الأعراق.. والدورات الحياتية

الأعراق.. والدورات الحياتية

يتصور البعض أن العرق والنسب شيء ذاتي لازم لجوهر الإنسان لزوما ذاتيا، لا انفكاك له عنه.. وليس مجرد لزوم عرضي مرتبط بزمن معين، ومرحلة معينة، لغاية تكليفية معينة..

وهذا التصور تنشأ عنه أوهام كثيرة جدا في الأفعال والمواقف تتنافى مع مقتضيات التكليف الشرعي، ولذلك نحتاج إلى العودة إلى المصادر المقدسة للتعرف على حقيقة الأمر، حتى لا نشغل حياتنا بأعراض حقيقتنا، ونغفل عن جوهرها.

والمصادر المقدسة تعتبر العرق والنسب والشعوب والقبائل قاصرة على هذه الفترة الحياتية التكليفية القصيرة التي نعيشها على هذه الأرض، أما ما عداها من الفترات، فقوانين الأنساب فيها مختلفة.

ذلك أن هناك ثلاث فترات كبرى يعيشها كل إنسان.. أولاها ما يعبر عنه بعالم الذر.. والثانية ما يعبر عنه بالنشأة الأولى.. أو هي نشأتنا الحياتية الدنيوية القصيرة.. والثالثة ما يعبر عنه بالنشأة الأخرى، وهي ما بعد الموت من البرزخ والقيامة وغيرها.

أما الفترة الأولى، وهي فترة عالم الذر.. وهي التي عبر عنها قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، فهي الفترة التي كان البشر فيها جميعا في محل واحد، وكانوا أشبه بالإخوة، فليس هناك متقدم فيهم، ولا متأخر.. بل جميعهم كان في محل واحد.. وكلهم شهدوا بتلك الشهادة الواحدة.. ولذلك لم تكن بينهم حينها أنساب ولا شعوب ولا قبائل.

لكن مشيئة الله شاءت أن تقلبهم في الأرحام، وأن تقذف ببعضهم إلى أراض وشعوب، وتقذف بآخرين إلى أراض أخرى، وشعوب أخرى، ليحصل الابتلاء.. فالطيب منهم يتعامل مع إخوانه في الإنسانية على أساس نسبه الأول، والمتكبر منهم يتعامل مع إخوانه على أساس الأرض التي نزل فيها، والشعب الذي نبت بين جنباته.

وقد قال تعالى معبرا عن حقيقة هذه المرحلة، ومقاصدها: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13]

أما المرحلة الثالثة، وهي النشأة الأخرى، فقد ورد التصرح في النصوص المقدسة بتلاشي الأنساب حينها، وعدم فائدتها، قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)} [المؤمنون: 101 – 103]

وقد ورد في النصوص تفصيلات كثيرة ترتبط بالتصنيف البديل عن ذلك التصنيف، منها قوله تعالى في تقسيم الشعوب حينها إلى ثلاثة أقسام: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة: 7 – 11]

فهذه الآيات الكريمة تنص على أن الأنساب تتلاشى في تلك الدورة الحياتية الكبرى والدائمة، ويصبح التصنيف حينها، ليس على أساس الشعوب والقبائل، وإنما على أساس المعتقدات والأخلاق والقيم.. وقد قدم لتلك الآيات الكريمة بقوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)} [الواقعة: 1 – 3]، فمن أول خصائص يوم الواقعة أنها تخفض الكثير ممن كان مرفوعا، وترفع الكثير ممن كان منخفضا، فيعز بها قوم، ويذل بها آخرون.

وقد عبر الله تعالى عن تلاشي الأنساب حينها، فقال: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) } [عبس: 34 – 38]، والشأن الذي يغنيه هو الكسب الذي كسبه، والعمل الذي عمله، لا ما فرض عليه من أرض أو نسب أو لغة أو أي شيء آخر.. فالله لا يحاسبنا إلا على ما اكتسبناه.

هذه خلاصة مبسطة للمعارف الكبرى التي يدل عليها القرآن الكريم في هذا الجانب، وهي تجعل كل عاقل ينصرف للبحث عن الشعب الذي يريد أن ينتسب إليه في الدورة الحياتية الكبرى.. هل هو شعب السابق المقربين، أم شعب أهل اليمين، أم شعب أهل الشمال؟

فالخيار لنا في أن نكون أشرف الشعوب.. كما أن الخيار لنا في أن نكون أرذلها.. فالشرف والرذالة تتحققان بالكسب، لا بالنسب، وبالعَرق، لا بالعِرق، وبالجهد لا بالدعوى.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *