى وقت متأخر من الليل، وقد كان ذلك اليوم من أيام الله التي انتصر فيها الإيمان على الإلحاد.. وأعليت فيها كلمة الله.. ونكست فيها أعلام الشيطان.
وقد علمت بعد
ذلك كله سر حضوري، وعلاقة ذلك كله بمعلم الإيمان.. كما سنرى في باقي القصة.. فلا
تستعجلوا.
([1]) إشارة إلى [الإلحاد الجديد]، فالإلحاد ليس إلا عقيدة وثنية تؤله الطبيعة وقوانيها بدل الله.
([2]) هذا النص مقتبس بتصرف من كلمة لبسام البغدادي، وهو الملحد المعروف بمجاهرته بالإلحاد ودعوته إليه، في قناة الملحدين بالعربي، وغيرها من المواقع.
([3]) هذا النص مقتبس بتصرف من كلمة لبسام البغدادي، في قناة الملحدين بالعربي.