موالد.. وموالد

موالد.. وموالد

هناك ظاهرتان واضحتان أراهما في زعماء التشدد في التاريخ الإسلامي تحتاجان إلى محللين نفسيين لإبراز منبعهما النفسي:

أما الأولى، فهي ذلك الاستعلاء والتكبر على المستضعفين من المسلمين أو غير المسلمين إلى درجة رفض الحوار والتعايش، بل الدعوة إلى إلغائهم واستئصالهم.

وأما الثانية، فهي ذلك الخنوع، وتلك الذلة أمام المستكبرين، سواء كانوا حكاما أو رجال أعمال أو أي شخص يستلم أي مسؤلية، أو تناط به أي مهمة.

والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصى، وربما تحدثنا عن بعض هذا سابقا.. وربما سنتحدث عنه لاحقا.

وكمثال على ذلك نذكره اليوم قصة حصلت معي، وربما حصلت معكم، ومن لم تحصل معه، يمكنه أن يذهب إلى التراث الكبير لهؤلاء ليراها بعينه.. وإن لم يكن من هواة المطالعة، فيمكنه أن يشاهدها على القنوات التلفزيونية الدينية الكثيرة التي صارت حكرا على هؤلاء المتشددين.

كنت ذات يوم أسير مع قافلة كانت تصحب بعض المشايخ الذين وفدوا إلى قريتي.. واهتزت القرية لحضورهم.. لا لشيء، سوى أن هذا الشيخ قدم من دولة تحتضن الحرمين الشريفين.. وقد تصور الناس أنهم بالتمسح بهم أو السير معهم سينالون بركات الحرم وأنواره..

كان الشيخ ينظر إلى المحلات، فيعجبه بعضها، وينتقد بعضها، ويسخر من بعضها بتعال وكبرياء أثارت حفيظة بعض الناس، فغادر القافلة متأففا متضجرا.. لكني – ولبلادة طبعي – بقيت.. لعلي أرى مشاهد أخرى.. فقد تعودت على أمثال تلك المشاهد، ولم تعد تؤثر في.

فجأة مررنا على مسجد يحتضن رفاة ولي من أولياء الله – كما يعتقد أهل القرية – وكان الناس متجمعين داخله، وخارجه ينشدون القصائد بفرح وسرور..

سأل الشيخ عن سر هذا التجمع، وسر تلك الأناشيد، فانبرى إمام القرية، وقال له: هذه تجمعات لبعض الصوفية الذين يفدون من كل البلاد، وفي مناسبات مختلفة إلى هذه القرية، لإحياء ذكرى شيخهم، وهم يتذاكرون فيها، وينشدون القصائد، ويكتسبون أفرادا جددا.. بالإضافة إلى ما يقام في تلك المناسبات من ولائم، وهي كلها مما ترغب فيه النفس، ويميل إليه الطبع، وهي بذلك تعطي شحنات إضافية للسالك الصوفي يتزود منها مدة طويلة.

وقال آخر: ويصحب ذلك بعض الرخاء الاقتصادي الذي تعيشه القرية.. فهي كما تراها منعزلة.. ليس فيها موارد رزق تكفي سكانها.. ولذلك تساهم هذه الموالد في تنشيط الحركة الاقتصادية.. وربط القرية بمحيطها الاجتماعي.

قال آخر: بالإضافة إلى هذا، فإن لهذه الموالد كثيرا من الآثار الاجتماعية، فهي تربط المجتمع بعضه ببعض، بل تربط المجتمع بتاريخه وثقافته والرجال الذين يميل إلى تقديسهم.. وهي تساهم في تشكيل الهوية، والحفاظ عليها.

أراد آخر أن يتحدث.. فانتهره الشيخ بقوة، وراح يخطب بحماسة، وكأنه ليس ضيفا، ولا في بلدة أخرى لها أعرافها وتقاليدها..

وقف في ذلك المحل يقول: أنتم فقط تهتمون بالجانب الاقتصادي والاجتماعي متغافلين عما يحدث فيها.

قال رجل منا: وما يحدث فيها؟

قال الشيخ: ألم تروا إلى ما يركب فيها من فواحش ومحرمات؛ وما يهتك فيها من أعراض وحرمات؟

قال الإمام: مهلا يا شيخ.. نحن لم نر شيئا من ذلك.. فنحن الذين نقوم بتنظيم هذه الموالد.. وليس فيها ما ذكرت.. وإن حصل وأساء بعض الناس الأدب.. فذلك شأنه.. ولا يمكن أن نلغي عملا خيريا من أجل إساءة من بعض الناس.

غضب الشيخ غضبا شديدا، وراح يقول: (ما من صاحب دعوة إلا ويحرص على تأييد دعوته بما يقدر عليه من جمل وألفاظ ودلائل، حتى يضمن قبولها ورواجها.. ولا نجد في أصحاب الدعوات من يحرص على صدق جمله وصحة دلائله، إلا إن كان يدعو إلى اتباع السنة وتقليد السلف، فهو الوحيد الذي يحرص على الصدق والصحة في كل ما يتلفظ به، يحرص أن يكون كما هو ظاهرا وباطنا.. بخلاف أهل الأهواء والبدع وأهل الفساد والتخريب، فإنهم يرفعون شعار الإسلام وهم يهدمونه.. ويرفعون شعار السنة وهم يخالفونها.. ويدعون اتباع السلف وليس كذلك.. وفي سبيل تدعيم مذاهبهم الباطلة الزائغة يوردون الكلام الكثير والأدلة المتنوعة، التي لا تصحح مذهبهم ولا تعطيه الشرعية)([1])

قال الإمام: مهلا يا شيخ.. فنحن نحترمك لعلمك.. وللبلدة التي جئت منها.. ولكن لا يحق لك أن تتهمنا من غير بينة.. فإن كنت قد رأيت منكرا، فأخبرنا حتى نغيره..

قال الشيخ: نفس الموالد بدعة.. حتى مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدعة.. وليس هناك مولد في الأرض إلا وهو بدعة.. السنة فقط في اتباع السلف الذين ما عرفوا هذه الضلالات، ولا شموا روائح هذه المنكرات، ولا حدثت بينهم هذه الحادثات..

ثم راح يصرخ في الجموع الذين حضروا المولد بقوة وتعال وكبرياء: (يا قومنا، أجيبوا داعي الله، ولا تجيبوا داعي الشيطان.. يا قومنا إن أصول هذه المنكرات مفسدة للعقيدة، وإن فروعها مفسدة للعقل والمال، وإنكم مسؤولون عند الله عن جميع ذلك.. يا قومنا إنكم تنفقون هذه الأموال في حرام وإن الذبائح التي تذبحونها حرام لا يحل أكلها، لأنها مما أهل به لغير الله؛ فمن أفتاكم بغير هذا فهو مفتي الشيطان، لا مفتي القرآن)([2])

بمجرد أن انتهى من خطبته الحماسية رن هاتفه، فنظر في اسم المتصل، فأصابته رجفة، وكأن زلزالا نزل به.. قربه من أذنه، وراح يقول: حاضر سيدي.. أنا في خدمتك.. وبخصوص مولد مولانا الملك.. فقد أعددت لذلك قصيدة رائعة، لا شك أنها ستعجبه.. وقد كلفت نائبي بأن يحضر لذلك حفلا دعوت له الأعيان وأهل العلم من كل ربوع المملكة.. لا تقلق بهذا الشأن، فقد أمرت بجلب أحسن أنواع اللحوم من كل الأصناف، وأمرت الطباخين بتجهيز أحسن الولائم.. وبصفتي المسؤول الرسمي عن الاحتفالات الملكية، فقد حضرت كل ما يرتبط باليوم الوطني للمملكة.. وبيوم النخلة.. وبيوم بناء مولانا الملك لقصره الجديد، وبمناسبة زواج ابنه.. كل ذلك محضر عندي.. لكن فقط لا تنسوا أن ترسلوا لنا بما طلبناه منكم من أموال.. فالميزانية التي خصصتموها لهذه السنة تكاد تنفذ.. وأنت تعلم أنه لا يمكن إجراء مثل هذه الموالد من دون أموال.

قال ذلك، ثم ابتسم ابتسامة عريضة للملتفين حوله، وقال: هذا اتصال جاءني من رئيس الديوان الملكي، ولا يمكنني أن أؤجل الحديث معه.

ثم قال: فيم كنا نتحدث؟

قالوا: عن الموالد؟

قال: مولد من؟

قالوا: مولد هذا الولي الذي قدم الناس لأجله.

قال: آه.. تذكرت.. اعذروني.. لقد بدأ الزهايمر يزورني مبكرا.. نعم.. هذه بدعة.. هذه ضلالة.. هذا كفر.. هذه زندقة.. هذه هرطقة..

وظل يردد ذلك إلى أن قلنا: ليته سكت.


([1])  رد شبه المولد النبوي وتسويغهم له (ص: 2).

([2]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 322)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *