البداية

البداية

في صباح ذلك اليوم الذي التقيت فيه معلمي الجديد [معلم الإيمان] كنت في غاية الاكتئاب والإحباط بسبب مشهد افتتحت به يومي، جعلني أمتلئ حنقا على التطرف والمتطرفين على أي ملة كانوا.. متدينين أو غير متدينين.

فقد رأيت شابا كنت أعرفه بالتزامه الديني المتشدد، وبلحيته الطويلة، ولسانه الذي لا يقل عنها طولا.. لكني رأيته في ذلك الصباح بصورة معاكسة تماما، فقد انتقل مباشرة ومن غير جسور من تطرف إلى تطرف، ومن غلو إلى غلو..

وكما تجلى تطرفه الأول على شعر لحيته.. فقد تجلى تطرفه الثاني على شعر رأسه.. فقد رأيته يقصه قصات غريبة، جعلتني أقترب منه، وأقول له بكل لطف: ألست فلانا؟

قال: بلى.. فما حاجتك إلي؟

قلت: ألا ترى أن ما فعلت بشعر رأسك لا يتناسب مع مؤمن متدين.. فأنت تعلم نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن..

بمجرد أن قلت هذا، قاطعني بغضب وجفاء وتجهم لا يقل عن تجهمه في تطرفه الأول، وقال: دعني من أولئك البدو الجفاة الغلاظ.. فمن أين لي بأن الله أرسل بشرا.. ومن أين لك بأنه يوجد إله أصلا.. أنت لا تعلم ما قال العلم الحديث.. وما قال..

قاطعته، وقلت: هل أنت الذي تقول هذا؟.. ما بك يا رجل؟.. أين ذهب عقلك؟

قال: بل أين ذهب عقلك أنت؟.. لقد كنت غبيا مثلك.. لكني اكتشفت الحقيقة بعد أن عاد إلي عقلي ووعيي.. وأنا الآن أعيش حياتي بكل حرية، لا يقيدني فيها إله، ولا يتحكم في دين.. فأنا أحق بحياتي من غيري.. لقد اكتشفت ـ كما اكتشف سارتر ـ أن وجود الله يعطل وجودي أنا، فلذلك كان (الأفضل أن لا يكون الله موجودًا حتى أُوجد أنا)

قال ذلك، ثم انصرف عني، وهو يصفر ويرقص كالمجانين.. حينها لم أجد من فرط اكتئابي إلا أن أسير خارج قريتي لأستلقي على عشب بعض المروج، أتأمل السماء والجمال المودع فيها، وأتعجب من تلك العقول التي تغفل عن كل هذه الصنعة الإلهية، والعناية الربانية، لترتع في مستنقعات الشياطين.

حينها جاءني معلمي الجديد [معلم الإيمان] محاطا بهالة النور التي تغشاه من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه، وقال لي: قم لنزور الهاربين من جحيم الإلحاد..

قلت: أتريد أن تعود بي إلى فندق الملاحدة.. ذلك الفندق الذي امتلأت فيه بالمرارة والألم؟

قال: لا.. ستزور اليوم جنات الهاربين من جحيم الإلحاد.. أولئك الذين أعملوا عقولهم، وطهروا نفوسهم، فاستعدوا لنيل فضل الله بالهداية التي أخرجتهم من ظلمات الضلالة إلى نور الإيمان.. ومن جحيم الجحود إلى نعيم العرفان.

قلت: لا تذكرني بالجاحدين المارقين.. فقد رأيت اليوم أحدهم، وكاد قلبي ينفطر لمرآه، وكادت يدي تمتد لرقبته، فتخنقها.. ليتك سمعت ما قال.

قال: ما أكثر من قال ما قال.. لكنه عاد إلى وعيه، وعادت إليه فطرته، وفر من جحيم الملاحدة لتستقبله جنان فضل الله.. فالله كريم غفور شكور..

قلت: لكنك لم تسمع ما قال.. ولو سمعته لما رددت علي هذا.

قال: ربما لم أسمعه، ولكني سمعت السحرة حين دخلوا على فرعون قائلين: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء: 44].. ولم يخرجوا من عنده إلا وهم يقولون: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء: 47، 48]

قلت: ربما كان لأولئك السحرة بعض العقل الذي جعلهم يرددون ذلك.

قال: لا تحجر هداية الله وفضله العظيم.. وسلم لربك، ولا تقترح عليه.. وإن كان لك من شيء تفعله نحوهم، فهو أن تدعو الله لهم بالهداية، وأن تقوم بما يجب عليك من إقامة الحجة والدليل.. فالله تعالى يقول: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]

قلت: لكن هؤلاء لا يفهمون حجة.. ولا يقتنعون بدليل.. وكيف يتاح لهم ذلك، وقلوبهم مغلقة، وعقولهم معطلة، ونفوسهم مدنسة؟

قال: أد ما عليك من واجب.. واترك لله الهداية.. فـ { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [القصص: 56]

قلت: بأي لغة تريد أن أحدثهم.. وبأي حجة تريد أن أخاطبهم.. وهم قد سدوا آذانهم عن كل ألوان الحجج؟

قال: خاطبهم بأي لغة تتناسب مع عقولهم وأمزجتهم.. فلله طرائق بعدد الخلائق.

قلت: فهلا وصفت لي بعضها.. فأنت معلم الإيمان.

قال: لأجل هذا جئتك اليوم.

قلت: هل تقصد تعليمي براهين الإيمان؟

قال: سأذهب بك إلى من يعلمك تلك البراهين..

قلت: من تقصد؟

قال: أولئك الذين اكتووا بنار الإلحاد، ثم منّ الله عليهم بالهداية، فهم أدرى الناس بمسالك الإيمان لدرايتهم بمسالك الشبه.

قلت: أتقصد أننا سنزور في رحلتنا هذه ملاحدة؟

قال: سنزور من اكتووا في يوم من أيام حياتهم بنار الإلحاد.. لكن هداية الله تداركتهم بسبب صفاء سرائرهم، وطهر نفوسهم.. فلذلك خرجوا من جحيم الإلحاد.. ودخلوا جنات الإيمان.

قلت: فمن هم؟

قال: كثيرون.. ستراهم.. وتسمعهم.. ولك أن تسألهم.. ولهم أن يجيبوك.

قلت: هل سنذهب الآن إليهم.

قال: لا.. سيأتون هم إلينا..

قلت: لم أفهم ما تعني.

قال: حدق بصر الإيمان.. وسترى ما لم تكن ترى، وتسمع ما لم تكن تسمع.

قلت: ما علي فعله؟

قال: أغمض عين الملك، وافتح عين الملكوت.. وسترى من العوالم ما كان محجوبا عنك.

فعلت ما طلبه مني، كما دربني على ذلك معلم السلام.. وفجأة رأيت شيئا عجيبا..

لقد تحولت تلك المروج التي كنت مستلقيا على عشبها إلى جنات وارفة ممتلئة بكل أصناف الأزهار، وكل أنواع الطيور.. وكان أريجها يعبق بنسيم عليل ممتلئ بالروائح الطيبة.. وكأن الجنة قد تنزلت من عليائها إلى ذلك المكان..

وفجأة رأيت بشرا كثيرين يجتمعون جماعات متفرقة.. يجلسون على أرائك من العشب الخالص.. يبتسم بعضهم لبعض، ويحدث بعضهم بعضا..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *