أذواق.. وأوراق

أذواق.. وأوراق

كم هي عظيمة المسافة بين علوم الأذواق وعلوم الأوراق:

علوم الأذواق ينفعل لها كل الوجدان، وتتذوقها كل اللطائف، وتتوحد في الانسجام معها كل أركان الماهية الإنسانية، فتتحول كل الخلايا إلى قلوب تخفق، وعواطف تهتز، ومشاعر تتأجج، كما قال سلطان العاشقين معبرا عن ذلك:

وفي كلّ عُضْوٍ فيَّ كُلُّ صَبَابَةٍ

   إليها وشَوْقٍ جاذبٍ بزِمَامي

ولي كُلّ عُضوٍ فيه كلّ حشاً بها

   إذا ما رَنَتْ وقعٌ لكلّ سِهام

ولو بسطتْ جسْمي رأتْ كلّ جوهرٍ

   به كُلّ قلبٍ فيه كُلّ غَرام

 وقال في قصيدته الأخرى معبرا عن هذا المعنى الجليل:

فلو بسطت جسمي رأت كل جوهر

   به كل قلب فيه كل محبة

وقد جمعت أحشاي كل صبابة

   بها وجوى ينبيك عن كل صبوة

وبعلوم الأذواق تتحول القلوب والعقول وكل اللطائف إلى أبصار ترى الحقائق، ولا تكتفي بسماعها.. وتعيشها، ولا تكتفي بحكايتها، كما قال العارف معبرا عن ذلك:

قلوب العارفين لها عيون

  ترى مالا يري للناظرين

وبعلوم الأذواق تتحول جميع الجوراح واللطائف إلى ألسنة تعبر بالصمت المطبق.. وأجنحة تطير من غير ريش في عوالم الملكوت التي حجب عنها أصحاب الأوراق، كما قال العارف الذائق:

وألسنة بأسرار تناجي

   تغيب عن الكرام الكاتبين

وأجنحة تطير بغير ريش

   إلى ملكوت رب العالمين

أما علوم الأوراق.. فهي علوم محجوزة في مساحة محدودة من العقل.. مطوقة بقيود كثيرة أولها ذلك الطين المتثاقل إلى الأرض.. والمحجوب بالملك عن الملكوت.. وبالجسد عن الروح.. وبالحكمة عن القدرة.. وبالقيد عن الإطلاق.. وبالكثرة عن الوحدة.

ولذلك كان الصراع شديدا على مدار التاريخ بين أصحاب الأذواق وأصحاب الأوراق.. فأصحاب الأوراق يحتقرون أصحاب الأذواق، ويزدرونهم، ويتهمونهم بالجنون والزندقة والهرطقة.. لأن العقل الورقي محجوب بالظاهر عن الباطن، وبالحس عن المعنى.

وهكذا يسخر أصحاب الأذواق من أصحاب الأوراق، ويقولون لهم: إن كل تلك العلوم التي تقرؤونها وتكتبونها لا تساوي لحظة واحدة نعيشها مع الحبيب.. ونشرب فيها من شرابه الذي تذهل له العقول، وتحلق به إلى العوالم التي لا يمكن التعبير عنها إلا بالسكوت والوجوم والبهت..

وحين يسخر أصحاب الأوراق من تلك الحركات التي تهتز لها أجساد أصحاب الأذواق عند تذكرهم للحبيب وتمايلهم طربا لذكره والشوق إليه، يرد عليهم أصحاب الأذواق قائلين:

فقل للذي ينهى عن الوجد أهله

   إذا لم تذق معنى شراب الهوى دَعْنا

إذا اهتزت الأرواح شوقا إلى اللقا

   ترقصت الأشباح يا جاهل المعنى

أما تنظر الطير المقفص يا فتى

   إذا ذكر الأوطان حنَّ إلى المغنى

اعذروني.. فقد شغلني التفريق بين هذين الصنفين من العلوم عن القصة التي أريد أن أحدثكم عنها.. وهي قصة رمزية واقعية.. ربما وقعت لكم.. وربما ستقع في يوم من الأيام.. لتختاروا القبلة التي تتوجه لها عقولهم وقلوبكم.. هل قبلة الأوراق، أم قبلة الأذواق؟

وأحب أن أذكر لكم فقط، وخصوصا لمن عاشوا مرحلة طويلة من أعمارهم مثلي في عالم الأوراق بألا يقلقوا أو ينزعجوا أو يظنوا أنهم خسروا عالم الأذواق بصحبتهم لعالم الأوراق..

فعالم الأذواق يتقبلهم بشرط واحد.. وهو أن يخمدوا ذلك الكبرياء الذي أنشأه فيهم عالم الأوراق، فتصوروا أنفسهم قد تميزوا عن غيرهم بتلك العلوم التي حفظوها، أو الفنون التي اكتسبوها.. عندها فقط يمكنهم أن يتحولوا من عالم الأوراق إلى عالم الأذواق، أو يمكنهم أن يجمعوا بينهما.

ومن القصص في ذلك ما روي عن الششتري أنه كان وزيرا وعالما، وأبوه كان أميرا، وقد عاش فترة طويلة من عمره بصحبة عالم الأوراق إلى أن حنت نفسه لعالم الأذواق، فراح إلى شيخ من المشايخ، فذكر له ذلك، فلاحظ فيه الشيخ تلك الكبرياء التي تنشئها الأوراق في أصحابها، فقال له: لن تنال شيئا مما تصبو إليه حتى تبيع متاعك، وتلبس عباءة، وتأخذ دفا، وتدخل به إلى السوق، وتغني للناس..

لم يجد الششتري ـ الذي كان مستعدا لحرق كل كتبه من أجل كأس واحدة من عالم الأذواق ـ إلا أن يفعل ما طلبه الشيخ.. فراح في السوق ينادي ويغني ويضرب الدف..

لكنه فوجئ بلسانه ينطلق بشعر المحبة الإلهية النابع من نهر كانت الأوراق الكثيرة التي قرأها وكتبها قد سدت منافذه..

قد يضحك الكثير من أصحاب الأوراق على هذه القصة، وعلى من يطرح مثل هذه الأفكار.. ولذلك لكم أن تتجاوزوها.. ولكم أن تعتبروني لم أقصها عليكم.. أو تعتبروها فلتة لسان أو فلتة قلم.. ولكن اسمعوا أو اقرأوا بقلوبكم وعقولكم القصة التي سأحكيها لكم.. والتي ربما تكون أقرب إلى عقولكم من قصة الششتري وشيخه.

وهذه القصة تبدأ من شبابي الباكر، حين كنت طالبا للعلم، وكنت مشغوفا بالأوراق لدرجة لا يتصورها أحد.. فقد كنت أعشق أسواق الكتب، وأهيم بها، ولا أجد راحتي إلا فيها.. وكان لي زميلان.. وكانت طباعنا في حب الكتب واحدة، وإن كنا مختلفي الأذواق والمشارب.

أما أحد زميلي، فقد كان مشغوفا بها إلى الدرجة التي نسي فيها جميع لطائفه، وغفل بها عن جميع حقائقه، وكان يذكر لنا كل حين الكتب الكثيرة التي قرأها، والعلوم الكثيرة التي أحاط بها..

وأما الثاني، فقد كان صاحب ذوق رفيع، وتأمل عال، وكان يقرأ أحيانا الجملة الواحدة، فيعيش في معانيها أياما معدودات..

وأما أنا فقد كنت في برزخ بينهما أميل إلى الأول، كما أميل إلى الثاني، ولا أستطيع الترجيح بينهما.. ولم أحدد وجهتي إلا بعد فترة طويلة..

في ذلك اليوم الذي افترقنا فيه سرنا إلى بعض الزوايا القديمة المهجورة طلبا للبحث عن بعض المخطوطات النادرة.. وهناك التقينا الشيخ الذي قلب حياتنا جميعا رأسا على عقب.

عندما التقى بنا، قال لنا من غير أن نسأله: لاشك أنكم تبحثون عن ذلك المخطوط النادر الذي تتصورون أنكم إذا ظفرتم به سعدتم.

قلنا جميعا: أجل.. فهل هو عندك؟.. نحن مستعدون أن نشتريه بأي ثمن.. اطلب فقط ما تريد.

قال: لقد جاء الكثير يطلبونه.. وقد دللتهم عليه.. لكنهم رفضوا أخذه..

فرحنا بقوله هذا، وقلنا: إذن هو لا يزال عندك.. هيا أحضره لنا، فقد شوقتنا إليه.

قال: لو كان الأمر بالسهولة التي تتصورونها لأخذه جميع من قصدني.

قلنا: فنحن مستعدون لأي شيء تطلبه منا.. المهم أن تعطينا إياه.. ولو إعارة.

قال: هذا المخطوط لا يعار لأحد.. هذا المخطوط لا يعطي أسراره إلا لمن ملكه.

قلنا: لم نفهم.. ما الذي تقصد؟

قال: هذا المخطوط يحتاج لعيون خاصة تقرؤه.. وقلوب خاصة تعيه.. وآذان خاصة تسمعه.. ولطائف خاصة تشعر به.

 بهت صاحبي صاحب الذوق الرفيع لهذا الكلام، وتأثر به تأثرا شديدا، وصاح: أجل.. هذا ما أبحث عنه.. هل أجده عندك؟

أما صاحبي المشغوف بعالم الأوراق، فأخذ بيدي، وقال: هيا بنا.. لا شك أن هذا الرجل مجنون من المجانين.. فمثل هذه الزوايا الخربة لا يوجد فيها إلا المجانين.

قلت له: دعنا قليلا نسمع ما يريد قوله.. فلعل له شأنا.

أخذ الشيخ بيد زميلي صاحب الذوق الرفيع، وقال: جاهل من قرأ جميع كتب الدنيا، ولم يقرأ كتابه.. وضال من اهتدى إلى كل مكتبات الدنيا، ولم يهتد لتلك المكتبة العظيمة التي زرعها الله في قلبه.. وأعشى البصيرة من أبصر كل شيء، ولم يبصره.

أصابت صاحبي صاحب الذوق الرفيع دهشة لهذا الكلام، وقال: أعده علي.. لكأني سمعته من قبل..

قال الشيخ: هذا الكلام لا يكرر ولا يعاد.. لأنه إن سمعته أذناك وحدهما لم يفدهما.. وإن سمعه قلبك، فقلبك أعظم جهاز تسجيل في الدنيا، وهو لن يحتاج إلى تكرار.. بل لن يحتاج إلى حروف وأصوات.

قال صاحبي: بلى.. لقد سمعته بقلبي.. أنت الآن تتحدث عن خزائن الأسرار التي أودعها الله في حقائقنا منذ الأزل.. منذ سمعنا ذلك النداء الجليل: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172]

قال الشيخ: عجبا لمن سمع ذلك النداء الجليل كيف يتيه عنه.. ثم كيف يبحث عن الدليل، وقد سمع صاحب الدليل.. ورآه بقلبه.. وعشقه قبل أن يكون كل شيء.

قال صاحبي: أجل.. لكن الغفلة والتيه ملآنا بالحجب..

قال الشيخ: لقد قال لي شيخي أول صحبتي له، وقد رآني مشغولا بأوراق كثيرة أريد من خلالها أن أتعرف على الله.. لكني لم أزدد منه إلا بعدا: (يا أبا الحسن حدّد بصر الإيمان تجد اللّه في كل شي‏ء وعند كل شي‏ء ومع كل شي‏ء وقبل كل شي‏ء وبعد كل شي‏ء وفوق كل شي‏ء وتحت كل شي‏ء وقريبا من كل شي‏ء ومحيطا بكل شي‏ء.. بقرب هو وصفه وبحيطة هي نعته، وعدّ عن الظرفية والحدود وعن الأماكن والجهات، وعن الصحبة والقرب بالمسافات، وعن الدور بالمخلوقات، وامحق الكل بوصفه: الأول والآخر والظاهر والباطن وهو هو هو، كان اللّه ولا شي‏ء معه، وهو الآن على ما عليه كان)([1])

ثم التفت لي ولصاحبي، وقال: اعذراني.. فقد انشغلت بصاحبكما عنكما..

قلت: لا عليك.. لكن ليتك لو شرحت لنا ما تقصد.

قال: القلوب التي تفقه الأسرار لا تحتاج لمن يشرح لها.. والتي لا تفقه الأسرار لا يمكن أن تفهم ما لا يمكن شرحه.

غضب صاحبي المشغوف بالأوراق، وقال: دعنا منك أيها الشيخ الخرف.. هل تعرف مع من تتحدث.. أنا أعرف خمس لغات.. وقد قرأت مئات المجلدات.. وأتقنت ـ وأنا لا أزال شابا يافعا ـ الكثير من العلوم.. ثم تزعم أنك تفهم ما لا أفهم، أو تعرف ما لا أعرف.

ابتسم الشيخ لكلامه هذا.. ولم يبد أي غضب، بل قال له: ولا شك أيضا أنك أكلت من الطعام، وشربت من الشراب ما لم يدخل جوفي مثله.

قال صاحبي: أتتهكم علي؟

قال الشيخ: لا.. معاذ الله أن أتهكم على أحد من خلقه.

قال صاحبي: أجل.. لقد سافرت إلى الكثير من البلاد.. وقد أكلت فيها من الطعام، وشربت من الشراب ما لم تحلم بمثله.

قال الشيخ: فهلا وصفته لي حتى كأني أذوقه كما ذقته..

قال صاحبي: لا يمكن ذلك..

قال الشيخ: لقد زعمت أن لك علما وقدرات لغوية.. فهل عجزت جميعا عن وصف الطعام والشراب؟

لم يدر صاحبي ما يقول، فرد عليه الشيخ: كما عجزت لغتك عن التعبير عن طعام جسدك.. فقد عجز لساني كذلك عن وصف طعام روحي.. ولذلك اكتفيت بالرمز الذي لا يفهمه إلا من يعيش عالم الرموز.

في ذلك اليوم افترقنا نحن الثلاثة.. ولم نلتق إلا بعد أكثر من ثلاثين سنة.. لن أحكي لكم سبب ذلك، لأنه لا يعنيكم.. ولكني سأحكي لكم قصة صاحبيَّ، وما صار إليه حالهما بعد تلك العقود من السنين.

أما صاحب الأوراق منهما، فقد رأيته على شاشات التلفاز، بعد أن استضافته قناة من القنوات الكبرى المشهورة.. لعلكم تعرفونها.. تلك القناة التي لا تتقن إلا إثارة الفتن والتحريض على الشغب..

وقد كان مقدم الحصة أيضا معروفا بحبه للإثارة، وإيثاره للتحريض والمحرضين، وقد راح يقدمه بطريقة عجيبة جعلت منه بطلا من أبطال الإسلام الكبار.

وقد تعجبت ـ بادئ الأمر ـ للمنجزات الكثيرة التي حققها في تلك العقود القليلة من السنين.. فقد رأيته يذكر انتماءه لعشرات الجمعيات.. وتأليفه لعشرات الكتب.. وتوليه للكثير من المناصب.. ورحلته للكثير من البلاد.. وفوق ذلك توليه إدارة أعرق جامعة في بعض البلاد العربية.. وفوق ذلك كله صداقته للكثير من الملوك والأمراء..

أصدقكم بأني فرحت كثيرا لما ناله من حظوظ.. وقلت في نفسي: هي فرصة لأن يؤدي رجل قارئ ومثقف مثله خدماته الجليلة للأمة..

لكني ما إن سمعت حديثه حتى سقط في يدي.. وتألمت كثيرا لما أصابه..

لقد بدا لي ممتلئا بالقسوة والغلظة.. وكان يجيب عن الأسئلة التي ترد عليه بكل كبرياء وغرور.. حتى أنني عندما اتصلت بالحصة من بيتي وأخبرته أنني صديقه القديم لم يلتفت لكلامي، بل راح يقول ضاحكا أو ساخرا للمذيع: الكل يزعم صداقتي.. هذه ضريبة المناصب.. ولم يزد على ذلك.

ولم يؤذني كل ذلك، بل آذتني تلك الفتاوى الخطيرة التي كان يصدرها، والتي كان يحرض فيها على الفتنة وسفك الدماء وخراب الأوطان..

بل إنه في أثناء إجابته عن سؤال طرح عليه حول الزوايا والصوفية قال: أتذكر أني ذهبت في شبابي إلى بعض تلك الزوايا، وقد رأيت فيها من الخرافات والضلالات والهرطقات ما لا يقع في مثله اليهود والنصارى، لذلك أنا أرى أن تعامل بمثل ما تعامل بها سلفنا من العلماء الربانيين الذين حكموا على أصحابها بالردة، وحكموا على بنيانها بالهدم.

وظل يرطن بمثل هذه الأحاديث والفتاوى والبيانات إلى أن ضجرت منه ومن كل الأوراق التي قرأها، والتي كانت مبعثرة بين يديه..

في ذلك الحين خطر على بالي أن أبحث عن صديقي صاحب الذوق الرفيع، لا للسؤال عنه.. بل لاختيار القبلة التي يحتاج قلبي للتوجه إليها.. هل هي قبلة الأوراق.. أم قبلة الأذواق؟

لم يكن من الصعب علي البحث عنه، فقد قصدت أهله، وسألته عنهم، فأخبروني أنه في تلك الزواية التي ذهب إليها منذ ثلاثين سنة.. وأخبروني أنه يقيم فيها مع أسرته الصغيرة.. وأن حياته كلها مرتبطة بها.

أسرعت إليها، وأنا أحمل تلك الصورة القديمة عنها، لكني فوجئت بها تتغير تغيرا كبيرا.. فقد تحسن بنيانها، وانتشر العمران حولها، وقد رأيت بجنبها مجموعة من السيارات الفخمة، فخشيت أن يكون قد حصل لصاحبي صاحب الأذواق ما حصل لصاحبي صاحب الأوراق من الاستغراق في الدنيا والانشغال بها، لكني وجدت الأمر خلاف ذلك تماما.

عندما دخلت إلى الزاوية، وسألت عن صاحبي، أخبرت أن لديه بعض الأشغال، وأنه سيحضر بعد حين، فجلست في قاعة الاستقبال أنتظر مع مجموعة من الرجال، وهذا بعض ما دار بينهم من حديث:

قال أحدهم: لقد انتفعت كثيرا بزيارة هذا الشيخ.. فقد أخرجني من كثير من الأوهام التي كادت تصل بعقلي إلى الجنون.. فمع أني قرأت الكثير من الكتب لحل إشكالاتها إلا أن تلك الكتب لم تزدني إلا أوهاما وضلالا.. وقد عرف الشيخ علتي، وأعطاني دواءها، ومنذ ذلك الحين، وأنا أرى الكون والحياة بصورة أجمل بكثير مما كنت أراهما..

قال آخر: صدقت.. وأنا مثلك في هذا.. بل إني بفضل الله استطعت أن أدير المدرسة الخاصة التي أملكها وفق المنهاج التربوي الذي نصحني به.. وهو منهاج يعتمد على التكوين الأخلاقي والتربوي قبل أن يعتمد على حشو ذهن الطالب بالمعلومات والملكات..

قال آخر: أذكر جيدا أول يوم دخلت عليه فيه.. لقد عرف علتي بمجرد أن رآني، فقال: عندما تنزع بيديك الغشاوة من عينيك ستبصر الحقيقة أقرب إليك منك.. ولن تحتاج حينها لفيلسوف ولا لمتكلم.. ثم أخذ يردد علي تلك الحكمة التي جعلتها شعار حياتي: (كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته، أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته، أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله، وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته، أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته)

قال آخر: لقد كان قلبي قبل الالتقاء به خاليا من كل المشاعر.. وكنت قاسيا عتلا غليظا.. وكنت أذيق من حولي كل ما تنتجه نفسي وقلبي من أصناف الضغائن إلى أن سقاني تلك الكأس الطاهرة من شراب المحبة.. وأنا منذ منذ ذلك الحين أشعر بالكون كله في حفلة تسبيح عظيمة..

قال آخر: إن الذي رغبني في صحبته هو أنني أنسى عند الدخول إليه كل تلك الثروات التي جمعتها.. والتي لا يحترمني الناس إلا بسببها.. أما هو فلم يكن يلتفت لها.. بل إنني عندما عرضت عليه أن يأخذ من أموالي ما شاء ابتسم، وقال: الحياة أعظم من أن نضيعها في عد النقود.. الحياة فرصة لأن نتزود للأبد.. فاملأ خزائن قلبك بالحقائق والأذواق، لا بالفضة والذهب.. فالفضة والذهب يزولان، أما الحقائق والأذواق فهي التي تنفعك في تلك الرحلة الأبدية.

قال آخر: وأنا مثلكم.. فلولا صحبتي له لكنت الآن مع أولئك الدمويين الذين يخربون أوطانهم، ويشعلون نيران الفتن فيها.. لقد عرضت علي حينها مبالغ كبيرة لأسخر القناة الفضائية التي أملكها على التحريض على الفتنة.. لكني عندما قصدته، وقبل أن أستشيره في أي شيء، أخذ يحدثني عن السلام والمحبة، وأنه لا يمكن أن يحصل تغيير إلا بهما.. وقد كانت كلماته الصادقة تلك سببا في انهيار المشروع الذي كان يريد الشياطين إقحامي فيه، وجري إليه.

بقي القوم يتحدثون عن مناقب الرجل، وما استفادوه منه إلى أن دخل علينا ممتلئا هيبة ووقارا وإيمانا وتواضعا.. فصافح الجميع، ثم مد يده إلي، وهو يقول: مرحبا بصديقي القديم.. ألم تحسم أمرك بعد؟

قلت: ما تعني؟

قال: ألا تزال تحن إلى عالم الأذواق.. أم أن أوراقك لا تزال تحول بينك وبينه؟

قلت: خذ جميع أوراقي.. واسقني كأسا واحدة من الكؤوس التي سقيت بها هؤلاء الناس.

ابتسم، وقال: ما دامت أوراقك لا تحول بينك وبين الارتواء من كؤوس الأذوق، فدعها معك.. فإن حالت بينك وبينها فأحرقها، فهي سموم قاتلة.

قلت: هل علمت ما حصل لصاحبنا صاحب الأوراق.. فقد..

قاطعني، وقال: لقد أخبرني شيخي بمصيره من أول يوم التقينا فيه معه.. لقد بكى بعد انصرافكما بكاء شديدا، وقال: يوشك لصديقك ذلك أن يأكل الفالوذج على موائد الأمراء.. فإن شئت أن تصحبه فافعل.. فإن الدنيا ستفتح له كل أبوابها.

قلت: فلم لم تفعل؟

قال: عندما تذوق من رحيق المحبة الطاهرة، وتشع عليك أشعتها الجميلة ستحتقر كل ما عداها، وكل من عداها.. وسيصبح الساقي حينها هو الأمير والملك.. وستطلق عند رؤيته كل ما حصلت عليه، وما لم تحصل.. ألم تعرف ما حصل لمولانا جلال الدين عند رؤيته لشمس تبريز؟

قلت: بلى.. لقد قرأت ذلك.. وتأثرت لقصته.

قال: فهل كان يمكن لمولانا أن يكون بتلك الصفة التي عرفته بها لو لم يشرب من شراب المحبة التي سقاه بها شمس تبريز؟

قلت: لا.. لا يمكنه ذلك.

قال: ولكنه كان قبل صحبته صاحب أوراق كثيرة..

قلت: لكن كل تلك الأوراق مع كثرتها لم تكن تدفئ روحه التي كانت تحتاج إلى من يشعل فيها نيران المحبة..

قال: فهل تعرف الغزالي.. وعلومه الكثيرة قبل رحيله إلى عالم الأذواق؟

قلت: أجل.. لقد ذكر ذلك عن نفسه في كتابه [المنقذ من الضلال]

قال: لو أن صاحبك عرف هذا.. وراح يراجع ما قرأ.. ويعيش ما طالع.. ولا يكتفي بترديده على نفسه وعلى الناس.. لما صار أداة يتلاعب بها الأمراء ومن معهم من الشياطين.

قال ذلك، ثم استأذننا في الذهاب إلى تلاميذه، وطلب منا صحبته، فرأينا منهم العجب.. لا في عالم الأذواق فقط.. بل في عالم الأوراق أيضا..


([1]) الكلام الوارد هنا للشيخ عبد السلام بن مشيش لتلميذه أبي الحسن الشاذلي..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *