رجال.. لا حقائق

رجال.. لا حقائق

اللبنة الأولى التي يتأسس عليها العقل السلفي هي [السلف]، وهم يقصدون بهم ـ بناء على حديث ورد في ذلك يرددونه كثيرا ـ أصحاب القرون الثلاثة الأولى.

والحديث هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يأتي من بعد ذلك ناس يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)([1])

ومع أن هناك اختلافا في دلالة القرن في اللغة، لأن هناك من يذكر أنه أربعون سنة، ومنهم من يذكر أنه ثمانون، ومنهم من يذكر أنه مطلق من الزمان، ومنهم من يذكر أنه لا علاقة له بالزمن.. ولكن السلفية يرجحون ـ بناء على بعض الاعتبارات ـ أن المراد منه مئة سنة.

ومن الأدلة التي يوردونها في ذلك رواية عن عبد الله بن بسر المازني، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم له: (لتبلغن قرناً) فعاش مئة سنة([2]).. ويروون عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قال: (أرأيتم ليلتكم هذه، على رأس مئة سنة منها لا يبقى على ظهر الأرض ممن هو على ظهر الأرض أحد)، قال ابن عمر: فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مئة سنة، وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يبقى اليوم ممن هو على ظهر الأرض، يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن([3]).

وبناء على هاتين الروايتين وغيرهما، يحددون أهل القرون الثلاثة الفاضلة بأنهم الذين عاشوا بين عامي البعثة النبوية، وتمام عام ثلاث مئة للهجرة.. وتشمل هذه المدة نحو خمسة أجيال من المسلمين، وتضم طبقات الصحابة، والتابعين، وأتباع التابعين، وتبع الأتباع، وتبع تبع الأتباع([4]).

وهم يذكرون أن أهل هذه القرون الثلاثة وصفت بأنها خير القرون لأن غالب أهل تلك المدة كان يغلب عليهم صلاح المعتقد والسلوك، فكانوا على منهاج النبوة بخلاف من جاء بعدهم، والذين ـ يذكر السلفيون ـ أن الابتداع وسوء المعتقد غلب عليهم.

وهم يضيفون إلى ذلك الدليل الكثير من النصوص القرآنية الواردة في فضل الصحابة، كقوله تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100]

وهم يستدلون بهذه الآية الكريمة في موضعها وغيرها موضعها، حتى أنهم يستدلون بها في حديثهم عن فضائل معاوية وأبي سفيان والطلقاء الذين تأخر إسلامهم، مع أنها وردت في حق السابقين فقط.

ومن الآيات التي يستدلون بها كذلك قوله تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ [الفتح: 29]، وقوله: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 8، 10]

وغيرها من الآيات الكريمة التي أثنى الله تعالى فيها على المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان.

بالإضافة إلى ذلك يستدلون بما ورد في الحديث الشريف من نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن سب الصحابة، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)([5])

ويروون عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفع رأسه إلى السماء، وكان كثيراً ما يرفع رأسه فقال: (النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)([6])

ويروون عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في موعظة بليغة، كان فيها كالمودع لأصحابه: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)([7])

وبناء على هذه الأدلة يرون أن السلف خير أجيال البشرية جميعها على الإطلاق حاشا الأنبياء – عليهم السلام ـ بل يرون أن الله تعالى كما اختار أنبياءه من صفوة بني آدم، فكذلك اختار أصحاب أنبيائه من خيرة الناس، ويروون في ذلك عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر قولهما: (من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوماً اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم)([8])

بالإضافة إلى هذه الأدلة النصية يذكرون أن سادة السلف وخاصة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا عرباً أقحاحاً، وكانوا أدرى باللغة العربية من غيرهم.. وأنهم تلقوا القرآن غضاً طرياً، وعاينوا الأحداث التي مرت بهم، وكانت سبباً لنزول كثير من آياته وسوره، فأدركوا مناسبات الآيات.. وأنهم فوق ذلك سمعوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة دون واسطة فغالب ما نقلوه عنه أخذوه من فيه، وسمعوه فعاينوا لهجته وإشارته، وأدركوا منحاه ووجهته.

بالإضافة إلى ذلك يذكرون أن هؤلاء السلف تلقوا تعاليم الإسلام صافية نقية، لم يخلطوها بثقافات وافدة من أديان وثنية أو كتابية محرفة، أو فلسفات وضعية، أو علوم كلامية، بل كانوا على الفطرة السليمة، فعقولهم نظيفة، خالية من الشوائب والخلافات، بخلاف الخلف الذين فسدت فطرتهم بسبب ما درسوه من علم المنطق والفلسفة والكلام، وغيرها من العلوم.

إضافة إلى ذلك كله يذكرون أن السلف عرفوا حقيقة الجاهلية التي جاء الإسلام للقضاء عليها، لأن بعضهم عاشها بنفسه، والآخرون كانوا حديثي عهد بها، نقلها إليهم أهلوهم وأقاربهم، فلما جاء الإسلام ميزوا بينه وبين الجاهلية، وأدركوا البون الشاسع بينهما، بينما فقد المتأخرون من أجيال الخلف معنى الجاهلية الحقيقي، فاختلط عليهم الأمر.

هذا تلخيص بسيط للأدلة التي يسوقها السلفية في القديم والحديث حول سبب تقديمهم للسلف، واكتفائهم بهم.. وهم يكررونها في كل محل، وبصيغ مختلفة([9]).

ولكنهم ـ قصدا أو عمدا ـ يغالطون فيما يطرحونه مغالطات كثيرة، وأول تلك المغالطات استعمالهم الأدلة في غير محلها، فالآيات الكريمة التي ذكرت فضائل الصحابة وأعمالهم الصالحة، لم تشر أي إشارة إلى تلقي الدين عنهم، أو حتى الاقتداء بهم، لأن الاقتداء في القرآن الكريم لم يرد إلا في موضعين، ولجهتين.

الأولى: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]

والثانية: الاقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90]

أما ما ورد غير ذلك، فهو مرتبط بالأنبياء لا بالأتباع كقوله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة: 4]

وهكذا يقال في ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضل القرون الثلاثة الأولى، فهو خاص ـ في حال صحته ـ بالإشادة بأعمالهم الصالحة، ولا علاقة له بتلقي تفسير الدين عنهم.

بناء على هذا سنحاول هنا بيان مغالطاتهم في هذا الجانب وفق ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ووفق الجانت العملي من هذه الأطروحة، لا النظري المزين منها، لنكتشف حقيقة السلف الذين يستند إليهم السلفية، وهل حقا تصدق عليهم تلك النصوص التي يستدلون بها.

وقد قسمنا هذه المغالطات([10]) ـ بناء على أن السلفية تعني رجالا عاشوا في زمن معين ـ إلى قسمين: مغالطات مرتبطة بالزمن السلفي، ومغالطات مرتبطة بالرجال الذين عاشوا في ذلك الزمن، والذين اعتبرهم السلفية مصدرا لتلقي الدين.

أولا ـ مغالطات مرتبطة بالزمن:

من الغرائب التي تثير الانتباه في العقل السلفي أنه يعتمد في مسائل خطيرة من الدين مثل هذه المسألة ـ مسألة تحديد مصادر تلقي الدين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ على حديث واحد ورد عن طريق الآحاد، واضطرب في فهمه اضطرابا شديدا.

فقد اضطرب شراح الحديث في الناحية الزمنية اضطرابا شديدا يبدأ من عشر سنوات إلى عشرين سنة إلى أن يصلوا إلى 120 سنة.. وبذلك يبقى الشك واردا في الكثير ممن أدخلوهم في هذه القرون بناء على الاعتبارات المختلفة للقرن.

بالإضافة إلى أن لفظ القرن ـ كما ورد في القرآن الكريم ـ قد يحمل على معنى مختلف تماما عن الذي قصدوه، فقد قال تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا﴾ [مريم: 74]، وهو يعني الجماعة المتجانسة، التي تكون على مذهب واحد.

ولو طبق العقل السلفي هذا المعنى على الحديث ليسر عليه التعامل معه، ولما اصطدم بغيره من النصوص التي تبين أنه لا علاقة للزمن بالخيرية ـ كما سنرى ـ

وقد أورد الشيخ حسن بن فرحان المالكي هذه الدلالة للحديث، وقال شارحا لها: (الحديث قد تصرف فيه الرواة كثيراً؛ وتحقيق اللفظ الذي قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحتاج إلى حضانة قرآنية – وقد وجدناها – ولفظ أقرب للعمل من الزمن؛ وقد وجدناه؛ والدليل على هذا إجماعهم بأن فلاناً قرن فلان في السن، وقرنه في التجارة، وقرنه في العلم، فيكون الاقتران في العمل الصالح هو الأصل لا الزمن. والناس في الحديث هم الناس في عصره صلى الله عليه وآله وسلم لا غير، فبين أن أفضلهم من كان يليه في الإسلام والصبر وتلقي الأذى والفقر والحصار.. وليس من المعقول أن يفضل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس على (أساس زمني) أبداً، فزمنه فيه الكافر والمؤمن، المخلص والمنافق، وبعده كان المؤمن والمبدل والمرتد. وإنما تفضيل الشرع على أساس (العمل) لا على أساس (الزمن)، وإدخال (الزمن) كمعيار أفضلية وحيد، إنما هو جاهلي ثم أموي؛ ولا دخل لها بالشرع)([11])

ثم أورد رواية صحيحة تدل على هذا المعنى، وهي (خير الناس أقراني الذين يلوني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.. ثم يخلف بعدهم خلف تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته)([12])

وعلق عليها بقوله: (فالمعنى واضح؛ والسند صحيح. فقوله (أقراني الذين يلوني) واضح أنه لا يريد القرن الزمني، وإنما أهل بيته ومن في حكمهم ممن أسلم في أول الإسلام؛ وكانوا يلون النبي في كل شيء؛ وهذا الالتفاف على هذه الفضيلة لأهل البيت لها نماذج كثيرة جداً، وهي نتيجة لما زرعه الأمويون من ثقافة تشتت فضائل أهل البيت في غيرهم. ومن قرائن هذا لفظ أبي بكر بن أبي شيبة شيخ البخاري ومسلم (خير أمتي قرني الذين يلوني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)؛ فالمعنى واضح.. لأنه لو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد الزمن هنا لكان الشهداء الذين استشهدوا في عهده كشهداء بدر وأحد خارج هذا الحديث لأنهم لم يلونه زمنياً.. وكذلك بعض ألفاظ مسلم في صحيحه (خير أمتي القرن الذين يلوني) فليس المراد الزمن، والشهداء في عهده لن يلوه زمنيا! فمعنى (يلوني) أي الأقرب إلي في سبقهم إلى الإسلام ونصرتهم وصبرهم.. مثلما تقول فلان الأفضل والأعلم و(يليه) فلان في الفضل أو العلم. ويؤكد هذا المعنى لفظ ابن أبي عاصم في السنة (قلت يا رسول الله أي أمتك خير؟ قال: أنا وأقراني)، والألفاظ التي تدل على أن القرون مجموعات من سابقي أصحابه، كثيرة، أي بعضهم أفضل من بعض، أفضلهم أهل بيته ثم المستضعفون ثم بقية السابقين)([13])

بالإضافة إلى هذا الاضطراب، فإن الحديث ـ بمفهومه الزمني ـ يتناقض مع نصوص كثيرة أكثر قطعية، أو أضح دلالة، وقد قسمنا النصوص التي يتناقض معها الحديث إلى قسمين، كما يلي:

1 ـ النصوص الدالة على وقوع الانحراف بعد الرسالة مباشرة:

وردت نصوص كثيرة تدل على أن الانحراف يقع في الأمم بعد رسلها مباشرة، حيث يقع التنازع والقتال بسبب البغي الذي يحصل بينهم، وبسبب عدم التزامهم بتعاليم الرسل عليهم الصلاة والسلام.

كما قال تعالى موضحا سنن التاريخ في ذلك:﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة: 253]

وقال تعالى بعد أن أثنى على مجموعة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم: 58، 59]

وكنماذج تطبيقية عن أقوام الأنبياء، وتبديلهم وتغييرهم، ذكر موقف أتباع سليمان عليه السلام، فقال: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ [البقرة: 102].

بل إن الله تعالى يذكر أن الفساد والانحراف يبدأ في عصر النبي قبل وفاته، وقد ضرب لنا المثل ببني إسرائيل في عهد موسى عليه السلام، والذين عبدوا العجل بمجرد غيابه مباشرة، قال تعالى ـ ذاكرا ما حصل وأسبابه ـ: ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي﴾ [طه: 83 – 86]

وهكذا أخبر القرآن الكريم أن هذه الأمة لا تختلف عن سائر الأمم في هذه السنة، ولو أنها كانت متميزة عنها في ذلك لاستثنى، قال تعالى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144]

بل ورد في آية أخرى الدلالة على أن الأمة ستفترق بعده صلى الله عليه وآله وسلم إلى ثلاث فرق، قال تعالى: ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [فاطر: 31، 32]

وقد ورد في الحديث ما يبين أن هذه الفرق تشمل الصحابة فمن بعدهم، فقد روي أن عائشة سئلت عن الآية الكريمة، فقالت ـ ردا على من سألها ـ: (يا بني، هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، شهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحياة والرزق، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم)([14])

بل قد ورد في أحاديث كثيرة ما يشير إلى أن الجيل الذي يأتي بعده صلى الله عليه وآله وسلم ـ كسائر الأجيال ـ لا ضمانه له بأن يبقى ملتزما، فالنجاح في الاختبار الإلهي هو الذي يحدد مصير كل إنسان، وما دام حيا، فهو عرضة للنجاح والسقوط.

فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لشهداء أحد: هؤلاء أشهد عليهم، فقال أبو بكر: ألسنا يا رسول الله بإخوانهم، أسلمنا كما أسلمو، وجاهدنا كما جاهدوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بلى، ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي. فبكى أبو بكر، ثم بكى. ثم قال: أئنا لكائنون بعدك؟!)([15])

 وفي حديث آخر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام على أهل البقيع، فقال: (السلام عليكم يا أهل القبور من المؤمنين والمسلمين. لو تعلمون نجاكم الله منه مما هو كائن بعدكم)، ثم نظر إلى أصحابه، فقال: هؤلاء خير منكم. قالوا: يا رسول الله، وما يجعلهم خيراً من؟ قد أسلمنا كما أسلموا وهاجرنا كما هاجرو، وأنفقنا كما أنفقو، فما يجعلهم خيراً منا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن هؤلاء مضوا لم يأكلوا من أجورهم شيئا، وشهدت عليهم. وإنكم قد أكلتم من أجوركم بعدهم، ولا أدري كيف تفعلون بعدي)([16])

ومثل ذلك الأحاديث الكثيرة التي تخبر عن الفتن بعده، مثلما روي عن أسامة بن زيد قال: أشرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أطم من آطام المدينة، ثم قال: (هل ترون ما أرى؟ إني أرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر)([17])

وورد في الحديث عن كعب بن عجرة الأنصاري قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن في المسجد، أنا تاسع تسعة، فقال لنا: (أتسمعون هل تسمعون ـ ثلاث مرار ـ إنها ستكون عليكم أئمة، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فلست منه، وليس مني، ولا يرد علي الحوض يوم القيامة، ومن دخل عليهم ولم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، وسيرد علي الحوض يوم القيامة)([18])

وفي حديث آخر عن عبد الله بن عمرو عن النبي r قال: (كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم. أي قوم أنتم؟) قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال: (أو غير ذلك؟ تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون)([19])

وفي حديث آخر عن عن عمرو بن عوف عن النبي r قال: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)([20])

وفي حديث آخر عن أبي برزة عن النبي r قال: (إنما أخشى عليكم الشهوات التي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن)([21])، وفي رواية: (ومضلات الفتن)([22])

وقد ورد في الحديث ما يشير إلى أن الشر سيكون بعد النبوة مباشرة، ففي الحديث عن حذيفة قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله: صفهم لنا، فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)([23])

ويمكن الاستدلال لهذا أيضا، بما ورد في النصوص الكثيرة من أن هذه الأمة سيحصل فيها من التغيير ما حصل في الأمم الأخرى، كما قالصلى الله عليه وآله وسلم ـ مخاطبا أصحابه ـ: (لتتبعنَّ سنن من كان من قبلكم شبر بشبر وذراع بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم)، قلنا: يارسول الله اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟)([24])

وقد قال حذيفة ـ وهو المهتم بأحاديث الفتن كما رأينا ذلك في الرواية السابقة ـ: (لتركبن سنة بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، غير أني لا أدري تعبدون العجل أم لا)([25])

فهذه الروايات جميعا تفيد بأن التغيير يحصل في الأمة، فكيف يدلنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن نأخذ ديننا من هذا الواقع المملوء بالفتن؟

بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن من الصحابة من يحدث بعده، وأنه لأجل ذلك يذاد عن الحوض، ففي الحديث عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ألا وإنه يجاء برجال من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا ربِّ أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح: ﴿ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المائدة: 117])([26])

وفي حديث آخر عن أبي هريرة أنه كان يحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يرِد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي، فيُحَلَّون([27]) عن الحوض، فأقول: يا ربِّ أصحابي. فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى)([28])

وفي رواية عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا فرَطكم([29])على الحوض، ولأُنازَعَنَّ أقواماً ثم لأُغلَبَنَّ عليهم([30])، فأقول: يا رب، أصحابي أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)([31])

وفي رواية أخرى أكثر صراحة عن عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني فرَطكم على الحوض، من مرَّ عليَّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، لَيَرِدن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم. قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش، فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم. فقال: أَشهدُ على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها: فأقول: إنهم مني. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سُحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي)([32])

فهذا الحديث وغيره كثير يدل على أن الذين غيروا وبدلوا من الصحابة المقربين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلا كيف يجادل عنهم.. وهل يمكن أن يجادل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مسيلمة وغيره من المرتدين؟.. وهل يمكن أن نعتبر مسيلمة وأولئك المرتدين ـ كما يزعم العقل السلفي ـ صحابة؟

وهذا الحديث الصحيح برواياته المختلفة كاف في صد دعوى الرجوع للسلف، لأن من الصحابة ـ وهم كما يرى العقل السلفي أفضل القرون ـ من أحدث وحرف وابتدع في الدين، من غير أن تحدد لنا الأحاديث أسماءهم، وذلك كاف وحده في اعتبارهم مثل سائر الأجيال في رد ما يرد عنهم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كما قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات: 1]، وقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59]

وهذا ما ينسجم مع المنطق السليم، لأننا إذا أخبرنا أن في أطعمة معينة سموما قاتلة، فإن العقل السليم يدعونا إلى الحذر منها جميعا، أو تحليل ما فيها لتحديد المسموم من غير المسموم، وهكذا كان ينبغي على الأمة أن تفعل، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حذرها من الفتنة، وأخبر أنها تأتي بعده مباشرة، والعاقل هو الذي يحتاط لدينه، فيرجع كل شيء إلى الأصل الذي دعانا الله إليه، وهو التحاكم إلى الله ورسوله لا إلى جيل من الأجيال، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النور: 51]، فالحكم ـ كما تنص الآية الكريمة ـ هو الله ورسوله.. لا أبو بكر ولا عمر.. ولا أي أحد من الناس كما يزعم العقل السلفي.

ولهذا كان ابن عباس يرد بشدة على العقل السلفي الذي كان يعيش معه، بسبب مبالغتهم في شأن الشيخين، ففي الحديث عن عروة بن الزبير أنه أتى ابن عباس فقال: يا ابن عباس طالما أضللت الناس! قال: وما ذاك يا عريَّة؟ قال: الرجل يخرج محرماً بحج أو بعمرة فإذا طاف زعمت أنه قد حل فقد كان أبو بكر وعمر ينهيان عن ذلك؟ فقال: أهما – ويحك – آثر عندك أم ما في كتاب الله وما سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أصحابه وفي أمته؟)([33])

وفي رواية قال عروة لابن عباس: ألا تتقي الله ترخص في المتعة؟! فقال ابن عباس: سل أمك يا عُرَيَّةُ، فقال عروة: أما أبو بكر وعمر فلم يفعلا، فقال ابن عباس: (والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله، أحدثكم عن رسول الله، وتحدثونا عن ابي بكر وعمر)([34])

وفي رواية: (أراهم سيهلكون، أقول: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم،‏ ‏ويقول نهى ‏‏أبو بكر ‏‏وعمر)([35])

بل قد ورد من الروايات ما يدل على أن الصحابة أنفسهم شهدوا بوقوع التغيير في الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي قرنهم الذي يعتبره السلفية أفضل القرون، ففي الحديث عن الزهري أنه قال: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: (لا أعرف شيئاً مما أدركتُ إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعتْ)، وفي رواية، قال: (ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم)، قيل: الصلاة؟ قال: (أليس ضيَّعتم ما ضيَّعتم فيها؟!)([36])

وفي رواية أنه قال: (ما أعرف شيئاً مما كنا عليه على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فقلت: أين الصلاة؟ قال: (أوَلم تصنعوا في صلاتكم ما قد علمتم؟)([37])

وفي حديث آخر عن أم الدرداء أنها قالت: دخل عليَّ أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: مَن أغضبك؟ قال: (والله لا أعرف منهم من أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً إلا أنهم يصلّون جميعا)([38])، وفي رواية قال: (إلا الصلاة)

فهذه الأحاديث ـ مع كثرتها ـ كافية في الدلالة على أنه لا يمكن الوثوق بذلك الزمن ـ الذي يعتبره العقل السلفي أفضل الأزمنة ـ بسبب التحريفات التي حصلت فيه، ولذلك كان الميزان هو التحاكم إلى كتاب الله أولا، ثم إلى رسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تتوافق مع كتاب الله تعالى، لأن الذين حرفوا أضافوا بعض ما حرفوه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يشرعنوا آراءهم.. فالذي يتجرأ على الكذب على الله، لن يتورع عن الكذب عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

وهكذا يقال في سائر القرون التي يتعلق بها العقل السلفي، ويخضع لها خضوعا مطلقا، فقد ذكر الحسن البصري ـ وهو من التابعين ـ ما حصل في عهده من تغيرات مقارنة بعصر الصحابة، فقال: (لو أَن رجُلا أَدركَ السلفَ الأَولَ ثم بُعثَ اليومَ ما عَرَفَ من الإِسلام شيئا)،ثم وضع يده على خدِّه ثم قال: (إِلا هذه الصلاة) ثم قال: (أَما والله ما ذلكَ لمن عاشَ في هذه النكراء ولم يدرك هذا السلف الصالحَ؛ فرأى مبتدعا يدعو إِلى بدعته، ورأى صاحبَ دنيا يدعو إِلى دنياه؛ فعصمهُ الله من ذلكَ، وجعلَ قلبهُ يحنّ إِلى ذلك السَّلف الصالح يَسْأَلُ عن سبيلهم، ويقتص آثارهُم، ويَتّبعُ سبيلهُم، ليعوض أَجرا عَظيما؛ فكذلك فكونوا إِن شاء الله)([39])

2 ـ النصوص الدالة على أن الفضل لا علاقة له بالزمن:

عند الرجوع للنصوص المقدسة الكثيرة ـ من الكتاب والسنة ـ نجد أن عدل الله تعالى بين عباده لا يفرق بين أمة وأمة، ولا بين زمن وزمن، كما قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: 123، 124]

فهذا قانون الله وسنته التي تجري على جميع الأمم والشعوب، لا يستثنى أحد منها، لأن الله خالق الجميع، ومربي الجميع، ويوم القيامة يضع موازين واحدة للحكم بين عباده، لا تميز بين جيل وجيل، أو أمة وأمة.

لكن العقل السلفي لم يتقبل هذه النصوص المقدسة، ولا ما يدل عليها من العقل، فلذلك راح يبالغ في شأن الصحابة، ولا يطبق أحكام الجرح والتعديل عليهم في الرواية حتى لو كانوا فسقة مجاهرين بالكبائر، لأن مجرد رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندهم تنسخ كبائرهم وجرائمهم.

مع أن القرآن الكريم ذكر أن في الصحابة فسقة، وسماهم بذلك، كما قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]

بل ذكر القرآن الكريم أنه ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منافقون، مات عنهم وهم كذلك، بل ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه لم يكن يعلم بهم، كما قال تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ [التوبة: 101]

وورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر حذيفة عن أسماء بعض أصحابه المنافقين، ولم يخبرنا حذيفة عنهم، ففي الحديث عن علقمة، قال: دخلت الشام فصليت ركعتين، فقلت: اللهم يسر لي جليسا، فرأيت شيخا مقبلا فلما دنا قلت: أرجو أن يكون استجاب، قال: من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، قال: (أفلم يكن فيكم صاحب النعلين والوساد والمطهرة؟ أولم يكن فيكم الذي أجير من الشيطان؟ أولم يكن فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره؟)([40])

فهؤلاء الصحابة الذين لم يرد النص بذكر أسمائهم، وحتى عبد الله بن مسعود مع صحبته الطويلة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعرف أسماءهم.. أو ليس من الممكن ـ عقلا وشرعا ـ أن يكون بعضهم قد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك الروايات التي صورت الله تعالى بأنه شاب أمرد، وصورت الأنبياء صعاليك ومجرمين وكفرة..، ثم يأتي العقل السلفي ليأخذ دينه من النفاق، بحجة أن الراوي صحابي، والصحابة كلهم عدول، حتى لو كانوا فسقة.

بل إن القرآن الكريم ذكر عن ضعف إيمان الكثير منهم، للدرجة التي كانوا يتخاذلون فيها عن دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم في أي أمر يحتاجه، كما قال تعالى: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ [آل عمران: 154]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 155]

فهل يمكن اعتبار أمثال هؤلاء قدوة للمؤمنين في جميع الأجيال؟

 بل إن القرآن الكريم ذكر ترك الكثير منهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمر أدنى بكثير من الجهاد، ولا يكلفهم شيئا، فقد تركوه صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب يوم الجمعة، ليلاقوا القافلة، كما صور ذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [الجمعة: 11]

هذا هو تصوير القرآن الكريم لذلك الجيل الذي يريد العقل السلفي أن يعتبره الجيل المفضل والقدوة.. بل إن السلفية يعتبرون كل من كان في ذلك الجيل من الفسقة والظلمة والمستبدين أفضل من كل أولياء الأمة في كل عصورها.. ولست أدري ما هي الموازين العادلة التي سوغت ذلك؟

والعقل السلفي ـ بسبب عدم ورود ما يدل على هذا من القرآن الكريم ـ نجده يعود إلى الروايات يحفظها ويكررها حتى يرسخ المعاني اللامعقولة ويفرضها على عقله فرضا، فمن الروايات التي يوردونها في هذا، أن عبد الله بن المبارك سئل: أيهما أفضل: معاوية بن أبي سفيان، أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال: والله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من عمر بألف مرة، صلى معاوية خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: سمع الله لمن حمده، فقال معاوية: ربنا ولك الحمد.فما بعد هذا؟)([41])

ورووا عن الجراح الموصلي قال: سمعت رجلاً يسأل المعافى بن عمران فقال: يا أبا مسعود ؛ أين عمر بن عبد العزيز من معاوية بن أبي سفيان؟! فرأيته غضب غضباً شديداً وقال: (لا يقاس بأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحد، معاوية رضي الله عنه كاتبه وصاحبه وصهره وأمينه على وحيه عز وجل)([42])

وسئل أبو أسامة، قيل له: أيهما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يقاس بهم أحد([43]).

وبناء على هذا تساهلوا مع كل الإضافات التي أضافها معاوية للدين، بل تساهلوا حتى مع الاستبداد، فحولوا الملك العضوض الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حكما شرعيا يمكن أن يمارس باسم الإسلام لأن الصحابة عدول، وتصرفاتهم كلها محل قدوة.. وقد قال بعض كبار السلفية المعاصرين، وهو محب الدين الخطيب: (سألني مرة أحد شباب المسلمين ممن يحسن الظن برأيي في الرجال ما تقول في معاوية؟ فقلت له: ومن أنا حتى اسأل عن عظيم من عظماء هذه الأمة، وصاحب من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إنه مصباح من مصابيح الإسلام، لكن هذا المصباح سطع إلى جانب أربع شموس ملأت الدنيا بأنوارها فغلبت أنوارها على نوره)([44])

وهكذا تحول معاوية عند العقل السلفي إلى مصباح من مصابيح الإسلام التي يمكن لأي حاكم وظالم ومستبد أن يهتدي بنورها، ولا عليه إذا ما أنكر عليه أحد من الناس أن يخبر بأنه يستن في ذلك بسنة معاوية.

وبذلك قضى العقل السلفي على النظام السياسي الإسلامي بسبب هذه المغالطات الكبيرة التي تخالف القرآن والعقل.. بل تخالف كل منطق في الدنيا..

وسبب ذلك كله هو غرقه في التجسيم والحس، فلذلك تصور أن الصحبة الحسية هي الأصل، ولم يعلم أن الصحبة الحقيقية هي صحبة الروح والعقل والمشاعر، والتي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)﴾ [الحديد: 13، 14]

فهذه الآية الكريمة تنفي ذلك المفهوم الحسي الذي يطرحه العقل السلفي لمعنى المعية والصحبة.. فالمعية معية الروح، لا مجرد معية الجسد، التي لا تكليف فيها، ولا تعب معها.

ولهذا فإن استدلال العقل السلفي بقوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الفتح: 29] على أولوية القرون الأولى، لا ينسجم مع مفهوم القرآن الكريم للمعية.

بل لا ينسجم أيضا مع ما ورد في السنة المطهرة من مفهوم المعية، فقد روي أن رجلا جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله: إنك لأحبُّ إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك وعرفتُ أنك إذا دخلتَ الجنة رُفعتَ مع النبيئين، وإني إذا دخلتُ الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يردَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزل جبريل بهذه الآية: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69]([45])

وعن أنس قال: (بينا أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أعددت لها؟) قال: (ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله)، قال:(فأنت مع من أحببت)([46])

فهذا الحديث الشريف يربط المعية برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمحبته.. فكل من أحبه، فهو معه، كان في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم، أو لم يكن في زمانه.

ومن تلك الأحاديث الحديث العظيم المشهور الذي يظهر يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشريفة، وهي تمتد إلى قلوب أمته من بعده.. ففي الحديث الذي تهتز له قلوب الأولياء أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (وددت أني لقيت إخواني)، فقال له أصحابه: أوليس نحن إخوانك؟ قال: (أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني)([47])

وفي رواية: (ومتى ألقى إخواني؟)، قالوا: يا رسول الله، ألسنا إخوانك؟ قال: (بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين آمنوا بي ولم يروني)

بل ورد في أحاديث أخرى كثيرة ما يدل على المكانة الرفيعة التي يحظى بها من لم يتشرف برؤيته صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا، وأنها لا تقل عن مكانة صحابته، فقد ورد في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي، يودُّ أحدهم لو رآني بأهله وماله)([48])

وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أشدَّ أمتي لي حبا قوم يكونون أو يجيئون، وفي رواية – يخرجون بعدي- يود ّأحدهم أنه أعطى أهله وماله وأنه رآني)([49])

وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحبُّ إليه من مثل أهله وماله)([50])

بل ذكر صلى الله عليه وآله وسلم المنهج الذي يمكن أن يصل به المؤمن إلى تلك المكانة الرفيعة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (إن أقربكم مني يوم القيامة في كل موطن أكثركم علي صلاة في الدنيا، من صلى علي مائة مرة في يوم الجمعة وليلة الجمعة قضى الله له مائة حاجة سبعين من حوائج الآخرة وثلاثين من حوائج الدنيا، ثم يوكل الله بذلك ملكا يدخله في قبري كما يدخل عليكم الهدايا يخبرني من صلى علي باسمه ونسبه إلى عشيرته فأثبته عندي في صحيفة بيضاء)([51])

فهذا الحديث يرسم خطة واضحة للمعية لا علاقة لها بالزمان، ولا بالمكان، بل علاقتها فقط بمدى التواصل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي تمثل الصلاة عليه أحد أهم مقوماته.

وورد في حديث آخر مقوم آخر، لا يرتبط لا بالمكان، ولا بالزمان، فقال: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون)([52])

 فهذا الحديث يحدد حسن الخلق مقياسا لمكانة المؤمن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مما لا علاقة له لا بالمكان، ولا بالزمان.

ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خياركم أحاسنكم أخلاقا)([53]) فقد ربط صلى الله عليه وآله وسلم الخيرية في هذه الأمة، وفي غيرها من الأمم بالأخلاق الحسنة.

وهذه الأحاديث وغيرها تتناسب مع ما يقتضيه العقل السليم، لأنه من الغريب أن تصنف الأمة في قربها من الله تعالى وقربها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أساس زماني أو مكاني، لأن أي شخص قد يحتج على الله، فيقول له: يا رب لو أنك جعلتني في الزمن الذي كان فيه صلى الله عليه وآله وسلم لرأيت ما أصنع.

ولكن عندما يقرن الأمر بالطاعة والمحبة والولاء حينها لا يبقى عذر لأحد.. لأن كل إنسان يمكنه أن يحقق هذه المعاني من غير حاجة لزمان ولا لمكان.

ثانيا ـ مغالطات مرتبطة بالرجال:

لا يكتفي العقل السلفي بالمغالطات المرتبطة بالزمن، والتي ينتقي لها من النصوص ما يتناسب مع مزاجه، ولكنه يضيف إلى ذلك مغالطات أخطر منها تتعلق بالرجال الذين يتصور أنهم سلفه الذين ينقل عنهم الدين، ويرى الأولوية لهم في بيان أحكامه.

فبينما هو يستدل بالآيات الواردة في فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لإقناع جمهوره أو الرد على مخالفيه، نجده في الواقع يقصي هؤلاء السابقين إقصاء خطيرا، حتى أننا لو رحنا لتلك الموروثات التي يستند إليها العقل السلفي لوجدنا غيابا مطلقا لخيرة المهاجرين والأنصار.. بل غيابا مطلقا لأتباعهم وأنصارهم وتلاميذهم.

وفي نفس الوقت نجد حضورا قويا لرجال الدين من اليهود الذين أسلموا أو الصحابة الذين تتملذوا على أيديهم.

وبذلك فإن سلف السلفية هم رجال الدين من اليهود، وتلاميذهم، أما الصحابة الذين ملأوا الدنيا صراخا من أجلهم، فهم أبعد الناس عنهم.

فلو جمعنا رواياتهم عن جميع الصحابة الذين حضروا بدرا، لم نجدها تعادل جزءا بسيطا من روايات أبي هريرة الذين كان يجمع بين المدرستين الإسلامية واليهودية، وبين الأستاذين محمد رسول الله، وكعب الأحبار، بل إن تلمذته على كعب الأحبار وجلوسه بين يديه أطول بكثير من تلمذته على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجلوسه بين يديه.

هذه خلاصة المغالطة، أما تفاصيل الأدلة فسنشير إليها في العنوانين التاليين:

1 ـ إقصاء السابقين من الصحابة وأتباعهم:

يذكر السلفية ـ كما رأينا في مقدمة الكتاب ـ أنه لا يصح الاقتصار على اتباع الكتاب والسنة، بل يشترطون في ذلك إضافة قيد مهم وخطير، وهو فهم السلف، وهم ـ كما ذكرنا في أدلتهم على هذا القيد ـ يستدلون بما ورد في القرآن الكريم من فضل السابقين من الصحابة، ويضيفون إلى ذلك علمهم باللغة العربية وبموارد نزول الوحي، ونحو ذلك.

لكنا إن عدنا إلى كتب التفسير التي ضمت فهوم السلف، لا نجد لهؤلاء الصحابة إلا وجودا محتشما جدا، يكاد يكون معدوما، حتى أن السيوطي قال: (لا أحفظ عن أبي بكر في التفسير إلا آثارا قليلة جدا لا تكاد تجاوز العشرة)([54])

بل إنهم يروون عنه أنه سئل عن آية، فقال: (أي أرض تسعني؟ أو أي سماء تظلني؟ إذا قلت في كتاب الله ما لم يرد الله؟)([55])

وروي أن عمر قرأ على المنبر قوله تعالى: ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ [عبس: 27 – 31]، ثم قال: كل هذا قد عرفناه فما الأب؟ ثم رفع عصا كانت في يده فقال: هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك أن لا تدري ما الأب، اتبعوا ما بين لكم هداه من الكتاب، فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه)([56])

وهكذا لا نجد بلالا ولا عمارا.. ولا كل الصحابة الذين يظل السلفية الذين يتخذهم العقل السلفي مطية لتكفير الأمة وتبديعها.. بينما هو لا يعرفهم، ولا يأخذهم الدين عنهم، وإنما يستعملهم فقط ليستر بهم أولئك اليهود الذين يتتلمذ على أيديهم.

ومثلهم في ذلك مثل رجل أشاد بأطباء بلدة وقدراتهم وخبراتهم.. لكنه عندما أرسل مريضه إليها ليعالجوه، لم يرسله لأطبائها وإنما أرسله لبوابيها وكناسيها وحجاميها.

وهكذا يفعل العقل السلفي حين يتاجر بالصحابة، وهو يقصيهم، بل يحارب كبارهم والسابقين منهم، في نفس الوقت الذي يقرب فيه الطلقاء الذين قضوا كل أعمارهم في حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لكنهم في الأخير نالوا الحظوة، وأقصي غيرهم.

وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الإقصاء الذي حرم الصحابة من أداء دورهم التبليغي، لأن أولئك الظلمة الذين استبدوا بالأمر، كانوا يملون على العقل السلفي من يقبل من الرواة ومن يرفض منهم، فقد روي أن معاوية لما قدم المدينة لقيه أبو قتادة الأنصاري فقال: تلقاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار فما منعكم أن تلقوني؟ قال: لم تكن لنا دواب، قال معاوية: فأين النواضح؟ قال أبو قتادة: عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر، ثم قال أبو قتادة: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لنا إنا لنرى بعده أثرة، قال معاوية: فما أمركم؟ قال: أمرنا أن نصبر حتى نلقاه، قال: (فاصبروا حتى تلقوه!)([57])

فهذا الحديث لا يشير فقط إلى الأثرة المادية التي مارسها معاوية، وإنما يشير إلى ما هو أخطر من ذلك، وهو تقريبه لأبي هريرة وكعب الأحبار وغيرهما في نفس الوقت الذي أبعد فيه خيرة المهاجرين والأنصار..

وقد كان لذلك التقريب دوره الكبير في كثرة تلاميذ أولئك اليهود أو المتتلمذين عليهم، وبذلك صارت الرواية عنهم لا عن كبار الصحابة الذين يتاجر بهم العقل السلفي، ولا نجد لهم أي أثر في الواقع.

حتى أن الإمام علي، وهو أكثر الصحابة صحبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل لم يفارقه طيلة حياته، بل كان يسكن معه في بيته مذ كان رضيعا، نجده مهمشا عند أصحاب العقل السلفي، وأكثر الروايات التي يروونها عنه إنما هي روايات أعدائه الذين قبلوهم..

وقد أشار الإمام علي إلى ذلك التهميش بقوله: (هاه إن ههنا لعلما جما – وأشار بيده إلى صدره – لو أصبت له حمله، بل أصيب لَقِنا غير مأمون عليه مستعملا آلة الدين للدنيا، ومستظهرا بنعم الله على عباده وبحججه على أوليائه أو منقادا لحملة الحق لا بصيرة في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة، ألا لا ذا ولا ذلك، أو منهوما باللذة سلس القيادة للشهوة، أو مغرما بالجمع شيء شبها بهما الأنعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه)([58])

وروي عن أبي الطفيل، قال: (شهدت عليا يخطب وهو يقول: (سلوني؛ فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به، وسلوني عن كتاب الله؛ فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم: أبليل نزلت أم بنهار؟ أم في سهل أم في جبل؟)([59])

ورو ي عنه قوله: (والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت؟ وأين نزلت؟ إن ربي وهب لي قلبا عقولا، ولسانا سئولا)

لكن العقل السلفي ـ وبتأثير من السلطة السياسية التي تحكمت بعد ذلك في الأمور ـ استطاع أن يمنع وصول علم هذا الصحابي الجليل إلى الأمة، والحيلة التي احتالوها لذلك بسيطة، وهي أن كل من يفضل عليا على غيره من الصحابة يعتبر شيعيا، وكل شيعي مبتدع، وما دام كذلك، فإنه لا تحل الرواية عنه.

بينما لم يقصوا أولئك اليهود الذين تتلمذوا على أيديهم مع ما رووه من الروايات الخطيرة التي تجسم الله، وتسيء إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكأن حرمة أفضلية أبي بكر وعمر عندهم أكبر من حرمة رسل الله، بل من حرمة الله نفسه.

بل قد وصل الأمر في ذلك العصر إلى اعتبار التسمية بعليّ محظورة إلاّ لبني هاشم، فكان بعضهم يخاف من اسمه، فيصغّره، ويقول: انا عُلَيّ ولست بعلي.. قال قتيبة بن سعيد سمعت الليث بن سعد يقول: قال عليُّ بن رباح: (‏لا أجعل في حلٍّ من سمّاني عُلَيّاً فإن اسمي عَلِيّ)، وقال سلمة بن شبيب: (سمعت أبا عبد الرحمن المقرىء يقول: كانت بنو أمية إذا سمعوا بمولود اسمه عَلِيّ قتلوه، فبلغ ذلك رباحاً فقال: هو عُلَيّ، ‏وكان يغضب من (عَلِيٍّ) ويُحرّج على من سمّاه به)([60])

هذا هو القرن الذي ينقل عنه السلفية دينهم، وهو القرن الذي يقصي الصالحين والسابقين في نفس الوقت الذي يغدق فيه العطاء على اليهود وتلاميذ اليهود.. وجماهير الناس يميلون عادة للقوي، ولصاحب السلطة والمال، ولهذا كثر تلاميذ المتاجرين بدينهم، وقل تلاميذ غيرهم.

ولم يكن الأمر قاصرا على الجهات السياسية، بل إن من يعتبرهم العقل السلفي حكما في تحديد مدى وثاقة الرواة كان لهم دور كبير في إقصاء كل سابق وصالح، بفضل الشروط التي وضعوها، ومن أهمها إقصاء كل محب للإمام علي باعتباره متشيعا، في نفس الوقت الذي يوثق فيه كل معاد له.

قال ابن حجر العسقلاني في هـدي الساري: (والتشيع محبـة علي وتقديمه على الصحابة، فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيعه ويُطلق عليه رافضي، فإنْ انضاف إلى ذلك السب والتصريح بالبغض فغـال في الرفض، وإنْ اعتقـد الرجعـة إلى الدنيـا فأشـد في الغلو)([61])

وقال: (وقد كنت استشكل توثيقهم الناصبي غالبا، وتوهينهم الشيعة مطلقا، ولا سيما أن عليا ورد في حقه: (لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق)، ثم ظهر لي في الجواب عن ذلك أن البغض ها هنا مقيد بسبب وهو كونه نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن من الطبع البشري بغض من وقعت منه إساءة في حق المبغض والحب بالعكس، وذلك ما يرجع إلى أمور الدنيا غالبا والخير في حب علي وبغضه ليس على العموم، فقد أحبه من أفرط فيه حتى ادعى أنه نبي أو إله، تعالى الله عن أفكهم والذي ورد في حق علي من ذلك قد ورد مثله في حق الأنصار وأجاب عنه العلماء أن بغضهم لأجل النصر كان ذلك علامة نفاق وبالعكس. فكذا يقال في حق علي. وأيضا فأكثر من يوصف بالنصب يكون مشهورا بصدق اللهجة والتمسك بأمور الديانة، بخلاف من يوصف بالرفض فإن غالبهم كاذب ولا يتورع في الأخبار، والأصل فيه أن الناصبة اعتقدوا أن عليا قتل عثمان أو كان عليه فكان بغضهم له ديانة بزعمهم. ثم انضاف إلى ذلك أن منهم من قتلت أقاربه في حروب علي)([62])

وهكذا استطاع العقل السلفي أن يقصي الإمام علي الذي وردت النصوص الكثيرة تبين مرجعيته ومرجعية أهل بيته في الدين، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتواتر: (إنّي تركت فيكم ما إنْ تمسّكتم به لنْ تضلّوا بعدي: كتاب اللّه حبلٌ ممدودٌ مِن السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولنْ يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)([63])

فذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن الكريم مع العترة الطاهرة يدل على كون كليهما مرجعا للدين، وهو ما يفسره قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح الذي حرفه العقل السلفي ليتناسب مع مزاجه، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)([64])

فالخلفاء الراشدون بالمفهوم النبوي، يختلف عن المفهوم الذي وضعه الناس، واصطلحوا عليه بعد ذلك، وراحوا يفسرون كل شيء على أساسه.

ونتيجة لهذا التحريف ألغى العقل السلفي ذلك الضابط الذي اعتبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ضابط اعتبار مبغض الإمام علي منافقا لا تحل الرواية عنه، ولا يحل أخذ الدين منه.

ولهذا نجد في رواة السلفية أمثال حريز بن عثمان الناصبي الذي وثقه يحيى القطان ومعاذ بن معاذ وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين ودحيم وغيرهم، مع أنهم يروون أنه سئل بعضهم عن سر عدم الرواية عنه، فقال: (كيف أكتب عن رجل صليت معه الفجر سبع سنين فكان لا يخرج من المسجد حتى يلعن عليا سبعين لعنة كل يوم)([65])

بل إن البخاري الذي ترك الرواية عن جعفر الصادق يعتبر عمران بن حطّان السدوسي البصري (ت 84) من الثقاة الذين يروي عنهم في صحيحه، وله باتفاق المؤرخين له شعر في مدح عبد الرحمن بن ملجم المرادي قاتل أمير المؤمنين علي، منه قوله:

لله در المرادي الّذي سفكت

  كفّاه مهجة شر الخلق إنسانا

أمسى عشية غشاه بضربته

  معطى مناه من الآثام عريانا

يا ضربة من تقي ما أراد بها

  إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إنّي لأذكره حيناً فأحسبه

   أوفى البريّة عند الله ميزانا([66])

وليس هذا خاصا بفرد أو فردين، بل كان هذا منهجهم الذي اعتمدوا عليه في الجرح والتعديل، وقد كتب المحدث المعروف (محمد بن عقيل العلوي) كتابه في (العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل) في الرد على هذا المنهج الذي يضاد ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من اعتبار مولاة الإمام علي علامة للإيمان، وبغضه علامة للنفاق.

وقد قال في مقدمة كتابه، بعد نقله لكلام ابن حجر السابق في سبب توثيق المحدثين للنواصب وتوهينهم للمحبين للإمام علي: (ولا يخفى أن معنى كلامه هذا أن جميع محبي علي المقدمين له على الشيخين روافض، وأن محبيه المقدمين له على من سوى الشيخين شيعة، وكلا الطائفتين مجروح العدالة. وعلى هذا فجملة كبيرة من الصحابة الكرام كالمقداد وزيد بن أرقم وسلمان وأبي ذر وخباب وجابر وعثمان بن حنيف وأبي الهيثم بن التيهان وخزيمة بن ثابت وقيس بن سعد وأبي ذر وخباب وجابر وعثمان بن حنيف وأبي الهيثم بن التيهان وخزيمة بن ثابت وقيس بن سعد وأبي الطفيل عامر بن واثلة والعباس بن عبد المطلب وبنيه وبني هاشم كافة وبني المطلب كافة وكثير غيرهم كلهم روافض لتفضيلهم عليا على الشيخين ومحبتهم له ويلحق بهؤلاء من التابعين وتابعي التابعين من أكابر الأئمة وصفوة الأمة من لا يحصى عددهم وفيهم قرناء الكتاب، وجرح عدالة هؤلاء هو والله قاصمة الظهر)([67])

وقد ضرب الأمثلة الكثيرة عن جرج المحدثين للرواة بسبب حبهم للإمام علي، ومن ذلك ما نقله عن ابن حجر في (تهذيب التهذيب) في ترجمة مصدع المعرقب ما لفظه: (قلت إنما قيل له (المعرقب) لأن الحجاج أو بشر بن مروان عرض عليه سب علي فأبى فقطع عرقويه. قال ابن المديني قلت لسفيان: في أي شيء عرقب؟ قال: في التشيع انتهى. ثم قال ذكره الجوزجاني في الضعفاء – يعني المعرقب – فقال زائغ جائر عن الطريق، يريد بذلك ما نسب إليه من التشيع. والجوزجاني مشهور بالنصب والانحراف فلا يقدح فيه قوله انتهى. ومن هذا تعرف أن التشيع الذي يعرقب المتصف به ويكون زائغا جائزا عن الطريق عند أمثال الجوزجاني هو الامتناع عن سب مولى المؤمنين عليه السلام)([68])

والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد ألفت في ذلك المؤلفات الخاصة، وما ذكرنا هذا إلا من باب المثال، ولهذا للأسف نجد ثروة كبيرة من العلم والعرفان قد ضاعت بسبب تلك الموازين التي وضعها العقل السلفي، ولا زال يتمسك به، ويدعي فوق ذلك أنه يجل الصحابة ويحترمهم، مع أنه أعدى عدو لهم.

2ـ تقديم رجال الدين من اليهود وتلاميذهم:

بعد إقصاء العقل السلفي للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وأمثالهم من آل بيت النبوة، بأمثال تلك الحجج الواهية نجده يقرب رجال الدين من اليهود، ومن تتلمذ على أيديهم من الصحابة والتابعين، حتى أصبحنا نجد هؤلاء في كل مصدر من مصادر التلقي ابتداء من تفسير القرآن الكريم، وانتهاء بكتب العقائد والحديث ونحوها.

حيث لا نكاد نجد مصدرا من هذه المصادر ـ وخاصة كتب التفسير التي منها تؤخذ تصورات الدين وعقائده المختلفة ـ إلا وهو مملوء بأمثال إسماعيل بن أبي كريمة السدي، ومحمد بن إسحاق، وعبد الملك بن جريج، وعبد الله بن سلام وكعب الأحبار، وابن وهب، وغيرهم من رواة الأحاديث الإسرائيلية التي سربت إلى الإسلام، وفسر بها القرآن.

أما المبالغات التي وجدناها في علم الجرح والتعديل، والتي مست خيار الأمة بسبب مواقفهم الطيبة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وخاصة بيت النبوة، فإننا لا نجدها هنا.. بل نجد تساهلا كبيرا إلى الدرجة التي يعتبر فيها علماء الجرح والتعديل رجلا مثل كعب الأحبار علما من أعلام الأمة، وإماما من أئمتها.

والمشكلة لا تكمن في كعب وحده، فقد يمكن تلافي رواياته، وإنما تكمن في أولئك الذين تتلمذوا عليه، ثم رووا رواياته، من غير أن يسندوها إليه، وبذلك اختلط الأمر اختلاطا شديدا.

فمن الذين ذكر المزي في (تهذيب الكمال) جلوسهم بين يدي كعب الأحبار، وروايتهم عنه، سواء أسندوا أو لم يسندوا ـ هذه الأسماء التي لها حضورها القوي في كتب التفسير والعقائد: (الأخنس بن خليفة الضبى، وأسلم مولى عمر بن الخطاب، وتبيع الحميرى (ابن امرأته)، وجرير بن جابر الخثعمى، وخالد بن معدان، وروح بن زنباع، وأبو المخارق زهير بن سالم السلولى، وسعيد بن المسيب، وشريح بن عُبيد، وعبد الله بن رباح الأنصارى، وعبد الله بن الزبير بن العوام، وعبد الله بن ضمرة السلولى، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن غيلان، وعبد الرحمن بن مغيث، وعطاء بن أبى رباح، ومالك بن أبى عامر الأصبحى، ومحمد بن عبد الله بن صيفى، ومطرف بن عبد الله بن الشخير، ومعاوية بن أبى سفيان، ومغيث بن سمى، وممطور أبو سلام الأسود، وهمام (شيخ لعبد الغفور الواسطى)، ويزيد بن خمير اليزنى، ويزيد بن قوذر، وأبو إبراهيم الردمانى، وأبو رافع الصائغ، وأبو سعيد الحبرانى، وأبو مروان الأسلمى (والد عطاء بن أبى مروان)، وأبو هريرة، وابن مواهن)([69])

فلكل واحد من هذه الأسماء الروايات الكثيرة في كتب التفسير والحديث والعقيدة، بل إن الكثير منهم روى له البخاري ومسلم وغيرهما.. حتى أن بعض الأحاديث صارت مختلطة لا يكاد يميز بينها، هل قالها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم قالها كعب الأحبار؟

ومن الأمثلة على ذلك الحديث المشهور الذي تجرؤوا فذكروا أنه من روايات كعب الأحبار التي رفعها أبو هريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرغم من أبا هريرة قال في الحديث: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي،فقال: خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس،وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل) ([70])

فمع كون الحديث مرويا في صحيح مسلم إلا أن ابن كثير تجرأ فقال بكذبه، فقد قال في تفسيره تعليقا عليه: (فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه، والنسائي من غير وجه عن حجاج وهو ابن محمد الأعور عن ابن جريج به وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال في ستة أيام، ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار ليس مرفوعا)([71])

بل إن ابن تيمية نفسه رد الحديث، فقال في (مجموع الفتاوى): (.. خلق الدواب يوم الخميس وخلق آدم يوم الجمعة فإن هذا طعن فيه من هو أعلم من مسلم مثل يحيى بن معين ومثل البخارى وغيرهما وذكر البخارى أن هذا من كلام كعب الأحبار)([72])

وليت العقل السلفي التزم هذا المنهج مع كل الرواة ومع كل الأحاديث.. فمع اعترافهم بأن أحاديث أبي هريرة مختلطة مع أحاديث كعب الأحبار إلا أنهم لا يبالون في أخذ أكثر عقائد الدين منه، وقد روى ابن كثير عن عروة بن الزبير بن العوام،قال: قال لى أبي الزبير: أدننى من هذا اليمانى (يعني أبا هريرة) فانه يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فأدنيته منه فجعل أبو هريرة يحدث، وجعل الزبير يقول صدق كذب صدق كذب،قال: قلت يا أبة ما قولك صدق كذب،قال: يا بني أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا أشك، ولكن منها ما يضعه على مواضعه ومنها ما وضعه على غير مواضعه)([73])

وروى ابن كثير أيضا عن مسلم صاحب الصحيح بسنده عن بكير بن الأشج،قال: قال لنا بشر بن سعيد: (اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا تجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويحدثنا عن كعب الأحبار ثم يقوم فأسمع بعض ما كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كعب وحديث كعب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([74])

ومن هذا الباب دخلت اليهودية ـ بمساهة العقل السلفي ـ في الإسلام إلى الدرجة التي تحول فيها الذبيح بدل كونه إسماعيل عليه السلام ـ كما هو واضح من النص القرآني ـ إلى كونه إسحق كما يقول اليهود، وذلك لأن أبا أبي هريرة روى عن كعب الأحبار أن الذي أمر إبراهيم بذبحه من ابنيه إسحاق، وأن الله لما فرج له ولابنه من البلاء العظيم الذي كان فيه، قال الله لإسحاق: إني قد أعطيتك بصبرك لأمري دعوة أعطيك فيها ما سألت، فسلني، قال: رب أسألك أن لا تعذب عبدا من عبادك لقيك وهو يؤمن بك، فكانت تلك مسألته التي سأل([75]).

وقد حكى الطبري وغيره هذا القول عن أعلام السلف كابن عباس وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة، بالإضافة لأكثر من عشرة من سادات التابعين([76]).

وبعد أن حكى الأقوال المختلفة في هذا عقب عليها مرجحا بقوله: (وأولى القولين بالصواب في المفدي من ابني إبراهيم خليل الرحمن على ظاهر التنزيل قول من قال: هو إسحاق)([77])

وليت الأمر توقف عند هذا، بل إن هذا اليهودي، وأمثاله من اليهود الذي تحولوا إلى أساتذة عند العقل السلفي، هم الذي زرعوا نبت التجسيم الذي تحولت به العقيدة التنزيهية إلى عقيدة وثنية، فعبد العجل في هذه الأمة كما عبد في بني إسرائيل، وحصل ما تخوف منه حذيفة بن اليمان.

ومن الأمثلة على ذلك هذه الرواية التي تطفح بالتجسيم، والتي يقول فيها كعب الأحبار ـ متحدثا عن الله بكل جرأة ـ: (قال الله عز وجل: أنا الله فوق عبادي وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على العرش أدبر أمر عبادي، لا يخفى علي شيء من أمر عبادي في سمائي وأرضي، وإن حُجبوا عني فلا يغيب عنهم علمي، وإلي مرجع كل خلقي فأنبئهم بما خفي عليهم من علمي، أغفر لمن شئت منهم بمغفرتي، وأعذب من شئت منهم بعقابي)([78])

وللأسف فإن هذه الرواية، ومع كونها حديثا عن الله تعالى، أو ما يسمى حديثا قدسيا، والأصل فيه أن لا يؤخذ إلا عن معصوم، لكن أهل الحديث غضوا الطرف عن ذلك، بل تلقوها، وكأنها قرآن منزل([79])… لأن كعب الأحبار يهودي، وما دام كذلك، فكل ما يقوله إنما ينقله من الكتب السماوية التي أوحاها الله لأنبيائه.

ولهذا نرى محدثا كبيرا يعتبر من أئمة المدرسة السلفية يتلقى هذه الرواية باحترام عظيم، ويقول ـ بنبرة تجسيمية لا تختلف عن تجسيم اليهود ـ:(وإنما يعرف فضلُ الربوبية وعِظمُ القدرة بأن الله تعالى من فوق عرشه، وبعد مسافة السموات والأرض يعلم ما في الأرض وما تحت الثرى وهو مع كل ذي نجوى، ولذلك قال: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ [الأنعام: 73]، ولو كان في الأرض كما ادعيتم بجنب كل ذي نجوى ما كان بعجبٍ أن ينبئهم بما عملوا يوم القيامة فلو كنا نحن بتلك المنزلة منهم لنبأنا كل عامل منهم بما عمل)([80])

بل إن كعب الأحبار ـ ونتيجة للاحترام الكبير الذي لقيه من التجسيميين في هذه الأمة، وبرعاية من السلطة السياسية ـ يقول ـ جوابا لمن سأله: أين ربنا؟ ـ:(سألت أين ربنا، وهو على العرش العظيم متكئ، واضع إحدى رجليه على الأخرى، ومسافة هذه الأرض التي أنت عليها خمسمائة سنة ومن الأرض إلى الأرض مسيرة خمس مئة سنة، وكثافتها خمس مئة سنة، حتى تمّ سبع أرضين، ثم من الأرض إلى السماء مسيرة خمس مئة سنة، وكثافتها خمس مئة سنة، والله على العرم متكئ، ثم تفطر السموات.. ثم قال: إقرؤوا إن شئتم: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ﴾ [الشورى: 5])([81])

والخطورة في هذه الرواية ـ والتي تلقاها التيار السلفي بالقبول والإذعان التام ـ هو تحريفها للمعاني القرآنية، وتغييرها عن سياقها ومدلولاتها المقدسة لتتحول إلى معان تجسيمية وثنية.

ومن الأمثلة على ذلك هذه الرواية التي رواها السيوطي في (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) عن كثير من المحدثين، ومما ورد فيها: فقال عمر بن الخطاب عند ذلك: ألا تسمع يا كعب ما يحدثنا به ابن أم عبد عن أدنى أهل الجنة ما له فكيف بأعلاهم؟ قال: (يا أمير المؤمنين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، إن الله كان فوق العرش والماء، فخلق لنفسه دارا بيده، فزينها بما شاء وجعل فيها ما شاء من الثمرات والشراب، ثم أطبقها فلم يرها أحد من خلقه منذ خلقها جبريل ولا غيره من الملائكة ثم قرأ كعب: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 17]([82])

وهكذا نجد العقل السلفي يتلقى كل ما يذكره كعب الأحبار، وكأنه قرآن منزل، وقد دافع ابن تيمية كثيرا عن أمثال هذه الروايات، بل إنه ذكر ما يدل على أن مرجع كعب فيها فيما يذكره من إسرائيليات هي التوراة الصحيحة، فقد قال في دقائق التفسير: (وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى بيد كعب الأحبار نسخة من التوراة قال يا كعب إن كنت تعلم أن هذه هي التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها، فعلق الأمر على ما يمتنع العلم به، ولم يجزم عمر رضي الله عنه بأن ألفاظ تلك مبدلة لما لم يتأمل كل ما فيها، والقرآن والسنة المتواترة يدلان على أن التوراة والإنجيل الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهما ما أنزله الله عز وجل، والجزم بتبديل ذلك في جميع النسخ التي في العالم متعذر، ولا حاجة بنا إلى ذكره، ولا علم لنا بذلك، ولا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يدعي أن كل نسخة في العالم بجميع الألسنة من الكتب متفقة على لفظ واحد، فإن هذا مما لا يمكن أحدا من البشر أن يعرفه باختياره)([83])

ولم تكتف المدرسة السلفية بإمامة كعب الأحبار، بل بحثت عن أي يهودي ليعرفها بربها، وكأن القرآن الكريم لم يف لهم بالغرض، فراحوا يبحثون في الأمم الأخرى من يفسره.

ومن هؤلاء الذين نجد رواياتهم الكثيرة في كتب عقائد السنة وهب بن منبه.. ومن رواياته قوله: (إن السموات السبع والبحار لفي الهيكل([84]) وإن الهيكل لفي الكرسي، وإن قدميه لعلى الكرسي وهو يحمل الكرسي وقد عاد الكرسي كالنعل في قدميه)([85])

وقد علق عليه الذهبي بقوله: (كان وهب من أوعية العلوم، لكن جُلَّ علمه عن أخبار الأمم السالفة، كان عنده كتب كثيرة إسرائيليات، كان ينقل منها لعله أوسع دائرة من كعب الأخبار، وهذا الذي وصفه من الهيكل وأن الأرضين السبع يتخللها البحر وغير ذلك فيه نظر والله أعلم، فلا نرده ولا نتخذه دليلاً)([86])

والعجب من هذه المقولة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.. فهم يروون هذه الرواية وغيرها في كتب التفسير والحديث والعقيدة.. ويستخلصون ما فيها من فوائد عقدية.. ثم بعد ذلك ـ ومن باب التقية ـ يقولون: (لا نرده ولا نتخذه دليلاً)

وهكذا نجد إماما من أئمة اليهود مثل محمد بن كعب القرظي يعقد المجالس ليفسر القرآن على الطريقة اليهودية، كقوله:(كأن الناس إذا سمعوا القرآن من في الرحمن يوم القيامة فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك)([87]).

ومثله عبد الله بن سلام الذي رووا عنه قوله: (والذي نفسي بيده إن أقرب الناس يوم القيامة محمد صلى الله عليه وآله وسلم جالس عن يمينه على كرسي)([88])

وهذه النصوص وغيرها كثير تدل على تفريط الأمة في تلك الوصايا الكثيرة التي حذر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أن ترغب الأمة عن كتاب الله إلى غيره من الكتب.

وقد ذكر ابن كثير السر في كثرة تلاميذ كعب الأحبار وغيره من اليهود، فقال: (… فإن كعب الأحبار لما أسلم في زمن عمر كان يتحدث بين يدي عمر بن الخطاب بأشياء من علوم أهل الكتاب، فيستمع له عمر تأليفا له وتعجبا مما عنده مما يوافق كثير منه الحق الذي ورد به الشرع المطهر، فاستجاز كثير من الناس نقل ما يورده كعب الأحبار لهذا المعنى، ولما جاء من الإذن في التحديث عن بني إسرائيل)([89])

بل إن عبد الله بن الزبير ـ وهو من الصحابة الذين تتلمذوا على كعب الأحبار ـ يذكر ما استفاده من كعب، فيقول: (ما أصبت فى سلطانى شيئاً إلا قد أخبرنى به كعب قبل أن يقع)، ويروون عن معاوية قوله: (ألا إنَّ أبا الدرداء أحد الحكماء، ألا إنَّ عمرو بن العاص أحد الحكماء، ألا إنَّ كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده علم كالثمار وإن كنا المفرطين)([90])

بل يورد السلفية ما هو أخطر من ذلك حين يحدثون عن فضائل عبد الله بن عمرو بن العاص، فيذكرون منها قوله: (رأيت فيما يرى النائم لكأن في إحدى أصبعي سمنا وفي الأخرى عسلا فأنا ألعقهما، فلما أصبحت ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (تقرأ الكتابين التوراة والفرقان، فكان يقرؤهما)([91])

وبهذا، فإن الرجال الذين اعتمد عليهم السلفية في أخص خصوصيات الدين، وهي تفسير القرآن الكريم والعقائد، كانوا من اليهود أو تلاميذ اليهود.

أما أولئك السابقون الذين ملأوا الدنيا صراخا بسببهم، فلا يروون عنهم إلا في قضايا فرعية محدودة، لا يهم الخلاف فيها كثيرا..

ومن أمثلة ذلك أن عمار بن ياسر الذي يعتبر من كبار السابقين الأولين، وتأخرت وفاته، ومع ذلك لا نرى إلا القليل من الروايات عنه، وفي قضايا فرعية جدا، وسر ذلك أنه كان يقول عن أولئك الطلقاء الذين استأثروا بأمر الأمة، ليحرفوا دينها: (والله ما أسلموا، ولكن استسلموا وأسروا الكفر، فلما رأوا عليه أعواناً أظهروه)([92])

أما العقل السلفي، فهو يكتفي بذكر فضائل عمار، ويدعي محبته، وينسى أن يطبق ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الدور الذي أنيط به في هذه الأمة، وهو أن يكون علامة على الفئة الباغية الظالمة التي تنحرف بالدين، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)([93])

وكان في إمكان العقل السلفي أن يتخذ من هذا الحديث مقياسا يوثق على أساسه الرواة أو يجرحوا.. وبذلك لن يبقى لا كعب الأحبار، ولا تلاميذ الأحبار.

لكن العقل السلفي استطاع أن يحتال على هذا الحديث كما احتال على غيره من الأحاديث، فقد قال ابن كثير في شرحه للحديث: (وهذا الحديث من دلائل النبوة حيث أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن عمار أنه تقتله الفئة الباغية، وقد قتله أهل الشام في وقعة صفين، وعمار مع علي وأهل العراق.. وقد كان علي أحق بالأمر من معاوية.. ولا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم، كما يحاوله جهلة الفرقة الضالة من الشيعة وغيرهم، لأنهم، وإن كانوا بغاة في نفس الأمر، فإنهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال، وليس كل مجتهد مصيبا، بل المصيب له أجران، والمخطئ له أجر)([94])

وهكذا استطاع العقل السلفي أن يجعل من الفئة الباغية فئة مأجورة، بدل أن تكون فئة تدعو إلى النار، وتنحرف بالدين.

بل إن ابن كثير يعقب على قوله صلى الله عليه وآله وسلم في تتمة الحديث: (يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)؟ بقوله: (فإن عمارا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الألفة واجتماع الكلمة، وأهل الشام يريدون أن يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به، وأن يكون الناس أوزاعا على كل قطر إمام برأسه، وهذا يؤدي إلى افتراق الكلمة، واختلاف الأمة، فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم، وإن كانوا لا يقصدونه)

وهذا الكلام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع هو الحيلة التي احتال بها الشيطان ليجتمع في العقل السلفي الظالم والمظلوم، والقاتل والمقتول، والفئة الباغية والفئة العادلة، فالعقل السلفي هو العقل الوحيد في العالم الذي تجتمع عنده الخطوط المتوازية، وجميع المتناقضات.


([1])   رواه البخاري (3/ 151 )، ورواه مسلم (ص1962 – 1965)

([2])   رواه أحمد (4/ 189)

([3])   رواه أحمد (2/ 88و 121) والبخاري (4/ 1/ 149/) وأبو داود (108/ 4348)

([4])   هكذا قسم الحافظ ابن حجر في كتابه [التقريب]  من ترجم لهم من أصحاب الكتب الستة.

([5])   رواه البخاري (6/ 4/ صـ195) ومسلم (53/ صـ1967 – 1968)

([6])   رواه مسلم (51/ صـ 1961)

([7])   رواه أبو داود (السنة 5/ 5/ 13/ رقم 4607) واللفظ له، والترمذي (العلم 16/ رقم 2676) وابن ماجه (المقدمة 6/ 42و 43و 44) والحاكم (العلم 1/ 175/ 329) وصححه، ووافقه الذهبي والألباني، وقال الترمذي: حسن صحيح..

([8])   جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 947)

([9])   لخصنا ما ذكرناه هنا من أدلة من كتب مختلفة أهمها: (لماذا اخترت المنهج السلفي؟) للشيخ سليم بن عيد الهلالي، وغيره.

([10])   يراد بالمغالطات في المنطق أنه حتى ولو كانت كل المعطيات صحيحة، فمن الممكن للحجة أن تكون غير سليمة إذا كان المنطق المستخدم غير سليم، ومن أنوعها [الوهميات]: وهي القضايا الكاذبة التي يحكم بها الوهم في الأمور غير المحسوسة، مثل: (يلزم الخوف من الميت)، و[المشبهات]: وهي القضايا الكاذبة التي تشبه القضايا الصادقة، لاشتباه لفظي او معنوي.

([11])   حسن بن فرحان المالكي، ما معنى (خير الناس قرني)

([12])   أحمد في المسند  (7/ 74)

([13])   حسن بن فرحان المالكي، ما معنى (خير الناس قرني)

([14])   مسند الطيالسي برقم (1489)

([15])   موطأ مالك 2: 461.

([16])   الزهد لابن مبارك: 171. المصنف لعبد الرزاق 3: 575.

([17])   صحيح البخاري 2: 871، صحيح مسلم 4: 2211.

([18])   السنن الكبرى للبيهقي 8: 165.

([19]) مسلم (2962)، ابن ماجه (3996)

([20]) البخاري (2988)، مسلم (2961)، الترمذي (2462)، ابن ماجه (3997)، أحمد (4/137)

([21]) أحمد (4/420)

([22]) أحمد (4/420)

([23])   البخاري 4/242 (3606) وفي 9/65 (7084) ومسلم ( 6/20 (4812)

([24])   أحمد، 5/21. النسائي، 6/346 رقم11185. الترمذي، 4/475 رقم2180..

([25])   مصنف ابن أبي شيبة 7: 481.

([26])   صحيح البخاري 6/69 صحيح مسلم 4/2195 الترمذي 5/321 ـ 322 قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. سنن النسائي 4/117 وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي 2/449. مسند أحمد 1/235، 253..

([27])   أي يطردون ويبعدون.

([28])   صحيح البخاري 8/150.

([29])   أي سابقكم ومتقدمكم.

([30])   أي سأجادل عن أقوام رغبة في خلاصهم فلا ينفعهم ذلك.

([31])   صحيح مسلم 4/1796.

([32])   البخاري 8/150. مسلم 4/1793.

([33])   رواه الطبراني في  الأوسط ( 1718)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/234) : رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.

([34])   أورده ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2377)

([35])   رواه أحمد (1/337)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله  (2378)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (379)

([36])   صحيح البخاري 1/133.

([37])   سنن الترمذي 4/633، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. مسند أحمد بن حنبل 3/101، 208..

([38])   مسند أحمد بن حنبل 6/443، 5/195.

([39])   البدع والنهي عنها لابن وضاح (176)

([40])   البخاري (ح 3761)

([41])   وفيات الأعيان، لابن خلكان (3 /33)، و بلفظ قريب منه عند الآجري في كتابه الشريعة (5/2466)

([42])   الشريعة للآجري ( 5/2466-2467) شرح السنة لللالكائي، برقم (2785)

([43])   كتاب الشريعة (5/2465-2466) وأخرج نحوه الخلال في السنة، برقم (666)

([44])   حاشية محب الدين الخطيب على كتاب العواصم من القواصم ( ص 95)

([45])  فال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (7/ 7): رواه الطبراني في الصغير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي، وهو ثقة..

([46])  المعجم الكبير للطبراني، 3/242 رقم3282، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/280.

([47])  أحمد 3/155 (12607)، وانظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 66)

([48])  أحمد 5/170، قال الهيثمى: رواه أحمد ولم يسم التابعى وبقية رجال إحدى الطريقين رجال الصحيح. مجمع الزوائد 10/66.

([49])  أحمد 5/170، قال الهيثمى: رواه أحمد ولم يسم التابعى وبقية رجال إحدى الطريقين رجال الصحيح. مجمع الزوائد 10/66.

([50])  البخاري 4/238 (3587)

([51])   حياة الأنبياء في قبورهم للبيهقي (ص: 93)

([52])   الترمذي (2018)

([53])   البخاري: 4/230 (3559)

([54])   الإتقان(2/493)

([55])   ذكره القرطبي في تفسيره 1 ص 29.

([56])   رواه سعيد بن منصور وابن جرير وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان والخطيب والحاكم وصححه، انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (8/ 421)

([57])    مصنف عبد الرزاق – (ج 11 / ص 60)

([58])   نهج البلاغة (4/ 36)

([59])   الإصابة: ج 2 ص 509.

([60])   تهذيب الكمال ج 20 : 429، تهذيب التهذيب 7 : 280، الترجمة 541، تاريخ دمشق 41 : 480، ‏‏61 : 7، وفيه قتيبة بن سعيد قال : سمعت الليث بن سعد يقول : سمعت موسى بن علي يقول : من قال موسى بن ‏عُلي لم اجعله في حل.

([61])   هدي الساري ص 640.

([62])   تهذيب التهذيب (8/ 458)

([63])     الحديث متواتر، وقد ورد بصيغ كثيرة رواه أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم، وقد نص الألباني على صحته انظر حديث رقم : 2458 في صحيح الجامع.

([64])   رواه أبو داود (السنة 5/ 5/ 13/ رقم 4607) واللفظ له، والترمذي (العلم 16/ رقم 2676) وابن ماجه (المقدمة 6/ 42و 43و 44) والحاكم (العلم 1/ 175/ 329) وصححه، ووافقه الذهبي والألباني، وقال الترمذي: حسن صحيح..

([65]) تاريخ بغداد ج8/ص269.

([66]) انظر: ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب 8 / 113 ـ 114 برقم 223. راجع الاصابة 3 / 178..

([67]) العتب الجميل، ص15.

([68]) العتب الجميل، ص19.

([69])   تهذيب الكمال في أسماء الرجال (24/ 189)

([70])     صحيح مسلم (4/ 2149)

([71])     تفسير ابن كثير ج2 ص294.

([72])     مجموع فتاوى ابن تيمية ج18ص18.

([73])     البدابة والنهاية ج8 ص109.

([74])     البداية والنهاية ج8 ص109.

([75]) تفسير الطبري (21/ 82)

([76]) انظر: تفسير الطبري (21/ 79)

([77]) تفسير الطبري (21/ 86)

([78])   العظمة 2/626.

([79])   العرش للذهبي 2/148.

([80])   نقض عثمان بن سعيد 443.

([81])    تفسير الطبري (21/ 501)

([82])    الدر المنثور في التفسير بالمأثور:  (8/ 259)

([83])    دقائق التفسير (2/ 58)

([84])   الهيكل البناء المشرف، مختار الصحاح، الرزاي 1/290.

([85])   السنة 2/477.

([86])   العلو 1/130.

([87])   السنة 1/148.

([88])   السنة 1/256. وأخرجه الآجري في الشريعة 4/1609 والذهبي في العلو 1/720.

([89]) البداية والنهاية [1/34-35)

([90]) الإصابة في تمييز الصحابة، (5 /650)

([91]) أحمد 2/222 (7067)

([92])   قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1/118): (رواه الطبراني في الكبير وسعد بن حذيفة لم أر من ترجمه! ) مع أن ترجمته موجودة في طبقات ابن سعد وتاريخ البخاري وتاريخ ابن أبي خيثمة وكتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم وفي ثقات ابن حبان وغيرها..

([93])   البخاري  1/121 (447.

([94])    البداية والنهاية، (4/538)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *