المدنس.. لا المقدس

المدنس.. لا المقدس

النتيجة الأخيرة والخطيرة التي نخلص إليها بعد هذه الجولة في الأسس والأركان التي يقوم عليها بنيان العقل السلفي هي إحلالهم المدنس بدل المقدس، أو في أقل الأحوال خلطهم المدنس بالمقدس، أو توظيفهم المدنس لهدم المقدس.

وهذه حقيقة لا يمكن لأي عاقل يعرف السلفية تاريخا وتراثا وسلوكا أن يفر من الإقرار بها..فكل ما فيهم يدل عليهم.

ويكفي من لم تتح له الفرصة ليطلع على تاريخهم أو تراثهم ليتعرف على هذا أن يسأل نفسه هذا السؤال الفطري البسيط، وهو: هل يمكن لدين الله الذي خلق هذا الكون جميعا بمنتهى الدقة والجمال أن يتحول إلى أكبر أداة للتخريب وسفك الدماء؟

وهل يمكن لرسول الله k الذي هو رحمة الله للعالمين أن يتحول، وتتحول سنته المطهرة، إلى أكبر وسيلة يستعملها الشيطان لزعزعة الأمن والاستقرار في النفوس والمجتمعات والأمم؟

وهل يمكن لرسالة الله الأخيرة إلى عباده المتمثلة في القرآن الكريم، والتي تحوي كل الشيفرات المطهرة التي ترفع الإنسان إلى الآفاق العليا من الكمال، أن تتحول إلى سكين يقطع الرقاب، ومعول يهدم العمران، وقنبلة نووية تقضي على كل المنجزات البشرية؟

هذه أسئلة طبيعية وفطرية.. ولا يمكننا الفرار منها.. فالدين الوحيد على مستوى العالم الذي تمارس كل أنواع العنف والإرهاب والخرافة والدجل باسمه هو الإسلام.

والطائفة الوحيدة من المسلمين التي تمارس كل تلك الوظائف الشيطانية هي الطائفة السلفية..

ولذلك فإن التفكير المنطقي السليم يقودنا إلى أنها هي الطائفة التي اختارها الشيطان لتحمل مشروعه في هذه الأمة.. ومشروعه في هذه الأمة كما هو مشروعه في غيرها هو رفض السجود لآدم ولكل الأصفياء الذين اختارهم الله ليسجد البشر بعدها ـ عبر سجودهم لسامري اليهود، ولكل سامري في دين من الأديان ـ له بدل السجود لله.

وقد ذكر القرآن الكريم أن هذه النتيجة التي وصل إليها السلفية بسبب تتلمذهم على اليهود وتلاميذ اليهود، هي نفسها النتيجة التي وصلها إليها اليهود، فقال: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: 13]

فهذه الآية الكريمة تفسر هذه الظاهرة أو النتيجة بدقة عالية، بل تذكر فوق ذلك سببها، وهو كما عبر القرآن الكريم ﴿ نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾، فنقض الميثاق هو السبب في كل ما حصل لهذه الأمة من تحريف وتغيير وتبديل.. وهي السبب في كل ما نزل عليها من لعنات التخلف والتأخر والعنف والظلامية..

وأول تلك المواثيق هو ذلك النهي الشديد عن خلط الإسلام بغيره من الأديان في تلك الوصية المقدسة الخطيرة التي غضب فيها رسول الله k غضبا شديدا، وما كان لرسول الله k أن يغضب لو لم يكن الأمر شديدا،، وذلك حينما أتاه عمر بكتاب من كتب اليهود، فقال له k: (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟! والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)([1])

فهذا الحديث العظيم يخبر أن دين الله أبيض نقي صاف ليس فيه أي دنس أو شبهة تمنع العقل السليم من التسليم له.. لكن هذا الأبيض يمكنه أن يتحول إلى أسود إذا ما اختلط بغيره.. فهو لشدة بياضه وجماله أسرع الأشياء إلى التلوث إذا لم يحافظ عليه.

والمحافظة عليه تكون بالتسليم لأهله من ورثة الكتاب كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر: 32]، والذين حددهم رسول الله k بدقة، بل عينهم بأعيانهم وأسمائهم وصفاتهم وكل ما يتعلق بهم.

لكن البغي الذي مارسته الأمم السابقة على الورثة مارسته هذه الأمة، فبغت عليهم، وحسدتهم، وأعرضت عنهم، ثم أحلت بدلهم اليهود وتلاميذ اليهود.

وكانت النتيجية ما نراه من اسوداد الدين بعد بياضه، واختلاطه بعد صفائه، وتدنسه بعد قداسته..

وقد ذكر القرآن الكريم مظاهر ذلك الدنس الذي يصيب الأديان نتيجة عدم تمسكها بالمواثيق، فقال ـ كما في الآية السابقة ـ: ﴿ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾ [المائدة: 13]

فهذه الآية الكريمة تذكر بعض نتائج الدنس، وأولها قساوة القلوب، بسبب إعراضها عن أداء المواثيق التي كلفت بأدئها.. ونتج عن تلك القسوة التحريف الذي هو خلط المقدس بالمدنس.. ونتج عنها كذلك الكتمان، ونسيان القيم الإنسانية الرفيعة التي جاء بها الكتاب لتحل بدلها قيم بشرية شيطانية.

انطلاقا من هذا سنحاول في هذا الفصل أن نذكر بعض هذه النتائج الخطيرة، وقد رأينا أنه يمكن تقسيمها إلى ثلاث نتائج كبرى، هي:

  1. تعطيل المقدس.
  2. كتمان المقدس.
  3. تغيير المقدس.

وسنتحدث ـ باختصار ـ عن كل نتيجة من هذه النتائج في المباحث التالية.

أولا ـ تعطيل المقدس.

ولهذا التعطيل مظهران كبيران، ويمكن اعتبارهما مرحلتين كبيرتين استطاع الشيطان من خلالها أن يمرر مشروعه في تحويل الدين من المقدس إلى المدنس.

وهذان المظهران، أو هاتان المرحلتان هما: نزع صلاحية المقدس للتحاكم إليه عند التنازع، وإحلال السلف بدل المقدس، ليصبح الرجوع عند التنازع لهم بدل الرجوع للمقدس نفسه.

وهذا ما تعنيه العبارة السلفية التي تختصر التفكير السلفي، والفكر السلفي (القرآن والسنة بفهم السلف)، أي أنه عند التنازع في فهم القرآن والسنة أو في تحكيم القرآن والسنة أو إلغائهما نرجع إلى السلف ليحددوا لنا بدقة: هل النصوص المقدسة منسوخة أو معطلة، أو أنها نصوص محكمة يمكن العمل بها.. أو يحددوا لنا جهة خاصة تعمل بها دون غيرها، وهي ما يسمونه العام والخاص.. أو يضعوا قيودا للعمل بها، أو ما يسمونه إطلاقا للمقيد، كما رأينا ذلك سابقا عند الحديث عن القراءة الجماعية للقرآن، حيث أنه ومع ورود الحديث في ذلك إلا أن السلفية حكموا ببدعيتها باعتبار السلف لم يقوموا بهذا.

وسنحاول هنا باختصار أن نذكر الأدلة على هذا التعطيل بشقيه أو بمرحلتيه.

1 ـ نزع صلاحية المقدس للتحاكم:

أول أداة استعملها الشيطان ليخترق بها العقل السلفي، ومعه التدين السلفي، هو تعطيل صلاحية اعتبار المقدس مرجعا أعلى يتحاكم إليه عند الخلاف، كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59]

والآية الكريمة تعني الرجوع إلى القرآن الكريم لمحاكمة أي رواية أو حديث أو رأي أو اجتهاد في أي قضية عقدية أو سلوكية.. بل كل ما يتعلق بجميع قضايا الحياة، فالقرآن الكريم هو النور الهادي الذي جعله الله قبلة للهداية، ومصدرا للنور، كما قال تعالى:﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾(النحل: 89)

لكن العقل السلفي لم يهضم هذا، أو لم يستطع أن يتقبله بسبب أن آراء كثيرة وردته عن سلفه بأسانيد صحيحة تتناقض مع القرآن، وهو يقدس سلفه، ويعتبر من البدعة أن يتهموا بالكذب أو بالخيانة أو بسوء الفهم.. ولهذا فقد كان مخيرا بين التضحية بسلفه، أو التضحية بالقرآن الكريم.. وقد اختار لنفسه، أو اختار له شيطانه أن يقدم سلفه على القرآن الكريم.

وهذا الذي ذكرته موضع اتفاق بينهم جميعا، وإن لم تكن لهم الجرأة على التصريح المباشر به.. بلى.. فقد كان منهم من تجرأ على التصريح به، وهو علم من أعلامهم الكبار الذين يرجعون إليه كل حين، ويعتزون بشجاعته في قول الحق، وهو أبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري (المتوفى: 329هـ)، والذي قال في كتابه(شرح السنة): (إذا رأيت الرجل جالس مع رجل من أهل الأهواء، فحذره وعرفه، فإن جلس معه بعدما علم فاتقه، فإنه صاحب هوى، وإذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده، ويريد القرآن، فلا تشك أنه رجل قد احتوى على الزندقة، فقم من عنده ودعه)([2])

وقال: (وإذا سمعت الرجل يطعن على الآثار، ولا يقبلها أو ينكر شيئا من أخبار رسول الله k فاتهمه على الإسلام؛ فإنه رجل رديء القول والمذهب، وإنما طعن على رسول الله k وأصحابه؛ لأنه إنما عرفنا الله وعرفنا رسول الله k وعرفنا القرآن وعرفنا الخير والشر والدنيا والآخرة بالآثار، فإن القرآن إلى السنة أحوج من السنة إلى القرآن)([3])

وهذا الذي قاله البربهاري هو الذي يؤمن به السلفية جميعا، فالآثار عندهم، متواترة كانت أو آحادا هي الحاكمة في القرآن، والقرآن محتاج إليها، وقاصر من دونها.

ولذلك أجازوا تعطيل أحكام القرآن بالأحاديث، كإجازتهم تعطيل قوله تعالى ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 180]، والتي تجيز الوصية للوالدين والأقربين وهم من الورثة، بحديث يرفعونه إلى رسول الله k هو (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)([4])، وهو حديث آحاد.

أما تخصيص العمومات، وتقييد المطلقات، فذلك من الكثرة بحيث لا يمكن عده، ومن ذلك تشريعهم للرجم المتعلق بالثيب لينسخوا به عموم قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ﴾ [النور: 2]، فمع أن الآية واضحة في كون حكمها مرتبطا بجميع الزناة من تقييد بأي وصف إلا أنهم وضعوا أحاديث في ذلك تخص الزناة المحصنين منها ما يروونه عن النبي k: (والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)([5])

ولهذا فإنهم إن وردهم أي حديث ووجدوا فيه مخالفة صريحة للقرآن الكريم، فإنهم لا يستغربون من ذلك، ولا يتهمون رواة الحديث، ولا يقولون باستحالة التعارض بين القرآن الكريم والسنة المطهرة.. وإنما يلجأون إلى أنواع من التوفيق المتكلف، والذي ينتهي باعتبار الحديث هو الحاكم، أما ما ذكر في القرآن فهو مجرد إرشاد أو نصح أو كلام عام لا يستفاد منه أي معنى تنفيذي، وسنرى الأمثلة على ذلك عند الحديث عن تغيير المقدس في هذا الفصل.

ولهذا نرى هذا الفريق يشتد في إنكار النصوص التي تدعو إلى تحكيم الآثار إلى القرآن، كقوله k: (إن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم عني يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس عني)([6])

ومثله قوله k: (ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فلم أقله)([7])

ومثله قوله k: (إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه، فصدقوا به قلته أو لم أقله فإني أقول ما تعرفونه ولا تنكرونه، وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به، فإني لا أقول ما تنكرونه، وأقول ما تعرفونه)([8])

ومثله قوله k: (إني والله لا يمسك الناس علي بشيء إلا أني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه)([9])

وبناء على أن هذه الأحاديث تنسف الخطة الشيطانية في تعطيل المقدس، فقد استعمل العقل السلفي كل أدوات الخداع لديه والمتمثلة في المنهج الحديثي الذي يتبناه لرمي هذه الأحاديث، وعدم الاعتداد بها.

وبناء على أن هذه الأحاديث تنسف الخطة الشيطانية في تعطيل المقدس، فقد استعمل العقل السلفي كل أدوات الخداع لديه والمتمثلة في المنهج الحديثي الذي يتبناه لرمي هذه الأحاديث، وعدم الاعتداد بها.

ومنهج السلفية في أمثال هذه الحالات هي الرجوع لسلفهم المقدس، والذين روى عن بعضهم ابن بطة ـ بعد عرض بعض تلك الأحاديث ـ فقال: (قال ابن الساجي: قال أبي رحمه الله: هذا حديث موضوع عن النبي k قال: وبلغني عن علي بن المديني، أنه قال: ليس لهذا الحديث أصل، والزنادقة وضعت هذا الحديث)([10])

ثم علق على ذلك بقوله: (وصدق ابن الساجي، وابن المديني رحمهما الله، لأن هذا الحديث كتاب الله يخالفه، ويكذب قائله وواضعه، والحديث الصحيح، والسنة الماضية عن رسول الله k ترده قال الله عز وجل: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]، والذي أمرنا الله عز وجل أن نسمع ونطيع، ولا نضرب لمقالته عليه السلام المقاييس، ولا نلتمس لها المخارج، ولا نعارضها بالكتاب، ولا بغيره، ولكن نتلقاها بالإيمان والتصديق والتسليم إذا صحت بذلك الرواية) ([11])

وهكذا قال ابن عبد البر: (وهذه الألفاظ لا تصح عنه k عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل العلم فقالوا: نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء ونعتمد على ذلك، قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله عز وجل وجدناه مخالفا لكتاب الله ؛ لأنا لم نجد في كتاب الله ألا نقبل من حديث رسول الله k إلا ما وافق كتاب الله، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به والأمر بطاعته ويحذر المخالفة عن أمره جملة على كل حال)([12])

وبناء على هذا، فقد وقفوا موقفا متشددا من كل داعية للرجوع إلى القرآن الكريم للتحاكم إليه عند التنازع في تصحيح الأحاديث، وقد صبوا جام غضبهم على الشيعة في هذا، واعتبارهم هم السبب في هذه الفتنة الخبيثة، كما قال شيخهم الكبير الجامي عند حديثه عن هذه المسألة: (لقد حاول هؤلاء الزنادقة والروافض إزالة السنن من الوجود والقضاء عليها -لو استطاعوا- أو أن يجعلوا وجودها وجوداً شكلياً فاقداً للقيمة، إلا أنهم لم ينالوا خيراً، ولم يستطيعوا أن ينالوا من السنة شيئاً، فانقلبوا خاسرين ومهزومين، مثلهم كمثل الذي يحاول قلع جبل أحد مثلاً فأخذ يحوم حوله وفي سفحه لينقل من أحجاره حجراً حجراً ظناً من أنه يمكنه بصنيعه هذا قلع الجبل وإزالته من مكانه، أو كالذي يغترف من البحر اغترافاً بيده أو بدلوه محاولاً بذلك أن ينفد البحر أو ينقص)([13])

مع أن هذا من محاسن الشيعة الكبرى، فهم يروون عن أئمتهم الدعوة إلى تحكيم كل شيء سواء كان حديثا نبويا أو حديثا واردا عنهم إلى القرآن الكريم كما روي عن عبد الله بن أبي يعفور، قال: سألت أبا عبد الله عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به، ومنهم من لا نثق به؟ قال: (إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله، أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلا فالذي جاءكم به أولى به)، وعن أيوب بن الحر قال: سمعت أبا عبد الله يقول: (كل شي‏ء مردود إلى كتاب الله والسنة، فكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف)، وعن جعفر بن محمد الصادق قال: (ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف)، وعن الإمام علي قال: (ما جاءتك رواية من بر أو فاجر توافق القرآن فخذ بها، وما جاءتك من رواية من بر أو فاجر تخالف القرآن فلا تأخذ بها) ([14])

وهذه الروايات التي جعلت الشيعة يعتبرون كل كتبهم الحديثية محلال للمناقشة والنقد لأي رجل بلغ درجة الاجتهاد من غير نكير عليه هي التي أنضجت الفكر الشيعي، وجعلت له القوة في اقتحام الكثير من المواقع..

يقول الشيخ المفيد في كتابه [تصحيح الاعتقاد]: (وكتاب الله تعالى مقدَّم على الأحاديث والروايات، وإليه يتقاضى في صحيح الأخبار وسقيمها، فما قضى به فهو الحقّ دون سواه)([15])

ولهذا نرى الشيعة رغم احترامهم الشديد لكتاب الكافي ولمؤلّفه محمّد بن يعقوب الكليني وشهادتهم له بتبحّره في علم الحديث، إلاّ أنهم لم يدّعوا بأنّ ما جمعه كلّه صحيح، بل إن من علماء الشيعة من طرح أكثر من نصفه، وقال بعدم صحتها، ومع ذلك لم يشاغب عليه مثلما يشاغب علينا بسبب الحديث والحديثين.

بل إنّ الشيخ الكليني نفسه لا يقول بصحّة كلّ الأحاديث التي جمعها في الكتاب، فقد ذكر في كتابه أن أئمة أهل البيت وضعوا قواعد لحلّ اختلاف الأخباركالعرض على القرآن، وأنّه سيعمل على هذا المنهاج، لكن مع هذا لم يدّع توفيقه لتدوين الآثار الصحيحة فقط، ولذا اعترف بالتقصير وقال له: (وقد يسّر الله تأليف ما سألت وأرجو أن يكون بحيث توخّيت، فمهما كان من تقصير فلم تقصر نيتنا في إهداء النصيحة)

إضافة إلى ذلك، فقد عقد في كتابه باباً بعنوان (الأخبار المتعارضة) أو (الأخبار المختلفة) وبيّن فيه أن الأئمة أمروا بالرجوع في هذه الحالة إلى القرآن أو المشهور أو غير ذلك، وذلك كله دليل على أنّه لا يشهد بصحة كتابه كله.

هذا عند الشيعة، وقد ذكرته لنرى الفرق بين تعامل السلفية التي تزعم لنفسها أنها تحتكر السنة وأهل السنة مع أي عالم قد ينكر بعض الأحاديث بحجة معارضتها للقرآن الكريم.

ومن الأمثلة القريبة على ذلك الموقف من الشيخ محمد الغزالي بسبب كتابه [السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث]، والذي دعا فيه إلى محاكمة السنة للقرآن الكريم، فأقيمت عليه قيامة السلفيين، وكتبت لأجل الرد عليه عشرات الكتب، وأقيمت عشرات الندوات، وحذر منه كما حذر سلفهم من الجهمية والزنادقة.

ومن أقرب الأمثلة على ذلك ما كتبه الشيخ ربيع بن هادي المدخلي في مقدمة كتابه (كشف موقف الغزالي من السنَّة وأهلها ونقد بعض آرائه)، قال: (.. يؤسفنا أن الشيخ محمد الغزالي قد حشر نفسه -في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها السنَّة وأهلها- في خصوم السنَّة بل صار حامل لواء الحرب عليها وأصبحت كتبه وأقواله تمثل مدرسة ينهل منها كل حاقد على الإسلام والسنَّة النبوية المطهرة، إن الغزالي في كثير من كتبه وتصريحاته يتململ من السنَّة ولا سيما أخبار الآحاد على حد زعمه تململ السليم، ولقد ضمن مؤلفاته الأخيرة حملات شعواء وقذائف خطيرة على كثير من أحاديث رسول الله k الصحيحة، وحملات شديدة على من يريد التمسك بها، ولا يُنكر أن لـه كتابات ينصر بها الإسلام ويدافع عنه لكنه يهدم ما بناه بهذه الحملات على السنَّة إذ لا إسلام بلا سنَّة فإذا زلزل بنيان السنَّة وطُورِدَ سكانه بمثل قذائف الغزالي تحول بنيانها إلى خراب وإلى بلاقع ويـباب)([16])

 ثم ذكر العلة التي يستند إليها العقل السلفي في قبول المتناقضات، وهي اعتقاده بقصور العقول عن التوفيق بينها، فقال: (ولعلَّ سائلا يسأل عن السبب الذي دفع الغزالي إلى هذه المواقف من السنَّة ومن أهلها، فأعتقد أن مرد ذلك إلى قصور إدراكه لمعانيها فيخيل لـه هذا القصور في كثير من الأحاديث أنها تعارض القرآن أو تصادم العقل وقد يكون هذا العقل جهميا أو معتزليا أو مستشرقا أوروبيا، ثم لا تسمح له نفسه بمراجعة أقوال أهل الاختصاص من أئمة الحديث وجهابذة النقاد الذين استطاعوا بما آتاهم الله من فقه وعقول وملكات وعلم راسخ أن يوفّقوا بين الأحاديث والآيات أو الأحاديث والأحاديث التي يظهر للمتسرعين أن بينها شيئا من التعارض فتوَّلد لـه من هذا أو ذاك شعور بالضيق والكراهية لكثير من الأحاديث التي لا تحلو لـه) ([17])

ثم يدقق أكثر في العلة التي جعلت الغزالي يتحول إلى عدو من أعداء السنة، وهي أنه لم يذهب إلى السلف وأهل الحديث، لأنهم هم الحجة عند كل نزاع، يقول في ذلك: (فإذا أراد أن يشفي غيظه لا يذهب إلى كتب الموضوعات وكتب العلل التي بذل فطاحل الحديث وجهابذته جهودا عظيمة في نقدها من جهة الأسانيد والمتون، ثم قاموا بتمييزها في كتب خاصَّة، فيأخذ ما يريده منها ويروي منها ظمأه، بل يذهب إلى أغلى وأجلِّ ما عند المسلمين من تراث سيد المرسلين k ألا وهو دواوين السنَّة المشرفة وعلى رأسها الصحيحان اللذان تلقتهما الأمة بالقبول والحفاوة والإجلال وقالوا فيهما بحق إنهما أصح الكتب بعد كتاب الله، فيختار منها ما لا يوافق منهجه المرتجل فيوسعه طعنا وتشويها وسخرية، كما يصب على المتمسكين بها وابلا من الشتائم والسخرية والتحقير) ([18])

وهكذا نرى علما آخر يتقمص شخصية البربهاري وابن بطة ومتشددي السلف، وهو المحدث السلفي الكبير (مقبل بن هادي الوادعي)، الذي كتب عن الغزالي يقول: (محمد الغزالي لو كان في عصر الإمام أحمد لـحَكَمَ عليه بالزندقة، الإمام أحمد قيل له كما في مقدمة (معرفة علوم الحديث) قيل له: إن أبي قتيلة يسخر من المحدثين، فقام الإمام أحمد ينفض ثيابه ويقول: (هذا زنديق، هذا زنديق، هذا زنديق)، ما ظنك بمن يسخر من حديث رسول الله k فهذا لو كان في زمان الإمام أحمد لـحُكِمَ عليه بالزندقة)

ثم ذكر الحملة الشديدة التي شنها السلفية عليه، وتأثيرها فيه، فقال: (وإنني أحمَدُ الله سبحانه وتعالى فقد قام أهل السنَّة بِحَملة عليه وأصبح مسكينا، يدافع عن نفسه ويتقهقه.. ما قلت كذا وكذا.. أنا ما قلت.. وهكذا بعدما كان يضحك على الناس يأتي بالكلمة ويضحك بعدها على طلبة العلم المصريين الأفاضل الذين يتمسكون بالسنَّة، فالحمد لله كُتبٌ قيِّمَة رُدَّت رأيت كتاباً لأخينا في الله سليمان العودة، وآخر أيضا لصالح بن عبد العزيز آل الشيخ، وأُخبِرت أن الأخ ربيع بن هادي أخرج كتابا في الرد عليه، احترق، المهم احترق محمد الغزالي، ما يهمني أنه ألف كتاب (السنَّة بين أهل الفقه وأهل الحديث)، كنت وحدي أتصارع معه، كنت وحدي أتصارع معه من أجل ماذا؟!.. من أجل (هموم داعية)، و(دستور الوحدة الثقافية) فلما أخرج هذا الكتاب قام من هو خير منّي وأقدر على دين الله منّي)([19]) ([20]) اهـ

وهكذا علق عليه الشيخ المحدث الكبير محمد ناصر الدين الألباني، فقد قال في في كتابه (صفة الصلاة): (لقد كشفت كتابات الغزالي الكثيرة في أيامه الأخيرة -مثل كتابه الذي صدر أخيرا بعنوان (السنَّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) – أنه هو نفسه من أولئك الدعاة الذين هم (أنفسهم في حيرة) !، ولقد كنا نلمس منه قبل ذلك من بعض أحاديثه ومناقشاتنا له في بعض المسائل الفقهية، ومن بعض كتاباته في بعض مؤلفاته القديمة ما ينم عن مثل هذه الحبرة، وعن انحرافه عن السنَّة، وتحكيمه لعقله في تصحيح الأحاديث وتضعيفها، فهو في ذلك لا يرجع إلى علم الحديث وقواعده ولا إلى العارفين به والمتخصصين فيه، بل ما أعجبه صحّحه ولو كان ضعيفًا !، وما لم يعجبه منه ضعفه ولو كان صحيحاً متفقاً عليه !، كما تجد ذلك ظاهراً في تعقيبه على مقدمتي التي كنت وضعتها لكتابه (فقه السيرة) بين يديّ تخريجي لأحاديثه المطبوع معه (الطبعة الرابعة)، وكان ذلك بطلب منه بواسطة أحد إخواننا الأزهريين فسارعت إلى تخريجه ظنا مني يومئذ أن ذلك كان منه اهتماماً بالسنَّة والسيرة النبوية وحرصا على صيانتها من أن يدخل فيها ما ليس منها، ومع أنه قد أشاد بتخريجي هذا، وصرح بسروره به في التعقيب المشار إليه – وهو تحت عنوان: (حول أحاديث هذا الكتاب) – تكلم فيه عن منهجه في قبوله للأحاديث الضعيفة، ورفضه للأحاديث الصحيحة، نظراً منه في المتن فقط، فهو بذلك يُشعر القارئ بأنه مثل هذا التخريج العلمي لا قيمة له مطلقاً عنده، ما دام أنه معرض للنقد النظري، الذي يختلف جداً من شخص إلى آخر، فما يكون مقبولاً عند هذا يكون مرفوضا عند الآخر، والعكس بالعكس، وبذلك يصير الدين هوىً متبعا لا ضابط فيه ولا قواعد له إلا من شاء ما شاء، وهذا ما فعله الغزالي -هداه الله- في كثير من أحاديث كتاب (سيرته)، فهو مع كون قسم كبيرٍ من مادة كتابه مراسيل ومعاضيل، وما أسند منه فيه ما هو ضعيف الإسناد لا يصح –كما يتبين ذلك لكل من تأمل في تخريجي إياه- ومع ذلك فإنه يتبجح تحت العنوان المذكور فيقول: (اجتهدت أن ألـزَمَ المنهج السوي، وأن أعتمد على المصادر المحترمة، وأظنني بلغت في هذا المجال مبلغاً حسناً، واستجمعت من الأخبار ما تطمئن إليه نفس العالم البصير)([21])

وبنفس النبرة السلفية القديمة التي اكتسبها السلفية المحدثون نتيجة إدمانهم على كتب سلفهم المتقدمين نرى الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ يتحدث، فيقول في مقدمة كتاب (المعيار لعلم الغزالي): (.. وهذا الكتاب -الذي طلبت الكشف عنه- طار به أهل الفتن، وأعداء السنن، لجريانه مع أهل الأهواء في أهوائهم، وقد ضرم ناره، وأشعل الفتيل في زناده « خضراء الدمن »، وما أدراك ما خضراء الدمن، وسوء منبتها، فنشرت منه وانتقت، فدخلت فتنته إلى بيوت لم تعرف الكتاب ولا كاتبه ؛ لأنه يخدم مصالح معلومة في بث الخلاف، وتفريق العلماء، وانتقاد الدعـاة، قلوب أبطأ تطويرها. لكن هذا حريق ضرمت ناره، وحريق الأقلام قد يطفئه سيل المداد من ذوي السداد.. أتى الكاتب، فجنى على نفسه وعلى أمته، فزأر زأرة ليث جرب موتور على شباب الدعوة وعلماء الأمة فسب وجدع، ورش السهام وعنف، فما رعى لعلمائنا حرمة، وطفق يسفه أقوالهم بغرور وتعال، وانطلاق لسان، وجرأة جنان.. ألم تر -أيها الفاضل الودود- كم أقر الكاتب عين الرافضة والعلمانيين حين اجترأ على الفاروق المحدث، فخطأه فيما رواه إذ خالف ما يراه ويهواه، فقال: (إن الخطأ غير مستبعد على راو، ولو كان في جلالة عمر) ([22])

هذه مجرد أمثلة عن كبار أعلام السلفية، وموقفهم من علم من أعلام الأمة الكبار، أوردناها حتى أن نبين أن العقل السلفي الحديث هو نفسه العقل السلفي القديم، وأن التحجر والغلظة التي كانت في ابن بطة والبربهاري هي نفسها الغلظة التي يكتسي بها كل سلفي.

والأهم من ذلك كله هو تلك الصلابة التي في عقل السلفي، والتي تمنعه من أبسط الأمور، وهو محاكمة موروثاته ومقدساته للمقدس الأكبر القرآن الكريم.

لذلك كله فإن أقوالهم عن تحكيم القرآن الكريم مجرد شعارات زائفة لا قيمة لها، فأهون شيء عندهم هو القرآن.. بل يمكن لأي صعلوك من صعاليك سلفه أن ينسخ ما يشاء من القرآن ويغير ما يشاء، ويتلاعب كما شاء، كما سنرى ذلك في العنوان التالي.

2 ـ إحلال السلف بدل المقدس:

بعد إسقاط السلفية لاعتبار المقدس حكما عند التنازع، وضعوا بدله حكما آخر هو [السلف]، فالسلف عندهم هم القبلة التي يلجأ إليها عند كل خلاف.. وقد عرفنا سابقا مرادهم من السلف.. فلا هم الصحابة السابقون الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ [التوبة: 100]

ولا هم أولئك البسطاء المستضعفون الذين شهد الله تعالى على صدقهم، فقال: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 52]

ولا أولئك الذين ﴿تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9]

وإنما أولئك اليهود، أو الذين تتلمذوا عليهم من الصحابة الصغار، أو من الصحابة الذين أسلموا متأخرين، أو من الطلقاء الذين شغلوا أول حياتهم بحرب رسول الله k، وشغلوا آخر حياتهم بحرب ورثته وتشويه دينه.

والدليل على ذلك واضح جدا، وهو أنه لو جمعنا جميع أحاديث السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فلن يعدلوا معشار عشر ما حدث به أولئك الذين مزجوا بين الإسلام واليهودية.

والمشكلة الأكبر أن معشار العشر الذي رواه السابقون لا يتعلق إلا بفروع بسيطة من الدين.. أما ما رواه غيرهم من اليهود أو تلاميذهم، فيتعلق بأصول الدين من المعرفة الإلهية والمعرفة بحقائق الوجود الكبرى ونحو ذلك.

والسلفية لا يكتفون بتعظيم سلفهم الأوائل، بل يضمون إليهم كل تلاميذهم من المجسمة والمشبهة والمدنسة والجبرية والخرافيين، فيعتبرون التعرض لهم كالتعرض لرسول الله k نفسه..

وقد روى الحاكم عن الإمام أحمد أن أحمد بن الحسن قال له: يا أبا عبد الله ذكروا لابن أبى فتيلة بمكة أصحاب الحديث، فقال: أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أبو عبد الله، وهو ينفض ثوبه، فقال: (زنديق! زنديق! زنديق!)، ودخل البيت([23]).

وقال أحمد بن سنان القطان: (ليس فى الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث، وإذا ابتدع الرجل نزع حلاوة الحديث من قلبه) ([24])

وعلق الحاكم على هذا بقوله: (وعلى هذا عهدنا فى أسفارنا، وأوطاننا، كل من ينسب إلى نوع من الإلحاد والبدع، لا ينظر إلى الطائفة المنصورة، إلا بعين الحقارة، ويسميها الحشوية) ([25])

وبناء على هذا، فإن المقياس الذي يعتمده السلفية عادة في مناظراتهم مع المخالفين هو ذكر أقوال الرجال، فإذا جاء بمخالفهم بحديث حتى لو كان في السنن والصحاح.. فإنهم يوردون له ما قاله ابن تيمية فيه، ونحن نعلم منهج ابن تيمية في الحيل والخداع، ثم يتبعون ذلك بقول الذهبي عن ابن تيمية وهو يذكر علمه بالسنة:(يصدق أن يقال كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث)

وهكذا أصبح ابن تيمية هو لسان رسول الله k.. أو هو الناطق باسمه.. أو هو الناطق باسم الإسلام.. ولهذا لا عجب أن يضيفوا إلى اسمه دائما لقب شيخ الإسلام من غير أن يعتبروا أن ذلك بدعة كعادتهم.

وقد ذكر الشيخ حسن بن فرحان المالكي، وهو الذي كان حنبليا، وعاش بين الحنابلة، مبالغة السلفية شيخهم، فقال: (ومن أبرز أمثلة الغلو عند الحنابلة غلوهم في الإمام أحمد نفسه، فقد رووا فيه من الآثار والأعاجيب ما يشبه غلو الشيعة في جعفر الصادق رضي الله عنهما ومن ذلك قول الحنابلة في أحمد: (من أبغض أحمد بن حنبل فهو كافر)، ونسبوا ذلك للشافعي ولا يصح، وزعموا أن الإمام أحمد به يعرف المسلم من الزنديق، وأن الخضر أثنى عليه وكذلك النبي موسى عليه السلام، وأن نظرة من أحمد خير من عبادة سنة، وأن الله عز وجل يزوره في قبره كل عام، وأن قبره من ضمن أربعة قبور يدفعون عن بغداد جميع البلايا، وأن التبرك بقبر أحمد مشروع، وأنهم كانوا يضعون قلم أحمد في النخلة التي لا تحمل فتحمل من بركته، وأنه غضب على منكر ونكير لما سأله في القبر وقال لهما: لمثلي يقال: من ربك؟ فاعتذرا له!، وأن الجن نعت أحمد قبل موته بأربعين صباحاً، وكأنها تعلم الغيب!، وأنه رؤي في المنام يبايع الله عز وجل، وأن الله يباهي به الملائكة، وأن أحد الحنابلة سأل في المنام عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين فأجابه المسئول: بأنهما قد زارا رب العالمين ووضعت لهما الموائد، وأن أحد الحنابلة رأى الله في المنام فقال له الله: من خالف أحمد بن حنبل عذب، وأن الله أمر أهل السموات وجميع الشهداء أن يحضروا جنازة أحمد، وأن أهل السموات من السماء السابعة إلى السماء الدنيا اشتغلوا بعقد الألوية لاستقبال أحمد بن حنبل، وأن زبيدة (صاحبة العين) رآها أحدهم في الجنة وسألها عن أحمد فأخبرته أنه فارقها وهو يطير في درة بيضاء يريد زيارة الله عز وجل، وأن من كانت به ضائقة وزار قبر أحمد يوم الأربعاء ودعا رزقه الله السعة، وأن كل من دفن في المقبرة التي دفن فيها أحمد بن حنبل مغفور له ببركة أحمد بن حنبل، وأن الله ينظر سبعين ألف نظرة في تربة أحمد بن حنبل ويغفر لمن يزوره، بل بالغ بعضهم وزعم أن الله نفسه يزور أحمد بن حنبل في قبره كل عام كما تقدم)([26])

وقد نتج عن هذه المبالغات الكثيرة في السلف ورجال السلف ارتفاع الثقة في القرآن والسنة لاعتمادهما على السلف.. فما لم يعرفه السلف ليس حكما قرآنيا، ولا حكما نبويا.

ولهذا نجدهم عند ذكرهم للأقوال في المسألة يذكرون رسول الله k مع السلف، وكأنه واحد من القائلين، ومن الأمثلة على ذلك قول البربهاري: (التكبير على الجنائز أربع، وهو قول مالك بن أنس وسفيان الثوري والحسن بن صالح وأحمد بن حنبل والفقهاء وهكذا قال رسول الله k!)([27])

وبناء على هذا الغلو في السلف أعطوهم الحق في التحكم في كل شيء ابتداء من القرآن الكريم.. والذي اعتبروا فهمه مشروطا بفهم السلف.

وسأضرب هنا نماذج عن تعطيل السلف لأمهات القيم القرآنية بسبب اجتهاداتهم في فهمه، والتي اعتبرها السلفية اجتهادات معصومة.

فمن تلك القيم قيمة العفو والمصافحة المذكورة في قوله تعالى: ﴿ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ﴾ [البقرة:109]، فقد قال أسلاف السلفية بأن الآية منسوخة أي معطلة التنفيذ، قال النيسابوري معبرا عنهم: (نسخ ما فيها من عفو وصفح بقوله تعالى: ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة:29]، والسبب في ذلك أنه أمر المسلمون بهذا في بداية الإسلام عندما كانوا مستضعفين بالعفو والصفح.. أما عندما قووا فلم يبق هناك مجال للعفو أو الصفح.

يقول الشيخ مرعي بن يوسف المقدسي الحنبلى (المتوفى: 1033هـ)، وهو من مشايخ السلفية الكبار معللا ذلك: (أصل العفو الترك والمحو والصفح الإعراض والتجاوز نسخ بقوله تعالى: ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة:29]، وأمر الله القتل والسبي لبني قريظة، والجلاء والنفي لبني النضير، قال المحققون: إن مثل هذا لا يسمى منسوخا، لأن الله جعل العفو والصفح مؤقتا بغاية، وهو إتيان أمره بالقتال، ولو كان غير مؤقت بغاية لجاز أن يكون منسوخا)([28])

ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى:﴿ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُون ﴾ [البقرة:139]، فقد اعتبروها أيضا منسوخة، نسختها آية السيف([29]).. فما حاجة المسلمين إلى محاجة خصومهم ومجادلتهم وحوارهم بعد أن أن أمدهم الله بقوة السيف؟ فكفى بالسيف شافيا، وكفى بالسيف محاورا.

ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى:﴿ وقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين ﴾ [البقرة:190]، فهي مثل أخواتها منسوخة آية السيف، وقد قال النيسابوري فيها: (قوله ﴿ وَلاَ تَعْتَدُواْ ﴾، هذا كان في الابتداء، عندما كان الإسلام ضعيفا)([30])

ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى:﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة:256]، فهي مثل سابقاتها.. نسختها آية السيف([31])..

ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى:﴿ فإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد ﴾ [آل عمران:20]، فهي مثل سابقاتها منسوخة آية السيف([32]).. فلا منطق أفضل من السيف.

ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى:﴿ أولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا ﴾ [النساء:63]، فقد ذكروا أن هذا (كان في بدء الإسلام، ثم صار الوعظ والإعراض منسوخاً بآية السيف)([33])

ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى:﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين ﴾ [المائدة:13]، فقد ذكروا أن سلفهم ذكر أنها (نزلت في اليهود، ثم نسخ العفو والصفح بآية السيف)([34])

ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى:﴿ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُون ﴾ [المائدة:99]، فهي مثل سابقاتها منسوخة آية السيف([35]).

ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى في شأن رقة النصارى مقارنة باليهود: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُون ﴾ [المائدة:82]، فقد ذكروا عن سلفهم أن هذا ليس عاما بكل النصارى، بل خاص بالنجاشي ووفده الذين أسلموا لما قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم اثنان وثلاثون أو أربعون أو سبعون أو ثمانون رجلا، وليس المراد كل النصارى لأنهم في عداوتهم كاليهود([36]).

ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى:﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم ﴾ [الأنفال:61]، فقد نص سلفهم على أنها منسوخة بآية السيف ([37]).. فما حاجة المسلمين للسلام، وقد أعطاهم الله القوة التي يقهرون بها أعداءهم.

ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى:﴿ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين ﴾ [النحل:125]، فقد نصوا على أنها منسوخة نسختها آية السيف([38]).. فما حاجة المسلمين للحكمة والموعظة وقد من الله عليهم بنعمة القوة والعزة والتسلط.

ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى:﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُون ﴾ [المؤمنون:96]، فقد نصوا على أنها نسختها آية السيف([39]).. وذلك واضح لكل عاقل.. فمن أعطاه الله القوة التي يقهر بها أعداءه لا يحتاج إلى أن يدفع بالتي هي أحسن.

ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى:﴿ قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيل ﴾ [يونس:108]، فقد نصوا على أن معناها نسخ لا لفظها بآية السيف([40]).

ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى:﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِين ﴾ [القصص:55]، فهي الأخرى نسخت بآية السيف([41]).. وهو واضح لمن تأمله.. أليس الإعراض نوعا من الضعف.. والمسلم قوي عزيز لا يحتاج أن يذل نفسه.

ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الأحزاب:45]، فهي مثل سابقاتها منسوخة بآية السيف([42]).. وهي واضحة لا تحتاج إلى شرح يبين نسخها.

ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى:﴿ وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم ﴾ [فصلت:34]، فقد نص سلفهم على أنها منسوخة بآية السيف([43]).

ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى:﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِير ﴾ [الشورى:15]، فقد نصوا على أنها منسوخة بآية السيف ([44]).

وهكذا استطاعت آية واحدة أساء سلفهم فهمها نسخوا بها كل قيم السماحة والرحمة التي جاء القرآن الكريم للدعوة إليها، ولهذا يذكرون في فضل آية السيف قول الحسن بن فضل: (نسخت هذه الآية كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء..)، وقال ابن حزم في كتابه الناسخ والمنسوخ: (في القرآن مائة وأربع عشرة آية في ثمان وأربعين سورة نسخت الكل بقوله: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم..)([45])

هذا مجرد مثال عن القيم التي نسخها السلف واستبدلوها بالقيم الشيطانية، وهكذا نجد استبدالهم لعقيدة التنزيه بعقيدة التجسيم، وعقيدة العصمة بعقيدة التدنيس، ولكل قيمة نبيلة بالقيم الشيطانية التي ورثوها من اليهود أو تلاميذ اليهود.

ثانيا ـ كتمان المقدس.

من تجليات سيطرة المدنس على المقدس في المدرسة السلفية ذلك الكتمان المتعمد، أو الإخفاء المتعمد للكثير من النصوص المقدسة التي يخافون إن ظهرت أو فشت أو اطلع عليها عامة الناس أن ينهار كل ذلك البنيان الذي بناه لهم سلفهم، فلهذا تجدهم إذا ما ذكرت يعتبرون مجرد ذكرها بدعة مع كونها نصوصا مقدسة صحيحة يعترفون بصحتها، ويتواصون بكتمانها.

وهي خصلة يهودية أخرى تضم إلى الخصال التي اكتسبوها من أساتذتهم الأوائل، والتي عبر عنها الله تعالى بقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159]، وقوله: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 146]

وهم ينطلقون في ذكرية لسنية هذه الخصلة اليهودية من حديث لأبي هريرة عن نفسه يقول فيه: (حفظت من رسول الله k وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم)([46])

وفي حديث آخر عن يزيد بن الأصم، قال: (قيل لأبي هريرة: أكثرت أكثرت، قال: (فلو حدثتكم بكل ما سمعت من النبي k لرميتموني بالقشع([47])، ولما ناظرتموني)([48])

والعجيب أن الذين يذكرون هذا عن أبي هريرة هم أنفسهم الذين يذكرون أن من فضلهم وجهادهم، وأنه لولاهم لضاع الدين.. فكيف ينسجم هذا مع ضياع وعاء كامل من أوعية الدين.. أم أن في أحاديث رسول الله k ما يستحق ما يروى، ومنها ما يستحق أن يهمل؟

والعجب الآخر أنه ـ ومع كون أبي هريرة ـ لم يذكر ذلك الوعاء الذي كتمه إلا أنهم استطاعوا أن يدخلوا ذاكرته، ويطلعوا عليه، ويخبروا أن ما أخفاه كان من أحاديث الفتن والتي تتعرض لبعض الأمراءالذين عايشهم أبو هريرة وخاف على نفسه من بطشهم وظلمهم، ورأى أنه بإخفائه هذه الأحاديث لا ينتقص من الدين شيئا، فظلم الظالم مكشوف معروف ولا يحتاج إلى حديث مرفوع يبينه.

وقد نص على هذا القرطبي بقوله: (قال علماؤنا: وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن، والنص على أعيان المرتدين، والمنافقين، ونحو هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى، والله تعالى أعلم)([49])

وقد روى الذهبي عن مكحول قوله: (كان أبو هريرة يقول: رب كيس عند أبي هريرة لم يفتحه – يعني: من العلم -)، ثم علق عليه بقوله: (هذا دال على جواز كتمان بعض الأحاديث التي تحرك فتنة في الأصول أو الفروع، أو المدح والذم، أما حديث يتعلق بحل أو حرام فلا يحل كتمانه بوجه، فإنه من البينات والهدى.. وكذا لو بث أبو هريرة ذلك الوعاء لأوذي، بل لقتل، ولكن العالم قد يؤديه اجتهاده إلى أن ينشر الحديث الفلاني إحياء للسنة، فله ما نوى، وله أجر وإن غلط في اجتهاده)([50])

وقال ابن حجر: (حمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضهم ولا يصرح به خوفا على نفسه منهم، كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين، وإمارة الصبيان.يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية ؛ لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة)([51])

وقال طاهر الجزائري: (أراد بالوعاء الأول الأحاديث التي لم ير ضررا في بثها فبثها، وأراد بالوعاء الثاني الأحاديث المتعلقة ببيان أمراء الجور وذمهم، فقد روي عنه أنه قال: لو شئت أن أسميهم بأسمائهم.وكان لا يصرح بذلك خوفا على نفسه منهم)([52])

وكل هذه المبررات تدخل في باب (رب عذر أقبح من ذنب)، فكيف يخبر رسول الله k خبرا، من دون أن يطلب كتمانه، ثم يكتم، ثم يعتذر لذلك.

والأخطر من ذلك كله هو توهينهم ذكر رسول الله k لأسماء المنافقين والمحرفين والمغيرين للدين.. لأن الأمر في ذلك الحين لم يكن بسيطا، فهو لا يتعلق فقط بأمراء أو وزراء أو قادة، بل يتعلق بمسار الدين نفسه ووجهته.. ففي ذلك الوقت بدأ سلف السلف، وفي ذلك الوقت بدأ الفهم الجديد للدين الذي تلقته الأمة بعد ذلك وسارت عليه.. فكيف نهون من شأنه.

ولكن حرص السلفية على سلفهم جعلهم يكتمون كل شيء يتعلق بتحذيرات رسول الله k مما يحصل في ذلك الزمن من مظالم، حتى أنهم وضعوا قاعدة في ذلك تحدوا بها النبوة نفسها، وهي قاعدة [الإمساك عما شجر بين الصحابة]، والتي وضعوها ضمن عقائد أهل السنة، مع أن رسول الله k هو أول من تحدث ونبه إلى ما سيحصل في عصر الصحابة من فتن، بل سمى كل شيء باسمه، وكان الأجدر بأهل الحديث أن يأخذوا ذلك بعين الاعتبار عند روايتهم للحديث، لكنهم صموا عن ذلك، وتصوروا أن رسول الله k يهجر، أو يتكلم كلاما لا معنى له.

ولهذا فقد نسخوا كل ما ذكره رسول الله k وحذر منه بأقوال سلفهم الذين كانوا جميعا أعوانا وسدنة ودعاة للملك العضوض، ولو لم يكونوا كذلك لما وضعهم السلفية في خانة الثقاة عندهم.. فمن شروط الثقة عند المحدثين أن يوالي السلطة ولا يعارضها.. لأن المعارض إما خارجي أو شيعي وكلاهما مبتدع.

وهم ينقلون في هذا إمامهم شهاب بن خراش قوله: (أدركت من صدرة هذه الأمة وهم يقولون: اذكروا في المجلس أصحاب رسول الله k ما تأتلف عليه القلوب، ولا تذكروا الذي شجر بينهم فتحرشوا عليهم الناس)([53])

وينقلون عن إبراهيم بن آزر الفقيه قوله: (حضرت أحمد بن حنبل، وسأله رجل عما جرى بين علي ومعلوية؟ فأعرض عنه، فقيل له: يا أبا عبد الله هو رجل من بني هاشم فأقبل له: يا أبا عبد الله هو رجل من بني هاشم فأقبل عليه فقال اقرأ: ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 134])([54])، وقال: (هذه دماء طهر الله منها أيدينا فلنكف عنها ألسنتنا)([55])

وينقلون عن أبي زرعة الرازي أنه جاءة رجل فقال: إني أبغض معاوية، فقال له: ولما؟ قال: لأنه قاتل عليا بغير حق، فقال له الإمام: (رب معاوية رب رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فما دخولك بينهما)([56])

وهذه مقولة خطيرة جدا، فهي بالإضافة لمصادمتها للنصوص تصادم كل حقائق الوجود، فإن كان رب معاوية رحيما.. يعني أنه سيرحمه بعد كل جرائمه ـ كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة ـ فما معنى العمل؟

ولهذا نشأ الإرجاء حرصا على الصحابة.. وخاصة من تلوثت دماؤهم بالآلاف بل بعشرات الآلاف.. ونشأ معه القول بعدم عصمة الأنبياء، وتجويز أن يكونوا مجرمين وقتلة حتى لا يشوه الصحابة، كما ذكرنا ذلك بتفصيل في كتاب [السلفية والنبوة المدنسة]

بل إن السلفية لم يكتفوا بهذا، فراحوا يعتبرون حب الصحابة والبحث عن مبررات لكل ما وقع منهم أو بينهم ركنا جديدا من أركان العقيدة نسي القرآن أن يذكره، ونسي رسول الله k أن يبينه، يقول الطحاوي ـ عند عرضه لعقائد أهل السنة ـ: (ونحب أصحاب رسول الله k ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الحق يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.. ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله k وأزواجه المطهرات من كل دنس وذرياته المقدسين من كل رجس، فقد برئ من النفاق)([57])

وقال ابن قدامة: (ومن السنة قول أصحاب رسول الله k وذكر محاسنهم، والترحم عليهم، والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم، واعتقاد فضلهم، ومعرفة سابقتهم)([58])

وقال ابن تيمية: (ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم، وألسنتهم لأصحاب محمد k.. ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة أو الإجماع من فضائلهم ومراتبهم.. ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت يقول أو فعل ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساوئهم، منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص، وغير عن وجهه والصحيح منه: هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون. وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم من كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم)([59])

بل إن السلفية أثناء كتمانهم لما حصل في تلك الفترة من مآس وجرائم ظل أثرها مستمرا في كل العصور، وسنت سننا خطيرة في الدين، يؤولون كل ما ورد في النصوص المقدسة مما يمكن أن يبين لنا وجه الحق لنسير على الصراط المستقيم.

ومن الأمثلة الخطيرة على هذه الظاهرة ـ ظاهرة الجرأة على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ ذلك الحديث الذي يروونه كثيرا، ويوردونه في محال مخصوصة للانتصار لبعض الصحابة أو الطلقاء على حساب مصداقية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وذلك الحديث هو ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة.أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلا فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة)([60])

وهذا الحديث الخطير يشوه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشويها عظيما، فهو يرسمه بصورة الظالم الذي يسارع إلى سب الناس وجلدهم والدعاء عليهم من غير استحقاق منهم لذلك، ثم يعتذر لذلك بأن يدعو لمن فعل بهم ذلك أن يتحول ما فعله بهم من أنواع الإهانات كفارة ورحمة.

 وهذا يتنافى تماما مع تلك الصورة الجميلة التي صور القرآن الكريم بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصورته بها الأحاديث الكثيرة.

والغرض من كل هذا التشويه هو تحويل تلك الدعوات التي دعي بها على معاوية ومن هو من صنوه إلى رحمة وكفارة وقربة.

يقول ابن كثير في (البداية والنهاية) عند ترجمته لمعاوية بن أبي سفيان: (وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه.. أما في دنياه: فإنه لما صار إلى الشام أميرا، كان يأكل في اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لحم كثير، وبصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئا كثيرا، ويقول: والله ما أشبع وإنما أعيا، وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك.. وأما في الآخرة: فقد أتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الذي رواه البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة.أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلا فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة)([61])

وقد أيده في قوله هذا النووي فقال: (وقد فهم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقا للدعاء عليه، فلهذا أدخله في هذا الباب، وجعله غيره من مناقب معاوية لأنه في الحقيقة يصير دعاء له)([62])

وهكذا أصبح المدنس يعقب على المقدس، ويصحح له مواقفه، بل يصحح له دعواته ولعناته، ولست أدري هل هم يتحدثون عن نبي لا ينطق عن الهوى، أم يتحدثون عن أي صنم من الأصنام التي اتخذوها من دون الله.

 ثالثا ـ تغيير المقدس.

من تجليات سيطرة المدنس على المقدس في التراث السلفي تلك التغييرات الكثيرة التي أحدثوها في العقيدة والشريعة سواء كانت من باب الإضافة المجردة لما لم يذكر من العقائد أو الأحكام، أو من كان من باب تبديل أحكام بأحكام.

وقد ذكرنا الأمثلة الكثيرة على ذلك فيما يرتبط بالجوانب العقدية في كتابي [السلفية والوثينة المقدسة] و[السلفية والنبوة المدنسة]، حيث ذكرنا تلك العقائد السلفية الكثيرة في الله وفي النبوة والتي تخالف تماما ما ورد في القرآن الكريم.. بل تخالف ما يقوله العقل والفطرة، والتي انتهت بتجسيم الله، وتدنيس الأنبياء.

أما في الأحكام، فنجد الكثير من الأحكام التي تتناقض مع القرآن الكريم، والصحيح من السنة المطهرة.. وأخطرها ما يعتمد السلفية عليه لتبرير جرائم العنف التي مارسوها عبر التاريخ، ولا زالوا يمارسونها وهو حكم الردة..

فمع كون الأحاديث التي وردت في قتل المرتد كلها وردت عن طريق الآحاد، وهي تنافي كل ما ورد في القرآن الكريم من عدم قتل المرتد، ومن الحرية الدينية، وهي آيات كثيرة جدا، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)﴾ [آل عمران:90-91]

فالآية واضحة هنا بأن عقوبة المرتد متعلقة بالآخرة، وليس لها علاقة بالدنيا، ولو كان هناك حد لذكره كما ذكر حد الزنا والسرقة، وهما أدنى بكثير من حد الردة، فالجلد والقطع أقل من القتل.

ومن الآيات الكريمة الدالة على أن حد الردة حد مضاف في الشريعة لينسخ سماحتها ورحمتها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54]، والآية واضحة، وليس لها علاقة بأي عقوبة، بل هي مجرد تهديد للمرتدين باستغناء الله عنهم واستبدالهم بغيرهم.

وهكذا قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ [النساء: 137]، فالآية الكريمة تعطي الكثير من الفرص للمرتد، ولو أنه كان هناك حد ردة، لما تمكن من أن يؤمن ثم يكفر، ثم يؤمن ثم يكفر ويزداد كفرا.

وهكذا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217]، فقد رتبت الآية الكريمة عقوبتين على الردة إحداهما إحباط الأعمال والثانية عذاب النار.. وكلاهما لا علاقة له بحد الردة.

وهكذا قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144]، فإن الآية الكريمة لم ترتب أي عقوبة على الردة، بل بينت فقط أن هذا المرتد لن يضر الله شيئا.. بل يضر نفسه فقط بردته.

وهكذا قوله تعالى: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 149]، واكتفت الآية الكريمة بذكر الخسارة من دون أن ترتب على ذلك أي حد.

وهكذا قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 28]

وهكذا قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)﴾ [آل عمران: 72-73]، فهي لم ترتب أي عقوبة على المرتد.

وهكذا لو مررنا على القرآن الكريم جميعا، فإننا لن نجد أي عقوبة للمرتد، بالإضافة إلى ما ورد في أحاديث كثيرة تدل على أن رسول الله k لم يقتل أحدا لأجل ارتداده.

وقد جمعها الشيخ حسن بن فرحان المالكي في كتابه المهم (حرية الاعتقاد في القرآن الكريم والسنة النبوية).. وقسمها إلى أربع مجموعات([63]):

الأولى: أحاديث عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام على القبائل، وهي كثيرة، وتؤكد على حرية الاعتقاد حتى للوثنيين، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يطلب إلا النصرة لإبلاغ الرسالة وحمايته، وهو طلب لمنع الاضطهاد الديني وإتاحة حرية الدعوة، ولو تحققت هذه الحرية في مكة لما طلب أحداً لحمايته من الاضطهاد والمنع من تبليغ ما أمره الله بتبليغه.

الثانية: أحاديث بيعة العقبة مع الأنصار.. وفيها البيعة على أمور من أساسيات الدين، أضاعها المسلمون فيما بعد، ومن أهمها: أن نقول الحق أينما كنا لا نخشى في الله لومة لائم، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن من ارتد عن هذه البيعة ونكث فأمره إلى الله، وليس هناك أمر بقتله ولا إكراهه على الدين..

الثالثة: مجموعة أحاديث وثيقة المدينة.. وهي وثيقة حقوقية بامتياز، وليست وثيقة دعوة إلى الإسلام، ولا إكراه عليه، بل فيها أن المسلمين ومن تحالف معهم كاليهود أمة واحدة دون الناس.

الرابعة: وهي أحاديث مفردة تنسجم مع القرآن الكريم في عدم الإكراه على الدين.. منها حديث الرجل الذي طلب الردة وقوله لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أقلني بيعتي) بعد أن بايعه على الإسلام، وهو في الصحيحين.. ومنها حديث النصراني المرتد.. وهو في الصحيحين.. ومنها حديث حصين الأنصاري وابنيه، ولا إكراه في الدين.. ومنها حديث ردة عبيد الله بن جحش وردته بالحبشة.. ومنها حديث أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعث علي لليمن، وهو من النوادر المدفونة.

لكن كل هذه الجحافل من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية استطاع السلفية، وعبر راو واحد مختلف فيه، وهو عكرمة أن ينسخوها جميعا، ويضعوا بدلها هذا القانون القاسي الخطير على لسان رسول الله k، والذي صاروا يحفظونه أكثر مما يحفظون القرآن، وهو (من بدل دينه فاقتلوه).. فهذا الحديث انفرد به عكرمة مولى ابن عباس وقد كان من الخوارج.. وهو مرسل، فعكرمة ذكر هذا الحديث في قصة إحراق الإمام علي لأناس من المرتدين، ولم تصح حادثة الإحراق هذه، وإنما ذكرها عكرمة وحده، وجميع أسانيدها ضعيفة.

هذا مجرد مثال لما يمكنه أن تفعله أحاديث الآحاد بحياة الناس.. وهكذا لو تأملنا كل جور في الشريعة أو قسوة أو ظلم أو عنصرية، فإننا سنجدها قد تسربت إلى الأمة عن طريق هذا النوع من الأحاديث.

وقد كانت تلك الأحاديث وراء ذلك الاستبداد والقمع للحريات الذي مارسه الملوك الذين يعظمهم السلفية قديما، والملوك الذين لا يزوالون يعظمونها.

ومن الأمثلة على ذلك والذي لقي استحسانا كبيرا من لدن جميع أعلام السلفية ما فعله خالد بن عبد الله القسري الذي كان واليا علي العراق لهشام بن عبدالملك، والذي سن سنة الذبح التي انتهجها السلفية في تاريخهم الطويل مع مخالفيهم، ولا زالوا يستنون بها، فقد ذبح الجعد بن درهم بعد أن خرج به إلي مصلى العيد بوثاقه ثم خطب الناس وقال: (أيها الناس! ضحوا، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسي تكليما)([64])، ثم نزل وذبحه.

وقد أثنى على سلوكه هذا كل أعلام السلفية، فقد قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين معقبا على ثناء ابن تيمية على خالد القسري: (جزاه الله خيرا، فالناس يضحون بالغنم والشاة والمعز والبعير والبقر.. وهذا ضحي بشر منها، فإنه شر من الإبل والغنم والحمير والخنازير، لأن الله يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة: 6]، ويقول: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: 44]، وإني أسأل الآن: البعير عن سبع، والبقر عن سبع، وهذا الرجل عن كم.. عن آلاف آلاف وقي الله شرا كبيرا، لكن بعض الناس والعياذ بالله يقولون إن هذا العمل من خالد بن عبد الله القسري ليس دينا، ولكنه سياسي، ونقول لهم هذا كذب، لأن الرجل صرح أمام الناس أنه قتله من أجل هذه البدعة)([65])

وقد مدح ابن القيم هذا السلوك العظيم من خالد القسري في (النونية) التي عرض فيها عقيدة السلف، فقال([66]):

ولأجل ذا ضحي بجعد خالد الق سري يوم ذبائح القريان

إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا   ولا موسي الكليم الداني

شكر الضحية كل صاحب سنة   لله درك من أخي قربان

ومن الأمثلة على ذلك – والتي أقرها السلفية وأعجبوا بها- ما حصل للمتفلسف الصوفي عبد الله عين القضاة الهمداني الذي قتله بعض الوزراء بعد أن رأى في بعض كتبه ألفاظا شنيعة ينبو عنها السمع، ويُحتاج إلى مراجعة قائلها فيما أراد بها؛ وقد عمل الوزير محضرا وأخذ فيه خطوط جماعة من العلماء، بإباحة دمه بسبب تلك الألفاظ، فقبض عليه وحمله مقيدا إلى بغداد، ثم أرسله إلى همدان وصلبه بها([67]).

ومن الأمثلة على ذلك ـ والتي يعجب بها السلفية إعجابا شديدا ـ ما حصل للفيلسوف الإشراقي شهاب الدين السهروردي الذي أفتى علماء حلب بقتله، وما أسرع ما استجاب الملك الظاهر بن صلاح الدين الأيوبي لذلك، ثم جاءه أمر من والده صلاح الدين يأمره بقتله([68]).

ومن الأمثلة على ذلك، وهو عجيب يبين مدى حنق السلفية على الفلاسفة والعقلانيين، ما فعله سلطان يُعرف بمحمد بن المظفر بجثة الفيلسوف أبي علي بن سينا، فقد نبش قبره، وأخرج رفاته وأحرقها بعد أكثر من 140 سنة من وفاته([69]).

والأمثلة على هذا في القديم والحديث أكثر من أن تحصر.. وهذا مجرد مثال عن تغيير الشريعة السمحة بشريعة الغاب التي أسس لها السلفية وسلف السلفية.


([1])      مسند الإمام أحمد بن حنبل: 3/387 ح(15195)

([2])  شرح السنة) (ص: 119.

([3])  شرح السنة للبربهاري (ص: 79)

([4])  رواه أبو داود (2870)، والترمذي (2120)، وابن ماجة (2713)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

([5])  رواه مسلم (1690)، وأبو داود (4415)

([6])  البيهقي في (معرفة السنن والآثار)، (1/ 9) وأخرجه ابن المقرئ في معجمه، (3/ 239).

([7])  أخرجه البيهقي في (معرفة السنن والآثار)، (1/ 116)

([8])  أخرجه الطحاوي في (شرح مشكل الآثار)، (15/ 347)، رقم (6068)، وأخرجه الدار قطني في سننه، (4/ 208)، رقم (18).

([9])  أخرجه الشافعي في مسنده، (1/ 129)، رقم (116)، والبيهقي في (معرفة السنن والآثار)، (3/ 360)، رقم (1155)

([10])  الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 266)

([11])  الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 266)

([12])  جامع بيان العلم وفضله (4/17)

([13])  الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنـزيه، ص31..

([14])   البهبودي/صحيح الكافي/ج 1/ص11.

([15])  تصحيح الاعتقاد: 44.

([16]) كشف موقف الغزالي من السنَّة وأهلها ونقد بعض آرائه ( ص4-6 )

([17]) كشف موقف الغزالي من السنَّة وأهلها ونقد بعض آرائه ( ص4-6 )

([18]) كشف موقف الغزالي من السنَّة وأهلها ونقد بعض آرائه ( ص4-6 )

([19])  شريط ( حطاب ليل )، تسجيلات مجالس الهدى – الجزائر.

([20]) شريط ( حطاب ليل )، تسجيلات مجالس الهدى – الجزائر .

([21])  صفة الصلاة، ( ص66-68 )

([22]) المعيار لعلم الغزالي ) ( ص4-6 )

([23])  معرفة علوم الحديث ص 4..

([24])  معرفة علوم الحديث ص 4..

([25])  معرفة علوم الحديث ص 4..

([26])  قراءة في كتب العقائد المذهب الحنبلي نموذجاً (184)

([27])  شرح السنة، ص86.

([28])  قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ في القرآن (ص: 54)

([29])   الناسخ والمنسوخ للنيسابوري ص44-45.

([30])   الناسخ والمنسوخ للنيسابوري ص 65-66.

([31]) الناسخ والمنسوخ للنيسابوري ص 96 -97..

([32]) الناسخ والمنسوخ للنيسابوري ص 102 -103.

([33])   الناسخ والمنسوخ للنيسابوري ص 135.

([34])   الناسخ والمنسوخ للنيسابوري، ص 150.

([35])   الناسخ والمنسوخ للنيسابوري، ص 152..

([36])   قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ في القرآن (ص: 100)

([37])   قلائد المرجان، ص 176-177.

([38])   قلائد المرجان، ص 210..

([39])   قلائد المرجان، ص 235..

([40])   قلائد المرجان، ص 252..

([41])   المصدر السابق ص 253.

([42])   المصدر السابق ص 258.

([43])   المصدر السابق ص 268.

([44])   المصدر السابق ص 270.

([45])   الناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص: 12)

([46])  رواه البخاري (رقم/120)

([47])  القشع : ما يقلع عن وجه الأرض من المدر والحجر.

([48])  رواه أحمد في  المسند  (16/563) وقال المحققون : إسناده صحيح.

([49])  الجامع لأحكام القرآن  (2/186)

([50])  سير أعلام النبلاء  (2/597)

([51])  فتح الباري  (1/216)

([52])   توجيه النظر  (1/63-64).

([53])  سير أعلام النبلاء (8/285)

([54])  مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي، ص(126)

([55])  آداب الشافعي ومناقبه (314)

([56])  تاريخ دمشق، للحافظ ابن عساكرالفتح (3/93)

([57])  شرح العقيدة الطحاوية، ص (493)

([58])  لمعة الاعتقاد، ص (29).

([59])  رواه البخاري (3651)، ومسلم (253) (212).

([60])  مسلم (4/2008، رقم 2601) واللفظ له، وأخرجه أحمد (2/493، رقم 10408)

([61])  البداية والنهاية: 8/ 128.

([62])   المنهاج: 16/156.

([63])  حرية الاعتقاد في القرآن الكريم والسنة النبوية، ص25، فما بعدها.

([64])  البخاري في (خلق أفعال العباد) ص 69.

([65])  شرح العقيدة الواسطية.

([66])  نونية ابن القيم، الكافية الشافية (ص: 8)

([67])    ابن حجر: لسان الميزان، ج4 ص: 411.

([68])  الذهبي : السيّر، ج 21 ص: 10، 211 ..

([69])  محمد بن يعقوب الفيروز أبادي : البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة، ج1 ص: 90.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *