تهمة التقارب

تهمة التقارب

مع أن الدعوة للتقارب بين المذاهب والطوائف والأديان والبشر بمختلف أعراقهم هي دعوة قرآنية بالدرجة الأولى إلا أنها أصبحت في العصر الحديث – وبفعل العقول التي استسلمت للأهواء السياسية الغبية، واستسلمت معها للمؤامرة الحانقة الذكية – تهمة لا تقل عن تهمة الزندقة والبدعة التي كان يكيلها أسلاف رجال الدين الجدد لمخالفيهم في الفكر والمعتقد.

أما كونها دعوة قرآنية بالدرجة الأولى، فيتضح من خلال معان قرآنية كثيرة، نذكر خمسة منها باختصار:

أولها: إخبار الله تعالى بأن الغرض من التنوع والاختلاف بين البشر هو التعارف، لا الصراع، قال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13]، فالآية الكريمة لا تدعو إلى التقارب بين المذاهب في الدين الواحد فقط، بل تدعو إلى التقارب بين الأمم والشعوب جميعا بمختلف أديانها وأعراقها وتوجهاتها الفكرية، لأنه لا يمكن للبشر أن يحققوا كمالهم الإنساني في ظل الصراع والتباعد.

ثانيها: إخبار الله تعالى بالرسالة العالمية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وهذا يقتضي من المسلمين العمل على كل ما ييسر وصول هذه الرحمة الإلهية للناس أجمعين، وذلك لا يكون إلا بالتقارب والتآلف معهم، بل والصبر عليهم حتى تصل إليهم الرسالة مضمخة بعطر الرحمة والألفة والمودة.

ثالثها: إخبار الله تعالى بالمهمة الكبيرة التي أناط بها هذه الأمة، وهي مهمة الشهادة على الأمم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة: 143)، وهي تعني أن يقوم المسلمون بنفس الدور الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحو الأممم المختلفة، لتنصاع لأمر الله بمحبة ومودة، لا بشدة وإكراه، وقد قال تعالى يبين كيفية أداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لدوره الدعوي مع العرب الذي عاش معهم، والمعروفين بشدتهم وغلظتهم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، فهل يتصور عاقل بأن يدخل العرب إلى دين الله باللين والرحمة، ويدخل غيرهم فيه بالشدة والعنف.

رابعها: دعوة الله تعالى الدعاة عباده إلى استعمال كل أساليب الهداية ووسائلها، والتي اجتمعت في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]، وهذه الوسائل والأساليب جميعا تستدعي التقارب، لأنه لا يمكن أن نعظ أو نحاور ونخاطب من تحول بيننا وبينه الحجب المادية والمعنوية الكثيرة.

خامسها: ما ذكره القرآن الكريم من نماذج الحوار مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى، مع ما يحملونه في عقائدهم من أحقاد لا على الصحابة والتابعين من المسلمين، وإنما على الأنبياء أنفسهم، بل إنهم في كتبهم يضعون صورة مشوهة لله، ممتلئة بالتجسيم والتشويه، ومع ذلك يقول الله تعالى داعيا إلى التقارب معهم: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [آل عمران: 64]، وانظروا كيف اعتبر الله تعالى إلههم – أي إله اليهود والنصارى – هو نفسه إله المسلمين مع ما يحملونه في دينهم عن الله من تشويه، ومع ذلك لم يقطع الصلة بهم، بل لم يقطعها حتى بعد رفضهم لتلك الدعوة، فليس في النصوص القرآنية أي دعوة لقطع العلاقة مع أي دين من الأديان، أو شعب من الشعوب إلا مع المحاربين الذين يأبون الحديث إلا بلغة السيف.

هذه بعض الأمثلة عن دعوة القرآن الكريم للتقارب مع البشر جميعا بمختلف أديانهم وطوائفهم وأعراقهم.. لكن المسلمين بسبب ابتعادهم عن المنهج القرآني، وعن التربية النبوية السامية جلسوا في أبراج الكبر العاجية، ووضعوا المسافات الهائلة بينهم وبين الأمم المختلفة، حتى تجرأوا فصنفوا الدار التي يسكنون فيها [دار إسلام] يأمن ساكنها في الدنيا، ويسعد في الآخرة، أما دور غيرهم، فسموها [دار حرب] تباح لهم أموالها ودماؤها وأعراضها، ثم يصلى أهلها بعدها نار جهنم وبئس المصير.

وليت الأمر اقتصر على ذلك، بل ضاق هؤلاء ذرعا بأنفسهم، وبالمسلمين من حولهم، فراحوا يصنفونهم إلى طبقات مختلفة، لا تقل سوءا عن الطبقات التي وضعها رجال الدين الهندوسي لمجتمعاتهم وأتباع دينهم..

ولم يكتفوا بذلك، بل وضعوا الجدر التي تحمي كل طبقة عن التواصل مع الطبقات الأخرى، ووضعوا تهمة جديدة في تجريح كل عالم يحمل نفسا إنسانية وروحا قرآنية تجعل صدره يتسع لكل مخالف، وتجعل جسده لا ينفر من الجلوس والحوار والتقارب مع أي بشر كان، لا يهمه دينه ولا عرقه ولا مذهبه.

وقد طالت هذه التهمة كل من يحمل تلك النفس الإنسانية، حتى لو كان علما من أعلام الأمة الكبار من أمثال الشيخ محمد أبي زهرة وشيخ الأزهر محمود شلتوت والمفسر الكبير مصطفى المراغي والداعية المجدد الكبير الشيخ محمد الغزالي، وغيرهم كثير، والذين صارت إنسانيتهم وقرآنيتهم التي جعلتهم يتواصلون مع إخوانهم من أصحاب المذاهب المختلفة تهمة يجرحون على أساسها، وتمنع قراءة كتبهم أو الاطلاع على فكرهم أو ترديده في أي محل.

وعندما تحدثت في بعض المجالس عن تصريح للشيخ محمد الغزالي للطليعة الإسلامية ردا على سؤال حول دوره في جماعة التقريب فقال: (نعم أنا كنت من المعنيين بالتقريب بين المذاهب الإسلامية وكان لي عمل دؤوب ومتصل في دار التقريب في القاهرة وصادقت الشيخ محمد تقي القمي كما صادقت الشيخ محمد جواد مغنية ولي أصدقاء من العلماء والأكابر من علماء الشيعة)([1])

وذكرت قوله في كتابه [كيف نفهم الإسلام]: (ولقد رأيت ان أقوم بعمل إيجابي حاسم سداً لهذه الفجوة التي صنعتها الأوهام، بل إنهاء لهذه الفجوة التي خلقتها الأهواء، فرأيت أن تتولى وزارة الأوقاف ضم المذهب الفقهي للشيعة الإمامية إلى فقه المذاهب الأربعة المدروسة في مصر، وستتولى إدارة الثقافة تقديم أبواب العبادات والمعاملات في هذا الفقه الإسلامي للمجتهدين من إخواننا الشيعة، وسيرى أولوا الألباب عند مطالعة هذه الجهود العلمية أن الشبه قريب بين ما ألفنا من قراءات فقهية وبين ما باعدتنا عنه الأحداث السيئة)([2])

عندما قرأت ذلك قامت القيامة علي، وأخرج لي بعضهم كتابا لمقبل الوادعي يقول فيه عن الغزالي: (إن محمدا الغزالي داعية كبير، ولكن إلى الضلال، وأعتقد أنه لو كان في زمن الإمام أحمد لحكم عليه بالزندقة)([3])

وأخرج لي آخر كتابا آخر لربيع المدخلي اسمه (جماعة واحد لا جماعات) قال فيه كلاما عن الغزالي يربأ لساني عن ذكره هنا.

بعد أن رأيت الجموع تصفق لدعاة الفتنة والطائفية والتعالي، ورأيتها تعرض عن الغزالي وشلتوت وأبي زهرة وتقبل على الوادعي والمدخلي والحربي عرفت أن المؤامرة على الأمة ستتم بنجاح، وسيأكل بعضها بعضا، وهذا ما نراه ونعيشه، وسنرى إن بقينا على هذه الحالة ما هو أشنع وأشد.


([1])  مجلة الطليعة الإسلامية (عدد 26 مارس )

([2])  كيف نفهم الإسلام، ص118.

([3])  فضائح ونصائح، ص 38.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *