احذروا القنابل الصوتية

يتصور الكثير أن القنابل الخطيرة هي تلك القنابلة النووية أو الهيدروجينية أو الذكية، تلك التي تمتلكها إسرائيل وأمريكا وجميع محور الشر.. وينسون أن هناك قنابل أخرى أكثر خطرا، تدخل كل بيت، وتحاول الوصول إلى كل عقل، لتفعل فيه ما لا تفعله القنابل النووية نفسها، لأنها لا تقتل الجسد فقط، وإنما تقتل الروح أيضا.
ومصادر تلك القنابل هي نفس الدول التي تشن حملتها على المستضعفين في اليمن وسورية وكل بلاد الله.. وهي نفسها التي تنعت المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن بكونها مليشيات إرهابية.. وهي نفسها التي تصدر لنا كل ألوان العهر والفجور والمجون، لتقضي على أخلاق شباببنا كما تقضي على عقولهم.
وخطرها يتجاوز بكثير خطر تلك القنابل الصوتية البدائية التي كانت تصدر لنا التطرف والعنف والإرهاب.. ذلك أن تلك القنابل أمكن تفكيكها ومواجهتها، وهي الآن خردة قديمة أمام هذه القنابل الجديدة.
فالقنابل الجديدة لا تستعمل الدين مطية للتطرف والعنف وقض مضاجع الأنظمة، وإنما تُستعمل لتخريب الدين نفسه.. ووسيلتها إلى ذلك بسيطة جدا، فهي تغازل بلطف أنانية الإنسان وكبرياءه ومحبته للتميز والظهور، لترضي كل ألوان غروره.
فهي تجعل من كل من هب ودب مجتهدين وفقهاء ومفسرين ولغويين ومحدثين وما شئت من الألقاب، من غير ممارسة قراءة، ولا تعب تأمل، ولا بحث ولا اجتهاد ولا نظر..
بل يكفي فقط أن يضع عقله عند محمد شحرور أو عدنان إبراهيم أو إسلام البحيري أو غيرهم كثير من الذين لم يتركوا شيئا إلا انتقدوه وناقشوه.. ليخرج بعد ذلك، ومن غير بحث ولا عناء ولا تأمل أستاذا في فن النقد والهدم والتدمير.
لتفاجأ به يناقش كل شيء، ويحشر أنفه في كل مسألة؛ فإذا ما قيل له: هل قرأت شيئا؟.. أو كيف وصلت إلى هذه الفكرة؟.. أو كيف اقتنعت بهذه القناعة؟.. أخرج لك تسجيلا صوتيا، أو قنبلة من قنابل اليوتيوب الكثيرة، ويذكر لك أن هذا هو مصدر أفكاره.
فإذا ما قلت له: الأمر أخطر مما تتصور، فالبت في القضايا العلمية الكبرى لا يمكن أن يكون بهذه الطريقة، ولا بد أن تمر بمراحل كثيرة حتى تخرج لنا برأيك واجتهادك، أما أن تناقش بما وصل إليه غيرك، فليس لك ذلك، وليس ذلك من العلم.
إذا قلت له هذا أعرض عنك، واتهمك بما شاءت له أهواؤه من التهم.. وهو يتصور نفسه فوق ذلك تنويريا، وهو ليس إلا متطرفا جديدا لا يقل عن المتطرف الذي ينتقده، أو يحرض عليه، أو يتصور نفسه بمنجاة منه.
وقد حذر القرآن الكريم من هذا الصنف من القنابل، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204 – 206]
فهذه الآيات الكريمة تنطبق تماما على هذه القنابل الصوتية، ومن يؤيدها وينصرها، وينشر أفكارها الهدامة، لأنها تعلم اللدد في الخصومة، ثم تنشر بعد ذلك كل القيم التي تتسبب في هلاك الحرث والنسل.
فهي تنشر قيم التلاعب بالألفاظ القرآنية، والتي هي المقدمة الكبرى لتحريف معانيه.. وهي تنشر احتقار السنة المطهرة، وتنشر معها احتقار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتحكم في تصرفاته وأقواله وتأويلها بكل ما تقتضيه الأهواء.
ولا تكتفي بذلك، بل تذهب إلى كل القيم والعقائد التي تعارف عليهم المسلمون لتناقشها، وتلغيها بجرة قلم، وتتصور أنها وصلت إلى ما لم يصل إليه الأوائل والأواخر.
وهكذا كان تأثير هذه القنابل في مجتمعاتنا، وبين شبابنا، والذين لبسوا تطرفا جديدا، بدل التطرف القديم.
وقد يقال هنا: ليس لنا بد من الاستماع.. فنحن لا نملك القدرة على البحث والمطالعة، ولذلك نكتفي بما تجود علينا به القنوات أو المواقع من أشرطة سمعية وبصرية؟
والجواب عن هذا بسيط جدا، ومنطقي جدا، فالعاقل الذي يتقي الله، ويحرص على مصيره في الآخرة، يكتفي بمن يذكره بربه، وبالقيم النبيلة التي جاء بها دينه، ويملؤه مخافة على مصيره، وحرصا عليه حتى لا يعبث به العابثون.. مثلما كان يفعل العلماء والربانيون، والذين لا يزال لهم وجود كبير، ولكن الناس أعرضوا عنهم، وراحوا إلى تلك القنابل الصوتية، حتى يتحول الجميع إلى علماء من غير معاناة بحث ولا نظر.
ومن أول علامات أولئك العلماء أنهم لا يلقون للعامة إلا ما يفيدهم في دينهم، فهم يكتفون بقراءة القرآن الكريم وتفسيره، أو شرح الحديث النبوي الشريف وملأ القلوب والعقول من خلاله محبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. أو ذكر الصالحين وجعلهم أسوة للمهتدين..
أما غيرهم، أصحاب القنابل الصوتية، فهم الذين حولوا المنابر التي تتاح لهم لنشر الهداية، إلى ماحل لتمجيد الملاحدة، وإنكار عذاب القبر، والترغيب والدفاع عن نظرية التطور، واحتقار كل علماء الأمة وصالحيها، وبذلك أصبحت تلك المنابر منابر هدم، لا منابر بناء، وأصبحت منصة لإنتاج الغرور والمغترين، لا لإنتاج المتدينين المتأدبين المتواضعين.
نحن لا نقول هذا لنلغي البحث والفكر والنظر.. ولكن لنقول لأولئك المغترين الذين تصوروا أنهم ـ باستماعهم لبعض السلاسل الصوتية، أو البرامج الإذاعية والتلفزيونية قد صاروا باحثين ومجتهدين وعلماء ـ: كفوا عن ذلك، فالعلم يحتاج إلى جهد كبير، وتأمل عظيم، وقراءة كثيرة، وليس هو لكل كسول يتصور أنه يمكن أن يفهم كل شيء من غير بحث ولا دراسة ولا نظر.
أما الاستماع، فخصصوه للعلماء الربانيين لتسفيدوا منهم التقوى والصلاح، والأخلاق والأدب، وإن شئتم أن تتعلموا المعارف العلمية، فهناك أشرطة علمية وثائقية كثيرة يمكنها أن تنمي معلوماتكم وثقافتكم، وفي نفس الوقت تعرفكم بخلق الله وعظمته.. وهي أجدى لكم من أولئك الذين ينعقون فيكم بما لا تطيقونه، ولا تطيقه عقولكم.
ورحم الله الشيخ محمد أبا زهرة ذلك العالم الجليل صاحب المصنفات الكثيرة الممتلئة بالعلم النافع، والذي كان في غاية التواضع، والذي لم يصدم الأمة بأي شيء يهز ثوابتها إلا أنه ـ وفي مؤتمر علمي ـ وبين العلماء والمختصين، لا بين عامة الناس، ولا في أي قناة فضائية ـ راح يقول لهم، وبكل تواضع وأدب([1]): (إني كتمت رأيًا فقهيًّا في نفسي من عشرين سنة، وكنت قد بحت به للدكتور عبد العزيز عامر)، ثم راح يخاطبه قائلا: (أليس كذلك يا دكتور عبد العزيز؟)، قال: بلى.. ثم قال الشيخ، هو ممتلئ حياء وتواضعا: (آن لي أن أبوح بما كتمته، قبل أن ألقى الله تعالى، ويسألني: لماذا كتمت ما لديك من علم، ولم تبينه للناس)
ثم راح يذكر القضية التي كتمها عشرين سنة، ولم يقلها إلا بعد بحث طويل، ونظر عميق، وأمام كبار العلماء والمختصين.. وهي قضية بسيطة جدا مقارنة بالقضايا التي تطرح اليوم، فقد ذكر موقفه من رجم المحصن في حد الزنى، حيث رأى أن الرجم كان شريعة يهودية، أقرها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أول الأمر، ثم نسخت بحد الجلد في سورة النور.
ثم راح يذكر أدلته العلمية عليها بالتفصيل، وأمام المختصين، وبكل تواضع.
قارنوا هذا الموقف بأولئك الذين يخرجون علينا كل يوم بمقولة جديدة لا تتعلق بفروع الدين فقط، وإنما تتعلق بأصوله أيضا.. بل تتعلق بأصول أصوله.. ثم لا يذكر لها أي دليل، ولا يستدل لها بأي حجة إلا برأيه المجرد الذي يلقيه بكل غرور وكبرياء، ثم يقول للناس: لا شك أن المتطرفين سيكفرونني.. ويتباهى بذلك، ولا يخشى أن تكون الشريعة نفسها هي التي تكفره.. لا المتطرفون فقط..
لأن دين الله أعظم من أن يكون شرعة لكل
وارد، ولعبة لكل أفاك أثيم، يستمع لوحي الشياطين، ثم يذهب لدين الأمة يخربه، ويهدم
أصوله وفروعه.
([1]) وذلك في مؤتمر ندوة التشريع الإسلامي المنعقدة في مدينة البيضاء في ليبيا عام (1972).