الإمام المهدي.. والمنكرون له

الإمام المهدي.. والمنكرون له

من عجائب تحكم الهوى في عقول التنويريين الجدد تلك المحادة لله ورسوله في أمور قطعية وردت بها الأحاديث المتواترة، المتفق عليها من جميع المدارس الإسلامية، بحجج لا يمكن أن يقتنع بها عاقل إلا إذا كان له الجرأة الكافية على رفض النصوص المقدسة ومخالفتها وتقديم هواه عليها.

وحينها يمكن إلزامه بإنكار ما عداها من النصوص التي تساويها في الثبوت، أو حتى تلك التي تقل عنها فيه.. وحينها سيفرغ الدين من كل محتوياته، لأنه لا يمكن أن تبقى شعيرة من شعائر الإسلام ولا حكم من أحكامه بعد رفع الثقة عن المتواتر القطعي المتفق عليه.

وربما يكون أحسن نموذج لهذا التألي على الله موقفهم من الإمام المهدي، ذلك الذي تواترت النصوص المقدسة على التبشير به، واعتباره أملا للأمة، بل للبشرية جميعا، وأن الأرض بمجيئه ستمتلئ عدلا بعد أن ملئت جورا، وأن الحق سيعود لنصابه، وأن الدين سيظهر عنده على الدين كله.

لكن التنويريين لم يلاحظوا كل هذا، بل راحوا بجرة قلم ينفون كل تلك النصوص، لأن عقولهم لم تقتنع بها، ولست أدري هل اقتنعت عقولهم بقوله تعالى: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105، 106]، وهو صريح ينطبق تماما على الإمام المهدي ومن بعده من الصالحين الذين يرثون الأرض بعد أن ينهار مشروع الشيطان، ويقوم مشروع الرحمن.

وفي إخباره تعالى عن كون هذه القضية مذكورة في الزبور إشارة صريحة إلى أن البشارة بالإمام المهدي ليست خاصة بهذه الأمة فقط، بل هو مبشر به في سائر الديانات.. فكلها يذكر وجود مخلص في آخر الزمان، وإن كانوا يختلفون في اسمه.

وبذلك لا يستعمل التنويريون عقولهم في مواجهة النصوص النبوية القطعية المتواترة المتفق عليها فقط، بل يقفون أيضا في وجه القرآن الكريم، وفي وجه كل الديانات التي تنص صراحة على وجود المخلص، وتنتظره، وتعقد آمالا كبيرة عليه.

وللأسف، فإن الموقف من الإمام المهدي على الرغم من الدلائل الكثيرة التي تدل عليه، لم يكن خاصا بالتنويريين الجدد، بل انضم إليهم الكثير من الحركيين، بل حتى من السلفيين الذين اشتهروا بتكفير كل من يكذب ولو حديثا واحدا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكنهم مع أحاديث الإمام المهدي راحوا يتساهلون، بل يلتمسون الأعذار لمن أنكره، بل إن فيهم من تجرأ على إنكاره، ومع ذلك لم يتهم بتلك التهم التي اتهم بها من شكك في أحاديث لطم موسى عليه السلام لملك الموت وغيره.

وسر ذلك هو تلك القاعدة التي تبناها الجميع في اعتبار التشيع بدعة مطلقة، وشرا مطلقا، ولذلك فإن السنة عندهم هي مخالفة الشيعة، حتى لو جر ذلك الخلاف إلى خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.

وقد رأى الجميع مبلغ اهتمام الشيعة بالإمام المهدي، واعتباره مشروعا كاملا للمؤمن، يدخل في جميع أجزاء حياته، فبركاته عندهم لا يتنعم بها أهل عصره فقط، بل تتنعم بها كل العصور، لأنه يعيش في كل العصور.. ولذلك نجد من ألقابه عندهم [إمام العصر والزمان]

وهو عندهم أشبه بالشمس التي حجبها الغمام؛ فهم يتنعمون بها من خلف الغمام، ويعملون كل جهدهم ليزيحوا ذلك الغمام لتبدو الشمس منيرة للعالم كله، فتحجب بطلعتها البهية كل ظلمة، وتزيل كل عناء، وترفع كل جور.

وبناء على هذا كله راح الجميع يبشرون بعدم وجود الإمام المهدي، حتى أن القرضاوي وفي برامجه التي تبثها الجزيرة، والتي يشاهدها مئات الملايين، كان ينكر كل حين أحاديث الإمام المهدي، ويعتبره خرافة لا وجود لها.

ويستدل لذلك، لا بما يعارض ذلك من القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف، أو الأدلة العقلية، وإنما بما سمعه وكتبه الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشئون الدينية فى دولة قطر فى كتابه [لامهدى يُنتظر بعد الرسول محمد خير البشر]، والذي قال فيه: (إن أحاديث المهدى ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة بل كلها مجروحة وضعيفة، والجرح مقدم على التعديل وقد رجح أكثر العلماء المتأخرين خاصة أهل الأمصار بأنها كلها مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهى أحاديث خرافة سياسية إرهابية، صيغت وصُنعت على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنعها غلاة الزنادقة لما زال الملك عن أهل البيت؛ فأخذوا يُرهبون بها بنى أمية ويتوعدونهم بأنه سيخرج المهدى وقد حان وقت خروجه فينزع الملك عنهم ثم يرده إلى أهل البيت إذ أنهم أحق به وأهله)

مع العلم أن هذا الشيخ ابن نجد، وأحد أبرز رموز المدرسة الحنبلية الوهابية، فقد تلقى دروسه على يد الشيخ عبدالملك بن إبراهيم آل الشيخ – قاضي حوطة بني تميم -، ولازم الشيخ عبدالعزيز الشثري (أبو حبيب)، وطلب العلم على يد الشيخ محمد بن إبراهيم – مفتي الديار السعودية – بالرياض وأخذ عنه سنة كاملة، ثم اختاره ابن إبراهيم ضمن ثمانية من أبرز تلاميذه للذهاب إلى #مكة للوعظ والتدريس بها([1]).

وقد استعمل في رسالته التي أنكر فيها الإمام المهدي نفس أسلوب السلفية في التشدد مع المخالفين، ولكنه في هذه المرة تشدد مع الأحاديث نفسها على الرغم من أنه يقبل ما هو دونها، بل يبدع من أنكر ما هو دونها بكثير، وقد قال معبرا عن الدوافع والرغبات التي جعلته ينكر الإمام المهدي، واعتباره بدعة دخيلة على الإسلام: (حتى لو صدقنا الأحاديث الواردة في المهدي، فهو ليس بملك معصوم، ولا نبي مرسل، ما هو إلا رجل عادي، كأحد أفراد الناس إلا أنه عادل، وكل الأحاديث الواردة فيه ضعيفة ويترجح أنها موضوعة على لسان رسول الله ولم يحدث بها)

وقال: (لا يجب الإيمان الجازم بخروجه، فليس من عقيدة المسلمين الإيمان به، ليست كالإيمان بالرب والملائكة والبعث والجنة والنار، فهذه كلها أثبتها القرآن وصحيح السنة، وليس منها الإيمان بالمهدي.. والحاصل أنه يجب طرح فكرة المهدي ونبذها، وعدم اعتقاد صحتها، وعندنا كتاب الله نستغني عنه من كل بدعة، واتباع كل مبتدع مفتون.. فلا نفع للمسلمين أن يهربوا من واقعهم، ويتركوا واجباتهم لانتظار مهدي مجهول، فيركنوا إلى الخيال والمحالات، ويستسلموا للأوهام والخرافات)

وقال: (مسألة المهدي ليست في أصلها من عقائد أهل السنة القدماء، فلم يقع لها ذكر بين الصحابة في القرن الأول، ولا بين التابعين، وأن أصل من تبنى هذه الفكرة والعقيدة هم #الشيعة، فسرت هذه الفكرة، بطريق المجالسة والمؤانسة والاختلاط إلى أهل السنة، فدخلت في معتقدهم، وهي ليست من أصل عقيدتهم)

وقد أشاد يوسف القرضاوي بهذا الكتاب، واعتبره مرجعا لهذه المسألة، وقد ذكر في بعض أحاديثه المتلفزة التي يراها عشرات الملايين أنه حضر (للقاء بين العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، فلم يستطع الألباني إقناع عبد الله بموضوع المهدي وصحة أحاديثه)

وهذا من العجيب أن يحكم في مسألة ترتبط بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خلال مجلس من المجالس، أو من خلال شخصية من الشخصيات، ولست أدري أيهما أكثر علما بالحديث: هل الألباني المختص صاحب المصنفات الكثيرة فيه، أم ابن محمود ذلك الذي لم يشتهر إلا برسالته التي ينكر فيها الإمام المهدي؟

ولم يكن القرضاوي ولا ابن محمود وحدهما من أنكره، بل أصبح الآن هو العقيدة المشتهرة خاصة بعد أن قام عدنان إبراهيم وتلاميذه من التنويريين بشن الحملة الشديدة عليه، حتى صار الحديث عن الإمام المهدي كالحديث عن التنين وعروس البحر وسائر الخرافات.

ولم يقتصر الأمر على الإنكار، بل أصبح الإمام المهدي ـ أمل الأمة الأكبر، ومن نصت عليه النصوص المقدسة، ذلك الذي يتلهف المؤمنون للقائه ـ موضع سخرية من صبيان الأمة وشيوخها وشبابها.

ولهذا سأذكر هنا باختصار شبهاتهم الكبرى مع الرد العلمي عليها.

الشبهة الأولى: ضعف الأحاديث الواردة في شأنه:

وهي شبهة عجيبة، ولو طبقنا هذا المعيار على جميع الأحاديث النبوية الشريفة، لألغيناها جميعا، وألغينا معها كل الأحكام الشرعية، فالقرضاوي وعدنان إبراهيم وكل من أنكروا أحاديث الإمام المهدي يقبلون بما هو أدنى منها بكثير، وهذا دليل على تحكم الهوى، لا النص المقدس، ولا العقل، ولا الفطرة، ولا أي شيء آخر.

ذلك أنه لا يوجد أي شيء يمكن أن تعارض به تلك الأحاديث.. فلا هي تخالف العقل، ولا هي تخالف الفطرة، ولا هي تخالف القرآن الكريم، ولا هي تخالف أي معلوم من الدين بالضرورة، بل هي تنص فقط على أنه سيظهر في المستقبل من يعيد إحياء الدين، ومن في عهده يظهر دين الله على الدين كله، وليس في ذلك أي حرج، فقدرة الله أعظم من أن تعجز عن تنفيذ ذلك.

فمن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطى المال صحاحاً، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعاً أو ثماني (يعني حججاً)([2])

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة)([3])

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجل مني أو من أهل بيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)([4])

وغيرها من الأحاديث الكثيرة، التي لو شئنا لفهمناها على ضوء القرآن الكريم، فهي جميعا ليست إلا بيانا لما ورد النص عليه في النصوص الكثيرة من انتصار الإسلام على الدين كله، وهيمنته عليه، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [التوبة: 33]، وقال: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28]

أو تلك النصوص التي تخبر بأن الأعداء مهما فعلوا؛ فلن يستطيعوا أن يطفئوا نور الله، كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [التوبة: 32]، وقال: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]

وغيرها من النصوص المقدسة الكثيرة التي تخبر أن الأمة ستعود إلى رشدها، وستسير خلف القائد الرباني الذي يقوم دينها، ويزيل كل الانحرافات التي علقت به، والتي جعلته أقرب إلى دين البشر منه إلى دين الله.

لكن مع ذلك نجد شيخا كالقرضاوي يبلغ به الهوى إلى درجة أن يستدل على الملأ بكون الأحاديث المرتبطة بالإمام المهدي ضعيفة لأنها لم ترد في الصحيحين، مع أنه يعلم جيدا أن عدم ذكر الشيخين [البخاري ومسلم] لأحاديث المهدي في صحيحيهما، لا يعد دليلا على إنكار المهدي لأنهما لم يستوعبا كل الصحيح في صحيحيهما، وذلك بشهادتهما، فضلا عن إجماع علماء الحديث والفقه على ذلك، والقرضاوي نفسه يقول بذلك.

بل إننا لو تأملنا في الكثير من الأحاديث الواردة في الصحيحين، لوجدنا أنها لا تنطبق إلا على الإمام المهدي، كما أقر بذلك شراحهما، بل إن جمعا من علماء الحديث أقر بأن في الصحيحين أحاديث تتعلق بالمهدي، وإن لم تكن صريحة في ذكر المهدي.

وفوق ذلك كله؛ فقد نص العلماء على تواتر الأحاديث الواردة في شأنه، ومنهم العلامة أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي الذي قال: (اعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على مر الأعصار أنه لابد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن عيسى عليه السلام ينزل من بعده فيقتل الدجال، أو ينزل معه فيساعده على قتله، ويأتم بالمهدي في صلاته.. وخرج أحاديث المهدي جماعة من الأئمة منهم: أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والبزار، والحاكم، والطبراني، وأبو يعلى الموصلي، وأسندوها إلى جماعة من الصحابة مثل: علي، وابن عباس، وابن عمر، وطلحة، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة، وأنس، وأبي سعيد الخدري، وأم حبيبة، وأم سلمة، وثوبان، وقرة بن إياس، وعلي الهلالي، وعبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنهم.. وإسناد أحاديث هؤلاء بين صحيح، وحسن، وضعيف. وقد بالغ الإمام المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون المغربي في تاريخه في تضعيف أحاديث المهدي كلها فلم يصب بل أخطأ)([5])

وقال القاضي الشوكاني تأليف له سماه (التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح): (والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً فيها الصحيح، والحسن، والضعيف المنجبر، وهي متواترة بلا شك ولا شبهة، بل يصدق وصف التواتر على ما دونها على جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول، وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي فهي كثيرة أيضاً لها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك)([6])

وقال الإمام أبو الحسن محمد بن الحسين الآبري في كتاب (مناقب الشافعي): (وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذكر المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلاً، وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأمة ويصلي عيسى خلفه)

وقال العلامة المحدث أبو العلاء السيد إدريس بن محمد بن إدريس العراقي الحسيني: (أحاديث المهدي متواترة – أو كادت – وجزم بالأول غير واحد من الحفاظ النقاد)

قال المحدث أبو الطيب صديق حسن الحسيني البخاري في كتاب (الإذاعة): (والأحاديث الواردة في المهدي على اختلاف رواياتها كثيرة جداً تبلغ حد التواتر، وهي في السنن وغيرها من دواوين الإسلام من المعاجم والمسانيد)

وقال العلامة أبو عبد الله محمد جسوس في شرح رسالة أبي زيد: (ورد خبر المهدي في أحاديث ذكر السخاوي أنها وصلت إلى حد التواتر)

بل إن الشيخ عبد العزيز بن باز أثبت تواترها، ورد على أنكر صحتها أو تواترها، فقال: (أما إنكار المهدي المنتظر بالكلية كما زعم ذلك بعض المتأخرين فهو قول باطل، لأن أحاديث خروجه في آخر الزمان، وأنه يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً، قد تواترت تواتراً معنوياً، وكثرت جداً واستفاضت كما صرح بذلك جماعة من العلماء بينهم: أبو الحسن الآبري السجستاني من علماء القرن الرابع، والعلامة السفاريني، والعلامة الشوكاني وغيرهم، وهو كالإجماع من أهل العلم، ولكن لا يجوز الجزم بأن فلاناً هو المهدي إلا بعد توافر العلامات التي بينها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأحاديث الثابتة، وأعظمها وأوضحها كونه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً)([7])

بالإضافة إلى هذا، فقد ألفت المؤلفات الكثيرة في الروايات المرتبطة بالإمام المهدي، والتي لم يكتبها الشيعة فقط، وإنما كتبها أعلام كبار من المدرسة السنية، بل من المدرسة السلفية نفسها، فقد كتب الشيخ عبد المحسن العباد كتابه: (الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي)، وكتب الشيخ حمود بن عبدالله بن حمد التويجري مجلداً بعنوان (الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر)، وغيرهما كثير.

ومما يؤكد هذا التواتر ويدعمه تلك الروايات الكثيرة جدا، والتي رويت في المصادر الشيعية بالطرق الصحيحة المعتبرة، وللأسف فإن الذين ينكرون صحة أحاديثه، أو ينفون تواترها، يستكبرون على تلك النصوص الكثيرة، والتي تتجاوز حد التواتر بكثير.. ولكنهم لكبرهم يتصورون أنه لا حديث إلا الذي يحدثهم به من ينتمون لمدرستهم، وتشبعوا بفكرهم.

ومن هذا الباب تلك الشبهة التي يذكرون فيها أن الأحاديث المرتبطة بالإمام المهدي من رواية الشيعة لا من رواية السنة، وهذا خطأ كبير، فأغلب الروايات الواردة في كتب السنة عن الإمام المهدي ليس في اسنادها أي رجل متهم بالتشيع.

الشبهة الثانية: عدم جدوى التبشير به أو انتظاره:

وهي من الشبه العجيبة، التي لا نسمعها من المستشرقين، ولا من المستغربين، وإنما من المسلمين الذين يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى، ويعلمون أن كل ما يقوله حق وخير، وأنه لا مجال لإدخال العقول في تكذيب ما قاله أو توجيهه.

ولهذا كان الأجدر بهم الاكتفاء بإثبات عدم صحة الأحاديث الواردة عنه، لا إدخال أهوائهم، ورد الأحاديث بسبب كون الدين قد اكتمل، ولذلك لا حاجة لأي مهدي يجدده، أو يصحح ما انحرف منه.

والعجيب أن هؤلاء الذين يتساءلون عن مدى جدوى الإخبار عنه، لا يتساءلون عن جدوى ما ورد في النصوص المقدسة من أن الشمس ستشرق من مغربها، أو الدخان، أو الدابة، أو يأجوج ومأجوج، وغيرها من الآيات التي ورد في النصوص المقدسة أنها ستكون علامات على الساعة.

فإذا ما سألهم أحد عن سرها، أحالوه إلى علم الله، وكون الله أعلم بخلقه، وأنهم لا يحيطون بشيء من علمه، أو قرأوا عليه ما قصه الله تعالى علينا عن الملائكة عندما أخبرهم بأنه سيجعل خليفة في الأرض، فقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]

وكان في إمكانهم أن يسترشدوا بهذه الآية الكريمة، ليتعلموا فن الأدب مع الله تعالى؛ فلا يعقبوا عليه، ولا يردوا أمره؛ ذلك أنهم لا يحيطون بتأويل الحقائق، ولا معرفة أسرار ما يريده الله.

وكان في إمكانهم أن يسترشدوا بقصة موسى عليه السلام مع الخضر، وكيف دله على أن في الغيب أشياء كثيرة تبرر ما لا ندركه من عالم الشهادة.

وكان في إمكانهم أن يعودوا إلى الاسم الذي سماهم الله به، وهو الإسلام، وهو اسم لا يستحقه إلا من سلم لله تسليما مطلقا في شريعته وعقيدته وسلوكه ومواقفه، بل يكون بين يديه كالميت بين يدي الغسال، أو كالريشة في مهب الريح.

لكن الدين المزاجي الذي طبع عليه التنويريون، ومن تبعهم في هذا الموقف جعلهم يعترضون من حيث لا يشعرون؛ فيتساءلون بعقولهم القاصرة المجردة عن جدوى ظهور هذا الإمام العظيم الذي وكلت له أخطر مهمة في التاريخ.

وهم في نفس الوقت يصححون حديث التجديد الذي قال في صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)([8])، مع كونه لا يرقى في صحته لأحاديث الإمام المهدي، لا في عدد رواته، ولا في عدد مخرجيه، ولا في أي شيء آخر.

ومع ذلك نجد القرضاوي، وكل من ينكر أحاديث المهدي، يؤمن به، ويصححه، بل يؤلف فيه الكتب، ولا يكاد يخلو مجلس من المجالس إلا ويذكره، ويعدد من خلاله المجددين الذين ينطبق عليهم الحديث، ويكاد يذكر نفسه ـ لولا الحياء ـ من بينهم، مع أنه لا فارق بين الأمرين؛ فالذي بشر بظهور المجددين في كل مائة سنة، هو نفسه الذي بشر بظهور المجدد الأعظم بعد مئات السنين.

ولذلك فإن على الذي يذكر عدم جدوى التبشير بالإمام المهدي واعتبار الدين قد كمل فلا حاجة إليه، أن ينكر أيضا حديث التجديد كل مائة سنة.. لأن الدين قد كمل، فلا حاجة للمجددين.

لكن العقل المزاجي الذي يقدم هواه على النصوص المقدسة، يتقن فنون الحيل، فيقبل ما يشاء من النصوص، ويرفض ما يشاء، من دون أن يدلي بأي سلطان أو أي حجة.

وأنا لا يمكنني في هذا المقام أن أذكر الفوائد التي تدل عليها تلك البشارة العظيمة بالإمام المهدي، ولكني أعبر عن نفسي فقط، وعن تأثير حضور الإمام المهدي في حياتي.. وليعتبرني من يشاء خرافيا أو ضالا أو متكاسلا أو ما شاء من الأسماء.

فأول شعور أشعره هو ذلك الشعور الذي شعره ورقة بن نوفل ومن معه من الأحبار الصادقين الذين كانوا يترقبون ظهور النبي الأمي الذي بشرت به الأنبياء؛ فأفنوا أعمارهم في ذلك الانتظار الجميل، الذي لا يختلف عن انتظار يعقوب عليه السلام ليوسف عليه السلام.

وهذا الشعور لا يمكن وصفه، ولا التعبير عنه، لأنه ذوق محض، ولذة محضة، فكلما ذكرت الإمام المهدي كلما دعتني الأشواق إلى تقبيل التراب الذي يسير عليه، أو الهواء الذي يتنسمه، فريحه هي نفس ريح يوسف التي أعادت ليعقوب بصره.

وعلاقتي به ليس لذة نفسية فقط، بل هي طاقة روحية أيضا تجعلني ـ من حيث لا أشعر ـ أتواصل معه، كما تواصلت أرواح أولئك الأحبار والرهبان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يخرج من عالم الملكوت إلى عالم الملك.

وهو أيضا ليس أشواقا روحية فقط، بل هو طاقة كبرى تجعلني أشعر بأن علي أن أقدّم أي هدية تليق بذلك الجناب الرفيع الذي جعله الله أملا للأمم، يصحح مسارها، ويعيد للإنسان الخليفة حقيقته ومكانته، بعد أن يخرجه من أسر الشياطين التي سجنته في سجونها قرونا طويلة.

وهذا ما يجعل من الانتظار حركة، لا كسلا، وعزيمة لا وهنا.. فالذي ينتظر الغالي عليه أن يقدم الغالي، حتى لا يلقاه ويداه فارغتان.

هذه مشاعري، والتي لا أستطيع أن أكبتها، أو أكتمها مخافة أن أتهم في عقلي وديني، لأني أشعر أن علاقتي به أعظم من كل علاقة.

وهي ليست صعبة، ولا أنا من ينفرد بها، بل هي ممكنة لكل شخص يسلم للنبوة، ويعلم أنها لا تقول إلا الخير، ولا ترشد إلا للخير.

أما دعاوى بعضهم؛ فهي ناشئة من تلك التصورات المرضية المبنية على عالم الملك، لا على عالم الملكوت، فهم يتصورون أن تعظيمهم للإمام المهدي يؤثر في تعيظمهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم لا يعلمون أن الإمام المهدي الذي هو حفيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليس سوى قطعة منه، فهو منه كما ورد في الحديث، ولذلك كان تعظيمه تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومحبته محبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والشوق إليه شوق لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونصرته نصرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذلك لا نملك إلا أن نقول لأولئك الذين يتساءلون عن جدوى ظهوره أو خروجه أو وجوده: يحق لكم أن تتساءلوا، لأنكم تتصورون الدين بتلك الصورة البسيطة، الخالية من المشاعر المتدفقة نحو النبوة والولاية.. ذلك أنكم تتعاملون مع النبوة تعاملا جافا؛ فتختصرون دورها في دور ساعي البريد الذي يبلغ الرسالة، وينتهي دوره.

أما من يعشق النبوة في ذاتها، ويعشق الولاية التابعة لها؛ فهو يعلم أنه يستحيل أن تقوم الشريعة من دون النبي الذي تنزلت عليه، أو من دون الولي الذي يمثلها، ولذلك كانت محبة الولي والشوق إليه وانتظاره ليست إلا سيرا في خطى النبوة، وتمثلا حقيقيا للعلاقة معها.

وربما لن يفهم هذا الحركيون خصوصا أولئك الذين فشلوا في كل مشاريعهم بسبب غياب هذا البعد عن دعوتهم، لأنهم طالبوا بتحكيم شريعة الله بعيدا عن الأولياء الذين يمثلونها، والشريعة الحقيقة لا يمثلها ولا يطبقها إلا الأولياء، ورثة الأنبياء.

وللأسف نجد أكثر الحركيين ابتداء من حسن البنا وانتهاء بقادة الإخوان المسلمين المعاصرين ينكرون الإمام المهدي، ولو أنهم تمثلوه في دعوتهم، واستطاعوا أن يستفيدوا من البشارات المرتبطة به، لنجحوا في أقصر مدة، مثلما نجح غيرهم.. لكنهم لا يعتبرون.

الشبهة الثالثة: أن الإمام المهدي فكرة مقتبسة من الديانات الأخرى:

وهي من الشبه التي يبثها أولئك التنويريون الذين يتوهمون أنهم بأطروحاتهم يقومون بتنقية الإسلام من التأثيرات اليهودية والمسيحية وغيرها، والتي تسربت إليه ـ حسب وصفهم ـ عبر العصور المختلفة.

ونحن لا ننكر ذلك التسرب، ولا ننكر ضرورة تصفية الإسلام، وخاصة التفاسير القرآنية من آثار تلك الإسرائيليات التي شوهت الدين، وحرفته.

ولكن ليس كل ما ورد في الكتب المقدسة لتلك الديانات مما يتنافى مع ديننا، فهناك قواسم كثيرة مشتركة، ولو أننا طبقنا هذا الأساس لاعتبرنا الدعوة إلى الله نفسها دعوة مسربة من الكتاب المقدس، ذلك أن في الكتاب المقدس نصوص كثيرة ممتلئة بالجمال تعرف بالله وبأسمائه الحسنى وتدعو إلى محبته والتوكل عليه.. فهل نعتبر تلك النصوص مما تسرب إلى ديننا.

ومثل ذلك تلك البشارات الكثيرة المرتبطة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي لا يزال علماء المسلمين يستعملونها في مناظراتهم مع أهل الكتاب، بل إن الكثير من أهل الكتاب آمن بسببها قديما وحديثا.. فهل نحكم على تلك الكتب والأسفار بأنها محرفة جميعا حتى ما ارتبط منها بتلك البشارات؟

وهكذا فإن القرآن الكريم يخبرنا أن التحريف مس بعض الكتاب، ولم يمسه جميعا، ولذلك كان علماء المسلمين في حوارهم مع أهل الكتاب يستعملون نفس نصوص الكتاب المقدس ليقيموا عليهم الحجة من خلاله، بل إن القرآن الكريم أول من استعمل هذا المنهج عندما قال مخاطبا اليهود: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]

وهكذا أخبر عن المؤمنين من أهل الكتاب، ووصفهم بكونهم {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]

بل إن القرآن الكريم أخبر أن إله أهل الكتاب هو نفسه إله المسلمين، كما قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [العنكبوت: 46]

وبناء على هذا؛ فإن كل النصوص الواردة في حق الإمام المهدي، والتي وردت في الكتب المقدسة المختلفة، ليست سوى مصداق لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]؛ ففي هذه الآية الكريمة إخبار من الله تعالى بأن البشارة بوراثة الصالحين للأرض كتبها في الزبور، والإمام المهدي هو بداية تلك البشارة كما ورد في الرويات المختلفة.

وفي الزبور الحالي نجد إشارات كثيرة تنطبق تماما على ما ذكر في القرآن الكريم، ففي المزمور (377) من زبور النبي داود عليه السلام، وفي الفقرة التاسعة منه قال: (الأشرار ينقطعون، أمّا المتوكّلون على الله فإنّهم سيرثون الأرض).

وفي الفقرة الثامنة عشر جاء: (إنّ الله يعلم أيّام الصالحين وسيكون ميراثهم أبديّاً)

وفي الفقرة الثانية والعشرين ورد: (الذين باركهم الله سيرثون الأرض، أمّا الذين لعنهم الله فسينقطعون)

وجاء في الفقرة التاسعة والعشرين: (الصدّيقون سيرثون الأرض وسيسكنون فيها إلى الأبد)

وهكذا نجد أمثال هذه البشارات في سائر أسفار الكتاب المقدس، ففي سفر أشعياء [باب 11 / 1ـ 3 و6 ـ 9]: (برز برعم من جذع يسي، يمتدّ غصن من جذوره، يستقرّ فيه روح الله، وروح الحكمة والفطنة، وروح المشورة والجبروت، وروح العلم والخشية من الله، يحكم وفق علمه لا وفق ما يسمع ويرى، يعيش الذئب مع النعجة والنمر مع المعزى والعجل مع شبل الأسد، ويرعى الدبّ مع البقرة والأسد يأكل التبن مثل البقرة، ويلعب الطفل الرضيع بجحر الأفعى، ولا يحدث ضرر وفساد في جميع جبالي المقدّسة، لأن الأرض تمتلىء بمعرفة الله مثل المياه التي تَمْلؤ البحار)

وطبعا هذا النص يشيربلغته الرمزية إلى ذلك الزمان الجميل الذي يعم فيه السلام والعدالة الأرض بسبب حكم الصالحين، والذي يبدأ بحسب الروايات من الإمام المهدي.

وهكذا نجد أمثال هذه البشارات في العهد الجديد، ففي إنجيل لوقا [باب 21، 25 ـ277]: (تكون في الشمس والقمر والنجوم آيات، ويظهر على الأرض للأمم ضيق وحيرة بسبب اضطراب أمواج البحر، وتضعف قلوب الناس من الخوف، ومن ترقّب تلك الوقائع التي تظهر على ربع الأرض المسكونة، وتتزلزل قوة السماء، عندها يُرى إبن الإنسان ممتطياً غمامة، يأتي بقوّة وجلال عظيم)

وقد ذكر علماء المسيحية أنفسهم في (قاموس الكتاب المقدّس) بأن المراد بابن الإنسان هنا ليس السيد المسيح عليه السلام، بل إن عبارة ابن الإنسان تكرّرت في الأناجيل ثمانين مرّة، يمكن تطبيق ثلاثين منها مع عيسى المسيح عليه السلام فقط، وأمّا البقيّة فإنّها تتحدّت عن المنجي الذي يظهر في آخر الزمان.

ومثل ذلك نجد هذه البشارة في رؤيا يوحنّا اللاهوتي [باب 12 الفقرات: 1و2 و5 و14]، فقد ورد فيها: (ظهرت علامة عظيمة في السماء، امرأة تتلفَّعُ بالشمس وتحت قدميها القمر وعلى رأسها تاج فيه إثنا عشر كوكباً، وكانت المرأة حُبلى وتصرخ من شدّة ألم الطلق، ثم ولدت طفلاً ذكراً سيحكم جميع الأُمم بعصا حديدية، ولأجل حفظ ذلك المولود بشكل تام، فقد اختفى عن أنظار الشياطين لعصر وعصرين ونصف عصر)

بل إننا نجد أمثال هذه البشارات في الكتب المقدسة لغير أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ففي [أوبانيشاد]، وهو أحد الكتب المعتبرة عند الهنود نجد هذا النص الذي لا ينطبق إلا على المخلص: (عند نهاية العالم أو عند انتهاء العصر الحديدي يظهر (مظهر ويشنو المظهر العاشر) ممتطياً حصاناً أبيض وفي يده سيف مصلت يلمع كالنجم المذنّب، يقضي على جميع الأشرار ويجدّد الخلق ويُعيد الطهارة، المظهر العاشر هذا يظهر عند انتهاء العالم)

ونجد في [باسك]، وهو من الكتب المقدّسة عن الهنود: (تُختم الدنيا بملك عادل في آخر الزمان ؛ يكون إماماً للملائكة والإنس والجنّ يكون الحقّ معه، ويستحوذ على كل ما هو مخفي في الجبال والبحار والأراضي، ويخبر عمّا في السماوات والأرض ولا يأتي إلى الدنيا أعظم منه)

وفي [باتيكل]، وهو أيضا من الكتب المقدّسة عن الهنود: (عند انتهاء العالم تتجدّد الدنيا القديمة، وتعود حيّة، ويظهر صـاحب المُـلك الجديـد، وهـو من أولاد سيـّدي العالم العظيميـن أحدهمـا (ناموس آخر الزمان) والآخر (الصدّيق الأكبر)، أي وصيّه الأكبر المسمّى بـ (بشن)، واسم صاحب هذا المُلك الجديد (هادي). يصير ملكاً بالحقّ وخليفة (رام) وله معاجز كثيرة. يطول عمر دولته، ويعمّر أكثر من أولاد (الناموس الأكبر). وبه تختم الدنيا، ويسيطر على ساحل البحر المحيط وجزائر سرانديب وقبر الأب آدم وجبال القمر وشمال هيكل الزهرة وسيف البحر والمحيطات، ويهدّم بيت أصنام (سومنات) وبأمره ينطق (جغرانات) ويُكبّ على وجهه في التراب فيكسره ويلقيه في البحر الأعظم ويكسِّر جميع الأصنام في كلّ مكان)

وفي [ريغ ودا] وهو من الأسفار الهندية المقدسة: (يظهر ويشنو بين الناس، هو أقوى وأقدر من كل شخص، في يد ويشنو (المنجي) سيف مثل كوكب مذنّب، وفي يده الأخرى خاتم يسطع نوره، وعند ظهوره تظلم الشمس والقمر وتهتز الأرض)

وغيرها من النصوص الكثيرة، والتي لا نزال نرى أتباع الديانات المختلفة يؤمنون بها، ويعتقدون أن هناك مخلصا تتخلص البشرية على يديه من كل جور وظلام وانحراف، ليصحح مسارها إلى الصراط المستقيم بعد فترة الضلال الطويلة.

ولا يهم الأسماء التي يسمون بها ذلك المخلص، لأن العبرة بالحقائق، لا بالأسماء، وبالمعاني لا بالصور.. ولذلك لا معنى لاعتبار ما اتفقت عليه الأمم جميعا خرافة، أو ضلالة خاصة إذا ورد في كتابنا ما يؤيدها.

بل إننا نجد لفكرة المخلص تأثيرها النهضوي الكبير في سائر الأمم، حتى لو كان تأثيرا سلبيا، لكن له دوره الفاعل.. فالمسيحيون المتصهينون، والحركة الصهيونية نفسها لم تقم، وتخلص اليهود من ذلك الذل الذي كانوا يعانونه إلا بنشرها لفكرة المخلص، ولهذا يجتهدون في بناء الهيكل له، تمهيدا لظهوره.

الشبهة الرابعة: أن الإمام المهدي كان سببا للدعاوى والفتن:

وهي من الدعاوى الغريبة جدا، ذلك أنها تستعمل ما يسميه الفقهاء [سد الذرائع] في موضوعات الأخبار، لا في الموضوعات العملية والفقهية، مع أن لسد الذرائع ـ في حال القبول به ـ شروطه الكثيرة في الفقه والأصول، والتي يشكل عدم التعارض مع النص أولى أولوياتها.

فهل نحن أكثر حرصا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الأمة، حتى نكتم أو نكذب أحاديثه الصحيحة الصريحة، التي نقبل ما هو دونها بكثير، بحجة أن تلك الأحاديث قد تستعمل استعمالا خاطئا؟

ولو طبقنا هذا المعيار لألغينا جميع أحكام الشريعة، بل ألغينا جميع عقائدها، فالإرهابيون الآن يستندون إلى ما ورد في النصوص المقدسة من نعيم الجنة، ليستقطبوا المزيد من الأتباع، وينشروا إرهابهم، فهل يأتي أحد من الناس، ويزعم أنه لا توجد جنة، حتى يسلب هذه الورقة من أيدي الإرهابيين؟

والإرهابيون يتحدثون عن كثير من معاني الشريعة، ويحرصون عليها؛ فهل نخالف الشريعة طلبا لمخالفتهم؟

ولذلك؛ فإن هذا البعد الذي عبر عنه الشيخ ابن محمود النجدي القطري، وجعله من مبررات إنكاره للإمام المهدي؛ فقال: (جميع العلماء والعوام، في كل زمان ومكان، يقاتلون كل من يدعي أنه الإمام المهدي، لاعتقادهم أنه دجال كذاب، يريد أن يفسد الدين، ويفرق جماعة المسلمين، ويملأ ما استولى عليه جورا وفجورا، كما جرى لكثير من المدعين للمهدية، وسيستمر الناس يقاتلون كل من يدعي ذلك حتى تقوم الساعة، فأين المهدي والحالة هذه؟) تأل على الله، واجتهاد مع النص، وإدخال للعقل فيما لا مجال له فيه.

بل إننا لوتأملنا التاريخ لوجدنا أن ادعاء المهدوية أكبر دليل عليها، مثلما حصل مع أدعياء النبوة، وخاصة قبل الفترة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

بل إننا لو طبقنا هذا المعيار، وهو الادعاء واعتباره داعية لإنكار تلك النصوص المقدسة الكثيرة، فإننا ـ وحتى لا نقع في التطفيف في الميزان، أو في المكاييل المزدوجة ـ علينا أن نترك تعلم العلوم الدينية، لأن هناك من العلماء بالدين من راح يفسد الدين، ويضلل الناس..

بل نترك كذلك الأحاديث الدالة على التجديد، ذلك أن الصراع في التاريخ حصل بين المجتهدين، وكل منهم يزعم أنه المجدد، ولا زال الآن الصراع موجودا؛ فكل جهة تتصور أن زمام التجديد بيدها.

وهكذا، كانت هذه الشبهة مجرد هوى، ذلك أن الحقيقة لا يضرها من خالفها، كما لا ينفعها من وافقها، والهروب منها بأمثال تلك الحجج كتمان للعلم، وقد قال تعالى في وصف أهل الكتاب وكتمانهم للبشارت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]

ولو تأملنا حجج أهل الكتاب في ذلك الكتمان لوجدناها نفس حجج هؤلاء، ذلك أنهم يتصورون أن مصلحة الدين في بقاء النبوة في بني إسرائيل؛ فإذا ما خرجت منهم كان في ذلك الضلال.. وهو نفس ما يتذرع به هؤلاء الذين يتصورون أن التجديد حكر عليهم، ولذلك لا يصح أن يسلموه لغيرهم كائنا من كان حتى لو كان الذي بشر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل بشر به كل الأنبياء.

وهم يفعلون ذلك خصوصا مخالفة للشيعة الذين يعطون قيمة كبيرة لتلك البشارات النبوية، بل يتحركون في التاريخ على أساسها؛ فيخالفونهم، ولا يعلمون أنهم يخالفون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.

والمشكلة الكبرى بعد ذلك كله ليس في مجرد الكتمان؛ فهو مع الإثم العظيم المرتبط به لا يساوي شيئا أمام التكذيب.. لا تكذيب الرواة والمحدثين، وإنما تكذيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.

ولا تتعجبوا من هذا؛ فقد رأيت المنكرين لأحاديث الإمام المهدي، يقبلون نفس الطرق والأسانيد التي رويت بها أحاديث أخرى، ويعتبرونها من السنة الصحيحة، بل يشنعون على المخالف إن أنكرها، متهمين إياه بإنكار السنة.

لكنهم في نفس الوقت يكذبون نفس الرواة، بل نفس السلسلة، إن روت أحاديث الإمام المهدي، ولست أدري ما هو معيار تكذيبهم لها؛ فإن كان كذبها، فلتكذب في سائر الأحاديث، وإن كان غير ذلك، فليس إلا الهوى، ذلك أنه لا اجتهاد مع النص.


([1])  انظر مقالا بعنوان: فتوى سلفية حنبلية.. «المهدي المنتظر» خرافة، عبد الله الرشيد، صحيفة عكاظ..

([2])  أخرجه الحاكم (4/557) بهذا اللفظ وقال: صحيح، وأخرجه أبو داود (4284)، وأحمد (3/37) بنحوه، قال ابن القيم على سند أبي داود: إسناده جيد. وقال الألباني في (السلسلة الصحيحة 2/336): سنده صحيح.

([3])  أخرجه أحمد (2/58)، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، وأخرجه ابن ماجة.

([4])  أخرجه أبو داود في باب ذكر المهدي (4281)، وقال الألباني: صحيح..

([5])  عون المعبود شرح سنن أبي داود، (11/ 361 – 362)

([6])  كتاب (الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة) (ص: 124).

([7])  الرسالة في الفتن والملاحم وأشراط الساعة لماهر بن صالح آل مبارك- ص: 89.

([8])  رواه أبو داود (رقم/4291) وصححه السخاوي في المقاصد الحسنة (149)، والألباني في السلسلة الصحيحة (رقم/599).

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *