إلى الباحثين عن أنسابهم

إلى الباحثين عن أنسابهم

إلى الباحثين عن أنسابهم في دفاتر الوراقين، ومخابر المحللين، ومتاحف الجماجم، دعكم من البحث عن الأنساب المفروضة عليكم، وابحثوا لكم عن أنساب تصنعونها بأيديكم.. تصنعونها بقلوبكم وعقولكم وأرواحكم، فهي أجدى لكم، وأكثر نفعا.. فالله لن يسألكم عما فرض عليكم من أنساب، وإنما يسألكم عما صنعت أيديكم من أنساب.

يوم القيامة لن تغنيكم تلك الأنساب الطينية، ولن تشفع لكم عند الله، كما أنها لن تضركم.. فهي مثل العدم.. لا تنفع ولا تضر.. ومن العبث أن يمضي الإنسان عمره في البحث والاهتمام بما لا يضره، ولا ينفعه.

لقد ذكر الله تعالى ذلك في كلماته المقدسة التي تحمل كل حقائق الوجود، وكرره مرات كثيرة لتعتبروا، وتتركوا العبث، فقد قال مقررا هذه الحقيقة الوجودية الكبرى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 88، 89]، فالنسب الحقيقي بحسب هذه الآية الكريمة يحدده القلب، لا الجينات، ولا الجماجم، ولا دفاتر الوراقين.. ففي اليوم الذي تسقط فيه أنساب الطين، سوف تحيا أنساب القلوب لتتشكل منها القبائل والعشائر والبطون في الدورة الحياتية الجديدة التي تنتظرنا جميعا.

حينها يميز الناس بأنساب جديدة، فهناك شعب القلوب السليمة، وهناك شعب القلوب الخبيثة.. قال تعالى: { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [الأنفال: 37]

أما شعب القلوب السليمة، فهو ممتلئ بالأنبياء والأولياء والصالحين والمخبتين وعباد الرحمن { الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } [الفرقان: 63].. ففيه إبراهيم البابلي، ولقمان النوبي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي.. فيه شعوب كثيرة نسيت أنسابها الطينية، وراحت تبحث عن أنسابها الروحية الحقيقية.

أما شعب القلوب الخبيثة، ففيه كل عتل جبار مستكبر ظالم، وويل ثم ويل لمن راح يعتز بنسب الجبابرة والمتكبرين، وقد ورد في الحديث الشريف أن رجلين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتسبا، فقال أحدهما: (أنا فلان بن فلان، فمن أنت لا أم لك؟)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (انتسب رجلان على عهد موسى عليه السلام، فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان.. حتى عد تسعة، فمن أنت لا أم لك؟)، قال: (أنا فلان بن فلان بن الإسلام)، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن هذين المنتسبين: أما أنت أيها المنتمي أو المنتسب إلى تسعة في النار، فأنت عاشرهم، وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة، فأنت ثالثهما في الجنة)([1])

وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي: ألا إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم، فأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان خير من فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم، أين المتقون؟)([2])


([1])  رواه الإمام أحمد .

([2])  رواه الطبراني في الصغير والأوسط.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *