المقدمة

المقدمة

لا يمكن للصادقين الذين يريدون أن يقفوا بحزم في مواجهة الدجل والدخن والتحريف الذي علق بهذا الدين، فحوله من دين سماحة إلى دين عنف، ومن دين رحمة إلى دين قسوة، ومن دين عقل إلى دين خرافة، ومن دين حضارة إلى دين تخلف؛ أن يقف صامتا أو حياديا أو سلبيا أمام شخصية محورية خطيرة كشخصية ابن تيمية.

فابن تيمية ليس مجرد رجل عاش في القرن السابع الهجري، ثم مات بعدها مثله مثل سائر الناس.. بل هو رجل لا يزال يعيش بيننا، نراه في كل محل، ونسمع به في كل مكان، وتتحدث عنه كل القنوات، وتغرد به كل الألسنة..

إننا نراه في كل كنيسة تحرق، أو مسجد يهدم، أو سوق تفجر، أو أعناق تقطع، أو أحرار يستعبدون.

ونسمعه في كل تلك القنوات التي حولت الدين إلى خرافة وشعوذة وبداوة.. وحولت عقول الملايين الذين يعلفون في مرعاها إلى بهائم لا عقول لها، وجمادات لا مشاعر لها، وإمعات لا هم لها إلا السير خلف راعي القطيع.. وراعي القطيع ليس سوى ابن تيمية وتلاميذ ابن تيمية.

وهكذا نلاحظه في مكتباتنا وجامعاتنا ومؤتمراتنا التي تسبح بحمده آناء الله وأطراف النهار.. فكلهم يخضعون له، ويسجدون بين يديه.. وويل ثم ويل لمن تسول له نفسه أن يفكر في الاعتراض عليه أو انتقاده أو الحط من قدره الذي لا يضاهيه أي قدر.

ولذلك فإن كلمة [شيخ الإسلام] التي صارت علما على ابن تيمية صادقة عليه صدقا مطلقا .. فالإسلام الذي نراه بعنفه وهمجيته وبداوته وتخلفه هو إسلام ابن تيمية، لا إسلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فابن تيمية هو شيخ هذا النوع من الإسلام، وهو منظره ورائده وله وحده الحق في الحديث عنه.

أما إسلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإسلام أولئك الصادقين من أمته الذين أخذوا الدين من منابعه الأصيلة لا من منابعه المسمومة.. فهو إسلام مختلف تماما.. لأنه ينطلق من العقل لا من الخرافة، ومن القرآن لا من الهوى، ومن الصادقين من السابقين لا من اليهود وتلاميذ اليهود.

وبناء على هذا حاولت هذه الرواية أن تواجه هذا الإسلام التيمي المزيف بالإسلام المحمدي الأصيل.. وأن تعقد المحاكمة لأطروحات ابن تيمية من خلال ذلك الإسلام المقدس الذي مثله كبار أعلام الأمة، والذين وقفوا في وجه ابن تيمية في عصرهم، وفي كل العصور.

وقد حاولت عبر الأحداث المختلفة ـ التي لن أحكيها للقارئ حتى لا أفسد عليه متعة المتابعة للأحداث ـ أن أركز على ثلاث تهم كبرى وجهت لابن تيمية، وتوجه لكل من تأثر به، وهي:

التهمة الأولى: تهمة التجسيم والتشبيه، والتي اتفق كل من انتقد ابن تيمية من العلماء المعاصرين له أو غيرهم على رميه بها، وهي تتعلق بذلك التحريف الخطير الذي أجراه ابن تيمية على عقائد الإسلام التنزيهية، حيث عمد إلى ذلك التراث السلفي الحديثي الذي كاد يندثر في عصره، فأحياه، ونظر له، وطلاه بكثير من الزخارف.. وذلك التراث الذي تركه هو الذي أعاد له ابن عبد الوهاب الحياة.. ثم أعادت له السلفية الحديثة المزيد من الحياة.. فنسيت عقيدة التنزيه، وتحولت العقيدة الإسلامية في الله إلى عقيدة تجسيمية ممتلئة بالتشبيه والوثنية.

التهمة الثانية: تهمة النصب والعداوة، وهي تهمة تتعلق بموقف ابن تيمية من رسل الله وأوليائه وأصفيائه الذين أمرنا بمحبتهم وتعظيمهم وتقديم كل صنوف الولاء لهم.. لكن ابن تيمية حارب ذلك كله.. فهون من شأن الأنبياء وجوز عليهم المعاصي بأنواعها، بل جوز عليهم الكفر نفسه.. ثم راح إلى تلك العلاقات التي جمعت بين الأمة ونبيها صلى الله عليه وآله وسلم ليقطعها، بل يحولها إلى بدعة وضلالة وشرك..

التهمة الثالثة: تهمة الصراع والفتنة، وهي التي لا نزال نعيش آثارها، وهي ما نشره ابن تيمية من قيم الصراع بين مذاهب الأمة ومدارسها وطوائفها وشعوبها وأديانها.. والتي أزالت عن الإسلام صورته السمحة الجميلة، وحولته إلى دين عنف وقتل ومصادرة للحريات.

وهذه التهم جميعا ترتبط بكل ما يرتبط بالدين من جميع جوانبه.. أما الأولى، فتتعلق بتشويه ابن تيمية للعقائد في الله التي هي أصل أصول الدين.. وأما الثانية فتتعلق بتشويهه للرسالة والرسل ومن يتعلق بهم من أولياء الله وأصفيائه.. وأما الثالثة، فتتعلق بصراعه مع الأمة بل مع البشرية، ونشره للفتن بينها..

وقد حاولنا في هذه الرواية أن نبرهن على ثبوت كل هذه التهم بالبينات والشواهد والأدلة والأمثلة المختلفة من خلال كتب ابن تيمية المعتمدة والمعروفة والتي يقر تلاميذه على نسبتها إليه.

وقد استفدنا أيضا من كل ذلك التراث العريض الذي ألفه من انتقد ابن تيمية من علماء المذاهب المختلفة، لذلك جعلنا المدعين على ابن تيمية في هذه الرواية هم أعلام تلك المذاهب الذين وقفوا في وجهه في حياته أو بعد مماته.

ولم نغفل ـ من باب الموضوعية والأمانة العلمية ـ أن نذكر المنتصرين لابن تيمية والمعظمين له، والذين نراهم في كل محل، ونسمع بهم عند كل حادث.

لذلك بدأنا الرواية بهم.. وبتعلقهم الشديد بابن تيمية وتعظيمهم له، وتعظيمهم لأنفسهم.. لغرضين:

الأول: لنبين تناقضهم في التعامل مع الشيعة والصوفية وغيرهما بحجة الغلو في أئمتهم ومشايخهم بينما هم يغالون في بعضهم بعضا.

الثاني: لنبني على ذلك الثناء الانتقادات التي ترد عن ذكر حجج العلماء المدعين على ابن تيمية.

وقد جعلنا في الرواية محاكمة ابن تيمية محاكمة غيابية، لأننا لا يهمنا جسده ولا شخصه، وإنما تهمنا أفكاره الخطيرة التي لا نزال نتجرع آثارها.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *