مناظرة فاشلة

من منطلق قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] كنت أتابع باهتمام المناظرات التي تجري أحيانا بين علماء المسلمين، ورجال الدين من المسيحيين، ولكني لم أكن أحلم أبدا أن أكون أنا في اليوم من الأيام طرفا في هذا الحوار.. وطرفا فاشلا فيها.
لقد كانت فرصة عظيمة أتيحت لي في الجامعة التي أعمل بها، وفي قسم مقارنة الأديان.. فقد زار بلدتنا بعض رجال الدين المسيحي من العرب، وراح يطلب من الجامعة بكل ثقة مناظرة علمية حول مدى التحريف الذي أصاب القرآن الكريم، وأنه لذلك ليس كلمة الله الأخيرة للبشرية.
وقد كان الموضوع سهلا بالنسبة لي، فلم أحتج إلى تحضير كثير، بل اكتفيت بمراجعة بعض ما كتبته في كتابي (الكلمات المقدسة) الذي خصصته لهذا الغرض.
وجاء اليوم الموعود، وحضر الناس، وبدأت في الحديث حول ما حفظ الله به كتابه من التغيير والتبديل والتحريف.. واستدللت لذلك بالوثائق التاريخية الكثيرة..
وعندما جاء دوره، قال لي، أو للجمهور: أنا ليس من طبعي أن أكثر الحديث في التفاصيل.. أنا أحب فقط أن أدلي بالبينة بسهولة ويسر ليفهمني جميع الناس.. فأجبني بكل صراحة عن كل سؤال أسألك إياه.
قلت: أنا حاضر.. فاسأل ما بدا لك.
تصورت في البداية أنه سيسألني عن بعض الشبهات التي يوردها المبشرون والمستشرقون واللادينيون، والتي عفا عليها الزمن، وحفظت الردود عليها كما أحفظ السورة من القرآن.. لكني فوجئت أنه يسألني أسئلة لا علاقة لها بكل ذلك.. فعلمت أنه يخطط لفخ يريد أن يوقعني فيه.
قال لي: أليس الإقرار أعظم الأدلة؟
قلت: بلى.. ولكن ما تقصد؟
قال: أرأيت إن أتيتك بشهادات العقلاء والعلماء من أهل دينك على تحريف القرآن أكون بذلك قد برهنت البرهان الكافي على التحريف؟
لم أدر ما أقول، فأنا أعلم أني لو قلت له: لا أقبل ذلك.. فسيغلبني، لأننا نحن أيضا نستدل على ما وقع في الكتاب المقدس من التحريف بشهادات البروتسنت واختلاف النسخ في الكتاب المقدس ونحو ذلك.
وإن قبلت.. فسأصدم أيضا.. لأني لا أدري ما الذي يخطط له.
لم أدر إلا وأنا أقول من غير أن أشعر: أجل.. فعلماء المسلمين هم الذين يمثلون الإسلام.. ولكن أنت تعلم أن في المسلمين مذاهب وطوائف..
قال: لا بأس.. أنا أراعي هذا.. فأخبرني ما هي الطوائف الكبرى في المسلمين، والتي يمكن الاستناد إليها، والاعتماد على أقوالها.
قلت: الطائفتان الكبيرتان في المسلمين – كما تعلم – هما السنة والشيعة.
قال: جيد جدا.. إذن لو أني أثبت لك بأن السنة والشيعة كلاهما يقولان بتحريف القرآن.. فهل تسلم لي؟
لم أدر ما أقول.. وما الذي يخطط له.. فقد فاجأني بما لم أحضر له نفسي..
لكني مع ذلك، وبحكم سلامة فطرتي في ذلك الحين من النزاعات الطائفية التي أصابت المسلمين في مقاتلهم، قلت: لا بأس.. فأنا على ثقة من أن القرآن الكريم متواتر، وأن ذلك متفق عليه عند المسلمين جميعا.
نظر إلي، وقال: أظن أن معلوماتك لا تزال قديمة.. أو أظن أنك إنسان كلاسيكي لا تزال تتعلم من الورق فقط.. أو أنك لا تعرف عالم النت، وعالم القنوات الفضائية.
قلت: وما علاقة ذلك بما نحن فيه؟
قال: إن أبسط إنسان متابع لهذه الوسائل العصرية يخبرك بأن المسلمين مختلفون في تواتر القرآن وعدم تحريفه.
قلت: هذا مستحيل.. لدي آلاف الشهادات من جميع طوائف المسلمين تثبت أن القرآن الكريم الذي بين أيدينا هو نفسه الذي أوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: لن أتكلم أنا كما ذكرت لك.. بل سأترك رجال دين مسلمين يتحدثون بدلا عني.
التفت لعلي أرى هؤلاء العملاء الخونة الذين يتحدث عنهم، لكني لم أجد أحدا.
نظر إلي بسخرية، وقال: لقد ذكرت لك أنك لا تزال تعيش في القرون الوسطى.. ثم أخرج فلاشة صغيرة من جيبه، وقال: العلماء الذين أتحدث عنهم موجودون هنا.
ثم بادر ووضع الفلاشة على الجهاز، وربطها بشاشة كبيرة، ثم قال: ها أنا المسيحي المسالم قد تركت حصتي من المناظرة لكم أنتم أيها المسلمون.. فإن شئت أن تجيبهم، فأجبهم بدلا عني.
لقد أحضرت علماء من كلا الطائفتين الكبيرتين كلاهما يذكر عن الطائفة الأخرى أنها تقول بتحريف القرآن، فإن جمعنا بينهما، فهذا يعني بالضرورة أن المسلمين متفقون على تحريف القرآن.
بدأ الشريط، وقد ظهر فيه جمع من علماء المسلمين بعضهم يرتدي عمة أزهر مصر، وبعضهم يرتدي عمة أزهر لبنان، وآخرون يرتدون ملابس الهنود والباكستانيين والسعوديين وغيرهم.. وكان الكل عليه سيما العلماء ووقارهم.
وتكلم الجميع.. وكانت الأحقاد بادية على وجوههم، وفي ثنايا الألفاظ التي ينطقون بها، فقد كانوا كلما ذكروا كلمة (رافضة) يعقبونها بكلمات مثل (الخبثاء.. المجرمون.. الكفار.. الزنادقة.. أخبث الأمم.. الأراذل).. وألقاب أخرى كثيرة أنزه لساني عن ذكرها.
وقد حاول الجميع بكل طرق الاحتيال أن يلبس الشيعة القول بتحريف القرآن.
بعد أن انتهى من استعراض الشريط، أردت أن أتحدث وأقول بأن هؤلاء كذبة وليسوا علماء، وأن أكبر علماء الشيعة على مدار التاريخ يشهدون على سلامة القرآن من التحريف، وأن القرآن الذي يتلونه هو نفسه القرآن الذي يقرؤه كل المسلمين.. وأن كبار علماء السنة يشهدون لذلك أيضا.
لكنه لم يتح لي الفرصة.. بل قال لي: لا تتصور نفسك أكبر من هؤلاء العلماء.. فلولا أنهم ثقاة ومقبولون عند المسلمين لما كانت لهم كل تلك المناصب..
ثم نظر إلي باحتقار، وقال: أنت أيها النكرة.. لست سوى رويبضة بالنسبة لهم.. أخبرني ما هي القنوات التي استضافتك لتمثل علماء المسلمين؟
سكت.. فأنا أعلم أني لم أدل بتصريح واحد في حياتي لقناة واحدة لا تلفزيونية ولا أرضية.. ولا حتى إذاعة.
قال: فأخبرني في أي مؤسسة علمية رسمية انتميت أو رأست؟
قلت: أنا أستاذ متخصص في هذه الجامعة.. ألا يكفي هذا؟
قال: هناك مئات الآلاف مثلك.. وهم متواضعون.. ويستفيدون من هؤلاء المشايخ الذين تريد أن ترفع نفسك إلى مكانهم.
أردت أن أتحدث، فقال لي: سمعنا الطرف الأول، وهم أهل السنة الذين أثبوا أن الشيعة يقولون بتحريف القرآن.. والآن هيا نستمع إلى ما يقوله الشيعة في تحريف أهل السنة للقرآن.. ليكمل لنا الدليل بشقيه.
لست أدري كيف كنت على ثقة من أنه لن يجد من علماء الشيعة من يقول بذلك.. لكني فوجئت بإحضاره علمين كبيرين.. كلاهما من الشباب، وكلاهما يدير قناة فضائية إحداهما في بريطانيا، والثانية في أمريكا.
وقد راح هذان الأحمقان يخبران العالم أجمع بأن أهل السنة يقولون بتحريف القرآن.. ويأتون بالشهادات على ذلك.. والتي لا يقبلها عدول أهل السنة وعلماءهم الكبار، لأن المصحف الذي يتداوله أهل السنة هو نفسه المصحف الذي يتدوله الشيعة.
أردت أن أقول هذا، لكنه قال لي: لا بأس.. أنا أحترم وجهة نظرك.. ولكنها تبقى وجهة نظر شخصية لا تمثل المسلمين.. ولا ترقى لأن تمثل الإسلام..
صحت بقوة: كيف تكون وجهة نظر شخصية.. وهي تمثل أكثر المسلمين؟
ضحك، وقال: إذن ما دام الأمر كذلك.. فلنجر تصويتا، لتعرف هل أنت تمثل وجهة نظرك الشخصية.. أم أنك تمثل المسلمين والإسلام؟
قلت بكل ثقة: أنا أقبل ما تطرحه علي.
قال: فلنبدأ بهذه القاعة.
كنت على ثقة تامة من أن القاعة ستصوت لصالحي، فقلت: أنا أقبل بما طرحته.
سألني: هل جمهور هذه القاعة من أهل السنة.. أم من الشيعة؟
صاح المدير من بعيد: نحن من أهل السنة والجماعة.. نعوذ بالله أن نكون من الرافضة الخبثاء.
هنا نظر إلي رجل الدين المسيحي، والابتسامة الصفراء بادية على وجهه، وهو يقول: فلنبدأ التصويت..
التفت للجمهور، وقال: من كان منكم يصوت على أن الشيعة أو الرافضة يقولون بتحريف القرآن، فليرفع يده.
لقد كانت مفاجأة كبيرة بالنسبة لي.. فقد ارتفعت كل الأيدي.. ولم يسعفني بصري لأرى الأيدي التي لم ترفع.
نظر إلي، وقال: أظن أنني فزت.. لكن لا بأس.. سأكمل التصويت.. من منكم – معشر الحاضرين – يرى بأن الشيعة أو الرافضة لا تقول بتحريف القرآن.
رفع رجل في آخر القاعة يده، وقال: أنا أقول بذلك..
لكنه ما إن قال ذلك حتى رماه الناس بأبصارهم، ثم راحوا يرمونه بأيديهم وأرجلهم بكل قوة، ويقولون: لقد كنا نشك في كونك عبدا من عبيد الرافضة، وعميلا من عملائهم..
انتهت المناظرة، وفاز رجل الديني المسيحي، وخصم من مرتبي مبلغ محترم كلفني أياما من التقشف.. وكان الناس ينظرون إلي فترة من الدهر، وكأنني مجرم أو خائن أو عميل، وقد كنت أتصور أن ذلك بسبب هزيمتي أمام رجل الدين المسيحي، لكني علمت بعد ذلك أن سبب كل تلك القطيعة التي ووجهت بها هي دفاعي عن الشيعة في عدم قولهم بتحريف القرآن.
بعد فترة دعيت إلى مناظرة أخرى تتعلق بعصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وطهارة عرضه الشريف.. فعلمت أنني سأهزم فيها أيضا، لأنني بعد أن حصل لي ما حصل صرت أتابع القنوات الفضائية، وأزور شبكات التواصل الاجتماعي، وأرى تلك الهدايا المجانية التي يقدمها المسلمون للمخالفين لهم.