مهدي السنة.. ومهدي الشيعة

مهدي السنة.. ومهدي الشيعة

من القضايا التي تثار كثيرا، وبأساليب متعددة: قضية المهدي، ووجوه الخلاف بين السنة والشيعة حوله.. وهل هو من نسل الحسن أو من نسل الحسين؟.. وهل هو حي يرزق، أو لا يزال لم تلده أمه بعد؟.. وهل سينشر عدله على الأرض جميعا، أم أن عدله سيقتصر على بقعة محدودة من الأرض، وفي زمن محدود؟.. وأشياء من هذا القبيل.

ومع أني من مدرسة تحاول أن تردم الفجوات بين مذاهب الأمة المختلفة، لتقرب بينها، وتحل الصفو بدل الكدر، والمحبة بدل العداوة إلا أنني في هذه المسألة خصوصا أذهب خلاف ذلك المذهب، لأني أرى من خلال تأملي في الواقع الفكري والمادي للسنة والشيعة، وتعاملهما مع هذه المسألة أن الفرق بينهما جوهري، وليس عرضيا، حتى كأن مهدي الشيعة كائن مختلف تماما عن مهدي السنة، وإن كان اسمهما ولقبهما ودورهما واحد في نظر كليهما.

وقبل أن أشرح وجهة نظري هذه أحب أن أورد حكاية بسيطة معروفة قد تساهم في توضيح الفرق بين نظرة كلا المدرستين لهذه الشخصية التي تكاد تكون محل اتفاق بينهما من حيث الشكل، وإن كانت تختلف بينهما من حيث المضمون.

والقصة هي قصة نيوتن مع التفاحة، والتي جلب انتباهه سقوطها إلى الأرض، وعدم سقوطها في جهة أخرى غير جهة الأرض، وقد أوحى له ذلك الاهتمام والتساؤلات التي جرها إلى اكتشاف قوانين الجاذبية، وقوانين أخرى ساهمت في نشأة الفيزياء المرتبطة بنيوتن وتفاحته، والتي ساهمت بعد ذلك في الثورة الصناعية الكبرى، والتي استطاعت بعد ذلك كله أن تخرج أوروبا من عصور التخلف لتزج بها في عصر النهضة الحديثة.. ولا تزال أوروبا والعالم أجمع ينعمان ببركات تفاحة نيوتن إلى يوم الناس هذا.

من فهم هذه القصة يمكن أن نتصور الفرق الأساسي بين مهدي السنة ومهدي الشيعة.. فمهدي السنة ليس سوى تفاحة بسيطة سقطت في يوم من الأيام من أعلى الشجرة، فاختلطت بتراب الأرض، ولم يبق لها وجود ولا قيمة ولا أي تأثير عدا تنعم أفراد النمل التي أحاطت بها، وتغذت بها أياما معدودة.

أما مهدي الشيعة، فعكس ذلك تماما، لأنه مشروع كامل للإنسان يدخل في جميع أجزاء حياته، فبركات المهدي عند الشيعة لا يتنعم بها أهل عصره فقط، بل تتنعم بها كل العصور، لأنه يعيش في كل العصور.. ولذلك نجد من ألقابه عندهم [إمام العصر والزمان]

فهو عندهم أشبه بالشمس التي حجبها الغمام، فهم يتنعمون بها من خلف الغمام، ويعملون كل جهدهم ليزيحوا ذلك الغمام لتبدو الشمس منيرة للعالم كله، فتحجب بطلعتها البهية كل ظلمة، وتزيل كل عناء، وترفع كل جور.

مهدي السنة نبوءة تاريخية، تتعلق بفرد من الناس يظهر في زمن من الأزمنة ليتنعم بعدالته من عايشوه.. أما مهدي الشيعة فحياته ممتدة في جميع الأجيال، لأن دوره فيها جميعا هو استنهاض الهمم لتشكيل الإنسان الكامل، والمجتمع العادل، والمدنية الفاضلة.

قد يضحك السنة ملء أفواههم على مهدي الشيعة المخبأ في السرداب كما يتصورون.. وكذلك يضحك الشيعة على مهدي السنة الذي لا يكاد يوجد، وإذا وجد لا يكاد يؤثر، فلا أحد من الناس يتحدث عنه، ولذلك فإن سراديب النسيان والغفلة التي أودع السنة مهديهم فيها أخطر من كل ألوان السراديب.

في كل صباح يتمثل الشيعي إمامه المهدي الغائب، ويمد يديه وروحه له بالبيعة قائلا: (اللـهم إني أجدد له في صبيحة يومي هذا وما عشت من أيامي عهدا وعقدا وبيعة له في عنقي، لا أحول عنها ولا أزول أبدا، اللـهم اجعلني من أنصاره وأعوانه والذابين عنه والمسارعين إليه في قضاء حوائجه، والممتثلين لأوامره والمحامين عنه، والسابقين إلى إرادته والمستشهدين بين يديه) وهو بذلك يهيء نفسه بهذا الدعاء لنصرة المهدي إن ظهر، ويهيء نفسه للتحضير لظهوره إن طال غيابه.

بينما لا يجد السني أي مهدي يمد يده إليه، فلذلك قد تمتد يده بالبيعة لأي دجال من الدجاجلة، أو مستبد من المستبدين، أو ظالم من الظلمة، أو حتى مشعوذ من المشعوذين، ولهذا لا نستغرب أن يكثر ادعاء المهدوية في المدرسة السنية، بينما لا يتجرؤون على ادعائها في المدرسة الشيعية.

ولا يكتفي الشيعي بمد يديه بالبيعة لإمامه المنتظر، وإنما يتمثل في كل صباح، بل في كل لحظة مشروع الحكومة الإلهية التي يمثلها ويحملها إمامه المهدي، فيقول بكل أشواقه: (اظهر اللهم لنا وليك وابن بنت نبيك المسمى باسم رسولك حتى لا يظفر بشيء من الباطل إلا مزقه، ويحق الحق ويحققه، واجعله اللـهم مفزعا لمظلوم عبادك، وناصرا لمن لا يجد له ناصرا غيرك، ومجددا لما عطل من أحكام كتابك، ومشيدا لما ورد من أعلام دينك وسنن نبيك صلى الله عليه وآله)، فهذا الدعاء مشروع متكامل يلخص الدور الرسالي الذي يقوم به المهدي في نظر الشيعي، بينما لا يجد أخوه السني أمامه أي دعاء من هذا النوع، فيستسلم لكل التوجهات والحركات والتيارات التي تحمل مشاريع ممتلئة بالتناقض..

بالإضافة إلى هذه الفروق، فإن هناك فرقا نفسيا خطيرا لا يقل أهمية عما سبق، وهو مرتبط بالأمل، أو بما يسميه الشيعة انتظار الفرج، ولهذا يقولون عند ذكر مهديهم: (اللهم عجل فرجه الشريف)، وهم يقصدون فرجهم، وفرج الأمة جميعا، لأن علامة فرج الأمة ـ كما اتفق عليه الفريقان ـ هو ظهور هذا الإمام، وهم موقنون بهذا الفرج، لأنهم يرون حياة صاحبه، ولهذا إذا أصاب الشيعي أي مكروه، أو رأى أي انحراف، لا يحزن ولا يتألم لأنه يعلم أن الفرج قريب، وأن إمامه حاضر، وأنه لا يفصله عن تحقيق مشروعه إلا بعض الزمن القصير.. أما السني فلا يجد لتفريج كربه أي أمل.. لأن الذين رسموا له نهاية التاريخ رسموها بصورة مشؤومة ممتلئة بالكآبة والإحباط، فأيام المهدي أيام معدودة، ومشروعه ليس سوى فلتة من الزمن، لا علاقة لها بالماضي، ولا بالمستقبل.

هذه خلاصة الفروق بين مهدي السنة ومهدي الشيعة، ولهذا استطاع الشيعة أن يشكلوا مشروعهم الكبير، وأن يتمدد مشروعهم في العالم أجمع.. بينما وقف السنة ضاحكين ساخرين.. ولكن بلا مشروع، ولا هوية، ولا مجرد بصيص من الأمل يحققون به ما يحلمون به من نصر الله.

فلذلك هم يحتاجون إلى القيام بتعديلات جوهرية حول النظر لمهديهم، ويخرجوه من سراديب الغفلة والنسيان والإعراض التي وضعوه فيها، ويخرجوا أنفسهم من الصراع على الزعامات التي شتتتهم وفرقت صفهم.

وإن كان لهم بعض التواضع، فأنصحهم أن يتعالوا عن الخلافات الفرعية التي تفرق بينهم وبين إخوانهم من الشيعة في هذا المجال، فيجعلوا لمهديهم وجودا ولو رمزيا في أذهان الناس ومشاعرهم، وسيرون كيف يلتف الناس حولهم، وكيف ينهضون، لأن من طبيعة البشر ألا يستسلم إلا للمقدس، وألا يخضع إلا للمعصوم.. وما داموا يدنسون مهديهم بالاحتقار والإعراض، فإن جزاءهم سيكون الاحتقار والإعراض.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *