اجتهد فأخطأ

اجتهد فأخطأ

[اجتهد فأخطأأخ] عبارة نسمعها كثيرا ممن يدافعون عن الجرائم التاريخية التي ارتكبها من يضعون لهم قداسة خاصة.. ويتوهمون أن هؤلاء وحدهم لهم الحق في أن يجتهدوا ويخطئوا، حتى لو جر ذلك الاجتهاد إلى خراب البلاد والعباد.. وحتى لو جر لتحريف الدين نفسه.. وحتى لو جر إلى ارتكاب الموبقات التي ارتكبها الفراعنة والطغاة المجرمون.

في نفس الوقت الذي يقف فيه أولئك المتسامحون مع تلك الجرائم التاريخية بشدة وقسوة وغلظة مع كل من اجتهد في بيان جرائمهم، وحاول أن يوثقها، أو يقف منها موقفا سلبيا من باب الشهادة لله، كما قال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُون} [هود:113]

وهذه مواقف عجيبة ومتناقضة ولا تتناسب مع عدالة الله، ولا تتناسب مع السماحة التي يزعمون أنهم يتصفون بها.

أما عدم تناسبها مع عدالة الله، ولا سننه في خلقه، ولا القيم التي تضبط الكون والحياة، وتجعل منهما كائنا منسجما تمام الانسجام، فواضح فالله تعالى يقول: { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور} [الملك:3]، وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر} [القمر:49]

ومن مقتضيات هذه الآيات الكريمة أن سنته في خلقه جميعا واحدة.. فهل يمكن أن تسمح العدالة الإلهية لمجرم مسلم، ولا تسمح لمجرم غير مسلم.. أم أنها يمكن أن تتساهل مع جريمة عاش صاحبها في القرن الأول، ولا تسمح لجريمة عاش صاحبها في القرن العاشر.. أم أنها يمكن أن تسمح فيمن اجتهد فأخطأ، وقتل الآلاف، ولاتسمح لمن اجتهد فأخطأ برأي أو بوجهة نظر، ولم يسفك قطرة دم واحدة.

أما عدم تناسب موقفهم مع السماحة التي يزعمونها لأنفسهم، فهو أنه من مقتضيات الأخلاق العموم.. فالذي يصدق مع صديقه، ولا يصدق مع غيره لا يسمى صادقا، بل قد يسمى منافقا.. والذي يتسامح مع قوم، ويتشدد مع آخرين لا يسمى متسامحا، بل يسمى محابيا ومطففا وصاحب شهادة زور.

ولذلك، فإن من العجائب أن هؤلاء الذين نسمعهم الآن يكفرون ويبدعون ويصرخون في وجه كل من يدعو لنفي الدجل عن الدين، وتحرير التراث من العفن، وتحرير عقل المسلم من القيود التي قعدت به عن كل مكرمة..

هؤلاء الذين يفعلون ذلك، هم الذين يبتسمون بكل هدوء عندما تخبرهم أن عدد قتلى يوم صفين كانوا ـ كما يذكر المؤرخون ـ مائة وعشرة آلاف، وفيهم كبار الصحابة والتابعين.. وعدد قتلى معركة الجمل يتراوح ما بين ستة آلاف وخمسة وعشرين ألفا.

ثم يجيبك بكل هدوء: لا بأس.. ليس في ذلك شيء.. هذا مجرد اجتهاد خاطئ.. والله رحيم بعباده.. وقد غفر الله للجميع، بل إنه أعطى المخطئين أجورا على خطئهم.. وتلك دماء طهر الله منها أيدينا، فلنطهر منها ألسنتنا.

فإذا قلت له: فما تقول في قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، فالله قد توعد القاتل بكل هذه العقوبات الشديدة إذا قتل مؤمنا واحدا، فكيف بمن تسبب في قتل الآلاف؟

قال لك بكل برودة وهدوء: ذاك في القاتل الذي لم يجتهد.. أما القاتل الذي اجتهد وأخطأ فستبدل سيئاته حسنات.. ألا تقرأ القرآن؟

فإذا قلت له: إذن يمكن لأي شخص أن يفعل ذلك.. ويجتهد في أن يجد أي مثلبة في أي جهة ليمعن فيها سيفه كما كان يفعل بسر بن أرطأة.. ذلك الذي قال فيه ابن العماد: (بسر بن أرطاة العامري أمير معاوية في أهل البيت من القتل والتشريد، حتى خدّ لهم الأخاديد، وكانت له أخبار شنيعة في عليّ وقتل ولدي عبيد الله بن عبّاس وهما صغيران على يدي أمّهما، ففقدت عقلها، وهامت على وجهها، فدعا عليه عليّ أن يطيل الله عمره، ويذهب عقله، فكان كذلك) ([1])

قال لك بكل برودة: بسر بن أرطأة صحابي جليل.. والصحابة كلهم عدول مهما فعلوا..

فإذا قلت له: ما دامت رحمة الله بهذه السعة.. فلم لا تشمل إسلام البحيري وغيره ممن أودعتموهم السجون بسبب آراء ذكروها؟

قال لك بعنف وشدة وقسوة: لا تحدثني عن أولئك الزنادقة.. فشتان بينهم وبين الصحابة الأجلاء الذي تشرفوا برؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فإذا قلت له: فهل جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقومه ليروه، أم جاء ليهتدوا بهديه.. ألم يذكر الله تعالى أن عقوبة من عاش مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورأى المعجزات بعينيه أشد من عقوبة غيره، كما قال تعالى: {يَانِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرًا} [الأحزاب:30]؟

قال لك والزبد يتطاير من فمه: أنت زنديق.. ضال.. مجرم.. تسب الصحابة.. رافضي.. مجوسي..

ويظل يردد ذلك، وكأنه إله مستو على عرشه.


([1]) شذرات الذهب في أخبار من ذهب، (1/ 277)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *