التعقل.. والتصور

التعقل.. والتصور

من أهم الإشكالات التي حالت بين العقل والتحقق بالمعرفة الإلهية ـ كما ينص القرآن الكريم، وكما يدل عليه الواقع ـ هو إدخال الخيال والوهم والتصور في هذا النوع من المعرفة المقدسة.

كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك في مواضع كثيرة كذكره لمطالبة بني إسرائيل موسى عليه السلام بالرؤية الحسية لله حتى عوقبوا على ذلك، وكقول فرعون: { يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38]، وغيرها من النصوص.

والواقع الإلحادي يدل على ذلك أيضا، فهو يريد أن يقيس الله بمثل المقاييس التي يستعملها في دراسة الظواهر الكونية المختلفة.. وعندما لا تخضع معرفة الله لمقاييسه يذهب للإلحاد.

ولهذا فإن القرآن الكريم ينطلق في التعريف بالله من وضع القواعد التي تؤسس العقيدة على الأسس الصحيحة المنبنية على المعرفة التنزيهية لله، كما قال تعالى – على لسان الملائكة عليهم السلام-: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]

وقد أشار الغزالي إلى ذلك عندما قال في جواهر القرآن عند بيانه لعزة ما ورد في القرآن الكريم من الحديث عن الذات الإلهية في نفس الوقت الذي أفاض فيه في ذكر أسماء الله وآثارها في الوجود: (كما أن أنفس اليواقيت أجل وأعز وجودا، ولا تظفر منه الملوك لعزته إلا باليسير، وقد تظفر مما دونه بالكثير، فكذلك معرفة الذات أضيقها مجالا وأعسرها منالا وأعصاها على الفكر، وأبعدها عن قبول الذكر؛ ولذلك لا يشتمل القرآن منها إلا على تلويحات وإشارات، ويرجع ذكرها إلى ذكر التقديس المطلق كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] وسورة الإخلاص، وإلى التعظيم المطلق كقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [الأنعام: 100] وأما الصفات: فالمجال فيها أفسح، ونطاق النطق فيها أوسع، ولذلك كثرت الآيات المشتملة على ذكر العلم والقدرة والحياة، والكلام والحكمة، والسمع والبصر وغيرها.. وأما الأفعال: فبحر متسعة أكنافه، ولا تنال بالاستقصاء أطرافه، بل ليس في الوجود إلا الله وأفعاله، وكل ما سواه فعله، لكن القرآن يشتمل على الجلي منها الواقع في عالم الشهادة، كذكر السماوات والكواكب، والأرض والجبال، والشجر والحيوان، والبحار والنبات، وإنزال الماء الفرات، وسائر أسباب النبات والحياة، وهي التي ظهرت للحس. وأشرف أفعاله وأعجبها وأدلها على جلالة صانعها)([1])

هذه هي المعرفة القرآنية التي دلت عليها الآيات الكثيرة.. والتي لا يرى العقل فيها أي تناقض مع ما تقتضيه الفطرة السليمة..

لكن المعرفة السلفية لله تتناقض مع هذه المعرفة تماما، حيث أنها تستند في التعرف على الله على التصور بدل التعقل، ولذلك تتصور أن معرفة الله لا يمكن أن تتم بمعزل عن تجسيمه وتحديده وتقييده وتكييفه.. ولهذا فإن أكبر مجال عندها في المعرفة الإلهية ـ خلاف ما ورد في القرآن الكريم ـ مجال الذات.. فهي تقبل فيه كل شيء حتى الروايات الإسرائيلية.

وقد قال الشيخ ابن العثيمين، وهو من علمائهم المعاصرين الكبار – مبينا استحالة معرفة الله من دون كيفية -: (السلف لا ينفون الكيف مطلقاً، لأن نفي الكيف مطلقاً نفي للوجود، وما من موجود إلا وله كيفية لكنها قد تكون معلومة وقد تكون مجهولة، وكيفية ذات الله تعالى وصفاته مجهولة لنا.. وعلى هذا فنثبت له كيفية لا نعلمها.. ونفي الكيفية عن الاستواء مطلقاً هو تعطيل محض لهذه الصفة لأنا إذا أثبتنا الاستواء حقيقة لزم أن يكون له كيفية وهكذا في بقية الصفات)([2])

وما ذكره الشيخ من أن الكيفية غير معلومة لنا نوع من الاحتيال لأن كتب السنة والعقائد الكثيرة صورت ذلك تصويرا لا يحتاج الخيال إلى غيره ليرسم صورة الاستواء أو غيره مما يعتبرونه من صفات الله تعالى.

ومثل الشيخ ابن عثيمين أبو عمر ابن عبدالبر الذي اعتبر الأمة كلها – ما عدا أهل الحديث – نافين للمعبود، فقال: (وأمَّا أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلُّها والخوارج، فكلُّهم يُنكرها، ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أنَّ من أقرَّ بها مشبِّه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود)([3])

وقد علق عليه الذهبي بقوله: (صدق والله! فإنَّ من تأوَّل سائر الصفات وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام، أدَّاه ذلك السَّلب إلى تعطيل الربِّ، وأن يشابه المعدوم، كما نُقل عن حماد بن زيد أنَّه قال: مَثل الجهمية كقوم قالوا: في دارنا نخلة، قيل: لها سَعَف؟ قالوا: لا، قيل: فلها كَرَب؟ قالوا: لا، قيل: لها رُطَب وقِنو؟ قالوا: لا، قيل: فلها ساق؟ قالوا: لا، قيل: فما في داركم نخلة!)([4])

وهكذا أصبح الله ـ بعظمته وقدسيته وجلاله ـ عند السلفيين مثل النخلة لا يمكن معرفتها إلا بعد معرفة سعفها وكربها ورطبها.. ولهذا فإن أعرف العارفين عندهم من جمع أكبر قدر من روايات التجسيم والتشبيه ليرسم صورة أكثر دقة عن ربه سبحانه وتعالى.

ولهذا فإن ما ينتصر به المعاصرون منهم لأنفسهم من نفي تهمة التجسيم عنهم نوع من الاحتيال والمصادرة على المطلوب، ذلك أنهم – من خلال النصوص التي يوردونها عن سلفهم ـ لا ينفون حقيقة التجسيم ومعناه، وإنما ينفون فقط إطلاق اسم الجسم على الله، أو اعتبار الجسم صفة من صفات الله، لكون التسمية والوصف توقيفية.. أما حقيقة التجسيم التي تعني الحيز والحدود والمكان والجهة والتركيب والوزن والحجم وغير ذلك.. فهم لا ينكرون اتصاف الله بذلك.

وكمثال على ذلك ما أورد ابن تيمية في كتبه العقدية المختلفة من النصوص الدالة على عدم الحرج في وصف الله بكونه جسما من الأجسام، بناء على المعنى، لا على اللفظ..

فعندما راح يبين سبب عدم إطلاق السلف لفظ الجسم لا نفياً ولا إثباتاً لله تعالى لم يذكر أن ذلك لتناقضه مع العقل أو مع القرآن، وإنما ذكر لذلك وجهين: (أحدهما: أنه ليس مأثوراً لا في كتاب ولا سنة، ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا غيرهم من أئمة المسلمين، فصار من البدع المذمومة.. الثاني: أن معناه يدخل فيه حق وباطل، فالذين أثبتوه أدخلوا فيه من النقص والتمثيل ما هو باطل، والذين نفوه أدخلوا فيه من التعطيل والتحريف ما هو باطل)([5])

ومراد ابن تيمية من التعطيل والتحريف – في هذا النص – هو تنزيه الله عن لوازم الجسمية كالحيز والحدود ونحوها.. أو كما أشار إلى ذلك في قوله في كتابه (منهاج السنّة): (وقد يراد بالجسم ما يشار إليه، أو ما يرى، أو ما تقوم به الصفات، والله تعالى يُرى في الآخرة وتقوم به الصفات ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم.. فإن أراد بقوله: (ليس بجسم) هذا المعنى قيل له: هذا المعنى ـ الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ ـ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول وأنت لم تقم دليلاً على نفيه.. وأمّا اللفظ فبدعة نفياً وإثباتاً، فليس في الكتاب ولا السنّة، ولا قول أحد من سلف الأُمّة وأئمتها إطلاق لفظ (الجسم) في صفات الله تعالى، لا نفياً ولا إثباتاً)([6])

فقد عرّف الله في هذا النص بأنه يُشار إليه.. وأنّه يُرى كما ترى الأجسام.. وأنّه تقوم به الصفات فيكون مركّباً.. وأنّ له مكاناً وجهة، بدليل رفع الناس أيديهم عند الدعاء إلى الأعلى.. فالإله بهذا المعنى عنده ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول..

بل إن ابن تيمية يحاول بكل ما أوتي من قوة المنطق أن يبرهن على ضرورة أن يكون الله جسما حتى يكون موجودا.. فالوجود عنده يقتضي الجسمية، يقول في ذلك:(فالمثبتة يعلمون بصريح العقل امتناع أن يكون موجوداً معيناً مخصوصاً قائماً بنفسه ويكون مع ذلك لا داخل العالم ولا خارجه، وأنه في اصطلاحهم لا جسم ولا عرض ولا جسم ولا متحيز، كما يعلمون أنه يمتنع أن يقال إنه لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره.. فإنك إذا استفسرتهم عن معنى التحيز ومعنى الجسم فسروه بما يعلم أنه الموصوف بأنه القائم بنفسه. ولهذا لا يعقل أحد ما هو قائم بنفسه إلا ما يقولون هو متحيز وجسم.. فدعوى المدعين وجود موجود ليس بمتحيز ولا جسم ولا قائم بمتحيز أو جسم مثل دعواهم وجود موجود ليس قائما بنفسه ولا قائما بغيره.. ومن قيل له هل تعقل شيئاً قائماً بنفسه ليس في محل وهو مع هذا ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ومع هذا إنه لا يجوز أن يكون فوق غيره ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا أمامه ولا وراءه وأنه لا يكون مجامعا له ولا مفارقا له ولا قريبا منه ولا بعيدا عنه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا مماسا له ولا محايثا له وأنه لا يشار إليه بأنه هنا أو هناك ولا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يرى منه شيء دون شيء ونحو ذلك من الأوصاف السلبية التي يجب أن يوصف بها ما يقال إنه ليس بجسم ولا متحيز لقال حاكماً بصريح عقله هذه صفة المعدوم لا الموجود)([7])

وهكذا يضعنا ابن تيمية وأصحابه من أعلام المدرسة السلفية بين أمرين: إما أن نجسم الله، أو نقول بعدمه.. فالوجود عندهم قاصر على الأجسام.. وهو نفس ما قاله فرعون والملاحدة واليهود.

بل إن ابن تيمية يطبق جميع أوصاف الأجسام على كل الموجودات، لا يفرق في ذلك بين الله سبحانه وتعالى واجب الوجوب، وبين الممكنات التي خلقها، فيقول: (الوجه السادس أن يقال ما عُلم به أن الموجود الممكن والمحدث لا يكون إلا جسما أو عرضا أو لا يكون إلا جوهرا أو جسما أو عرضا أو لا يكون إلا متحيزاً أو قائما بمتحيز أو لا يكون إلا موصوفا أو لا يكون إلا قائما بنفسه أو بغيره يُعلم به أن الموجود لا يكون إلا كذلك.. فإن الفطرة العقلية التي حكمت بذلك لم تفرق فيه بين موجود وموجود ولكن لما اعتقدت أن الموجود الواجب القديم يمتنع فيه هذا أخرجته من التقسيم لا لأن الفطرة السليمة والعقل الصريح مما يخرج ذلك ونحن لم نتكلم فيما دل على نفي ذلك عن الباري فإن هذا من باب المعارض وسنتكلم عليه وإنما المقصود هنا بيان أن ما به يعلم هذا التقسيم في الممكن والمحدث هو بعينه يعلم به التقسيم في الموجود مطلقا)([8])

وهو لا يكتفي بهذه التصريحات فقط، بل إنه في كتابه (بيان تلبيس الجهمية) يكاد يدافع عن لفظ (الجسم) بعينه، فيقول: (وليس في كتاب الله، ولا سنّة رسوله، ولا قول أحد من سلف الأُمّة وأئمتها أنّه ليس بجسم، وأنّ صفاته ليست أجساماً وأعراضاً)([9])

بل إن ابن تيمية وأعلام المدرسة السلفية عند حديثهم عن كمال الله تعالى ينطلقون من النظرة التجسيمية الحسية المادية.. فهم يرون أن الله سبحانه وتعالى ما دام قد أعطى لعباده بعض الكمالات الحسية، فهو أولى أن يتصف بها، قال ابن تيمية يوضح ذلك: (كل ما ثبت للمخلوق من صفات الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه لأنه أكمل منه ولأنه هو الذي أعطاه ذلك الكمال، فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه…وعلى هذا فجميع الأمور الوجودية المحضة يكون الرب أحق بها لأن وجوده أكمل ولأنه هو الواهب لها فهو أحق باتصافه بها)([10])

وإلى هنا فإن المعنى مقبول عند جميع المسلمين، فالله سبحانه وتعالى أولى بصفات الكمال من عباده، ولكن ابن تيمية لا يقصد ذلك فقط، بل يقصد التجسيم وما يقتضيه التجسيم، فقد قال بعد ذلك الكلام المقبول بانيا عليه: (وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن كون الموجود قائماً بنفسه أو موصوفاً أو أن له من الحقيقة والصفة والقدر ما استحق به إلا يكون بحيثِ غيره وأن لا يكون معدوماً بل ما أوجب أن يكون قائماً بنفسه مبايباً لغيره وأمثال ذلك هو من الأمور الوجودية باعتبار الغائب فيها بالشاهد صار على هذا الصراط المستقيم، فكل ما كان أقرب إلى الوجود كان إليه أقرب وكلما كان أقرب إلى المعدوم فهو عنه أبعد)([11])

وبذلك فإن ابن تيمية يقع في التشبيه المحض، لأنه يتصور أن الكمال في احتياج الذات إلى حيز ومقدار وأعضاء وغير ذلك مع أن الكمال الحقيقي لا يقتضي ذلك..

وبناء على هذه النظرة السطحية المادية المحدودة لله، والتي تدل على عدم قدرة العقل على التجريد والتنزيه نرى تعظيم المدرسة السلفية للعوام، واعتبار وقوعهم في التجسيم والتشبيه كمالا، وهذا خلاف ما ورد في القرآن الكريم من الدعوة للرجوع إلى الراسخين في العلم في التفريق بين المتشابه والمحكم إلا أن هؤلاء يرون العوام – أصحاب الفهوم السطحية والمحدودة – أقدر على فهم القرآن الكريم والعقيدة من غيرهم، وقد روى أبو داود عن يزيد بن هارون قوله: (من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي)([12])، وهو يقصد بذلك أن يفهم من الاستواء معنى القعود والجلوس.. فكمال المعرفة عندهم هو في هذا الاعتقاد.

وهكذا نجد تعظيمهم لمقولة فرعون التي سبق ذكرها، فقد قال أبو أحمد الكرجي: (قوله إخبارًا عن فرعون {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى}، حجة على من يزعم أن الله بنفسه في الأرض؛ حال في كل مكان، وينكر كينونته بنفسه في السماء وعلمه في الأرض. إذ محال أن يقول فرعون هذا القول إلا وقد دلّـه موسى -صلى الله عليه- أن إلهه في السماء دون الأرض. فإن كان فرعون أنكر كينونته في السماء وثبته في الأرض فقد وافق القوم فرعون في قوله. وإن كان أنكره في السماء والأرض معًا فقد خالفوا موسى -صلى الله عليه – مع خلافهم لجميع الأنبياء والناس، وأهل الملل كافة سواهم. ولا أعلم في الأرض باطلا إلا وهذا أوحش منه، نعوذ بالله من الضلالة)([13])

وقال سعد بن علي الزنجاني في شرح قصيدته في السنة: (وأخبر عن فرعون أنه قال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} وكان فرعون قد فهِم عن موسى أنه يُثبت إلهًا فوق السماء حتى رام بصرحه أن يطلع إليه، واتهم موسى بالكذب في ذلك، ومُخالفنا ليس يعلم أن الله فوقه بوجود ذاته فهو أعجز فهمًا من فرعون)([14])

وهذا يوضح لنا منهج الاستنباط الذي تعتمده المدرسة السلفية في التعرف على الله، فهي تعرض عن الآيات الكثيرة التي ذكر فيها تعريف موسى عليه السلام لربه سبحانه وتعالى، والممتلئة بالتنزيه، لتأخذ عقيدتها من مقولة فرعون التي حكاها الله عنه ليدل على سخافة عقله.

وهكذا نجد ابن القيم يذكر القصص والأساطير والخرافات التي تؤيد التجسيم ليرمى بها المنزهة، وقد سمى كتابه الذي شحن فيه كل ذلك [اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية]

ومن تلك الاستدلالات العجيبة قوله: (وفي هذا الباب قصة حمر الوحش المشهورة التي ذكرها غير واحد، إنها انتهت إلى الماء لترده فوجدت الناس حوله فتأخرت عنه فلما جهدها العطش رفعت رأسها إلى السماء وجأرت إلى الله سبحانه بصوت واحد، فأرسل الله سبحانه عليها السماء بالمطر حتى شربت وانصرفت)([15])

وهكذا نرى تعظيم أعلام المدرسة السلفية لعقيدة فرعون عندما طلب من هامان أن يبني له صرحا ليطلع إلى إله موسى، حيث نجد الاستدلال بها في أكثر كتبهم العقدية.

بل إننا نجد علما كبيرا كالشيخ حمود بن عبد الله التويجري يعتبر فرعون وغيره من الكفار الذي واجهوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل حالا من المؤمنين المنزهين لله، وقد قال في كتابه [الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة] في تفضيل فرعون وغيره على المؤمنين من الذين يؤمنون بما يقول به علم الفلك الحديث: (وقد اعترف فرعون بوجود السموات مع شدة كفره بالله، واعترف بذلك قوم شعيب ومشركو قريش فهم إذاً أخف كفراً من أهل الهيئة الجديدة)([16])

وبعد كل هذا التعظيم للعوام وغيرهم، نجد عداء السلفية للعلماء والفلاسفة والمتكلمين والصوفية ولكل طوائف المنزهة، في نفس الوقت الذي يقدسون فيه كل المشبهة والمجسمة.

وسنذكر هنا – باختصار – الشدة التي تعامل بها أعلام المدرسة السلفية مع المنزهة الذين يعتقدون بأن الله تعالى أعظم وأجل من أن يتصور، وذلك من خلال بيان مواقفهم من علماء الكلام والصوفية وعلماء الفلك:

علماء الكلام:

يعتبر علم الكلام من العلوم التي حاولت أن تمزج بين العقل والنقل، أو حاولت أن تفهم النقل على ما تقتضيه العقول السليمة.. وهو وإن جرى بين أهله بعض الاختلاف في بعض المسائل الفرعية إلا أن أصحابه جميعا سواء كانوا أشاعرة أو ماتريدية أو معتزلة أو إمامية أو زيدية متفقون على تنزيه الله عن التصور، وعن مقتضياته من الحدود والجسمية ونحوها.

وقد بذلوا جهودا كبيرة في ذلك، وخاصة بعد انتشار مذاهب المجسمة والمشبهة، ومن تلك الجهود تصحيحهم للفهوم الواردة حول النصوص المقدسة، وتبيين المراد منها وفق أساليب اللغة العربية من المجاز والكناية وغيرها، أو ما أطلق عليه [التأويل]، استنادا إلى قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]

وكل ذلك حرصا على عقائد الأمة وتنزيهها لربها، وعدم غرقها في أوحال التشبيه والتجسيم التي وقعت فيها الأمم من قبلها.

لكن كل تلك الجهود جعلتهم في مرمى سهام المجسمة الذين استعملوا كل وسائلهم المعتادة من التكفير والتضليل لكل منزه، أو داعية للتنزيه، بل وصل بهم الأمر في كثير من الأحيان إلى تحريض العوام على هؤلاء العلماء المتكلمين، وقد ثارت فتن كثيرة في التاريخ الإسلامي بسبب ذلك.

وقد ذكر الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده (395 هـ) المعاناة التي كانت تحصل للمنزهة من طرف المجسمة فقال: (ليتق الله امرؤ وليعتبر عن تقدم ممن كان القول باللفظ مذهبه ومقالته، كيف خرج من الدنيا مهجوراً مذموماً مطروداً من المجالس والبلدان لاعتقاده القبيح؟! وقوله الشنيع المخالف لدين الله مثل: الكرابيسي، والشواط، وابن كلاب، وابن الأشعري، وأمثالهم ممن كان الجدال والكلام طريقه في دين الله عز وجل)([17])

ومن تلك الحوادث ما حصل للمتكلم المعروف الفخر الرازي الذي كان له أثر كبير في مواجهة النزعة التجسيمية والانتصار للتنزيه.. وهذا ما جعل المجسمة يثورون عليه، ويحرضون عليه العوام..

ولا بأس أن نورد هنا باختصار بعض ما حدث، لنسقطه على واقع السلفية المعاصر، ولنعرف مدى الصلة بين المجسمة والعنف..

فقد ذكر المؤرخون أن الفخر الرازي دعي لمناظرة بعض الكرامية المجسمة الذين انتصر ابن تيمية لمقولاتهم التجسيمية، وبعد المناظرة، وفي اليوم التالي، قام أحدهم بالجامع، وصعد المنبر، وقال: (لا إله إلا الله، ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين، أيها الناس إنا لانقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأما علم أرسطاليس وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلانعلمها، فلأي شيء يُشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله وعن سنة رسول نبيه)، ثم بكى وضج الناس وبكى العوام واستغاثوا، وثار الناس من كل جانب، وامتلأ البلد فتنة، وكادوا يقتتلون ويجري ما يهلك فيه خلق كثير، فبلغ ذلك الحاكم، فأرسل جماعة من عنده إلى الناس وسكَّنهم ووعدهم بإخراج الفخر من عندهم وتقدم إليه بالعودة إلى هراة فعاد إليها([18]).

وقد حصلت أحداث كثيرة في التاريخ الإسلامي لا تقل عن هذه الحادثة.. ومنها تلك الحادثة التي حصلت بين القشيري وأصحابه وبين المجسمة الذين كانوا يحرضون العوام، ويستعملونهم في مواجهة علماء الأمة.

ولا بأس أن نورد هنا وثيقة مهمة كتبها أبو نصر القشيري، ووقع عليه جماعة من علماء الأشاعرة، وهي تصور لنا بعض تلك المشاغبات التي كان يقوم بها المجسمة كل حين للتحريض على العلماء، وإثارة الفتن في الأمة، لأجل حملها على التجسيم.

فمما جاء فيها: (يشهد من ثبت اسمه ونسبه وصح نهجه ومذهبه واختبر دينه وأمانته من الفقهاء وأهل القرآن والمعدلين من الأعيان، وكتبوا خطوطهم المعروفة.. أنّ جماعة من الحشوية والأوباش المتوسمين بالحنبلية أظهروا ببغداد من البدع الفظيعة والمخازي الشنيعة ما لم يتسمح به ملحد فضلاً عن موحد، ولا تجوز به، قادح في أصل الشريعة ولا معطل، ونسبوا كل ما ينزه الباري تعالى وجـل عن النقائص والآفات، وينفي عنه الحدوث والتشبيهات، ويقدسه عن الحلول والزوال.. وتناهوا في قذف الأئمة الماضين، وثلب أهل الحق وعصابة الدين، ولعنهم في الجوامع والمشاهد والمحافل والمساجد والأسواق والطرقات والخلوة والجماعات، ثم غرهم الطمع والإهمال ومدهم في طغيانهم الغي والضلال إلى الطعن فيمن يعتضد به أئمة الهدى وهو للشريعة العروة الوثقى، وجعلوا أفعاله الدينية معاصي دنية..وتمادت الحشوية في ضلالتها والإصرار على جهالتها وأبوا إلا التصريح بأنّ المعبود ذو قدم وأضراس ولهوات وأنامل، وأنه ينزل بذاته، ويتردد على حمار في صورة شاب أمرد بشعر قطط، وعليه تاج يلمع، وفي رجليه نعلان من ذهب، وحفظ ذلك عنهم، وعللوه ودونوه في كتبهم، وإلى العوام ألقوه، وأنّ هذه الأخبار لا تأويل لها، وأنها تجري على ظواهرها وتعتقد كما ورد لفظها، وأنه تعالى يتكلم بصـوت كالرعـد، وكصهيـل الخيل)([19])

فهذه الوثيقة تدل على المنهج التحريضي الذي كان يستعمله المجسمة، ولا زالوا يستعملونه.

وقد جعلت تلك الفتن بعض العلماء يتخوفون من أن يحصل لهم ما حصل للمنزهة من القتل والنفي والأذى، فلذلك كانوا يحرصون على إظهار التجسيم والإعلان به أمام الناس مخافة على أنفسهم أو سمعتهم، يقول الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي: (ولم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري، ويتبرؤن مما بنى الأشعري مذهبه عليه، وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه على ما سمعت عدة من المشايخ والأئمة، منهم الحافظ المؤتمن بن أحمد بن على الساجي يقولون: سمعنا جماعة من المشايخ الثقات قالوا: كان الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفرائيني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علمًا وأصحاباً إذا سعى إلى الجمعة من قطعية الكرج إلى جامع المنصور يدخل الرباط المعروف بالزوزي المحاذي للجامع، ويقبل على من حضر، ويقول: اشهدوا عليّ بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، كما قاله الإمام ابن حنبل، لا كما يقوله الباقلاني، وتكرر ذلك منه جمعات. فقيل له في ذلك، فقال: حتى ينتشر في الناس وفي أهل الصلاح، ويشيع الخبر في أهل البلاد أني بريء مما هم عليه -يعني الأشعرية-، وبريء من مذهب أبي بكر بن الباقلاني، فإن جماعة من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفية ويقرؤون عليه فيفتنون بمذهبه، فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة فيظن ظان أنهم منى تعلموه قبله وأنا ما قلته وأنا بريء من مذهب البلاقلاني وعقيدته)([20])

وكل تلك الفتن التي كانت تحصل بين الفينة والأخرى، والتي سجلتها كتب التاريخ، كان سببها تلك التحريضات المتشددة الذي يقوم بها أعلام المدرسة السلفية تجاه مخالفيهم.

ومن أمثلتها ما رواه ابن عبد البر عن ابن خواز منداد أنه قال في كتاب (الشهادات) في تأويل قول مالك: (لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء): (أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام، ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها)([21])

ومنها ما ذكره أبو إسماعيل الهروي الأنصاري، قال: (رأيت يحي بن عمار ما لا أحصي من مرة على منبره يكفرهم –أي الأشعرية- ويلعنهم، ويشهد على أبي الحسن الأشعري بالزندقة، وكذلك رأيت عمر بن إبراهيم ومشائخنا)([22])

وروى عن عمر بن إبراهيم قوله: (لا تحل ذبائح الأشعرية، لأنهم ليسوا بمسلمين، ولا بأهل كتاب، ولا يثبتون في الأرض كتاب الله)([23])

وقال: (وينبغي أن يتأمل قول الكلابية والأشعرية في الصفات، ليعلم أنهم غير مثبتين إلهاً في الحقيقة، وأنهم يتخيرون من النصوص ما أرادوه، ويتركون سائرها ويخالفونه)([24])

وقال ابن قدامة المقدسي في (لمعة الاعتقاد): (ومن السنة: هجران أهل البدع ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين، وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل متسم بغير الإسلام والسنة مبتدع: كالرافضة، والجهمية، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، والمعتزلة، والكرامية، والكلابية، ونظائرهم، فهذه فرق الضلال، وطوائف البدع، أعاذنا الله منها)([25])

ولم يكتف هؤلاء بالتشنيع على المتكلمين الذين راحوا يستعملوا كل الأدوات العقلية واللغوية لصيانة عقول المسلمين من أن يتسرب إليها وحل التجسيم والتشبيه، بل ذهبوا إلى أولئك المفوضة الورعين الذين دعوا إلى الكف عن البحث في أمثال هذه المسائل.

فهذا ابن تيمية يقول عنهم: (..فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد)([26])

بل إنه – كعادته في التنابز بالألقاب – يغير اسمهم من [أهل التفويض] إلى [أهل التجهيل]، فيقول: (..أما أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف يقولون إن الرسول لم يعرف معانيَ ما أنزل الله إليه من آيات الصفات..ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك…)([27])

وهذا قول عامة المدرسة السلفية من المعاصرين الذين نجدهم في كتبهم ومواقعهم يشنعون على المتوقفين في أمثال هذه المسائل، وقد قال ابن عثيمين عنهم: (التفويض من شر أقوال أهل البدع.. وإذا تأملته وجدته تكذيباً للقرآن وتجهيلاً للرسول)([28])

الصوفية:

يعتبر الصوفية من منزهة هذه الأمة الذين لم يتقبلوا تلك التشويهات التي تلقاها أهل الحديث من اليهود وغيرهم، وربما يعود ذلك لصلة مشايخهم الأوائل بالأئمة الكبار من أهل البيت عليهم السلام.. فقد كانوا تلاميذ نجباء لهم.. ولهذا نجد في التراث الصوفي الاستدلالات الكثيرة بكلمات الإمام علي أو غيره من الأئمة.. بالإضافة إلى ذلك فإنه لا تكاد تخلو سلسلة من سلاسل الصوفية من الرجوع في نهايتها للإمام علي.. بالإضافة إلى ذلك كله تلك المحبة العظيمة التي تمتلئ بها قلوب الصوفية نحو العترة الطاهرة.. ولعل ذلك ما حفظهم من الوقوع في براثن التشبيه التي وقع فيها الممتلئون بالنصب والعداوة لآل البيت الكرام، والذين آثروا أن يتولوا كعب الأحبار ووهب بن المنبه وغيرهم من أئمة التجسيم.

وهذا لا يعني أن الصوفية معصومون من الخطأ، أو أنه لم يتسرب لهم بعض التحريفات والتشويهات.. ولكن ذلك كله لا يساوي شيئا أمام ما وقع فيه المجسمة والمشبهة.

والمنهج الذي اعتمده الصوفية هو نفس ما ذكره قبلهم أئمة أهل البيت عليهم السلام من تطهير القلب ليصبح محلا للمعرفة التنزيهية.. لأن سبب التجسيم والتشبيه تلك الكدورة التي تملأ القلب بالكثافة، وذلك الران الذي يحول بين القلب وبين تجلي الحق فيه.

وبناء على هذا لم يهتم الصوفية كثيرا بالجدل للوصول إلى الحقائق كما فعل المتكلمون، ولم يهتموا بجمع الأحاديث كما فعل أهل الحديث.. بل اهتموا بتنقية القلب ليصبح أهلا لمعرفة الرب، لاعتقادهم أن الحجاب الحائل بين الروح والمعرفة أمر وهميّ عدميّ لا حقيقة له، وهو مرض القلب بأوصاف البشرية، فلو صحت لعرفت، كما عبر عن ذلك ابن عطاء الله بقوله: (اخرج من أوصاف بشريّتك عن كلّ وصف مناقض لعبوديّتك، لتكون لنداء الحقّ مجيبا، ومن حضرته قريبا)

وقد علق على هذه الحكمة الجليلة ابن عجيبة بقوله: (أوصاف البشرية: هي الأخلاق التي تناقض خلوص العبودية، ومرجعها إلى أمرين: الأول: تعلق القلب بأخلاق البهائم وهي شهوة البطن والفرج وما يتبعهما من حب الدنيا وشهواتها الفانية.. الثاني: تخلّقه بأخلاق الشياطين كالكبر والحسد والحقد والغضب والحدة وهي القلق، والبطر وهو خفة العقل، والأشر وهو التكبر، وحب الجاه والرياسة والمدح والقسوة والعطاء والفظاظة والغلظة، وتعظيم الأغنياء، واحتقار الفقراء، وكخوف الفقر وهم الرزق والبخل والشح والرياء والعجب، وغير ذلك مما لا يحصى حتى قال بعضهم: للنفس من النقائص ما للّه من الكمالات.. فإذا تخلّق العبد بهذه الأخلاق وتحقق بها ذوقا بعد أن تخلص من أضدادها، كان عبدا خالصا لمولاه حرّا مما سواه، وكان لندائه مجيبا، ومن حضرته قريبا فإذا قال له ربه: يا عبدي قال له: يا رب، فكان صادقا في إجابته لصدق عبوديته، بخلاف ما إذا كان منهمكا في شهواته الظاهرة والباطنة، كان عبدا لنفسه وشهواته، فإذا قال: يا رب كان كاذبا إذ من أحب شيئا، فهو عبد له وهو لا يحب أن تكون عبدا لغيره، وإذا تخلص من رق الشهوات والحظوظ، كان أيضا قريبا من حضرة الحق، بل عاكفا فيها، إذ ما أخرجنا عن الحضرة إلا حبّ هذه الخيالات الوهمية فإذا تحررنا منها وتحققنا بالعبودية وجدنا أنفسنا في الحضرة)([29])

وهذا الذي ذكره ابن عجيبة هو نفس ما يذكره القرآن الكريم عندما يربط الإيمان بالأخلاق والتقوى، كما يربط الجحود بمرض القلب وقساوته.

وبذلك فإن المنهج الصوفي من هذه الناحية منهج قرآني نبوي لا جدال فيه.. فبقدر صفاء القلب تزول أوهام الإلحاد والتشبيه والتجسيم..

وبناء على هذا كان الصوفية يحذرون الأمة من بضاعة المحدثين الممتلئة بالحشو والتجسيم، لأنه لا يمكن أن يعرف الله حشوي مجسم.. وقد قال جعفر الخلدي: (لو تركني الصوفية لجئتكم بأسارير الدنيا وطلبت الحديث، لقد مضيت إلى عباس الدوري من علماء الحديث فكتبت عنه مجلسًا واحدًا، ثم خرجت من عنده فلقيني بعض الصوفية، فقالوا لي: إيش هذا معك؟ فأعطيته إياه، فقال: ويحك! تدع علم الخِرَق وتأخذ علم الوَرَق؟! ثم خرَق الأوراق ومنعني أن أتابع)

وقال أبو سعيد الكندي: (كنت أنزل رباط الصوفية وأطلب الحديث في خفية، وفي يوم سقطت مني محبرة من كمي، فرآها صوفي، فقال: ويحك! استر عورتك)

وكان أبو يزيد البسطامي يقولون للمحدثين الذين انشغلوا بالرواية: أنتم أين عِلمكم؟) فيقولون: مِن فلان عن فلان عن فلان عن النبي، فيقول: أين هم؟ ماتوا كلّهم، فيقول: ما هذا العلم الذي يؤخذ من أموات؟! نحن علمنا أخذناه من الحي الذي لا يموت.

وطبعا فإن مراد الصوفية من كل هذا ليس النهي عن الحديث المجرد، فقد كانوا من أكثر الناس رواية للحديث النبوي.. وكتبهم مشحونة به.. ولكن تحذيرهم كان عن ذلك الحشو الذي مال إليه المحدثون، وملأوا به ما يسمونه كتب التوحيد والسنة وأصول الدين.

ومثلما حذر الصوفية من علم الحديث الذي امتلأ بالحشو، حذروا من علم الكلام الذي امتلأ بالجدل، وقد ذكر الشيخ محمود أبو دقيقة كلاما طيبا في الفرق بين المنهج الكلامي والمنهج الصوفي في المعرفة، فقال: (مقصود الصوفية بمعرفة الله تعالى غير مقصود المتكلمين بمعرفته، والصوفية لا ينكرون معرفة المتكلمين بل يزيدون عليها، ومعرفة الصوفية من مرتبة، ومعرفة المتكلمين من مرتبة أخرى، فمعرفة الصوفية إحسانية، ومعرفة المتكلمين إيمانية، فاخلتفا مرتبة.. ومعرفة الصوفية قلبية، ومعرفة المتكلمين عقلية فاختلفا وسيلة.. ومعرفة الصوفية عمل، ومعرفة المتكلمين علم.. ومعرفة الصوفية شهود، ومعرفة المتكلمين اعتقاد.. ومعرفة الصوفية تبدأ من القلب وتنتهى إلى الجوارح الظاهرة والباطنة فأثرها عملى، ومعرفة المتكلمين تبدأ من العقل وتنتهى إلى القلب فأثرها علمى.. ومعرفة الصوفية لله، غير معرفة المتكلمين بل وبعدها. فالصوفية بعد أن يقرون بمعرفة المتكلمين ليتحققوا بمرتبة الإيمان، يزيدون عليها بمعرفته من جهة الإحسان، فمعرفة الصوفية بعد معرفة المتكلمين، والمتكلمون يعرفونه واجب الوجود، خالقا،، صانعا، واحدا، حيا، سميعا، بصيرا، عليما، مريدا، قادرا، قديما، باقيا، مخالفا للحوادث.. والصوفية بعد أن يعرفونه كذلك يشهدون كذلك، فالفرق بينهما كالفرق بين معرفة الله بالنظر فى آثاره، ومعرفته (كأنك تراه)، وطريق معرفة الصوفية خاصة عند محققى أهل الحق)([30])

بناء على هذا، فإن المعرفة الصوفية معرفة تنزيهية متوافقة مع الرؤية الكونية القرآنية، وليس من فرق بينها وبين تنزيه المتكلمين إلا أن تنزيه المتكلمين تنزيه علمي معرفي، وتنزيه الصوفية تنزيه ذوقي عرفاني.

وقد اتفق الصوفية على هذا التنزيه الذي أشار إليه الشيخ أبو الحسن الشاذلي في قوله: (إنا لننظر إلى اللّه ببصر الإيمان والإيقان فأغنانا عن الدليل والبرهان، وإنا لا نري أحدا من الخلق، فهل في الوجود أحد سوي الملك الحق؟ وإن كان ولا بد فكالهباء في الهواء إن فتشتهم لم تجدهم شيئا)

وأشار إليه ابن عطاء الله في (لطائف المنن)، فقال: (و من أعجب العجب أن تكون الكائنات موصلة إلى اللّه! فليت شعري، هل لها وجود معه حتى توصل إليه؟ أو هل لها من الوضوح ما ليس له حتى تكون هي المظهرة له؟ وإن كانت الكائنات موصلة له فليس ذلك لها من حيث ذاتها، لكن هو الذي ولاها رتبة التوصيل، فوصلت، فما وصل إليه غير إلهيته، ولكن الحكيم هو واضع الأسباب، وهي لمن وقف معها ولا ينفذ إلى قدرته عين الحجاب فظهور الحق أجلى من كل ما ظهر، إذ هو السبب في ظهور كل ما ظهر وما اختفى إلا من شدة ما ظهر، ومن شدة الظهور الخفاء)([31])

وأشار إليه ابن عطاء الله، فقال: (كيف يتصوّر أن يحجبه شي‏ء وهو أقرب إليك من كلّ شي‏ء؟)

وهم يروون في هذا عن الإمام علي قوله: (الحق تعالى ليس من شي‏ء ولا في شي‏ء ولا فوق شي‏ء ولا تحت شي‏ء، إذ لو كان من شي‏ء لكان مخلوقا، ولو كان فوق شي‏ء لكان محمولا، ولو كان في شي‏ء لكان محصورا، ولو كان تحت شي‏ء لكان مقهورا)([32])

 ويروون أنه قيل له: يا ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أين كان ربنا أو هل له مكان؟ فتغير وجهه وسكت ساعة ثم قال: (قولكم أين اللّه سؤال عن مكان، وكان اللّه ولا مكان، ثم خلق الزمان والمكان، وهو الآن كما كان دون مكان ولا زمان)

وهكذا نجد كتب الصوفية مملوءة بتنزيه الله وتعظيمه إلى الدرجة التي يعتبرون فيها الشعور بمثلية وجودهم لوجود الله شركا، وقد قال في ذلك الشيخ أبو مدين:

الله قل وذر الوجود وما حوى

   ان كنت مرتادا بلوغ كمال

فالكل دون الله ان حققته

   عدم على التفصيل والاجمال

واعلم بأنك والعوالم كلها

   لولاه في محو وفي اضمحلال

من لا وجود لذاته من ذاته

   فوجوده لولاه عين محال

فالعارفون فنوا بأن لم يشهدوا

   شيئا سوى المتكبر المتعال

ورأوا سواه على الحقيقة هالكا

   في الحال والماضي والاستقبال

فالمح بعقلك او بطرفك هل ترى

   شيئا سوى فعل من الافعال

وانظر الى علو الوجود وسفله

   نظرا تؤيده بالاستدلال

تجد الجميع يشير نحو جلاله

   بلسان حال او لسان مقال

هو ممسك الاشياء من علو الى

   سفل ومبدعها بغير مثال

وقال:

فإذا نظرت بعين عقلك لم تجد

  شيئا سواه على الذوات مصورا

واذا طلبت حقيقة من غيره

   فبذيل جهلك لاتزال معثرا

بعد هذا التوضيح الذي اضطررنا إليه لبيان الدور الذي قام به الصوفية في حفظ عقيدة التنزيه القرآنية يتبين لنا السر الذي ألب عليهم التيار التجسيمي الذي لم يترك سبيلا لتضليلهم وتبديعهم وتكفيرهم والتحريض عليهم إلا فعله.

ومع أن ذلك واضح من خلال الكتب الكثيرة المؤلفة في تكفير الصوفية والتحذير منهم، إلا أنني سأذكر هنا نماذج من أقوال المحدثين التي لا تتعلق فقط بالشخصيات المثيرة للجدل كابن عربي والجيلي وغيرهما، بل تتعلق بشخصية معتدلة لا نجد في كتبها أي لون من ألوان الشطحات.

من تلك النصوص التي ينشرها التيار السلفي أثناء تحذيره من الصوفية قول الحافظ سعيد بن عمرو البردعى: (شهدت أبا زرعة – وقد سئل عن الحارث المحاسبى وكتبه – فقال للسائل: إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر (الحديث)، فإنك تجد فيه ما يغنيك، فقيل له: في هذه الكتب عبرة، فقال: (من لم يكن له في كتاب الله عبرة، فليس له في هذه الكتب عبرة، بلغكم أن سفيان ومالكا والأوزاعي صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس، ما أسرع الناس إلى البدع!)

وقد علق عليه الذهبي بقوله: (وأين مثل الحارث؟! فكيف لو رأى أبو زرعة تصانيف المتأخرين كالقوت لأبي طالب؟ وأين مثل القوت؟.. كيف لو رأى بهجة الأسرار لابن جهضم، وحقائق التفسير للسلمى؟ لطار لبُّه.. كيف لو رأى تصانيف أبي حامد الطوسى في ذلك، على كثرة ما في الإحياء من الموضوعات؟ كيف لو رأى الغنية للشيخ عبد القادر؟)([33])

علماء الفلك:

وهم مع عدم كونهم من علماء التوحيد ولا العقيدة، ولا علاقة لهم بالجهمية ولا الأشاعرة ولا الصوفية.. بل لا علاقة لهم بالإسلام ولا بأي دين من الأديان.. ولكنهم مع ذلك لقوا حربا شعواء من المدرسة السلفية، لأن الصورة التي أعطاها هؤلاء ـ بحسب ما دلت عليها بحوثهم ـ تختلف تماما عن الصورة التي تقوم عليها المعرفة التجسيمية لله التي يعتقدها السلفية.

وكمثال على ذلك تلك الهجمة الشرسة التي ووجه بها من يقول بأن الأرض تدور حول الشمس، والذي وصل إلى حد التكفير، ذلك أن هذه المقولة ـ بالإضافة لمخالفتها لذلك الموروث الروائي الذي استلموه من المجسمة ومن أهل الكتاب ـ تخالف ما يسمونه بأهم مسألة عقدية في تصورهم، وهي [علو الله تعالى على خلقه]، والذي يقتضي أن تكون الأرض ثابتة، والسموات السبع فوقها كالقبة عليها، ثم يكون العرش، ثم يكون الله تعالى بحسب تصورهم.. ودروان الأرض يقضي على ذلك كله.

وللأسف فإن هذه الهجمة لم تكن من لدن أناس عاديين بسطاء، بل كانت من أعلى الهيئات الدينية، ففي الفتوى رقم (15255) الموجهة لهيئة العلماء برئاسة الشيخ ابن باز ورده هذا السؤال: (أنا مدرس لمادة الجغرافيا، وحيث إنه قد ورد إلي موضوع يتعلق بدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، وحيث إنه قد سبق وأن قرأت كتابًا لسماحتكم بعنوان: (الأدلة النقلية والحسية على إمكان الصعود إلى الكواكب، وعلى جريان الشمس والقمر وسكون الأرض) حيث كان هنالك تعارض بين ما ذكرتموه سماحتكم وبين الكتاب المدرسي؛ لذا أرجو من سماحتكم إفادتي عن هذا الموضوع)

فأجابه بهذا الجواب الخطير: (يجب على مدرس الجغرافيا إذا عرض على الطلاب نظرية الجغرافيين حول ثبوت الشمس ودوران الأرض عليها – أن يبين أن هذه النظرية تتعارض مـع الآيـات القرآنية والأحاديث النبوية، وأن الواجب الأخذ بما دل عليه القرآن والسنة، ورفض ما خـالف ذلك، ولا بأس بعرض نظرية الجغرافيين من أجل معرفتها والرد عليها كسائر المذاهب المخالفة، لا من أجل تصديقها والأخذ بها)([34])

وهكذا نجد الكتب الكثيرة التي ألفت في هذا المجال، ومنها كتاب (دوران الأرض حقيقة أم خرافة) لعادل العشري، وكتاب (هداية الحيران في مسألة الدوران) لعبد الكريم بن صالح الحميد، وكتاب (الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة) للشيخ التويجري، وغيرها من الكتب.

والإشكال الأكبر هو وقوع هؤلاء في نفس ما وقع فيه رجال الدين المسيحي حينما تبنوا بعض النظريات العلمية، وربطوها بالدين، ثم حاربوا كل من يقول بخلافها واعتبار القول به هرطقة.

ونفس الشيء وقع فيه هؤلاء حين أخضعوا الحقائق العلمية القطعية للموازين الروائية الممتلئة بالأساطير والخرافات..

وكمثال على ذلك ما قاله التويجري في كتابه (الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة) عند رده لما يقوله الفلكيون من أن (الأرض سابحة في الجو معلقة بسلاسل الجاذبية وقائمة بها)، فقد قال ردا عليهم: (ونقول أما قولهم إن الأرض سابحة في الجو فهذا باطل ترده الآيات والأحاديث الدالة على سكون الأرض وثباتها. ويرده أيضاً إجماع المسلمين على ثبات الأرض وسكونها. وقد تقدم كل ذلك فليراجع وأما قولهم إنها معلقة بسلاسل الجاذبية فهذا باطل يرده قول الله تعالى (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا) وقوله تعالى (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره) فالسماء قائمة بأمر الله تعالى وإمساكه لها من غير عمد والأرض قائمة بأمر الله تعالى وإمساكه لها من غير سلاسل)([35])

ليس هذا فقط، بل إنهم ينكرون كل الحقائق العلمية الفلكية، وسنذكر نموذجا هنا لعلم من أعلام المدرسة السلفية المعاصرة، وهو يناقش بعض الحقائق العلمية الفلكية وفق الرؤية السلفية..

وهو العالم الذي زكاه كل رجال المدرسة السلفية الكبار، وزكوا كتابته هو يحي الحجوري الذي ألف كتابا سماه [الصبح الشارق على ضلالات عبد المجيد الزندني في كتابه توحيد الخالق]، وهو في الرد على كتاب في العقيدة الإسلامية يضم بعض الحقائق العلمية كأدلة على قدرة الله تعالى.

ومن تلك الردود رده على ما ذكره صاحب الكتاب من صعود البشر إلى القمر، وقد قال في رده باللهجة السلفية القاسية: (هذه كذبة بلغت الآفاق يستحق صاحبها أن يشرشر شدقه على قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه ولا يزال يفعل به ذلك كما في حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه عند البخاري رقم (7047،1386)، وهذه الكذبة صنعها أعداء الإسلام لاحتقار من سواهم من المسلمين حيث لم يستطيعوا صعود القمر ولغير ذلك من المقاصد الخبيثة، ونشرها الببغاوات كصاحبنا وأمثاله، وقد أنكرها ذلك السيف الصارم على البدع والمحدثات الشيخ حمود التويجري رحمه الله في كتابه [الصواعق الشديدة على أهل الهيئة الجديدة] وعلامة اليمن شيخنا مقبل الوادعي حفظه الله برعايته، وجعله تحت بالغ لطفه وعنايته)([36])

وقال في الرد على تسمية الأرض كوكبا: (وقد رد هذا الإدعاء ودحض هذا الافتراء الشيخ محمد بن يوسف الكافي فقال رادًا على بعض أشياع محمد عبده المصري: قوله: (هي كوكب) كذب وافتراء على الله تعالى من سماها كوكبًا لأن الله تعالى الذي خلقها سماها أرضًا، والكوكب هو النجم ومحله العلو ومن صفاته الإضاءة والإشراق والأفول والطلوع والأرض بخلاف ذلك. ونقله عنه الشيخ حمود التويجري رحمه الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنته في كتابه (الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة)، وقد نقل الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره (ج1 ص69): عدم الخلاف أن الأرض خلقت قبل السماء بما في السماء من نجوم وغيرها)([37])

وقال في الرد على ما يذكره الفلكيون من المجرات وكثرتها: (هذا كله مبني على الهوس والوساوس الإبليسية والتقليد والثقة بأعداء رب البرية من ذوي الملل والنحل اليهودية والنصرانية ليزاحموا بِهذه التخرصات علوم الكتاب والسنة النبوية فشغلوا بذلك السذج من أبناء المسلمين والذين لا يهمهم أمر هذا الدين فيبقون على هذه التراهات عاكفين وبِها معجبين ومفتخرين، فيقتلون فيها الأوقات ويضلون بِها العامة وأشباههم من ذوي الجهالات فيغضبون بذلك رب الأرض والسموات)([38])

وقال في الرد على ما يذكره الفلكيون من دوران الأرض: (ومسائل السماء والأرض والعرش والكرسي واللوح والقلم والميزان والصراط و… الكلام فيها يعتبر من باب الاعتقاد فالذي يعتقد أن الأرض تدور وتتحرك يجب عليه أن يلتمس لهذا القول دليلاً من القرآن والسنة وإلا كان صاحب معتقد فاسد لا يعتمد على دليل عن الله ورسوله وأنى لصاحب هذا القول الدليل فدون ذلك خرط القتاد وإنما هي الشُّبه)([39])

ولهذا فإن هذه المدرسة كانت من أكبر من وقف في وجه الحضارة الإسلامية، ووجه علمائها الكبار، حين حجروا العلم على ما كانوا يمارسونه مما يسمونه علما.

يقول ابن تيمية: (جماع الخير أن يستعين بالله سبحانه في تلقي العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه هو الذي يستحق أن يسمى علماً، وما سواه إما أن يكون علما فلا يكون نافعاً، وإما أن لا يكون علماً وإن سمي به، ولئن كان علماً نافعاً فلا بد أن يكون في ميراث محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يغني عنه مما هو مثله وخير منه)([40])

وقال ابن رجب: (فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث.. في ذلك غاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم النافع اشتغل)([41])

وقال ابن القيم: (كما هي عادته سبحانه وسنته في عباده إذا أعرضوا عن الوحي، وتعوضوا عنه بكلام البشر، فالمغرب لما ظهرت فيهم الفلسفة والمنطق واشتغلوا بها استولت النصارى على أكثر بلادهم وأصاروهم رعية لهم، وكذلك لما ظهر ذلك ببلاد المشرق، سلط الله عليهم التتار فأبادوا أكثر البلاد الشرقية واستولوا عليها، وكذلك في أواخر المائة الثالثة وأول الرابعة لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد سلط الله عليهم القرامطة الباطنية، فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات واستولوا على الحاج واستعرضوهم قتلاً وأسراً)([42])

 وهكذا نجد المعاصرين من هذه المدرسة يرددون نفس تلك الكلمات، ويتبرؤون من كل الأعلام الذين أنجبتهم الحضارة الإسلامية، بل يكفرونهم..

ومن الأمثلة على ذلك رسالة تنتشر بكثرة على مواقع النت كتبها الشيخ ناصر بن حمد الفهد، وسماها [حقيقة الحضارة الإسلامية]، وعرفها بقوله: (هذه المذكرة جواب عمَّن جعل حضارة الإسلام هي النبوغ في علوم الفلاسفة والملاحدة وجعلها هي تشييد المباني وزخرفة المساجد، وجعل علماء الإسلام هم الملاحدة كابن سينا والفارابي ونحوهم)

وقد جاء في مقدمتها قوله: (إن الحضارة الإٍسلامية الصحيحة هي التي وجدت في القرون المفضلة، في وقت الصحابة والتابعين، وأئمة الدين، فريق الهدى، وأشياع الحق، وكتائب الله في أرضه، الذين بلغوا من الدين والعلم والقوة غاية ليس وراءها مطلع لناظر، ولا زيادة لمستزيد، ففتحوا البلدان، وشيدوا الأركان، ودانت لهم الأمم، وتداعت لهم الشعوب.. فَمن كان مفاخراً فليفاخِرْ بهم، ومن كان مكاثراً فليكاثرْ بهم، فدينهم هو الدين، وعلمهم هو العلم. مكّن الله لهم في الأرض ففتحوا الدنيا وحكموا العالم في مدةٍ لا يبلغ فيها الرضيع أن يفطم، قال الذهبي رحمه الله تعالى: (واستولى المسلمون في ثلاثة أعوام على كرسي مملكة كسرى وعلى كرسي مملكة قيصر، وعلى أمَّي بلادهما، وغنم المسلمون غنائم لم يسمع بمثلها قط من الذهب والحرير والرقيق فسبحان الله العظيم الفتاح)([43]).. لذلك فاعلم أن الدين ما انتهجه السلف، والعلم ما طلبوه، وما سوى ذلك فلا خير فيه)([44])

ثم راح بعدها يعد أسماء العلماء الكبار الذين أسسوا للحضارة الإسلامية، بل أمدوا البشرية بالمعارف الكثيرة التي ساهمت في الحضارة الحديثة، ويرميهم جميعا بالكفر والزندقة.

فينقل عن ابن تيمية عند ذكره لجابر بن حيان قوله: (وأما جابر بن حيان صاحب المصنفات المشهورة عند الكيماوية فمجهول لا يعرف وليس له ذكر بين أهل العلم والدين) ([45] ويعقب عليه بقوله: (ولو أثبتنا وجوده، فإنما نثبت ساحراً من كبار السحرة في هذه الملة، اشتغل بالكيمياء والسيمياء والسحر والطلسمات، وهو أول من نقل كتب السحر والطلسمات)([46])

وينقل عن (محمد بن موسى الخوارزمي): (وهو المشهور باختراع (الجبر والمقابلة)، وكان سبب ذلك كما قاله هو المساعدة في حل مسائل الإرث، وقد ردّ عليه شيخ الإسلام ذلك العلم بأنه وإن كان صحيحاً إلا أن العلوم الشرعية مستغنية عنه وعن غيره([47]).. والمقصود هنا: إن الخوارزمي هذا كان من كبار المنجّمين في عصر المأمون والمعتصم الواثق، وكان بالإضافة إلى ذلك من كبار مَنْ ترجم كتب اليونان وغيرهم إلى العربية)([48])

وهكذا لا يترك عالما من العلماء إلا وكفره أو بدعه وفسقه..

وللأسف فإن هذه الرسالة تنتشر بقوة على النت، وبالصيغ المختلفة، ولعلها ترجمت للغات أجنبية لتمحو كل ما بقي لهذه الأمة من أمجاد تباهي بها سائر الأمم.


([1])     جواهر القرآن (ص: 26).

([2])   مجموع فتاوى ابن عثيمين 1/194 وانظر المحاضرات السنية لابن عثيمين 1/232

([3])     التمهيد (7/145).

([4])     العلو (ص: 1326).

([5])     منهاج السنة النبوية 2/225.

([6])    منهاج السنّة: 1 / 180.

([7])    بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 364)

([8])    بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 370)

([9])    بيان تلبيس الجهمية:1/101.

([10])    بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 350)

([11])   المصدر السابق 327-328

([12])     مسائل الإمام أحمد ص15ـ واحتج به البخاري في خلق أفعال العباد.

([13])     نكت القرآن لأبي أحمد الكرجي القصاب (ج3 ص567-568).

([14])     اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية لابن القيم الجوزية (ص197-198).

([15])     اجتماع الجيوش الإسلامية ص296-297.

([16])     الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص: 143).

([17])   طبقات الحنابلة (4/424).

([18])     الكامل 10/262 وانظر البداية والنهاية لابن الأثير 13/19.

([19])     تبيين كذب المفتري ص 311 ..

([20])   نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في درء التعارض (2/95-98).

([21])   نقله عنه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/943).

([22])   ذم الكلام وأهله (4/411).

([23])   ذم الكلام وأهله (4/413).

([24])   رسالة السجزي إلى أهل زبيد (ص173).

([25])   لمعة الاعتقاد (ص200).

([26])   درء التعارض 1/205

([27])   مجموع الفتاوى 5/34

([28])   المحاضرات السنية 1/67

([29])     إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 114.

([30])     القول السديد فى علم التوحيد، الشيخ محمود أبو دقيقة: 1/ 60.

([31])     نقلا عن: إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 81.

([32])     نقلا عن: إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 82.

([33])     ميزان الاعتدال: 1/ 431..

([34])     فتاوى اللجنة الدائمة، لجزء رقم: 26، الصفحة رقم: 415.

([35])     الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص: 58).

([36])     الصبح الشارق على ضلالات عبد المجيد الزندني في كتابه توحيد الخالق97.

([37])     الصبح الشارق: 192.

([38])     الصبح الشارق: 196.

([39])     الصبح: 210.

([40])     مجموع الفتاوى (10/ 664)

([41])     بيان فضل علم السلف على الخلف» (6).

([42])     إغاثة اللهفان: 2/602.

([44])     حقيقة الحضارة الإسلامية ص3.

([45])     مجموع الفتاوى 29 / 374.

([46])     حقيقة الحضارة الإسلامية ص11.

([47])     انظر ( مجموع الفتاوى ) 9 / 214 – 215.

([48])     حقيقة الحضارة الإسلامية ص11.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *