ما قبل المحاكمة

في ذلك اليوم وصلتني دعوة من بعض الجمعيات الدينية في قريتي تطلب مني الحضور لندوة تنويرية يلقيها كبار أعلام الدعوة في هذا العصر الذين قدموا من نجد ومصر والعراق والهند وغيرها.. ليزيلوا عن قريتنا الأصنام التي صنعها الصوفية.. والبدع التي وضعها الفقهاء.
ولم يكن لي بد من الحضور مع أني لم أتعاف بعد من آثار سهام القحطاني ونونيتة، فقد خشيت أن تكون لدى هؤلاء الدعاة الجدد سهام أخرى يخترقون بها بصري أو قلبي.. لكني مع ذلك الرهاب الذي أصابني لم أملك إلا أن ألبي الدعوة خشية من أن أصنف في زمر المبتدعة، وأحرم من كثير من المنافع التي تصيبني جراء انتمائي للدين الذي فرضته تلك الجمعية علينا طوعا أو كرها.
في ذلك اليوم الذي حضر فيه موعد الندوة عملت كل وسائل التستر حتى لا يفطن لي صاحبي الوهابي التائب، فيطلب مني أن يصاحبني.. وأنا لا أملك أن أرد طلبه، كما لا أملك أن أتحكم في تصرفاته أثناء الندوة.. وحينها لن أخسر علاقتي مع الجمعية فقط، بل قد أخسر روحي أيضا.
لكني ما إن خطوت الخطوات الأولى خارج البيت، وأحمد الله على أن صاحبي لم يلتفت لي حتى وجدته قد سبقني، وهو يقول: هيا أسرع.. فالندوة يوشك أن تبدأ..
تعجبت منه، وكيف خرج، ومن أين علم.. لكني تظاهرت بأنه لا علم لي بشيء.. وقلت: أي ندوة تقصد؟ أنا ذاهب الآن إلى عملي.. عد إلى غرفتك.
قال: لا بأس.. ما دمت قررت عدم الذهاب، فسأذهب أنا بدلا عنك.. أعطني الدعوة التي سلمت لك.
قلت: أي دعوة؟ لا أفهم ما تقول.
قال: تلك التي في جيبك الأيسر.. أدخل يدك في جيبك، وستجدها.
أصابني العجب مما قال، وأدخلت يدي من حيث لا أشعر، وأخرجت الدعوة، وسلمتها له.. وأنا أقول: لقد أصابني العجب منك، فكيف علمت بكل هذا مع أني لم أخبرك؟
قال: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله عز وجل)([1])؟
قلت: بلى.. صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لكني لم أكن أظن أبدا أنه بقي على وجه الأرض من يكون بهذه الصفة..
قال: تلك لوثة من لوثات السلفية التي أصابتك كما أصابت كثيرا من الناس.. إنها تقطع رحمة الله عن عباده، وتجعلها محصورة في أزمنة دون أزمنة، أو أمكنة دون أمكنة، أو أشخاص دون أشخاص مع أن رحمة الله وسعت كل شيء، ولا يضيق بها شيء.
قلت: صدقت في هذا.. ولكن هل ستذهب معي حقا إلى تلك الندوة؟.. إنك لاشك ستختلف مع أصحابها، ولعله تكون في جعبتهم من السهام ما قد يصيبنا.. أنت أدرى بما أصابنا من القحطاني ونونيته.
قال: اطمئن.. هؤلاء المحاضرون يحرصون على أن يظهروا بمظهر الاعتدال.. ولذلك لن يفعلوا شيئا.. وقد أحضروا كاميرات معهم.. وهم ينقلون الندوة بتفاصيلها على قناتهم الفضائية مباشرة.. ولهذا لن يفعلوا ما قد يطيح بسمعتهم، ويحرق أوراقهم عند جمهورهم.
المؤيدون لابن تيمية
دخلنا قاعة المحاضرات الكبرى حيث تعقد الندوة، وقد رأينا الجماهير العريضة من الناس من سكان قريتنا وغيرها من القرى المجاورة.. فقد ساهم الكل في الدعاية لها من سلطات دينية وسياسية واقتصادية وغيرها.. فالكل كان طامعا في أفضال تلك الجمعية وكرمها.. والكل كذلك كان له من الرهاب من سخط الجمعية وغضبها ما كنت أعاني منه.
ما هي إلا لحظات حتى تقدم رئيس الجمعية إلى المنصة، وهو يقول: معاشر الحضور الكرام.. لقد شرفنا اليوم دعاة من السلف الصالح.. من أهل التوحيد الذي لا يخالطه شرك.. والسنة التي لا تخالطها بدعة.. والعقيدة الصحيحة التي لا تخالطها أوهام المبتدعة من المغضوب عليهم والضالين.
لقد جاءوا إليكم من أقصى الأرض ليخرجوا تلك الأصنام التي في قلوبكم أمدا بعيدا..
جاءوا ليحطموا بمعاول التوحيد والسنة الأصنام التي تسمونها أولياء أو صالحين.. بينما هم في الحقيقة ليسوا سوى أدعياء ومضللين.
جاءوا ليحطموا بمعاول التوحيد والسنة الأصنام التي تسمونها علماء.. بينما هم في الحقيقة ليسوا سوى جهلة ضالين مضلين كافرين رويبضات زج بهم إبليس ليحرف دين الله.
لقد جاء هؤلاء الدعاة يسيرون على أقدام رسل الله عليهم الصلاة والسلام.. لينقذوكم من جهنم التي تنتظركم إن بقي في قلوبكم أولئك العلماء أو الأولياء أو الصالحين.. أو غيرهم من الأصنام التي تعبدونها من دون الله.
لن أطيل عليكم.. سأترك لهم الحديث.. فاسمعوا وعوا.. والويل ثم الويل ثم الويل لمن تحرك حركة تفسد عليهم ما جاءوا من أجله.. فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام والسنة والسلف.. ولن نخضع أو نذل لأي نجس يريد أن يفسد علينا ديننا..
أصابني الرعب من تهديده، كما أصاب جميع من كانوا بجنبي ما عدا صاحبي الوهابي التائب الذي قهقه بصوت عال، حتى خفت عليه، ورحت أضع يدي على فمه، لأغلقه، خشية أن يلتفت لنا البربهاري أو ابن بطة أو بعض الحازميين أو الحوينيين أو المدخليين.. وما أكثرهم، فقد كان ظاهرهم وباطنهم كافيا لزرع الرعب في أشجع الشجعان وأعظم الأبطال.
وقد تعجبت من صاحبي الوهابي الذي لم يكن يبالي بما يرى أو بما يسمع، فهمست له في أذنه: ألم يصبك الرعب مما ترى وتسمع؟
فقال، وهو يبتسم: لقد كنت أخاف مثلك.. لكني بمجرد أن تحررت منهم صاروا أهون في عيني من بيت العنكبوب.. فلا تخف ولا تفزع.
بعد أن جلس رئيس الجمعية تقدم المسؤول عن التعريف بالمحاضرين إلى المنصة، وقال: سيتقدم الآن علم من أعلام السلف الصالح.. مؤلف الكتاب المشهور (على ساحل ابن تيمية) الذي بين فيه مكانة شيخ الإسلام ابن تيمية من خلال علمه ومكانته بين العلماء.. وأثبت بالأدلة القاطعة أن شيخ الإسلام هو المربى والمفسر والمحدث والفقيه والمناظر والمجاهد والعابد، وأن مثله كمثل بحر لجى لكنه عذب، محيط هادر لكنه فرات، وهل يستطيع المرء – ولو أجاد السباحة – أن يغوص فى أعماق البحر، أو أن يهبط إلى قعر المحيط؟ كلا لا يستطيع، ولكنه يستطيع أن يطل إطلالة([2])..
تقدم القرني من المنصة، وبعد الخطبة الطويلة التي تعودوا تقديمها، بدأ محاضرته بقول([3]): ابن تيمية.. وما أدراك ما ابن تيمية؟ يكفي أن تعرفه بهذا الاسم؛ فإذا قلت ابن تيمية فكفى، ولا تزد على ذلك أوصافاً، أهل المعرفة وأهل العلم يعرفون من هو ابن تيمية من خلال آثارة وكتبه ورسائله وجهوده وثناء الناس عليه، وإنني أعلن – بالمناسبة – حبي لهذا الإمام العظيم؛ أحببته لصدقه وإخلاصه، لإيمانه وجهاده، أحببته لعلمه ويقينه، أحببته لعمقه ورسوخه:
أحبك لا تفسير عندي لصبوتي | أفسر ماذا؟ والهوى لا يفسر |
منذ ثلاثين سنة وأنا أعيش مع هذا الإمام العظيم، من خلال تراثه المبارك الذي سرى في الأمة حتى قال بعضهم: ترجمت بعض دوائر المعارف للدولة العباسية بخمس وعشرين صفحة ولابن تيمية بأربعين صفحة.. فانظر إلى دولة عاشت ما يقارب الستمائة سنة، وحكمها سبع وثلاثون خليفة، ومع ذلك لم تحظ إلا بخمس وعشرين صفحة، وقارن بها هذا الفرد العلم الذي لم يتول أي منصب؛ لا وزارة، ولا إمارة، ولم يجمع تجارة، ومع ذلك ترحم له بأربعين صفحة.
أقول لكم أيها الجمهور الكرام.. يا تلاميذ شيخ الإسلام.. لتفخروا بشيخ هذا صفته.. إنني – مع كثرة مطالعاتتي وأبحاثي في تراث الملل والنحل- لا أعلم عالماً حظي بالتراجم والكتابة والاهتمام والانشغال بمثل ما حظي به، حتى إنه ليصدق عليه بيت المتنبي:
وتركك في الدنيا دوياً كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر
حتى إن بعض الباحثين ذكر أنه قد ألف في ابن تيمية أكثر من ثلاثة الآف كتاب ما بين رسالة وكتاب وبحث ورسالة دكتوراه وماجستير وبحوث جامعية.
فيا لهذه العظمة! ويا لفتح الله على العبد إذا فتح سبحانه وتعالى..!
كبر جميع الحضور.. وقد شجعه ذلك.. فراح يطنب في أوصافه، ويقرأ بين الحين والحين أبياتا من الشعر أو دررا من النثر جعلت أكثر الحضور يصاب بسكر لا إفاقة منها.. وكانوا كلما زادوا في تكبيرهم زاد تعاظما وانتفاخا.. إلى أن انتهت المحاضرة، وقد كاد الجميع يسجدون لابن تيمية، ولمن يتاجر بابن تيمية.
بعد أن انتهي من محاضرته، قام بعض الحاضرين، وقال: شكرا جزيلا سيدنا الفاضل.. فقد أرشدتنا إلى علم يغنينا عن كل علم..
وقام آخر، يشكره ببعض الأبيات من الشعر.
وقام آخر، وسأله عن سر تسميه كتابه بهذا الاسم (على ساحل ابن تيمية)، فقال القرني بوجد أو تواجد: لقد ظللت طول عمري أسبح في بحر شيخ الإسلام ابن تيمية الذي مسح عني كل الركام الذي تراكم على عقلي وقلبي من اللوثات الجاهلية والشركية والقبورية والصوفية والحلولية والرافضية والمجوسية والتعطيلية والتفويضية وغيرها..
أيها الحضور الكريم.. لقد غسلني ابن تيمية من كل الصبغات الجاهلية.. وحولني إلى مسلم سني سلفي أثري..
لقد وضعني بهدوء كما يوضع الطفل الصغير في سرير الفرقة التي وعدها الله بالنجاة والنصرة والفوز في الدنيا والآخرة.
ولهذا ترونني في قمة السعادة.. فبصحبة ابن تيمية ننال خير الدنيا والآخرة.. فأنا بفضل الله زرت كل بلاد العالم مبشرا وداعية.. ونلت من بركات ذلك من حظوظ الدنيا ما لم ينله أهل الأهواء من المبتدعة والضالين والقبوريين والخرافيين.. ويمكنكم أن تزوروا اليوتيوب لتشاهدوا بعض قصوري التي رزقنيها الله بفضل نصرتي لشيخ الإسلام.. وأنا لا تهمني تلك القصور جميعا، لأن قلبي وعقلي مع القصور التي تنتظرني في الآخرة في صحبة شيخ الإسلام.
قال ذلك.. ثم التفت يمنة ويسرة يطالع وجوه الحاضرين، ثم قال: اعلموا أيها الحضور الكريم أنني في جميع رحلاتي لا أتحدث إلا عن شيخ الإسلام.. ذلك أني رأيت أن التبشير به وحده كاف ليصبغ الأمة جميعا بالصابغ السني السلفي الأثري.. فمن أحب ابن تيمية وتمسك بهديه عصم من كل ضلالة.. ومن انحرف عن ابن تيمية انحرف عن كل هداية.
صاح بعض الحضور: وأين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. أليس هو عصمتنا من الضلالة؟
أمسك الشيخ أعصابه، ثم ابتسم ابتسامة صفراء، وقال: بلى.. رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو عصمتنا من الضلالة.. ولكن يا قوم أنتم ترون الكل يزعم أنه ينهل من هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ترون الصوفية والرافضة وغيرهم كلهم يدعون محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتباع هديه..
ولو أنني سرت في البلاد أبشر بما ذكرت لاختلط الأمر على الناس.. فلذلك رأيت أن المنهج السليم هو أن أعرف الناس بابن تيمية وتراثه العظيم.. لأنهم إن عرفوه عرفوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحقيقي، لا الرسول المزيف الذي يعبده الصوفية والرافضة والقبورية وكل أصناف المبتدعة.
بعد أن أنهى القرني محاضرته، وأجاب عن أسئلة الحضور، تقدم رئيس الجمعية، وقال: سيتقدم الآن علم كبير من أعلام السلف الصالح.. إنه الحبر البحر الإمام المُحدّث.. مؤسس شُعب الأنصــار للسنة.. والدفاع عنها ونشرها.. وقمع البدعة.. شيخ بلادِ الكنانة.. العلم الذي إذا زار الحرم المكي تفرغ له الكراسي.. ويتزاحم الطلاب على كرسيه.. إنه العلامة حامد الفقي المصري الذي انتقل بفضل شيخ الإسلام من الأشعرية والتصوف إلى العقيدة السنية.
لقد كان للشيخ دور كبير في نصرة الدعوة.. ونبذ البدع.. والأمر باتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفق نظرة السلف.. وقد أطنب في الرد على أهل الكفر والزندقة.. وأهل البدع والأهواء.. وكان شديداً في فضح الصوفية المتسترة بستارِ الإسلام.. مبيناً انحرافاتها.. كاشفاً خفاياها.. فاضحاً تقيتها.. وله نشاطٌ خاص في نُصرة السنة المحمدية.. حتى أسس جماعة لهذا الغرض أسمها (جمــاعة أنصــار السنة المحمدية)
وقد أشهر الشيخ حسامه – فوق ذلك – لبيان الحق.. وفضح الأكاذيب عن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب أو ما يطلقون عليها المناوئون بـ (الدعوة الوهابية).. وكان الأحرى أن يسموها باسم موسسها فتسمى باسمه المحمدية..
لقد ألف كتاباً سماه (أثر الدعوة الوهابيــة في الإصلاح الديني والعمراني في جزيرة العرب وغيرها)، قال في مقدمته: (الوهابيــة نسبة إلى الإمام المصلح شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب مجدد القرن الثاني عشر، وهي نسبة على غير القياس العربي والصحيح أن يقال المحمدية، لأن اسم صاحب هذه الدعوة والقائم بها هو محمد، لا عبدالوهاب)
لقد قال عنه بحق العلامة الكبير عبد الرحمن الوكيل: (لقد ظل إمام التوحيد الشيخ محمد حامد الفقي أكثر من أربعين عامًا مجاهدًا في سبيل الله، ظل يجالد قوى الشر الباغية في صبر، مارس الغلب على الخطوب واعتاد النصر على الأحداث، بإرادة تزلزل الدنيا حولها، وترجف الأرض من تحتها، فلا تميل عن قصد، ولا تجبن عن غاية، لم يكن يعرف في دعوته هذه الخوف من الناس، أو يلوذ به، إذ كان الخوف من الله آخذًا بمجامع قلبه، كان يسمي كل شيء باسمه الذي هو له، فلا يُداهن في القول ولا يداجي ولا يبالي ولا يعرف المجاملة أبدًا في الحق أو الجهر به، إذ كان يسمي المجاملة نفاقًا ومداهنة، ويسمي السكوت عن قول الحق ذلا وجبنا)
اسمحوا لي أيها الحضور الكريم لإطالتي في الثناء على شيخنا، فهو يستحق أكثر من ذلك.. ولولا ضيق الوقت لذكرت لكم من مآثره ما يجعلكم تدركون عظمة من ستتشنف آذاننكم بسماعه.
تقدم الفقي، ورمى ببعض التراب على رأس المقدم، وهو يقول: اسمح لي يا صديقي أن أطبق السنة في هذا الموضع.. فمع أن كل ما ذكرته صحيح.. إلا أنه من السنة أن ألقي عليك بعض التراب.. ويمكنك مسحه بسهولة.. وإياك أن تتبرك به معتقدا أنه تراب سني.. فتصبح مشركا بذلك.
كبر البربهاري وابن بطة وغيرهما من الحضور تعجبا من التزام الفقي الشديد بالسنة وخوفه من الشرك.
بعد مقدمته الطويلة، بدأ بقوله: ماذا عساي أن أضيف إلى ما ذكره أخي وصديقي وتلميذي عائض القرني.. لقد أجاد وأفاد.. ولكن مع ذلك فإن بحر ابن تيمية لا ساحل له.. ولهذا سأكتفي بتحديثكم عن خصلة من خصاله الكثيرة التي من الله بها عليه، أو هيأه بها ليؤدي دوره العظيم في حفظ الدين.
تلك الخصلة هي ذاكرته العجيبة القوية.. والتي شهد له بها كل من عرفه، لقد قال جمال الدين السرمري في أماليه: (ومن عجائب زماننا في الحفظ: ابن تيمية، كان يمرّ بالكتاب مرة مطالعة، فينقش في ذهنه، وينقله من مصنفاته بلفظه ومعناه. وحكى بعضهم عنه أنه قال: من سألني مستفيداً حققت له، ومن سألني متعنتاً ناقضته، فلا يلبث أن ينقطع فأُكفى مؤنته)([4])
وذكر الحافظ محمد بن أحمد بن عبدالهادي في (العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية) بعض عجائب ذاكرته، فقال: انبهر أهل دمشق من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه.. واتفق أن بعض مشايخ العلماء بحلب قدم إلى دمشق، وقال: سمعت في البلاد بصبي يقال له: أحمد بن تيمية، وأنه سريع الحفظ، وقد جئت قاصداً، لعلي أراه، فقال له خياط: هذه طريق كتّابه، وهو إلى الآن ما جاء. فاقعد عندنا، الساعة يجيء يعبر علينا ذاهباً إلى الكتّاب.. فجلس الشيخ الحلبي قليلاً، فمر صبيان، فقال الخياط: هذاك الصبي الذي معه اللوح الكبير: هو أحمد بن تيمية. فناداه الشيخ. فجاء إليه.. فتناول الشيخ اللوح منه، فنظر فيه ثم قال له: امسح يا ولدي هذا، حتى أملي عليك شيئاً تكتبه، ففعل، فأملى عليه من متون الأحاديث أحد عشر، أو ثلاثة عشر حديثاً، وقال له: اقرأ هذا، فلم يزد على أن تأمله مرة بعد كتابته إياه. ثم دفعه إليه، وقال: اسمعه عليّ، فقرأه عليه عرضا كأحسن ما أنت سامع. فقال له: يا ولدي، امسح هذا، ففعل. فأملى عليه عدة أسانيد انتخبها، ثم قال: اقرأ هذا، فنظر فيه، كما فعل أول مرة. ثم أسمعه إياه كالأول. فقام الشيخ وهو يقول: إن عاش الصبي ليكونن له شأن عظيم. فإن هذا لم يُرَ مثله.
أرأيتم كيف صار ابن تيمية مضرب المثل عند أصدقائه وأعدائه([5])، واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا، وعدوه من الأئمة الكبار في الحفظ، وليس حفظاً فقط بل حفظاً بفهم، فكان يسابق حفظه نظره، وكان يعطى الكتاب في صغره فيقرؤه مرة فينتفش في ذهنه، وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد – بحمد الله – فيرسخ في ذهنه، وبذلك حفظ كتاب الله عز وجل، وحفظ السنة المطهرة، وحفظ أقوال أهل العلم، وحفظ الآثار، وحفظ التفاسير، وحفظ شواهد اللغة، فكان إذا تكلم أغلق عينيه فسالت قريحته بنهر يتدفق من العلم النافع المبارك حتى قال فيه بعض الشعراء:
وقاد ذهن إذا سالت قريحته يكاد يخشى عليه من تلهبه!
وقد نفع الله بهذا الحفظ؛ فقد تركت ذاكرته القوية المباركة للأمة ميراثاً مباركاً من الكتب النافعة، وكان يملي عليه أحياناً بعض المجلدات من حفظه في السفر وفي الحبس حيث لا توجد مكتبة لدية فيأتي بالعجب العجاب، وينقل بعض كلام الأئمة بنصه وفصه ثم يعلق عليه، وربما استدرك، وينقل الأحاديث من حفظه وينسبها لأصحابها، أما القرآن فقد سال على طرف لسانه يأخذ ما شاء ويترك ما شاء، فقد حفظه من الصغر حتى أصبح كتاب الله عز وجل عنده كسورة الفاتحة، مع فهم ثاقب لما يحفظ، فليس ناقلاً فحسب كما هو شأن كثير من الناس يحفظ المعلومة ثم لا يتصرف فيها، بل كان يحفظها ويعيها وينزلها ويقدرها حق قدرها، ويوظفها في المكان المناسب، ويخرج مها ما شاء الله من الكنوز والعبر والعجائب، فيأتي بما يشده الألباب ويذهل العقول من الفوائد والدرر والنكات العلمية.
بقي المحاضر يعدد الغرائب من ذاكرة ابن تيمية حتى توهمنا أنه محيط بكل ما كتبته البشريه.. وأنه لا يعزب عنه منها شيء.
بعد انتهائه من محاضرته سأله بعض الحضور: هل كان ابن تيمية يحفظ علم الرجال والطبقات.. ففيه الأسماء الكثيرة مع تفاصيلها التي لا يمكن لعقل أن يستوعبها؟
أجاب الفقي بسرعة وبديهة: أجل.. فلشيخ الإسلام خبرة تامة بالرجال، وجرحهم وتعديلهم، وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، والصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه، الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه، وهو عجيب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة، والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث.
قام آخر، وقال: وهل كان ابن تيمية يحفظ كتب التفسير؟
أجاب الفقي بسرعة وبديهة: وأما التفسير فمسلم إليه. وله من استحضار الآيات من القرآن -وقت إقامة الدليل بها على المسألة- قوة عجيبة. وإذا رآه المقرئ تحير فيه. ولفرط إمامته في التفسير، وعظم اطلاعه. يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين. ويوهي أقوالاً عديدة. وينصر قولاً واحداً، موافقاً لما دل عليه القرآن والحديث. ويكتب في اليوم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين، أو من الرد على الفلاسفة والأوائل: نحواً من أربعة كراريس أو أزيد.
قام آخر، وقال: وهل كان ابن تيمية يحفظ كتب الملل والنحل؟
أجاب الفقي بسرعة وبديهة: أما حفظ شيخ الإسلام لكتب الملل والنحل.. فحدث ولا حرج.. فقد كان يحفظ التوراة والإنجيل والزبور.. ويحفظ الويدا والهابهارتا، والكيتا، والبوجاواسستها، والرامايانا، وغيرها.. وهي أعظم الكتب المقدسة لدى الهندوس.
ولهذا ترونه في كتبه ورسائله يذكر إجماع الطوائف في أي مسألة تطرح عليه.. ولولا حفظه لكتبها لما تجرأ على ذلك.. فهو الأمين الورع التقي الذي لا يستحل أن يتكلم في علم لا يحفظه.
سأله آخر: وهل كان يحفظ كتب الفلاسفة والمناطقة؟
قهقه الفقي قهقة طويلة، ثم قال: عجبا لك.. كيف تسألني عن ذلك بعد الذي ذكرت لكم.. أجل.. وكيف لا يحفظها.. لقد كان يحفظ كتب أبو قراط وسقراط وأرسطوطاليس وأفلاطون وأبيقور.. وغيرهم.. بل يحفظ كتب ألبير كامو، وبيرتراند راسل، وجان بول سارتر، وسيمون دي بوفوار وغيرهم.. ولهذا تراه في كتبه يذكر الفلاسفة وأقوالهم وينكر عليهم، ولولا حفظه القوي لما استطاع ذلك.. فهو الأمين الورع التقي الذي لا يستحل أن يتكلم في علم لا يحفظه.
وهكذا سأله غير واحد عن كل علم من العلوم، وكان الفقي يجيبهم عن الكتب التي حفظها ابن تيمية فيه.. إلى أن خشينا أن يسأله بعض الثقلاء عن حفظ ابن تيمية للوح المحفوظ، فيذكر لنا أنه كان يحفظه عن ظهر قلب، وأنه كان يأخذ منه ما شاء، ويدع ما شاء.
بعد أن أنهى الفقي محاضرته، وأجاب عن أسئلة الحضور، تقدم المقدم، وقد مسح التراب عنه، ثم قال: سيتقدم الآن علم من أعلام السلف الصالح الذي حارب التصوف طول حياته.. والذي يعتبر أول من قال من علماء جماعة (أنصار السنة المحمدية) بأن (التصوف كله شر). وكان له أثر كبير في ظهور الكتابة العلمية عن التصوف في مجلة الهدي النبوي، التي ظل يكتب بها قرابة ربع قرن محاربا للصوفية القبورية المشركة..
لقد قال فيه الشيخ سيد رزق الطويل: (لقد كان في أخلاقه نسيج وحدة سمو في الخلق وعفة في اللسان، طلق المحيَّا منبسط الأسارير واسع الثقافة متنوع المعرفة أديبًا، شاعرًا جزل الشعر قوي العبارة)
وقال عنه الشيخ محمد صادق عرنوس: (إن أخانا الأستاذ النابغة عبدالرحمن الوكيل المعروف بين قراء الهدي النبوي بهادم الطواغيت قد أصبح أخصائيًا في تشريح التصوف والإحاطة بوظائف أعضائه، والأستاذ الوكيل يتعلم وينبغ ليُمرِّض ويشفي)
بعد أن انتهى من تقديمه صعد الوكيل إلى المنصة، وقد حاول المقدم أن يبتعد عنه خشية أن يضع عليه بعض التراب.
بعد مقدمة طويلة كمن سبقه من المحاضرين راح يقول: لقد حدثكم أخي العلامة حامد الفقي على حفظه بما بهرنا جميعا.. أنا سأحدثكم عن ملكة لا تقل عن الحفظ.. بل قد تفوقه.. وقد خص الله بها شيخنا شيخ الإسلام دون غيره من العلماء حتى يؤدي الرسالة التي كلف بها.. إنها ألمعيته.. فقد كان لشيخ الإسلام القدح المعلى منها([6]).. فإذا كانت الألمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن، فإن ابن تيمية الأول في هذا الباب عن أهل العلم؛ فقد كان يفهم المسألة بقوٍة وجدارة، وكان يعي ما يقرأ.. وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطاً عجيباً.. وكان إذا حاور يفهم كلام محاوره ويرد عليه في سرعة البرق، وكان إذا كتب يسبق خاطره قلمه.. ومن ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت، ويرد عليها ويزيف الزائف من الكلام، ويثبت الحق، ويميز بين المتشابهات، ويفرق بين المختلفات، وكان يوهم بعض الأئمة في بعض الأبواب من تخصصاتهم، فأحياناً ينقد بعض المحدثين والمؤرخين،وبعض الفلاسفة وأهل المنطق، وعلماء الكلام، ويرد عليهم في تخصصاتهم فإذا هو أفهم منهم بفنهم وبتخصصهم.. ومن ألمعيته أنه إذا دخل في علم قلت لا يجيد إلا هذا العلم، ولا يحسن إلا هذا الباب، فيأتي بالعجب للعجاب ويسهل له هذا المسلك الذي سلكه فيكون فرداً في بابه، ويكون وحيد عصره فيما نهجه وفيما أتخذه؛ فألمعيته محل الشهود ومحل الاعتبار من الجميع حتى صار فرداً ووحيداً في هذا الباب.
بعد أن أطنب في عجائب ألمعية ابن تيمية وقدراته الكبيرة كبر الجميع، ثم بدأ يسألونه عن غرائب ألمعية شيخه فأجابهم إلى أن كادوا يسجدون لها.
بعد أن أنهى الوكيل محاضرته، وأجاب عن أسئلة الحضور، تقدم المقدم، ثم قال: سيتقدم الآن العالم الجليل، والسلفي النبيل عبد الرزاق بن عفيفي بن عطية النوبي.. صاحب البسطة في العلم والجسم.. وصاحب الجمال في المظهر والمخبر.. إنه كما سترونه([7]) قوي البنية جسيم مهيب طويل القامة عظيم الهامة مستدير الوجه قمحي اللون له عينان سوداوان يعلوهما حاجبان غزيران ومن دون ذلك فم واسع ولحية كثة غلب البياض فيها علي السواد.. عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكفين والقدمين ينم مظهره عن القوة في غير شدة.. وهو مع ذلك حسن الهيئة، جميل المظهر في غير تكلف، له سمت خاص في لباسه، يرتدي ثوبا فضفاضا أشبه ما يكون بلباس أهل مصر، إلا أنه محاك على السنة.. فهو سلفى المظهر والشارة.
وهو فوق هذا المظهر صاحب بصيرة نافذة وفراسة حادة يعرف ذلك عنه من خالطه وأخذ العلم على يديه ومما يدلل ويؤكد على فراسة الشيخ أنه كان يتأمل وجوه تلاميذه ويتفرس فيهم فيعرف المجد من الخامل والنابه من الجاهل فيخص هؤلاء بعلم قد لا يخص به أولئك.
قال ذلك، ثم تقدم العفيفي بقامته وهامته فكبر الجميع لرؤيتهم لطلعته البهية، وبعد مقدمة طويلة، قال: لقد حدثكم المحاضران السابقان عن ذاكرة شيخ الإسلام وألمعيته بما ملأنا بالعجب، وأما أنا فسأحدثكم عن أمر لا يقل عن ذلك.. إنه سعة علمه([8]).. فمن العلماء من برع لكن في فن واحد، فمنهم المحدث الجهبذ في حديثه، ومنهم العلامة في فقهه، ومنهم الفرد في تاريخه، ومنهم الأوحد في أدبه،ولكن ابن تيمية كان بحراً لا تكدره الدلاء:
فهو المنظر لأهل السنة في باب المعتقد، وهو المحدث الناقل البصير الجهبذ في علم الحديث رواية ودراية، وفي علم الرجال، حتى شهد له المزي – وكفى به شاهداً – في هذا الباب، وشهد له الذهبي وهو فرد زمانه في هذا التخصص، فكان يجرح ويعدل ويميز بين الروايات ويعرف هذا الفن معرفة تامة دقيقة، وقد استولى على جميع أبوابه وعلى جميع فصوله وفنونه.
وهو في استنباط النص آية من آيات الله عز وجل، فكان يورد الآية والحديث ثم يورد كلام أهل العلم ممن سبقه، ثم يأتي بكلام زائد على كلامهم، وربما انتقد كلامهم أو وافقه أو عارضة أو سكت.
وكان أعجوبة في التفسير، يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من مائة تفسير في الآية، ثم يدعو الله ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علماً في الآية لم يكن مكتوباً من ذي قبل، وربما أملى في الآية الواحدة كراريس، ونقلوا عنه أنه بقي سنوات طويلة في شرح: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ [نوح: 1]، وكان يأتي بالآية الواحدة ربما يذكرها بعد صلاة العصر في مجلسه فيغلق عينيه، ثم يذكر الأقوال والترجيحات والاختلافات والنقولات وما قيل فيها، معترضاً وموجهاً ومصححاً ومقرراً حتى صلاة المغرب.
كما قرأ الفلسفة ورد على الفلاسفة وزيف كثيراً من اقوالهم وردها إلى الوحي، ورد على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعلا عليهم بالبرهان، ورد على علماء الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية وأشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى كل ذلك وهو معتصم بالدليل، سائر مع النص، متحاكم إلى الوحي.
وهكذا بقي العفيفي مدة من الزمن يحكي لنا من سعة علم ابن تيمية وإحاطته بكل شيء إلى أن احتقرنا علم كل علماء الدنيا أمام علمه.
ثم سئل أسئلة كثيرة في أصول العلم وفروعها وعلاقة ابن تيمية بها، فأجاب عنها جميعا، واعتبرها مجرد نقاط في بحر علمه الذي لا ساحل له.
بعد أن أنهى العفيفي محاضرته، وأجاب عن أسئلة الحضور، تقدم المقدم، ثم قال([9]): سيتقدم الآن عالم باكستاني من أولئك العلماء الذين حملوا لواء الحرب على أصحاب الفرق الضالة، وبينوا بالتحقيق والبحث الأصيل مدى ماهم فيه من انحراف عن سبيل الله وحياد عن سنة نبيه، وإن ادعوا الإسلام وملأوا مابين الخافقين نفاقاً وتقية.. إنه العلامة إحسان إلهي ظهير.
ذلك المجاهد المخلص الذي سعى وراء كل الفرق يرد على ضلالاتها.. ويجابهها في كل مكان وكل منتدى شأنه شأن كل مؤمن حقيقي الإيمان يعتقد في قرارة نفسه أن أدياناً تبنى على الكذب وتتستر خلف الترهات والأباطيل لجديرة بألا تصمد أمام النقاش وأن تتضعضع أمام سواطع الحق ونور الحقيقة.
ولهذا الأمر طفق يلقي المحاضرات، ويعقد المناقشات والمناظرات مع أصحاب الملل الضالة، ويصنف الكتب المعتمدة على مبدأ الموضوعية في النقل والمناقشة والتحقيق. وكثيراً ما كان يرد على المبطلين بأقوالهم.. ويسعى إلى كشف مقاصدهم والإبانة عن انحرافهم وضلالهم وفي كل ذلك كان يخرج من المعركة منتصراً يعضده الحق، وينصره الله تعالى.
لقد قال عنه الشيخ محمد لقمان السلفي في مجلة الدعوة (لقد عرفت هذا المجاهد الذي أوقف حياته بل باع نفسه في سبيل الله أكثر من خمس وعشرين سنة عندما جمعتني به رحمه الله مقاعد الدراسة في الجامعة الإسلامية، جلست معه جنباً إلى جنب لمدة أربع سنوات فعرفته طالباً ذكياً يفوق أقرانه في الدراسة، والبحث، والمناظرة! وجدته يحفظ آلاف الأحاديث النبوية عن ظهر قلب كان يخرج من الفصل.. ويتبع مفتي الديار الشامية الشيخ ناصر الدين الألباني ويجلس أمامه في فناء الجامعة على الحصى يسأله في الحديث ومصطلحه ورجاله ويتناقش معه، والشيخ رحب الصدر يسمع منه، ويجيب على أسئلته وكأنه لمح في عينيه ما سيكون عليه هذا الشاب النبيه من الشأن العظيم في سبيل الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله بالقلم واللسان)
قال ذلك، ثم تقدم إحسان إلهي ظهير إلى المنصة، فكبر الجميع وخاصة البربهاري وابن بطة لرؤيته، وبعد مقدمة طويلة، قال: لقد حدثكم المحاضرون السابقون عن ذاكرة شيخ الإسلام وألمعيته وسعة علمه.. وأنا سأحدثكم بما أرى أني تلميذ عليه فيه.. إنه الهمة العلية([10]).
فلم أر ولم أسمع طول حياتي عالماً بلغت به همته مثل ما بلغت همة ابن تيمية به، فقد اتعبته ولكنها أوصلته إلى مراقي الحمد، ومصاف الكرامة، وغاية المجد، وذروة الشرف، وسنام القبول في الأرض.
همته حركته إلى طلب العلم النافع فلم يرض بعلم دون علم، ولم يقنع بتخصص دون تخصص، ولم يشبع من فن دون فن، بل رسخ في الجميع، ومهر في الكل، واستحوذ على قصب السبق في المعرفة.
تتجلى همته في العبادة، فقد كان خاشعاً منيباً مخيبتا متسنناً، كثير الأوراد صلاة وصياماً وذكراً ودعاء وقيام ليل وجهاداً وإخلاصاً وأنابه وتواضعاً وخشية لله عز وجل وغيرة وفي التأليف، فهو من العلماء الثلاثة الذين بلغوا الغاية في التأليف، وهم ابن الجوزي والسيوطي بالإضافة إليه، وقد كان أكثرهم تحقيقاً وتنقيحاً ورسوخاً وعمقاً ونفعاً وأثراً في الأمة، حتى قيل إن مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف، ولو جمعت لكانت أكثر من خمسمائة مجلد، وقد ضاع منها الكثير.
كما تتجلى همته في الدعوة؛ فقد اشتغل بالدعوة الفردية، والدعوة الجماعية، ودعوة السلطان وحاشيته، ودعوة العامة، ودعوة الطوائف جميعاً، ودعوة غير المسلمين، فدعا بالكتابة والخطابة والدروس والمراسلة، ودعا وهو في الحبس، ودعا في المعركة، ودعا بالآيات البينات ودعا بالحجج القواطع، ودعا بالراهين الساطعة، والأدلة اللامعة، ودعا بالمناظر والمجاورة، ودعا مشافهة،ودعا كتابة؛ فكانت حياته دعوة من أولها إلى آخرها.
وقد شهد له بهذا كل فضلاء عصره وغيرهم، لقد قال عنه (ابن الوردي): (كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث)
وقال عنه (عماد الدين الواسطي): (فوالله ثم والله لم ير تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية علماً وعملاً وحالاً وخلقاً واتباعاً وكرماً وحلماً)
وقال عنه (ابن دقيق العيد): (سائر العلوم بين عينيه يأخذ ما شاء منها ويترك ما شاء)
وقال عنه (الحافظ المزي): (ما رأيت مثله،؟ ولا رأى هو مثل نفسه)
وهكذا بقي إحسان مدة من الزمن يحكي لنا عن همة ابن تيمية العالية، وإطباق العلماء على ذلك إلى أن احتقرنا كل همة لم ترق لهمته، وأن لا يستحق أحد من الناس أن يكون أسوة وقدوة غيره.
ثم سئل أسئلة كثيرة عن الهمم العالية وعلاقة ابن تيمية بها، فأجاب عنها جميعا، واعتبرها مجرد درجات بسيطة أمام سلم همة ابن تيمية الذي لا يستطيع الصعود عليه غيره.
بعد أن أنهى إحسان إلهي ظهير محاضرته، وأجاب عن أسئلة الحضور، تقدم المقدم، ثم قال([11]): سيتقدم الآن عالم من بلاد التوحيد تصدى لكل من حاد عن سبيل الله من الكتاب المعاصرين، وجعل يرد عليهم بقلمه، منافحاً عن السنة، مدافعاً عن العقيدة الصحيحة؛ عقيدة أهل السنة والجماعة، وربما نشر ذلك في كتابات ومقالات في بعض الصحف المحلية والخارجية.
وقد بلغت مؤلفاته أكثر من خمسين مؤلفا.. منها (إثبات علو الله ومباينته لخلقه والرد على من زعم أن معية الله للخلق ذاتية).. ومنها (إيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة، رداً على أحمد بن محمد الغماري).. ومنها (الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي وبيان أخطائهم في المولد النبوي).. ومنها (إعلان النكير على المفتونين بالتصوير).. ومنها (الرد على من أجاز تهذيب اللحية).. ومنها (الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة).. ومنها (عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن).. ومنها (إقامة الدليل على المنع من الأناشيد الملحنة والتمثيل).. ومنها (الشهب المرمية لمحق المعازف والمزامير وسائر الملاهي بالأدلة النقلية والعقلية).. ومنها (دلائل الأثر على تحريم التمثيل بالشعر)
إنه العلامة الجليل حمود بن عبد الله التويجري الذي سيحدثنا الآن عن بعض ملكات ابن تيمية وما وهبه الله من فضله العظيم.
قال ذلك، ثم تقدم التويجري إلى المنصة، فكبر الجميع وخاصة البربهاري وابن بطة وابن خزيمة لرؤيته، وبعد مقدمة طويلة، قال: لقد حدثكم المحاضرون السابقون عن ذاكرة شيخ الإسلام وألمعيته وسعة علمه وهمته العالية، وسأحدثكم أنا عن أهم شيء فيه، وهو (سنيته).. فقد كان ابن تيمية مظهرا للسنة قولا ًوعملاً، في عباداته، في معاملاته، في كلامه، في أخذه وعطائه، في سلمه وحربه، في رضاه وغضبه، في تأليفه وفي رسائله، في خطبه ودروسه ومواعظه وحواره وجدله، فكان من نظر إليه ذكر الله عز وجل وتذكر سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حتى قالوا ما رأينا أكثر عملاً بالسنة من ابن تيمية، ولا رأينا من لاحت عليه معالم السنة في كل حركة من حركاته من شيخ الإسلام، حتى إن من رآه تذكر رسول الهدى صلى الله عليه وآله وسلم، يذكرك به في لباسه، في عمامته، في قميصه، في نومه، في يقظته، في أكله وشربه في ذهابه وآياته، في مخالطته للناس وفي عزلته، مستمسكاً بالسنة حرفاً وجملة وأثراً أثراً.
وهكذا بقي التويجري مدة من الزمن يحكي لنا من استئثار ابن تيمية بالسنة واحتكاره لها إلى أن نفث في روعنا أنه لا يخالفه إلا مبتدع، ولا يتبغ غير سبيله إلا من سيصلى جهنم وبئس المصير.
ثم سئل أسئلة كثيرة حول تطبيق ابن تيمية للسنة وغرامه لها، فأجاب عنها جميعا، واعتبرها مجرد نقاط في بحر علمه الذي لا ساحل له.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز:
بعد أن أنهى التويجري محاضرته، وأجاب عن أسئلة الحضور، تقدم المقدم، ثم قال: سيتقدم الآن العالم الجليل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.. وهو تلميذ شيخ الإسلام النجيب ([12]).. ولا أستطيع مهما أوتيت من قوة أن أبين عظم مآثره وما آتاه الله من المواهب.. فسيرة هذا الإمام الفذ يصعب حصرها، بل يتعذر الإتيان عليها.. ولكن حسبي أن أقول: إن له القدح المعلى والنصيب الأوفى من كل الخصال الكريمة.. فالشيخ صبور على التعليم والتعلم حتى بعد أن كبر وأصبح مرجع المسلمين الأول، فلا تراه إلا مكبا على العلم متزودا من الفائدة سواء من بين طلابه أو في سيارته وهو في طريقه إلى العمل ونحو ذلك.. والشيخ صبور في تصديقه للناس وحله لمشكلاتهم وإجابته عن أسئلتهم وسعيه في الإصلاح بينهم، وحرصه على الشفاعة لهم.. والاعتدال سمة ملحوظة في سيرة الشيخ: في أحكامه، وفتاويه، وتعامله، بل في تبسمه وضحكه، فلا هو بالكز الغليظ ولا هو بالمسرف بالضحك من القهقهة، بل هو معتدل في مأكله ومشربه،.. والشيخ يهتم بصغار الأمور وكبارها، وذلك من أسرار عظمته وتميزه ففي الوقت الذي يقوم فيه بحلائل الأعمال، من مراسلات لكبار المسؤولين ومناصحة لرؤساء الدول، واستقبال للوفود من أعلى المستويات وقيام بالدروس والفتوى والرد على الأسئلة المتتابعة وترؤس الاجتماعات، سواء في الرابطة أو في هيئة كبار العلماء أو غيرها – تجده لا يهمل دقائق الأمور وصغارها بحجة اشتغاله بما هو أهم، بل تراه يعطي كل ذي حق حقه.. وهذا سر من أسرار عظمته وحلوله في سواد العين وسواد القلب عن الخاصة والعامة، فكل له كيانه الخاص وكل له شأنه عند نفسه.
تقدم ابن باز إلى المنصة يقوده بعضهم.. ثم قدم مقدمة طويلة كسائر من سبقه، ثم قال: كل ما حدثكم به ممن سبقني من المتحدثين قليل جدا بجانب ما سأحدثكم عنه.. ذلك أنه الأساس في عظمة شيخ الإسلام.. بل لولاه لكنا الآن نعقد المجالس والمؤتمرات في ذمه والتحذير منه.. لا شك أنكم عرفتم جوهر اهتمامنا به وتعظيمنا له.. إنه سلفيته الخالصة([13]).. فابن تيمية هو إمام السلفية في عهده والعهود التي لحقته.. لقد كان على منهج السلف اعتقاداً وتعبداً وعملاً وجهاداً.. فهو السلفي بمعنى الكلمة، فلا يعرف في عهده ولا بعده من احتذى حذو السلف أو اقتدى بالسلف أو اقتدى بالسلف حذو القذة كابن تيمية، فإنه قرر مذهبهم في المعتقد؛ في الأسماء والصفات، في توحيد الربوبية والألوهية، في اليوم الآخر، في القضاء والقدر، في الوعد والوعيد، وفي كل مسألة كبيرة أو صغيرة من المسائل كان على منهج السلف، ولم تعرف له مخالفة، وليس معصوماً لكنه رجاع إلى الحق، وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف، وهو الذي نظره وأظهر للناس، وألف فيه وشرحه وبسطه وأوضحه وأزال الشبه عنه، ونفض الغبار الذي تراكم عليه في القرون التي تلت التابعين ورد على خصوم هذا المنهج، ودحض أقاويلهم، فأظهر هذا المنهج أيما إظهار، ونصره أيما نصر، وخدمه أيما خدمة، فصار معلوماً للخاص العام، وعلمه في دروسه وفي خطبه، ودعا إليه سراً وجهراً، حتى في مجالس الملوك، وفي ديوان السلطان، وفي بلاط الوزراء والأمراء، وفي مجامع القضاة فكان ينتصر لهذا المذهب ويغضب له، ويرى أنه الحق وأنه الأسلم والأعلم والأحكم، وكل رسائله ومؤلفاته وكتبه تشهد بذلك، فلو قلت: إن الناصر – حقيقة – لمذهب السلف من عصر ابن تيمية إلى الآن هو ابن تيمية لما ابتعدت عن الصواب، وكل من أتي بعده في الغالب من متبع السلف استفاد منه، ونهج نهجه، وانتفع بكتبه، وسار على منواله، فمن مقل ومستكثر، فرحم الله هذا إمام، ما أحسن تقريره لمذهب السلف، وما أوضح شرحه، وما أبسط عبارته، وما أحسن مقاله، وما أجمل تأليفه في هذا الباب، حتى إنا نقر – والحمد لله – بأننا استفدنا كل الفائدة من هذا الإمام في معرفة منهج السلف في المعتقد، وفي العبادات، وفي السنن، وفي كل شأن من شؤون الدين؛ فجزاه الله عنا خير الجزاء.
وهكذا بقي ابن باز مدة من الزمن يحكي لنا عن علم ابن تيمية بمذاهب السلف وآرائهم وتطبيقه لها ودفاعه عنها إلى أن علمنا علم اليقين أن السلف هم ابن تيمية وابن تيمية هو السلف، ولا يفرق بينهما إلا ضال مضل.
ثم سئل أسئلة كثيرة عن كل ذلك، فأجاب عنها جميعا، واعتبرها مجرد نقاط في بحر علمه الذي لا ساحل له.
بعد أن أنهى ابن باز محاضرته، وأجاب عن أسئلة الحضور، تقدم المقدم، ثم قال([14]): سيتقدم الآن رجل أعتبره من أشد أنصار السلفية النقية في العقيدة والعبادة التي تجلت في كل كتاباته مع أنه عاش في وسط مملوء بالشرك والبدع جميع أنواع الانحراف.
ومع ذلك فقد كان محصنا بحصن منيع.. فقد قرأ في شبابه في دمشق كثيراً من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية المطبوع منها والمخطوط في المكتبة الظاهرية وذلك بواسطة شيخه الشيخ طاهر الجزائري، وظل مقتنعاً بهذا الاتجاه، قوي الإيمان به، مدافعاً عنه بقلمه ولسانه، متصدياً لكل من يتعرض له، مروجاً للكتب المهمة التي تدعوا إليه.
إنه العلامة محب الدين الخطيب الذي وقف في وجه جميع فرق الضلال وخاصة الرافضة منهم.. فقد كان شديد العناية بتتبع مراحل كيدهم للإسلام، واقفاً على الأصول التي يقوم عليها باطلهم، مدركاً خطرهم العظيم على الإسلام في الماضي والحاضر، ودورهم الكبير في تحريف العقيدة الإسلامية الصحيحة، وتشويه التاريخ الإسلامي المشرق.. وذلك كله بفضل تلمذته على شيخ الإسلام.
ولأجل هذا كان شديدا على دعاة التقريب بين المذاهب الإسلامية، والذين عاصر كبارهم.. لقد قال في ذلك: (انفض المسلمون جميعاً من حول دار التخريب التي كانت تسمى دار التقريب، ومضى عليها زمن طويل والرياح تصفر في غرفها الخالية تنعى من استأجرها)
بالإضافة إلى هذا فقد بذل كل جهوده في نشر عقيدة أهل السنة والجماعة.. ونشر كتب شيخ الإسلام ابن تيمية.. ودفاعه عن الصحابة ورد الشبهات عنهم ويتجلى ذلك في نشره كتاب (العواصم من القواصم) هذا الكتاب العظيم الذي دافع فيه عن أمجاد هذه الأمة ورجالها الكبار ابتداء من معاوية ويزيد وغيرهم من أبطال الإسلام.
قام الخطيب، وبعد مقدمة طويلة كالذي سبقه أخذ بصوته الجهوري يقول([15]): أيها الحضور الكريم.. من الذي عنده شغف بالمعرفة، وميل على العلم، وحب في الاطلاع، وهو لا يعرف ابن تيمية؟
من الذي لديه همة في المجد، وعزيمة في الخير، ورغبة في الصلاح، ثم لا يعرف ابن تيمية؟
هل الشمس بحاجة إذا توسطت السماء في يوم صحو أن ينبه على مكانتها؟ هل القمر في ليلة اكتماله والسماء صافية بحاجة لمن يشيد بعلوه وسنائه؟
إن ابن تيمية بلغ من الحظوة والرفعة وسمو المنزلة إلى درجة أنه استغنى عن لقب الشيخ، والعالم، والإمام، والمجدد، وصار أحسن اسمائه أنه: ابن تيمية!
عاشت بعض الدول خمسة قرون، ثم اندرست وذهبت فلا اثر ولا عين، ولكن هذا الجهبذ الأعجوبة بقى في ذاكرة الزمان، وقلب الدهر، قصة فريدة محفوظة للأجيال ترددها الألسن، وتترنم بها الشفاه..
كلما سلكنا سبل العلم، وضربنا في فجاج الفنون، تلقانا ابن تيمية، فهو إمام في التفسير، حجة في الحديث، منظر في المعتقد، مجدد في الملة، مجتهد في الفقه، موسوعة في العلوم، بحر في السير والأخبار، آية في الذكاء، أستاذ في العبقرية.
لقد أصبح ابن تيمية اشهر من الدولة التي عاش في عهدها!. ولا نشكوا تقصيراً في حبه، لكنا نستغفر الله إن غلونا في التعلق به، كيف ننسى أياديه البيضاء وكلما قلبنا سفراً فإذا هو بين صفحاته بعلمه وحكمته وفقهه واستنباطه، وكلما حضرنا حواراً فإذا اسمه تتقاذفه الألسن، يتقاسمه المتحاورون، كل فريق يقول: أنا أولى به؟!.. كيف لا نعيش معه وقد فرض علينا احترامه، وأمتعنا بحضوره، وآنسنا بذكره الطيب؟
وهكذا بقي الخطيب مدة من الزمن يخطب وينفعل في خطاباته إلى أن كادت الشمس تغرب.. ثم سئل أسئلة كثيرة حول سر تعلقه بابن تيمية فأجاب عنها جميعا، حتى ظنناه قيسا وابن تيمية ليلاه.
بعد أن أنهى محب الدين خطبته، وأجاب عن أسئلة الحضور، تقدم المقدم، ثم قال: سيتقدم الآن علم كبير من أعلام السلفية المعاصرة.. إنه أول من بدأ الدعوة السلفية في الكويت عندما وطئت قدماه أرضها في عام 1964 وسعى معلما في مدارسها الحكومية وموجها لمدرسي التربية الاسلامية.. وهو من كبار المنافحين عن الدعوة السلفية، فقد تصدى للمبتدعة من متصوفه وأشاعرة ورافضة، وألجمهم بمناظراته وبالتأليف، فكان يستعمل منهج اللين تارة ومنهج الشدة تارة أخرى.. ولديه الكثير من المؤلفات والرسائل والردود في هذا المجال، منها: فضائح الصوفية.. ولمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية.. والحقيقة الصوفية.. والفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة.. وبين شيخ الإسلام ابن تيمية وابن عربي.. وغيرها من المؤلفات القيمة.
تقدم عبد الرحمن عبد الخالق من المنصة، وبعد مقدمة طويلة كالذي سبقه أخذ بصوته الجهوري يقول([16]): إن شيخ الإسلام ابن تيمية من النفر القليل الذين كانت حياتهم كلها لله، والذين دعوا إلى الله على بصيرة، شاهداً لله سبحانه وتعالى أنه لا إله إلا هو، قائماً بالقسط، فقد كتب وألف عشرات المجلدات، بل مئات المجلدات في هذين المعنيين: إثبات وحدانية الله سبحانه وتعالى وتحذير الأمة من الشرك الذي تفشى فيها بعد صدر الإسلام، ثم إثبات عدل الله في تشريعاته وقضائه وقدره.
ولقد تعرض شيخ الإسلام في سبيل ذلك إلى تفنيد مزاعم قوى الشر كلها التي انتشرت وسادت المسلمين في عصره في القرن السابع الهجري وأوائل الثامن.. فتصدى بالرد على الفلاسفة وأذنابهم، والرافضة وأكاذيبهم، والباطنية وخبثهم ونفاقهم، والصوفية وعقائدهم الفاسدة وترهاتهم، وللمتكلمين وخلفائهم وتأويلاتهم الباطلة، وللمقلدين وعبادتهم لشيوخهم وتعصبهم لآرائهم المخالفة للكتاب والسنة، والنصارى وضلالهم، واليهود وخبثهم وأفسادهم، وألف في كل ذلك وكتب ودرس وسافر وارتحل وناقش ولم يكتف بهذا أيضاً بل جرد سيفه لقتال التتار فجمع الجموع لملاقاتهم، ووحد صفوف المسلمين لحربهم، وخاض المعارك ونصره الله عليهم..
وعالم هذا شأنه لا شك أن يكثر أعداءه وحساده.. فقد عادى الدنيا كلها في الله وخاصم كل منحرف في ذات الله، ولم يداهن أميراً ولا وزيراً في الحق، بل صدع به حيث كان، ولذلك كثرت ابتلاءاته ومحنه فلا يخلص من محنة إلا ودخل في أخرى، ولا ينتهي من سجن حتى يزج به في سجن آخر، ولا ينصر في محاكمة حتى تعقد له محاكمة جديدة.. وكل ذلك وهو صابر محتسب، بل فرح مستبشر أن أكرمه الله بكل هذه الكرامات وهيأ له كل هذه الأسباب لينشر علمه وتعظم محبة أهل الخير له، فكان قدوة للعالمين من أهل الخير في زمانه، ونموذجاً للعلماء العاملين في وقته، بل كان من تلاميذه جهابذة الأمة في كل فرع من فروع المعرفة الدينية فمن تلاميذه ابن كثير إمام المؤرخين والمفسرين، والذهبي علم المحققين والحافظ المزي، إمام من أئمة النقل والرجال والحديث وابن عبدالهادي علم التحقيق، وابن القيم إمام الأمة وفارسها، وروحاني الإسلام.. وخلق كثيرون.. ثم أصبحت كتبه من بعده هي الهادي والمرشد لعقيدة أهل السنة والجماعة، بعد أن لبس الملبسون من أهل الكلام والزندقة على الناس، ونشروا عقائدهم الباطلة في الأمة فقام هذا المجدد الفرداني والعالم الرباني فكشف بنور القرآن والسنة أضاليل أهل الكلام والبدعة والزندقة والردة.
بقي الشيخ يردد هذا وأمثاله إلى أن نفث في روع الكثيرين أنه لولا ابن تيمية لما بقيت للإسلام قائمة.. وأنه لا يمكن لأحد أن يعرف الدين الصحيح.. ولا أن يطمع في دخول الجنة إن لم يعرف ابن تيمية ويقرأ كتبه ويكتفي بها.
بعدها سئل أسئلة كثيرة في هذا المعنى، فزادت أجوبته تأكيدا وترسيخا لاعتبار ابن تيمية هو وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأوحد.. وأنه المرجع الذي لا يؤخذ دين الله إلا منه، أو ممن تبعه وسار خلفه.. وأن علامة السنة والإسلام هو قبول هذه الوصاية والمرجعية.. وعلامة البدعة والنفاق هو مخالفته أو حسده أو عداوته.
بعد أن أنهى عبد الرحمن عبد الخالق محاضرته، وأجاب عن أسئلة الحضور، تقدم المقدم، ثم قال: سيتقدم الآن علم جليل، ملأ ذكره الدنيا، وشاع علمه في الآفاق، وشهد القاصي والداني بفضله وعلو مكانته.. إنه ذلك العالم الجليل والمربي الفاضل والقدوة الصالحة والطود الشامخ في العلم والزهد والصدق والإخلاص والتواضع والورع والفتوى شيخ التفسير والعقيدة والفقه والسيرة النبوية والأصول والنحو وسائر العلوم الشرعية الداعي إلى الله بصيرة المشهود له بصدق العمل، ومواقف الخير والدعوة والارشاد والإفتاء الذي انتفع بعلمه المسلمين في شتى أنحاء العالم الإسلامي والذي أجمعت القلوب على قبوله ومحبته وفضله وعلو مرتبته فضيلة شيخنا فقيد البلاد والأمة الإسلامية.. العلامة محمد بن صالح العثيمين..
تقدم العثيمين من المنصة، وبعد مقدمة طويلة كالذي سبقه أخذ يقول([17]):سأحدثكم عن الإعداد الرباني الذي هيأ شيخ الإسلام لتلك الرسالة العظيمة التي قام بها في حفظ الدين وتجديده.. فأول ما يطالعنا في دراسة حياة شيخ الإسلام ابن تيمية هو هذا الإعداد والعناية الربانية التي كلأت هذا الإمام منذ أن كان صغيراً وإلى أن توفاه الله سبحانه وتعالى وهذا ما يكاد يجمع عليه كل الذين ترجموا له. وكتبوا عنه ممن أراهم الله حقيقة هذا الرجل العجيب فكأن كل الظروف والأحداث كانت تتهيأ لاستقبال هذا المجدد.. ولا شك أن القارئ الذي سيستمر معنا مطالعاً هذه المقتطفات واللمحات من حياة شيخنا شيخ الإسلام سيخرج بهذه النتيجة.
فالعالم الذي أظلم ظلاماً يكاد أن يكون كاملاً قبل أن يبدأ هذا الرجل دعوته قد كان يتطلع وينتظر قدوم مثل هذا الرجل ليبدد ظلمات الفلسفة والزندقة، والإلحاد، والشرك بكل مظاهره، والباطنية بكل أعلامها والإتحادية، وأيضاً ظلام الحكام المتجبرين والعملاء المأجورين، وأكثر من هذا ظلام وعدوان التتر المتسترين بالإسلام، والنصيرية والرافضة المعادين لأهل الإسلام، والموالين لأهل الكفر والطغيان لقد كان العالم الإسلامي في أمس الحاجة إلى عالم مجدد جرئ شجاع يستطيع أن يقول الحق لكل أولئك وهو لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يخشى سجناً ولا تعذيباً، ولا غربة ولا نفياً.. بل ولا قتلاً.. فكان ابن تيمية الذي جعله الله أولا وعاء عظيما استوعب علم الكتاب والسنة، ثم وسع كل علوم وترهات وأكاذيب أولئك الضلال وعرف بعد ذلك كيف يكر عليها ويبطلها باطلا باطلا، ولا يستطيع أحد منهم أن يقف أمامه أو يحاربه أو يلبس على الناس عنده.. والآن تعالوا نطالع عناية الله بهذا الرجل منذ أن كان صبياً.
بقي الشيخ يردد هذا وأمثاله ويذكر الشواهد والقصص الدالة على ذلك إلى أن نفث في روع الكثيرين أن الرسالة التي كلف بها ابن تيمية وأداها في حياته تشكل أضعاف ما كلف به الرسل عليهم الصلاة والسلام.. فلم يجابه الرسل عليهم الصلاة والسلام ما جابهه من الرافضة والصوفية والمتكلمين وغيرهم من أصناف المبتدعة..
بعدها سئل أسئلة كثيرة في هذا المعنى، فزادت أجوبته تأكيدا وترسيخا لاعتبار ابن تيمية ليس وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأوحد فقط.. بل هو وصي جميع الرسل والأنبياء.. وأن المساس به مساس بجميع الأنبياء.
بعد أن أنهى العثيمين محاضرته، وأجاب عن أسئلة الحضور، تقدم المقدم، ثم قال: سيتقدم الآن علم جليل، من أعلام أهل السنة والسلف، يلقب بأسد السنة، لفتكه الشديد بغزلان المبتدعة وخرافهم.. إنه عثمان بن محمد بن حمد بن محمد الخميس الناصري التميمي.. من نسل بني تميم الذين كان منهم كبار الصحابة كالأقرع بن حابس التميمي، والزبرقان بن بدر التميمي، وذي الخويصرة التميمي وغيرهم ممن قدموا للإسلام أكبر الخدمات.
وعلى إثرهم كان هذا الشبل الفقيه المحدث الدكتور الذي حاز على لقب أسد السنة.. وقد برز كأحد أهم المناظرين من السلف للرافضة خصوصا..
تقدم الخميس من المنصة، وبعد مقدمة طويلة كالذي سبقه أخذ يقول([18]): سأحدثكم عن تلك الموجة العنيفة التي قادها الشيطان وجنده من المبتدعة والكفار والضالين الذين أرادوا أن يطفئوا شعلة ابن تيمية، وهم لا يعلمون أنه نور الله الذي لا يمكن لأحد إطفاءه..
إن السبب في إرادة هدم شيخ الإسلام ابن تيمية من الشيطان وجنده معروف.. وهو أن كتب شيخ الإسلام أنوار هاديات لكل زيف وبهتان، وتضليل وهذيان، ولذلك يحاربها كل من أراد أن يبني له مجداً في الظلام، ويطمس بعض البصائر ويتخذ مجموعة من الخفافيش تعيش معه في الجحور.. ولذلك يحاذر كل المحاذرة أن يسمع أحد منهم كلمة حق، أو يقرأ كتاباً يفضح باطله وزوره وتخليطه..
إن الكلام الذي رمى به الشيطان وجنده شيخ الإسلام ابن تيمية كلام عظيم وبهتان كبير.. فتكفير المسلم شيء عظيم، فكيف بتكفير إمام من أئمة المسلمين وعلم من أعلامهم لا يوجد لليوم عالم قد نال من ثناء العلماء عليه مثل ما نال هذا الرجل.. وحسبكم من ذلك قول تلميذه الحافظ الذهبي: (لو حُلّفت بين الركن والمقام لحلفت أنني ما رأيت بعيني مثله، ولا رأى هو مثل نفسه في العلم)، وقول تلميذه الحافظ المزي: (ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا أتبع لهما منه)، وقول الإمام ابن دقيق العيد: (لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجع كل العلوم بين عينيه يأخذ ما يريد ويدع ما يريده).. ومثل هذا القول أيضاً عن أبي حيان شيخ النحاة.. ولم تؤلف تراجم في الإسلام لرجل مثله.. وهو الذي اتبع جنازته أهل دمشق كلها، وقد حضر من النساء فقط خمسة عشر ألف امرأة، ومائتي ألف رجل، ولا يعرف جنازة مثلها في الإسلام إلا للإمام أحمد بن حنبل.
ولتعرفوا قيمة هذا العلم الهمام سأقرأ عليكم نصا من رسالة كتبها أحمد بن إبراهيم الواسطي في كتابه (التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار)، والذي طبعه إخواننا من سلفية الأردن.. وقد كتب الرسالة إلى مجموعة من تلاميذ شيخ الإسلام، ومما جاء فيها قوله: (هذه رسالة إلى الإخوان في الله السادة العلماء والأئمة الأتقياء وغيرهم من اللائذين بحضرة شيخهم وشيخنا السيد الإمام الهمام، محيي السنة وقامع البدعة، ناصر الحديث، مفتي الفرق، الفائق عن الحقائق وموصلها بالأصول الشرعية للطالب الذائق، الجامع بين الباطن والظاهر.. فهو يقضي بالحق ظاهراً وقلبه في العلا قاطن.. أنموذج الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الشيخ الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية.. أعاد الله علينا بركته.. أصبحتم إخواني تحت سنجق (راية) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن شاء الله مع شيخكم وإمامكم وشيخنا وإمامنا المبدوء بذكره رضي الله عنه، قد تميزتم عن جميع أهل الأرض فقهائها وفقرائها وصوفيتها وعوامها بالدين الصحيح حتى كشف الله لنا ولكم بواسطة هذا الرجل حقيقة دينه الذي أنـزله الله من السماء.. هذا وأنتم إذا عرفتموه من حيثية الأمر الشرعي الظاهر فهنا قوم عرفوه من حيثية الأمر الباطن، ونفوذه من الظاهر إلى الباطن، ومن الشهادة إلى الغيب، ومن الغيب إلى الشهادة، ومن عالم الخلق إلى عالم الأمر وغير ذلك مما لا يمكن شرحه في كتاب.. فشيخكم عارف بأحكام أسمائه وصفاته الذاتية ومثل هذا العارف قد يبصر ببصيرته تنـزل الأمر بين طبقات السماء والأرض.. فالناس يحسون بما يجري في عالم الشهادة، وهؤلاء بصائرهم شاخصة إلى الغيب ينظرون ما تجري الأقدار يشعرون بها أحيانا عند تنـزلها.. فوالله ثم والله ثم والله لم ير تحت أديم السماء مثل شيخكم علماً وعملاً وحالاً وخلقاً واتباعاً وكرماً وصلاحاً في حق نفسه.. ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلى النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل)
ليس هذا فقط.. بل إن الثقاة من العلماء يذكرون العجائب والغرائب من بركات شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن ذلك ما جاء في كتاب (الرد الوافر على من زعم بأن من سمى ابن تيمة شيخ الاسلام كافر) في الحادثة التي حصلت مع البطائحي المزي، وراوها لابن حجي قال: كنت شابا، وكانت لي بنت حصل لها رمد، وكان لنا اعتقاد في ابن تيمية، وكان صاحب والدي، ويأتي إلينا ويزور والدي، فقلت في نفسي: لآخذن من تراب قبر ابن تيمية فلأكحلها به، فإنه طال رمدها ولم يفد فيها الكحل، فجئت إلى القبر، فوجدت بغداديا قد جمع من التراب صررا، فقلت: ما تصنع بهذا، قال: أخذته لوجع الرمد، أكحل به أولادا لي، فقلت: وهل ينفع ذلك؟ فقال: نعم.. وذكر أنه جربه فازددت يقينا فيما كنت قصدته، فأخذت منه، فكحلتها وهي نائمة، فبرئت، قال: وحكيت ذلك لابن قاضي الجبل أبي عمر المقدسي، وكان يأتي الينا، فأعجبه ذلك، وكان يسألني ذلك بحضرة الناس فأحكيه، ويعجبه ذلك([19]).
عندما قال هذه الحكاية قام بعض الحاضرين، وقال: كيف تقول هذا.. ألم تسمع ما يقوله مشايخ التوحيد في اعتبار ذلك شركا؟
قال الخميس: أجل.. هو شرك عندما يكون مع الشيخ عبد القادر الجيلاني.. أو مع الحسين.. أما عندما يكون مع شيخ الإسلام، فيستحيل أن يكون شركا.
قال الرجل: كيف ذلك.. الشرك واحد.
قال الخميس: أنت لا تفهم.. سأضرب لك مثلا بسيطا.. هل تعرف إسماعيل بن أبي أويس المحدث؟
قال الرجل: أجل.. وكيف لا أعرفه.. لقد وضعه الكثير من المحدثين في جملة الضعفاء.. وكل ما يرويه ضعيف.
قال الخميس: إلا البخاري.. فلا يروي عنه إلا الصحيح.
قال الرجل: كيف ذلك.. أيكذب على كل المحدثين.. ولا يكذب على البخاري.
قال الخميس: هذا علم لا تستطيع أن تدركه.. هذا لا يدركه إلا ابن حجر وأمثاله من كبار المحدثين، فقد قال عنه: (وهذا هو الذى بان للنسائى منه حتى تجنب حديثه وأطلق القول فيه بأنه ليس بثقة، ولعل هذا كان من إسماعيل فى شبيبته ثم انصلح.. وأما الشيخان فلا أظن بهما أنهما أخرجا عنه إلا الصحيح من حديثه الذى شارك فيه الثقات)([20])
قال الرجل: وما علاقة هذا بذاك؟
قال الخميس: كون البركة شركا بالنسبة لجميع الناس لا تعني أنها شرك بالنسبة لابن تيمية.. فابن تيمية مثال التوحيد.. ويستحيل أن يتبرك به مشرك أو مبتدع.. لقد ذكر ابن كثير وهو من تلاميذ ابن تيمية في (البداية والنهاية) كيف تبرك الناس بابن تيمية عند وفاته، فقال: (توفي – أي ابن تيمية- بقلعة دمشق بالقاعة التي كان محبوساً بها، وحضر جمع كثير إلى القلعة، وأذن لهم في الدخول عليه وجلس جماعة عنده قبل الغسل وقرأوا القرآن وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا ثم حضر جماعة من النساء ففعلن مثل ذلك ثم انصرفن واقتصروا على من يغسله)([21])
بل إن بركات ابن تيمية امتدت لكل من بعده.. وقد ذكر ذلك ابن القيم، فقال: (وأما من حصل له الشفاء باستعمال دواء رأى من وصَفَه له في منامه فكثير جدا، وقد حدثني غير واحد ممن كان غير مائل إلى شيخ الإسلام ابن تيمية أنه رآه بعد موته، وسأله عن شيء كان يشكل عليه من مسائل الفرائض وغيرها فأجابه بالصواب)([22])
بقي الخميس يحدثنا عن بركات ابن تيمية وقدراته العجيبة إلى أن تصورنا أنه معنا في القاعة، وأنه يمد ببركاته من رضي عنه، ويمد بغضبه وانتقامه من سخط عليه..
بعد أن انتهت تلك الندوة التي سمعنا فيها كلمة (شيخ الإسلام) ومرادفاتها ما لا يعد ولا يحصى من المرات.. وسمعنا فيها من المديح والثناء المبالغ فيه إلى الدرجة التي أصابنا الغثاء.. عدنا إلى بيتنا مرهقين مكتئبين محبطين..
ولم أجد نفسي، بمجرد دخولي إلى البيت، إلا وأنا ملقى على السرير كالجثة الهامدة..
وفجأة.. وبعد فترة قصيرة .. سمعت شخصا يطلب مني أن أقوم لحضور الاجتماع الذي يعقده أعيان علماء الأمة لطلب محاكمة ابن تيمية وتفنيد تشويهاته للإسلام.
فاستغربت من ذلك، والتفت بسرعة إلى محدثي، فإذا بي أجده صاحبي الوهابي.. ولكنه بمظهر غير الذي اعتدت عليه منه، وكأنه جاء من القرون السالفة..
فجأة سمعت دقات هادئة على الباب، وسمعت بعدها صاحبي الوهابي التائب يسرع إليه، ثم يرحب بحرارة على الداخلين، وهو يتكلم بلغة عربية يختلط فيها السجع بالمحسنات البديعية مما لم أكن أعهده منه.
فركت عيني، وقمت بسرعة، وإذا بي أفاجأ بسبعة رجال يلبسون طيالسة وعمامات وغيرها مما نشاهده في الأفلام والمسلسلات التاريخية يدخلون بيتي.
فركت عيني من جديد، لأتأكد هل أنا يقظ أم نائم..
قال لي صاحبي الوهابي، وهو يؤنبني: ما بالك يا رجل.. أيدخل بيتك كبار علماء الأمة([23]) .. ثم لا تتقدم لتسلم عليهم.. وتتعرف بهم.. إن بيتك قد تشرف اليوم كما لم يتشرف من قبل..
لست أدري كيف فكت العقد من لساني، وقلت، وأنا لا أعلم ما أقول: مرحبا بكم يا علماء الأمة.. لقد شرفتم بيتنا المتواضع.. وأنا منذ حدثني صاحبي عنكم، وأنا في لهفة إلى التبرك بطلعاتكم البهية، وأنواركم الزكية، وأخلاقكم العلية.
قلت ذلك، ثم رحت أسرع إلى الفرش والوسائد أعرضها عليهم.. فجلسوا.. ثم راح صاحبي الوهابي التائب يتحدث.. وأنا لا أصدق عيني ولا أذني ولا أي جارحة من جوارحي.. وكأنني على خشبة المسرح أمثل من غير أن يوكل لي أي دور، أو أحفظ أي نص.
أشار صاحبي الوهابي التائب إلى رجل كانت تبدو عليه القوة والجرأة، وقال: هذا الرجل الذي تراه هو الفقيه المحدث الشيخ محمد زاهد بن حسن الكوثري الحنفي.. .. وهو ممثل الحنفية في هذا المجلس.
أسرعت إليه أقبل رأسه، وأقول: أهلا وسهلا ومرحبا بالشيخ الجريء، لكم كنت أتمنى رؤيتك بعدما قرأت لك، وقرأت عنك.. لقد أعجبني فيك جرأتك واقتدارك العلمي.. فأنت لم تكن تهمك إلا الحقيقة.. ولا شيء غير الحقيقة.. وفي سبيلها ضحيت بكل شيء.. ولا تزال الأقلام إلى الآن تسطر فيك قصائد الهجاء لأنك بعت عرضك لله.
قال الكوثري: بورك فيك يا بني.. أرجو أن أكون كما ذكرت.. ولكن صدقني أنا لم أكن أكتب إلا بالمداد المختلط بدموعي ألما على ما آل إليه حال المسلمين دينا ودنيا.. وليتهم إن ضاعت منهم دنياهم سلم لهم دينهم.. فأنت ترى الأدعياء يشوهونه بكل صنوف التشويه التي نفخ فيها الشيطان من روحه.
قلت: صدقت.. وقد قرأت لتلميذك الشيخ محمد أبي زهرة كلاما كثيرا في الثناء عليك.. كقوله: (لم يكن الكوثري من المنتحلين لمذهب جديد أو داعيا إلى مذهب لم يسبق إليه،لهذا كان ينفر من من يسمهم العامة وأشباه المثقفين بسمة التجديد،ومع ذلك فقد كان من المجددين بالمعنى الحقيقي للتجديد والذي هو إعادة رونق الدين وجماله وإزالة ما علق به من الأوهام، إنه لمن التجديد أن تحي السنة وتموت البدعة ويقوم بين الناس عمود الدين)([24])
وقوله: (لقد كان عالما حقا عرف علمه العلماء وقليل منهم من أدرك جهاده، ولقد عرفته سنين قبل أن ألقاه،عرفته في كتاباته التي يشرق فيها نور الحق، وعرفته في تعليقاته على المخطوطات التي قام على نشرها، وما كان والله عجبي من المخطوط بقدر إعجابي بتعليق من علّق عليه).([25])
وقوله: (إنه لم يرض بالدنية في دينه، ولا يأخذ من يذل الإسلام وأهله بهوادة، ولا يجعل لغير الله والحق عنده إرادة، وأنه لا يعيش في أرض لا يستطيع فيها أن ينطق بالحق ولا تعالى فيها كلمة الإسلام)([26])
قال الكوثري: شكرا لك وله.. ولو أني أقل من ذلك بكثير..
قلت: لقد كان من الكتب التي أعجبتني كثيرا كتبك التي ناقشت فيها أطروحات ابن تيمية المختلفة، ككتابك (البحوث الوفية في مفردات ابن تيمية) الذي تعقّبت فيه كتاب (منهاج السنة) لابن تيمية فيما أورده من مسائل منافية لأحاديث صحيحة وصريحة حول فضائل الإمام علي.. ومنها كتابك (التعقّب الحثيث لما ينفيه ابن تيمية من الحديث)، والذي تعقّبت فيه ما نفاه من أحاديث في كتابه منهاج السنة رغم وروده في كتب السنة.. ومنها كتابك (محق التقول في مسألة التوسل) والذي رددت فيه على ابن تيمية والوهابية من رميهم المتوسلين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلموأهل بيته بالشرك.. وغيرها من الكتب الكثيرة.. لكن للأسف كتبك أصبحت نادرة وقل من يهتم بها أو ينشرها.
قال: ولم لا يكون الأمر كذلك.. وأنت تعلم أن قرن الشيطان قد طلع على جبال نجد وهضابها، وراح ينشر كتب ابن تيمية ويملأ بها عقول المسلمين الذين عداهم الداء التيمي، فأصبحوا كما تراهم بلا عقول تفكر، ولا قلوب تمتلئ بالمحبة والأشواق.. لقد أصبحوا ولا هم لهم إلا الصراع.
قلت: وما تراه من حل لذلك؟
قال: حل ذلك بسيط.. لابد للمسلمين من مضادات حيوية تحمي عقولهم وقلوبهم وجوارحهم من تلك الجراثيم التي نشرها ابن تيمية وتلاميذه..
قلت: وأين تصنع تلك المضادات؟
قال: جرأة العلماء وصدقهم مع الله هي التي تصنعها..
قلت: وأنى ذلك؟
قال: أنا هنا ومن ترى من العلماء لأجل ذلك..
قلت: لقد قرأت لك في بعض ما كتبت من ردود على ابن تيمية قولك: (ولو قلنا لم يبل الإسلام في الأدوار الأخيرة بمن هو أضر من ابن تيمية في تفريق كلمة المسلمين لما كنا مبالغين في ذلك، وهو سهل متسامح مع اليهود والنصارى يقول عن كتبهم إنها لم تحرف تحريفاً لفظياً، فاكتسب بذلك إطراء المستشرقين له، شديد غليظ الحملات على فرق المسلمين لا سيما الشيعة… ولولا شدة ابن تيمية في رده على ابن المطهر في منهاجه إلى أن بلغ به الأمر إلى أن يتعرض لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه على الوجه الذي تراه في أوائل الجزء الثالث منه بطريق يأباه كثير من أقحاح الخوارج مع توهين الأحاديث الجيدة في هذا السبيل..) ([27])
وقلت في مقالة لك: (وقد سئمت من تتبع مخازي هذا الرجل المسكين الذي ضاعت مواهبه في شتى البدع، وفي تكملتنا على (السيف الصقيل) ما يشفي غلة كل غليل إن شاء الله تعالى في تعقب مخازي ابن تيمية وتلميذه ابن القيم) ([28])
قال: أجل.. قلت ذلك وغيره كثير.. ولكني أرى نفسي مقصرا.. فلو علمت أن الشيطان سيستخدم أقوال ابن تيمية ليشوه الإسلام بهذه الصورة لجعلت كل كتبي في الرد عليه.
قال ذلك، ثم أخرج وثيقة من محفظته، وقدمها لي، وقال: لقد جبت الزمان والمكان.. ورحت أبحث عن كل عالم من مدرستنا الحنفية رد على ابن تيمية أو عرف مدى خطورة أطروحاته على المسلمين، فكتبت اسمه وجئت بتوقيعه.. لنتقدم به لمحاكمته والتحذير من أخطاره.
قدم لي وثيقة، وقد دهشت من كثرة الأعلام الواردين فيها..
كان من بينهم الإمام الشيخ محمد بن محمد العلاء البخاري الحنفي، وقد سألت الكوثري عنه، فذكر لي أنه (كان يُسأل عن مقالات ابن تيمية التي انفرد بها فيجيب بما ظهر له من الخطأ، وينفر عنه قلبه إلى أن استحكم ذلك عليه فصرّح بتبديعه ثم تكفيره، ثم صار يُصرح في مجلسه أن من أطلق على ابن تيمية أنه شيخ الإسلام فهو بهذا الإطـلاق كافـر واشتهر ذلك…) ([29])
وكان من بينهم قال القاضي الشيخ حميد الدين محمد بن أحمد البغدادي الفرغاني الحنفي، وقد سألت الكوثري عنه، فذكر لي أن له كتابا في الرد على ابن تيمية في الاعتقادات([30])
وكان من بينهم الفقيه الشيخ أبو الحسنات محمد عبدالحي اللكنوي الحنفي، وقد سألت الكوثري عنه، فذكر لي أنه قال في كتابه (إبـراز الغي الواقـع): (أقول: مسألة زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله وسلم كلام ابن تيمية فيها من أفاحش الكلام، فإنه يحرم السفر لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسلم ويجعله معصية ويحرم نفس زيارة القبر النبوي أيضاً، ويجعلها غير مقدورة وغير مشروعة وممتنعة، ويحكم على الأحاديث الواردة في الترغيب إليها كلها موضوعة من حسن بعضها، أو لعلمي أن علم ابن تيمية أكثر من عقله، ونظره أكبر من فهمه، وقد شدّدّ عليه بسبب كلامه في هذه المسألة علماء عصره بالنكير، وأوجبوا عليه التعزيـر…) ([31])
وكان من بينهم مفتي الديار المصرية وشيخ فقهاء عصره الإمام الشيخ محمد بخيت المطيـعي الحنفي، وقد سألت الكوثري عنه، فذكر لي أنه قال في كتابه (تطهير الفؤاد من دنس الاعتقاد): (ولما أن تظاهر قوم في هذا العصر بتقليد ابن تيمية في عقائده الكاسدة وتعضيد أقواله الفاسدة وبثها بين العامة والخاصة، واستعانوا على ذلك بطبع كتابه المسمى بالواسطية ونشره، وقد اشتمل هذا الكتاب على كثير مما ابتدعه ابن تيمية مخالفاً في ذلك الكتاب والسنة وجماعة المسلمين فأيقظوا فتنة كانت نائمة)([32])
وكان من بينهم المفسر الفقيه الشيخ عبدالرحمن خليفة بن فتح الباب الحناوي، وقد سألت الكوثري عنه، فذكر لي أنه قال في كتابه (المشبهة والمجسمة): (هذه المسائل التي يثيرها اليوم (جماعة أنصار السنة) أثيرت قديماً، وفرغ العلماء من الردّ عليها، وهم مُقلدون فيها لابن القيم وشيخه تقي الدين ابن تيمية وطوائف من الحنابلة.. والعجب لهؤلاء يقلدون نفراً من العلماء انفردوا بمقالات وآراء وافقوا فيها الحشوية والكرامية، وخالفوا فيها جميع المسلمين سلفاً وخلفاً، ثم يزعمون مع هذا أنهم مجتهدون كلهم، ليس في المتبوعين والأتباع منهم مقلد واحد، لأن التقليد فيما زعموا شرك سواء أكان تقليداً في فروع الأحكام أو في أصول الدين…)([33])
وذكر لي أنه كتب راداً على هجوم الوهابية عليه وعليه، فقال: (وأقول: إن حبي وهواي وميولي بحمد الله وتوفيقه متجهة كلها نحو محاب الله ومراضيه، ورأيت الكوثري يناضل ويكافح وينفي عن الله صفات الحوادث التي يثبتها ابن تيمية بصريح عباراته، وعبارات من ينقل عنه صريح التجسيم من الحشوية أمثال الدارمي ومن على شاكلته تأييداً لرأيه وتوثيقاً لمذهبه في التجسيم، ورأيتكم ومن على شاكلتكم تقلدون ابن تيمية تقليداً أعمى ولا تحيدون عن آرائه وأقواله في هذا الصدد قيد أنملة، فمن منا أحق بالرثاء والإشفاق وأولى بالعلاج، ومن منا نصير البدعة والمبتدعين؟! وأما شيخكم وإمامكم الحراني فقد ذمه كثير من كبار العلماء والأئمة قديماً وحديثـاً، ولم يكونوا من الضعف العلمي في قليل ولا كثير..)([34])
وكان من بينهم العالم الفقيه الشيخ أبوالمحاسن جمال الدين يوسف بن أحمد بن نصر الدجوي، وقد سألت الكوثري عنه، فذكر لي أنه كان عضواً في جماعـة كبار العلماء بالأزهر، وأن له رسالة بعثها له منها قوله فيها: (وأظن أنك ذكرتَ لي يوم كنا مع المرحوم الشيخ عبدالباقي سرور نعيم أن بعض علماء الهند ذكر هنات ابن تيمية وزلاته وأفاض في الردّ عليها.. وقد ذكرتَ حفظك الله كثيراً من هناته التي خرق بها الإجماع، وصادم بها المعقول والمنقول، وبينت مراجعها من كتبه وكتب تلميذه ابن القيم، ولا معنى للمكابرة في ذلك بعد رسائله في العقائد المطبوعة في آخر فتاويه، وبعد ما قرره في مواضع من منهاج السنة وموافقة المعقول والمنقول ورسائله الكبرى إلى غير ذلك من مؤلفاته فقد كان سامحه الله مولعاً بنشر تلك الآراء الشاذة والعقائد الضالة كلما سنحت فرصة لتقرير معتقده الذي ملك عليه مشاعره حتى أصبح عنده هو الدين كله، على ما فيه من جمود وحجود وخلط وخبط.. وكذلك تلميذه ابن القيم كان مستهتراً بما جُنّ به شيخه من تلك الآراء المنحرفة، فكان دائماً يرمي إليها عن قرب أو بعد حتى إنه في كتاب (الروح) الكثير الفوائد التي تلطف الأرواح لم ينس ما شغف به من تلك المقالات الحمقاء.. إن ابن تيمية في رأيي لا يصح أن يكون إماماً لأن الإمامة الحقة لا ينالها من يُقدّس نفسه هذا التقديس، فإنه إذا قدّس نفسه كان متبعاً لآرائها، غير متهم لها، فكان سائراً مع أهوائها، غير منحرف عنها، ومن اتبع هواه ضل عن سبيل الله من حيث يدري أولا يدري، ومن قدّس نفسه لم يتبع سبيل المؤمنين شاء أم أبى… وقد أدى ذلك العالم الكبير ابن تيمية، بسرعته –ولا نقول طيشه– إلى أن يجازف فيقول:(لم يرد ذكر إبراهيم وآل إبراهيم، في رواية من الروايات الواردة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع أن ذلك في البخاري وهو يحفظه… وقد أنكـر حديث الزيـارة وهو صحيح كما أوضح السبكي في (شفاء السقام) إلى غير ذلك، مع أنه من الحُفّاظ، وأشهر شيء من مزاياه هو أنه محدث، ولكنه التسرع يُذهب من النفس رشدها، والمجازفة تعمي عين البصيرة وتفقأ بصر العقل)
وقال فيها: (وأرجو أن تعذرني فقد أهاج حفيظتنا واستثار الكامن منا ما نراه الآن من أولئك الزعانف الذين يدعون الاجتهاد وقد رددوا صدى مقال إمامهم ابن تيمية، وأكثروا من ذكر الكتاب والسنة وهو أبعد الناس عنهما وأخلاهم منهما.. ولو عقلوا لعلموا أنهم من مقلدة ابن تيمية على غير هدى ولا بصيرة، فهم أعظم الناس جهلاً، وأكبرهم دعوى، يعادون المسلمين، ويكفرون المؤمنين، ولا غروا فقد كفّر أسلافهم من الخوارج عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، واعترض جدهم الأعلى ذو الخويصرة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم..)([35])
وكان من بينهم الشيخ أحمد خيـري المصري، وقد سألت الكوثري عنه، فذكر لي أنه من تلاميذه، وأنه ألف كتابا عنه سماه (الإمـام الكوثـري)، قال فيه: (وقد عاش المترجم طول حياته خصماً لابن تيمية ومذهبه، وسرد آراء الأستاذ يخرج بالترجمة عن القصد، وهي مبسوطة في كثير من تآليفه وتعاليقه، وعلى الرغم من أن لابن تيمية بعض المشايعين الآن بمصر، فإنه سيتبين إن عاجلاً وإن آجلاً، ولو يوم تعرض خفايا الصدور أن ابن تيمية كان من اللاعبين بديـن الله، وأنه في جلّ فتاواه كان يتبع هواه وحسبك فساد رأيه في اعتبار السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سفر معصية لا تقصر فيه الصلاة)([36])
وكان من بينهم الشيخ محـمد أبو زهـرة، وقد سألت الكوثري عنه، فذكر لي أنه من كبار علماء الأزهر الذين أنكروا على ابن تيمية، وأنه وجـه إليه سؤال حول التجسيم، فأجاب بقوله: (ما يقوله الشيخ اتـّباعٌ لما قيل عن ابن تـيمية، فهو في هذا يقلده فيما روي عنه في الرسالة الحموية، والحـق أنه تعالى منـزه عن المكان، ومنـزه عن أن يجلس كما يجلس البشر، وأن العلماء الصادقين من عهد الصحابة يفسرون هذا بتفسير لا يتفق مع المكان، ولا يمكن أن تفسر الأيام الستة بأيامنا هذه، لأن أيامنا ناشئة من دوران الأرض حول الشمس إلا أن تفسر بمقدارها لا بحقيقتها، ولا نرى موافقة الشيخ في الخوض في هذه الأمور)([37])
أشار صاحبي الوهابي التائب إلى رجل آخر كانت تبدو عليه الملامح الهندية، وقال: هذا الرجل الذي تراه هو الشيخ صفي الدين محمد بن عبدالرحيم بن محمد الهندي الأرموي الشافعي.. .. وهو ممثل الشافعية في هذا المجلس.
قلت: أهلا وسهلا ومرحبا.. وكيف لا أعرفه.. إنه من علماء الهند الكبار.. وقد طاف البلدان، ثم سكن دمشق ومات بها، وله مصنفات في علم أصول الفقه وعلم الكلام.. وأعلم أنه كانت بينه وبين ابن تيمية مناظرة دخل بسببها ابن تيمية السجن.. فهلا حدثتنا عنه.
قال: لقد ذكرها تاج الدين السبكي، فقال: (ولما وقع من ابن تيمية في المسئلة الحموية ما وقع وعقد له المجلس بدار السعادة بين يدي الأمير تنكز، وجُمعت العلماء أشاروا بأن الشيخ الهندي يحضر فحضر، وكان الهندي طويل النفس في التقرير إذا شرع في وجه يقرره لا يدع شبهة ولا اعتراضاً إلا قد أشار إليه في التقرير بحيث لا يتم التقرير إلا وقد بعد على المعترض مقاومته فلما شرع يقرر أخذ ابن تيمية يعجل عليه على عادته ويخرج من شيء إلى شيء فقال له الهندي: ما أراك يا ابن تيمية إلا كالعصفور حيث أردت أن أقبضه من مكان فر إلى مكان آخر.. وكان الأمير تنكز يعظم الهندي ويعتقده وكان الهندي شيخ الحاضرين كلهم فكلهم صدر عن رأيه وحبس ابن تيمية بسبب تلك المسألة وهي التي تضمنت قوله بالجهة ونودي عليه في البلد وعلى أصحابه وعزلوا من وظائفهم)([38])
قلت: ذاك ما ذكره السبكي.. وأنا أريد منك الآن أن تذكر جميع التفاصيل التي حصلت.. فلا فرصة كهذه.
ضحك، وقال: لا تستعجل.. لا تكن كابن تيمية.. اصبر وسترى المناظرة بعينيك.. فنحن لم نجتمع إلا لأجل ذلك.. وفوق ذلك.
قال ذلك، ثم قدم لي وثيقة فيها أسماء لبعض الأعلام الكبار، وبجانب كل اسم منها توقيع وختم.. فسألته عن ذلك، فقال: لقد اشترطت المحكمة علينا ذلك.. ولهذا فقد جمعت ما قدرت عليه من توقيعات أصحابي في المذهب حتى لا أعتبر بأني المدعي الوحيد من الشافعية.
تعجبت من كلامه هذا، وأردت أن أسأله عن سر المحكمة.. لكني وجدت أن كلامي معه في ذلك لن يجديني شيئا.. فأنا في عالم مختلف تماما عن العالم الذي كنت فيه.
رحت أنظر في الأسماء، وقد وجدت من بينها الكثير من العلماء في مختلف المجالات، وكان من الأسماء التي شدت انتباهي الشيخ أبو الحسن إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط الخرباوي البقاعي، فسألت الشيخ صفي الدين عنه، فذكر لي أن الحافظ محمد بن عبدالرحمن السخاوي قال عنه: (… وصرّح عن نفسه بأنه يبـغض ابن تيـمية لما كان يخالف فيه من المسائل…)([39])
ورأيت من بينها قاضي القضاة الشيخ برهان الدين إبراهيم بن محمد العجلوني المعروف بابن خطيب عذراء، وقد سألت الشيخ صفي الدين عنه، فذكر لي أنه كتب تعليقة على فتوى الشيخ أبي بكر الحصني الشافعي في حق ابن تيمية ومعتقداته، أيّد فيها الحصني وقال في ختامها: (والكلام في مثل ذلك لا يحصى ولا يعد، وقصد الشيخ المجيب منذلك الردّ على أتباع ابن تيمية والتحذير من الاغترار بأقوالهم، وإلا فهو قد انقضى وأفضى إلى ما قدم، وجهل أتباعه وخطأهم أظهر من أن تنصبعليهم دليلاً)([40])
ورأيت من بينها الحافظ الشيخ ولي الدين نجل الإمام الحافظ الشيخ زين الدين عبدالرحيم العراقي، فسألت الشيخ صفي الدين عنه، فذكر لي أنه انتقد ابن تيـمية في كتابه (الأجوبة المرضية في الردّ على الأسئلة المكية)
ورأيت من بينها الفقيه الشريف الشيخ تقي الدين أبي بكر بن محمد الحسيني الحصني الشافعي، فسألت الشيخ صفي الدين عنه، فذكر لي أنه كان شديداً في نقد ابن تيمية.. وأنه ألف في ذلك كتبا، وقد قال في بعض كتبه عنه: (الحمد لله مستحق الحمد زيارة قبر سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكرّم ومجّد من أفضل المساعي وأنجح القرب إلى رب العالمين وهي سُنة من سنن المسلمين ومجمع عليها عند الموحدين ولا يطعن فيها إلا من في قلبه خبث ومرض المنافقين وهو من أفراخ السامرة واليهود وأعداء الدين من المشركين، ولم تزل هذه الأمة المحمدية على شدّ الرحال إليهعلى ممر الأزمان من جميع الأقطار والبلدان سواء في ذلك الزرافات والوحدان، والعلماء والمشايخ والكهول والشبان، حتى ظهر في آخر الزمان، في السنين الخداعة مبتدع من حـران لبّـس على أتباع الدجال ومن شابههم من شين الأفهام والأذهان، وزخرف لهم من القول غروراً كما صنع إمامه الشيطان فصدهم بتمويهه عن سبل أهل الإيمان، وأغواهم عن الصراط السوي إلى بُنيات الطريق ومدرجة الشيطان فهم بتزويقه في ظلمة الخطأ والإفك يعمهون، وعلى منوال بدعته يهرعون، صُمّ بُكم عُميّفهم لا يعقلون)([41])
وقال في مقدمة كتابه الذي ألفه في الرد على ابن تيمية، والمعنون بـ (دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى الإمام أحمد): (قال بعض العلماء من الحنابلة في الجامع الأموي في ملأ من الناس: لو اطلع الحصني على ما اطلعنا عليه من كلامه (أي كلام ابن تيمية) لأخرجه من قبره وأحرقه).. وأكد هؤلاء أن أتعرض لبعض ما وقفت عليه وما أفتى به مخالفاً لجميع المذاهب، وما خطئ فيه وما انتقد عليه، وأذكر بعض ما اتفق له من المجالس والمناظرات، وما جاءت به المراسيم العاليات.. وأتعرض لبعض ما سلكه من المكائد التي ظن بسببها أنه يخلص من ضرب السياط والحبوس وغير ذلك من الإهانات)([42])
وقال في كتابه هذا: (إن ابن تيمية الذي كان يوصف بأنه بحر من العلم، لا يستغرب فيه ما قاله بعض الأئمة عنه من أنه زنديق مطلق، وسبب قوله ذلك أنه تتبع كلامه فلم يقف له على اعتقاد حتى أنه في مواضع عديدة يكفر فرقة ويضللها وفي آخر يعتقد ما قالته أو بعضه، مع أن كتبه مشحونة بالتشبيه والتجسيم، والإشارة إلى الازدراء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم)([43])
ورأيت من بينها قاضي القضاة الشيخ نجم الدين عمر بن حجي بن أحمد السعدي الشافعي، فسألت الشيخ صفي الدين عنه، فذكر لي أنه سئل عن عن ابن تيمية، فأجاب بقوله: (هذا الرجل المسئول عنه في الاستفتاء كان عالماً متعبداً، ولكنه ضلّ في مسائل عديدة عن الطريق المستقيم والمنهج القويم، لا جرم سجن بسجن الشرع الشريف بعد الترسيم وأفضى به إعجابه بنفسه إلى الجنوح إلى التجسيم الذي ابتدعتهاليهود الذين أشركوا بالواحد الأحد المعبود، وتغالى فيه أصحابه وأتباعه حتىقدموه على جميعالأئمة وعلى علماء الأمة، وهجر مذهب الإمام أحمد الذي أتباعه بالإجماع أولى وأحمد، ورد عليه العلماء المحققون، وسجنه حكام الشريعة الأقدمون ونودى بدمشق أن لا ينظر أحدٌ في كلامه وكتبه وهرب كلٌّ من أتباعه ومَن هو على مذهبه واعتقاده.. والعجب كل العجب من جُهَّال حنابلة هذا الزمان يغضبون إذا قيل لهم: (أخطأ ابن تيمية)، وربما اعتقد بعضهم أن قائل ذلك ملحد، ولا يغضبون إذا قيل لهم: أخطأ الشافعي وأبو حنيفة ومالك والإمام أحمد..)([44])
ورأيت من بينها الحافظ الفقيه الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني، فسألت الشيخ صفي الدين عنه، فذكر لي أنه صاحب كتاب (المواهب اللدنية بالمنح المحمدية)، والذي قال فيه: (وللشيخ تقي الدين بن تيمية هنا كلام شنيع عجيب يتضمن منع شد الرحال للزيارة النبوية المحمدية، وأنه ليس من القرب بل بضد ذلك، وردّ عليه الشيخ تقي الدين السبكي في (شفاء السقام) فشفى صدور المؤمنين)([45])
ورأيت من بينها الفقيه المفتي الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي المكي الشافعي، فسألت الشيخ صفي الدين عنه، فذكر لي أنه من الشافعية الذين تشددوا مع ابن تيمية، ومن أقواله فيه: (ابن تيمية عبد خذله الله وأضله وأعماه وأصمه وأذله، وبذلك صرح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذب أقواله، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد أبي الحسن السبكي وولده التاج والشيخ الإمام العز بن جماعة وأهل عصرهم وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفية، ولم يقصر اعتراضه على متأخري الصوفية بل اعترض على مثل عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب كما سيأتي، والحاصل أن لا يقام لكلامه وزن بل يرمى في كل وعر وحزن، ويعتقد فيه أنه مبتدع ضال ومضل جاهل غال، عامله الله بعدله وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله… وأخبر عنه بعض السلف أنه ذكر عليّ بن أبي طالب في مجلس آخر فقال: إن علياً أخطأ في أكثر من ثلاثمائة مكان، فيا ليت شعري من أين يحصل لك الصواب إذا أخطأ عليّ بزعمك…)([46])
وقال في كتاب (الجوهر المنظم في زيارة القبر الشريف النبوي المكرم): (فإن قلت كيف تحكي الإجماع السابق على مشروعية الزيارة والسفر إليها وطلبها، وابن تيمية من متأخري الحنابلة منكر لمشروعية ذلك كله؟ كما رآه السبكي في خطه، وأطال – أعني ابن تيمية – في الاستدلال لذلك بما تمجه الأسماع وتنفر عنه الطباع، بل زعم حرمة السفر لها إجماعاً وأنه لا تقصر فيه الصلاة، وأن جميع الأحاديث الواردة فيها موضوعة، وتبعه بعض من تأخر عنه من أهل مذهبه.. قلت: من ابن تيمية حتى ينظر إليه أو يعول في شيء من أمور الدين عليه، وهل هو إلا كما قال جماعة من الأئمة الذين تعقبوا كلماته الفاسدة وحججه الكاسدة حتى أظهروا عوار سقطاته وقبائح أوهامه وغلطاته كالعز بن جماعة: عبد أضله الله تعالى وأغواه وألبسه رداء الخزي وأرداه، وباه من قوة الافتراء والكذب ما أعقبه الهوان وأوجب له الحرمان، وقد تصدى شيخ الإسلام وعالم الأنام، المجمع على جلالته واجتهاده وصلاحه وإمامته التقي السبكي قدس الله روحه ونور ضريحه، للرد عليه في تصنيف مستقل، أفاد فيه وأجاد وأصاب، وأوضح بباهر حججه طريق الصواب فشكر الله تعالى مسعاه… وما وقع من ابن تيمية مما ذكر، وإن كل عثرة لا تقل أبداً ومصيبة يستمر عليه شؤمهاً دوماً سرمداً ليس بعجيب، فإنه ضرب مع المجتهدين بسهم صائب، وما درى المحروم أنه أتى بأقبح المعايب، إذ خالف إجماعهم في مسائل كثيرة، وتدارك على أئمتهم سيما الخلفاء الراشدين باعتراضات سخيفة شهيرة، وأتى من نحو هذه الخرافات بما تمجه الأسماع وتنفر عنه الطباع حتى تجاوز إلى الجناب الأقدس منزه سبحانه وتعالى عن كل نقص والمستحق لكل كمال أنفس، فنسب إليه العظائم والكبائر، وأخرق سياج عظمته وكبرياء جلالته بما أظهره للعامة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم، وتضليل من لم يعتقد ذلك من المتقدمين والمتأخرين حتى قام عليه علماء عصره وألزموا السلطان بقتله أو حبسه وقهره، فحبسه إلى أن مات، وخمدت تلك البدع وزالت تلك الظلمات، ثم انتصرت له أتباع لم يرفع الله تعالى لهم رأساً، ولم يظهر لهم جاهاً ولا بأساً بل ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)([47])
وقال في كتابه (أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل): (قال ابن القيم عن شيخه ابن تيمية: أنه ذكر شيئا بديعاً وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى ربه واضعاً يده بين كتفيه أكرم ذلك الموضع بالعذبة، قال العراقي: لم نجد لذلك أصلاً. أقول في هذا من قبيح رأيهما وضلالهما، إذ هو مبني على ما ذهبا إليه وأطالا في الاستدلال له، والحط على أهل السنة في نفيهم له وهو إثبات الجهة والجسمية له، تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً، ولهما في هذا المقام من القبائح وسوء الاعتقاد ما تصم عنه الآذان، فيقضي عليه بالزور والكذب والضلال والبهتان، قبحهما الله وقبح من قال بقولهما، والإمام أحمد وأجلاء مذهبه مبرءون عن هذه الوصمة القبيحة، كيف وهو كفر عند كثيرين)([48])
ورأيت من بينها الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي المصري، فسألت الشيخ صفي الدين عنه، فذكر لي أنه من الذين أنكروا على ابن تيمية موقفه من زيارة قبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قال في كتابه (نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض): (واعلم أن هذا الحديث هو الذي دعا ابن تيمية ومن تبعه كابن القيم إلى مقالته إلى مقالته الشنيعة التي كفـروه بها، وصنف فيها السبكي مصنفاً مستقلاً وهي منعه من زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشدّ الرحال إليه.. فتوهم أنه حمى جانب التوحيد بخرافات لا ينبغي ذكرها، فإنها لا تصدر عن عاقل فضلاً عن فاضل سامحه الله عزوجل)([49])
ووصفه فهمه لحديث (لاتجعلوا قبري عيداً) بأنه (لا حجـة فـيه،… فإنه نزعـة شيطانيـة)([50])
ورأيت من بينها الشيخ رضوان العدل بيبرس الشافعي المصري، فسألت الشيخ صفي الدين عنه، فذكر لي أنه من الذين أنكروا على ابن تيمية وتلاميذه من الوهابية، فقد قال في كتـابه (روضة المحتـاجين لمعرفة قواعـد الدين): (ثم ظهر بعد ابن تيمية محمد بن عبدالوهـاب في القرن الثاني عشر، وتبع ابن تيمية وزاد عليه سخفاً وقبحاً، وهو رئيس الطائفة الوهابية قبحهم الله، وتبرأ منه أخوه الشيخ سليمان بن عبدالوهاب وكان من أهل العلم..)([51])
ورأيت من بينها الفقيه المحدث الشيخ سلامه القضاعي العزامي الشافعي،فسألت الشيخ صفي الدين عنه، فذكر لي أنه ألف كتابا بعنوان (فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات الأكوان) خصصه للردّ على ابن تيمية والمجسمة، قال فيه: (والعجب أنك ترى إمام المدافعين عن بيضة أهل التشبيه، وشيخ إسلام أهل التجسيم ممن سبقه من الكرامية وجهلة المحدثين الذين يحفظون وليس لهم فقه فيما يحفظون، أحمد بن عبدالحليم المعروف بابن تيمية، يرمي إمام الحرمين وحجة الإسلام الغزالي بأنهما أشد كفراً من اليهود والنصارى في كتابه (الموافقة) المطبوع على هامش منهاجه، لقولهما بالتنـزيه، وهما لم ينفردا به بل هو قول المحققين من علماء الملة الإسلامية من الصحابة فمن بعدهم إلى زمانه وكانت وفاته في القرن الثامن، إلى زماننا وإلى أن يأتي أمر الله…)([52])
ورأيت من بينها الشيخ نجم الدين نجل شمس العارفين الشيخ محمد أمين الكردي الشافعي، فسألت الشيخ صفي الدين عنه، فذكر لي قوله: (فقد نجمت في القـرون الماضية بين أهل الإسلام بدع يهودية من القول بالتشبيه والتجسيم والجهـة والمكان في حـق الله تعالى، مما عملته أيدي أعداء الإسلام تنفيذا لحقدهم عليه، ودخلت الغفلة على بعض أهل الإسلام، والمؤمن غر كريم، فقيض الله لهذه البدع من يحاربها وهم السواد الأعظم من علماء هذه الأمة، وقد أثمر سعيهم ولله الحمد، فصارت بفضل جهادهـم كالمتحرك حركة المذبوح، حتى إذا كانت أوائل القرن الثامن أخذت هذه البدع تنتعش إلى أخوات لها لا تقل عنها خطراً على يد رجل يدعى أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني، فقام العلماء من أهل السنة والجماعة في دفعها حتى لم يبق في عصره من يناصره إلا من كان له غرض أو في قلبه مرض..)([53])
ورأيت من بينها المحدث الشيخ عبد ربه بن سليمان بن محمد بن سليمان القليوبي الأزهري، فسألت الشيخ صفي الدين عنه، فذكر لي أنه من علماء الأزهر الذين واجهوا انحرافات ابن تيمية وأنه صاحب كتاب (فيض الوهاب في بيان أهل الحق ومن ضل عن الصواب) في ستة أجزاء، والذي رد فيه على ابن تيمية وأتباعه.. ومن تصريحاته في ذلك قوله: (قد عرفت مما قدمنا لك أن ابن تيمية هو الذي جمع شتات أقوال الخوارج وغيرهم من الملحدين ودونها رسائل، وتلقاها عنه تلاميذه الذين فتنوا بحبه لنشأتهم على ذلك واستعدادهم له، ووسعوا فيها الضلالات)([54])
ومنها قوله: (ابن تيمية الذي أجمع عقلاء المسلمين أنه ضال مضل، خرق الإجماع وسلك مسالك الابتداع، الذي ما ترك أمراً مخالفاً ولا مبدءاً معارضاً لما عليه إجماع المسلمين إلا وسلكه، فكان كل من كان على هذا المبدأ من أهل الضلالة المقابل لأهل الحق يدعو إلى هذا المبدأ، وهم حزب الشيطان المقابل لحزب الرحمن، إذ الأمر في الدين اثنان لا ثالث لهما)([55])
ورأيت من بينها المحدث الشيخ محمد بن علي بن علان البكري الصديقي المكي الشافعي، فسألت الشيخ صفي الدين عنه، فذكر لي أنه صاحب كتاب (المبرد المبكي في الردّ على الصارم المنكي)، وقد ألفه رداً على كتاب ابن عبدالهادي تلميذ ابن تيمية، والذي انتصر فيه لآراء شيخه الضالة([56]).
ورأيت من بينها الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني، فسألت الشيخ صفي الدين عنه، فذكر لي أنه تحدث في كتابه (الدرر الكامنة) عن سيرة ابن تيمية.. ومما جاء فيها قوله: (ثم نسب أصحابه إلى الغلو فيه واقتضى لـه ذلك العُجب بنفسه حتى زهى على أبناء جنسه واستشعر أنه مجتهد، فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم قديمهم وحديثهم، حتى انتهى إلى عُمر فخطّأه في شيء، فبلغ ذلك الشيخ إبراهيم الرقى فأنكر عليه فذهب إليه واعتذر واستغفر، وقال في حق عليّ أخطأ في سبعة عشر شيئاً.. وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة حتى أنه سب الغزالي فقام عليه قوم كادوا يقتلونه.. وافترق الناس فيه شيعاً فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك كقوله أن اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله وأنه مستو على العرش بذاته فقيل له يلزم من ذلك التحيز والانقسام فقال أنا لا أسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام فألزم بأنه يقول بتحيز في ذات الله، ومنهم من ينسبه إلى الزندقة لقوله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يستغاث به وأن في ذلك تنقيصاً ومنعاً من تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم ولقوله أنه كان مخذولاً حيث ما توجه وأنه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها وإنما قاتل للرياسة لا للديانة ولقوله أنه كان يحب الرياسة.. فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ولا يبغضك إلا منافق).. ونسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى فإنه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه فكان ذلك مؤكـداً لطول سجنه وله وقائع شهيرة وكان إذا حوقق وألزم يقول لم أر هـذا إنما أردت كذا فيذكر احتمالاً بعيـداً قال وكان من أذكيـاء العالم وله في ذلك أمـور عظيمة..)([57])
كما أنه ردّ على ابن تيمية في مسألة زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه (الإنارة بطرق حديث الزيارة)
ورأيت من بينها قاضي القضاة الشيخ نجم الدين أحمد بن محمد بن سالم بن صصري التغلبي، فسألت الشيخ صفي الدين عنه، فذكر لي أنه كان من العلماء المعاصرين لابن تيمية، وأنه هو الذي أصدر حكماً بسجن جمال الدين المزي تلميذ ابن تيمية، فقام ابن تيمية لنصرة صاحبه وأراد فك حبسه رغماً عن القاضي، ودخل السجن وأخرج المزي من حبسه، فغضب القاضي وأصر على تنفيذ الحكم وإعادة المزي للسجن، ووقع بينه وبين ابن تيمية شجار وكلام شديد، فتدخل النائب الحاكم وأمر بإعادة المزي للحبس، وأطلقه بعد أيام([58]).
ورأيت من بينها الفقيه الشيخ طارق بن محمد بن عبدالرحمن الجباوي السعدي الشافعي، فسألت الشيخ صفي الدين عنه، فذكر لي أن له الكثير المؤلفات في مختلف العلوم الشرعية، ومنها بعض كتبه في الرد على ابن تيمية وتلاميذه، ككتاب (الردود الشرعية على الفتوى الحموية)، و(كشف المين في شرح الحراني لحديث ابن حصين)، و(إلحاق المنية بجيوش ابن قيم الجوزية الحشوية)، و(الكشفين للزلل والمين).. وقد أوذي بسبب ذلك من تلاميذ ابن تيمية.
وقد قال في مقدمة كتابه (كشف المين في شرح الحراني لحديث ابن حصين) قال: (فهذا كتاب أسميته (كشف المَيْن) أي: الكذب، بيَّنت فيه بهتان ابن تيمية الحراني وافتراءه على العقل والنقل بما حشاه في شرحه لحديث سيدنا عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه، منبهاً على كثير من مخازيه بالإشارة أو العِبارة، وذلك بعد اطلاعي المفصل على كتبه كمجموع الفتاوى، ودرء التعارض، ومنهاج السنة، والصفديَّة، وغيرها مما نقلنا بعض نصوصه فيها على قِدم نوع العالم في كتاب “كشف الزلل” الذي فصلنا فيه مذهبه ورددنا عليه، حتى أنك لتجد الكشفين: للزلل والمين منفصلين متمّمين: فكل منهما كما أنه استوفى المطلب وحقق المقصود، كان متمماً للآخر في مسائل لم نتعرض لهـا فيه)([59])
وقال في خاتمة كتابه المذكور: (وبعد: فهذا آخر ما يسره الله تعالى لنا في كشف مين ابن تيمية على العقل والنقل سيما حديث عمران بن حصين.. ولسنا قد تعرضنا له لشخصه إلا أنه بات رأساً لفرقة تُرجع إليه القول، وتُوقِف العقل والنقل على بيانه، وروجت له بين عوام العلماء فبات بينهم علماً محققاً بارعاً.. الخ، ما أوجب علينا التخصيص والتنصيص.. فأسأل الله تعالى كشف بصيرة أتباعه فضلاً عن المغبونين والمغترين به إلى الحق، ليعرفوا مكانة هذا المبتدع على التحقيق، وأنه ليس إلا مارق زنديق، ليس فيمـا انفرد فيه إلا البدعة الضلالة وفُرقة الجمـاعة)([60])
ورأيت من بينها الشيخ المحدث محمود سعيد ممدوح، فسألت الشيخ صفي الدين عنه، فذكر لي أن كتبه الحديثية تطفح بالردود العلمية المفصلة على أطروحات ابن تيمية، وقد سئل عن رأي علماء أهل السنة في عقيدة ابن تيمية، فأجاب بقوله: (يمكن مراجعة الكتب التي تناولت عقائد ابن تيمية ومن أهمها (السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل) و(ابن تيمية ليس سلفيا)، ومقدمة مولانا الكبير الشيخ نجيب المطيعي لكتاب شفاء السقام وكتاب التقي الحصني، وبعض كتب شيخنا عبد الله الغماري.. وكل هذه الكتب تحكم بضلال عقائد في كتب ابن تيمية، بقي دين على أهل السنة أنهم لم يتناولوا (منهاج البدعة) لابن تيمية بالنقض والنقد والتمحيص والذي أساء فيه جدا لآل البيت عليهم السلام.. نعم للسيد أحمد بن الصديق لمحات جيدة وكذا لشقيقيه، وكذلك لشيخ مشايخنا العلامة المطلع السيد علوي بن طاهر الحداد، وللكوثري، ولكنها نكت تحتاج لاكمال.. بل انني وجدت بعض أهل السنة لبرود عندهم نحو آل البيت عليهم السلام. للأسف يحتفون بمنهاج البدعة وينقلون منه اغترارا ببدعة وانتصارا لبعض أفكار النواصب كما فعل المعلق على (ذب ذبابات الدراسات على المذاهب الأربعة المتناسبات) وهو ديوبندي، وبعض المنتسبين لندوة علماء الهند)
ومن تصريحاته كذلك قوله: (ولا يخفى أن الشيخ أحمد بن تيمية الحراني الدمشقي (664 – 728) من علماء الحنابلة كانت له آراء واختيارات انفرد بها، وأحدث بعضها دوياً هائلاً بين العلماء لا سيما في مصر والشام، وانتقد انتقادات واسعة من معاصريه بل إن تلاميذه المقربين كالمزي والذهبي وابن كثير وأشباههم كابن رجب الحنبلي انتقدوه وعارضوه، وبانقضاء هذا العصر أفل نجم هذه الفتنة، وقد أكثر العلماء فيما بعد من التحذير من شذوذات الشيخ ابن تيمية، وكلمات التقي السبكي وابنه التاج والصلاح العلائي والحافظ العراقي وابنه ولي الدين المعروف بـ أبي زرعة العراقي والحافظ ابن حجر والبدر العيني والتقي الحصني وغيرهم من معاصريهم ومن جاء بعدهم، أقول كلمات المذكورين وغيرهم معروفة لأهل العلم في معارضة شذوذات الشيخ ابن تيمية نصيحة للمسلمين ودفاعاً عن حوزة الدين وحفاظاً على أعراض أئمة المسلمين من التكفير والتبديع. ومع قيام علماء المسلمين بالنصح التام ودرء الفتن في مهاجعها لقرون متتالية فقد ظهر في وسط جزيرة العرب في النصف الثاني من القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر الشيخ محمد بن عبدالوهاب المتوفى 1206 ، وكان معجباً بآراء ابن تيمية الشاذة المنتقدة وعضّ عليها بالنواجذ .. وزاد تمسكه بها أنه نشأ في بادية نائية فلم يتمكن من معرفة اتجاهات أهل العلم في دفع دخائل وانفرادات ابن تيمية عند أهل العلم فضلاً عن فقهاء مذهب السادة الحنابلة، ولم يداخل ابن عبدالوهاب العلماء مداخلة جيدة تمكنه من النظر الصحيح، والموازنة بين الرأي والرأي الآخر…)([61])
وقال أيضاً: (إن شدّ الرحال أي السفر لزيارة القبر النبوي الشريف – سواء كان سفراً تقصر فيه الصلاة أو لا تقصر – من أهم القربات، وهو قريب من الوجوب عند بعض العلماء، بل واجب عند الظاهرية وكثير من المالكية والحنفية. وعلى كون هذا السفر قربة درج سائر الفقهاء في المذاهب الإسلامية العقدية والفقهية، فكان إجماعاً للأمة الإسلامية، وقد خالف هذا الإجماع الشيخ أحمد بن تيمية، فَصَرّح بأن السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم سفر معصية لا تقصر فيه الصلاة، وقال: من أراد أن يزور القبر الشريف فليزر المدينة المنورة لأي غرض مشروع ثم تكون زيارة القبر الشريف تبعاً لا استقلالاً. وهي مقالة شنيعة لم يتجرأ عليها أحد من علماء المسلمين وقد سجن الشيخ ابن تيمية بسببها، وأخمدت الفتنة، حتى جاء من يعدون كلامه كالوحي المتلو فدافعوا عن مقالته ونشروها وأوقدوا نار الفتنة، ولله الأمر)([62])
ومن كلام له أيضاً يصف فيه موقف البعض من العترة النبوية المطهرة فيقول:(وآخرون يتولون العترة المطهرة ولكن بحد وإلى مقام لا يتجاوزونه البتة، فتراهم يأتون إلى كل فضيلة لعليّ عليه السلام ثابتة بالأحاديث الصحيحة فيتأولونها دفعاً بالصدر لتوافق بعض المذاهب، فإذا جاء في الأحاديث الصحيحة أن علياً مولى المؤمنين وأنه لا يغادر الحق وأنه أعلم وأشجع الصحابة وأسبقهم إسلاماً وهو الكرار الذي لم يهزم، إلى غير ذلك اشتغلوا بتأويل الأحاديث الصحيحة بما يوافق المذهب، وازداد بعضهم جحـوداً بالالتجاء إلى منـهاج بـدعة ابن تيمـية فيعولون عليه في نفي خصائص عليّ عليه السلام، وتدعيم أسـس النّصـب)([63])
ورأيت من بينها العلامة المتكلم الشيخ سعيد فودة، فسألت الشيخ صفي الدين عنه، فذكر لي أنه من المتكلمين الذين كتبوا في الرد على أطروحات ابن تيمية، وخاصة العقدية منها، ومن كتبه في ذلك كتابه (الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيميـة)، و(نقـض الرسـالة التدمرية)، و(الفرق العظيم بين التنـزيه والتجسيم) وغيرها.. ومن تصريحاته في ذلك قوله في (نقض الرسالة التدمرية): (لقد اشتهر بين الناس أن ابن تيمية هو من ألف بين قِطَع مذهب التجسيم، ورتّبه ونظّمه حتى أسس أركانه،وكان يُسميه بمذهب السلف مجانبة منه للصواب، وتعصباً لرأيه ومحض عناد، وقد ألّف أكثر كتبه لنصرة هذا المذهب، والتبس الأمر على كثير من الخلق والعـوام، لأنه اعتاد اتّباع أساليب لفظية تتيح له التهرب عند المساءلة، وتترك لمن لم يُتقن فهم مراده التشكّك فيما قصده، والرجل لا نظن نحن فيه إلا أنه تَقصّد ذلك.. وأما عندنا فما كتبه واضح في مذهب الضلال، ونص صريح في نصرة مذهب المجسمة والكرامية المبتدعة، ونحن في ردنا عليه ونقضنا لكلامـه لا يتوقف هجومنا لصدّ أفكاره وتوهماته على موافقة الناس لنا، بل إننا نعلم أن كثيرا منهم على عينيه غشاوة، نرجو من الله تعالى إزالتها بما نقوم به من الردود والتنبيهات)([64])
وقال في كتاب (تهذيب شرح السنوسية)، عند شرحه عبارة (وقد أجمعت الأمة على أن الله تعالى مخالف للحوادث)، فقال: (لقد نفى ابن تيمية هذا الإجماع، وادعى أنه لم تجمع الأمة على أن الله تعالى لا يشابه المخلوقات من جميع الوجوه، بل ادعى أنه لم يرد نفي التشبيه في الشريعة، وأنه لم يذم أحد بالتشبيه، وأما ما ورد عن بعض السلف من نفي التشبيه فمرادهم فقط كون الله تعالى من لحم وعظم؟! وهذا الكلام في غاية الشناعة وهو متمش مع مذهبه في التجسيم والمغالطة…)([65])
وقال في كتابه (بحوث في علم الكلام): (.. حتى برز في أوائل القرن الثامن أحمد بن تيمية الحراني، وهو يظن في نفسه الذكاء البالغ والعلم التام، وقد اشتغل في بداية أمره بالسنة فمدحه العلماء لتظاهره بذلك، وعطفوا عليه لما أصاب عائلته مع باقي العائلات المشردة إثر مصائب التتار، وحفاظاً على الذكرى الجيدة لأبيه وجده المتبعين لمذهب الإمام أحمد في الفقه، وما إن استطاع أن يقوم بنفسه حتى أعلن مكنون نفسه من مذهب بطال وعقائد التجسيم، وما يخبئه من مواقف غريبة لأعلام العلماء من أهل السنة)([66])
أما كتابه الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية والذي يقع في أكثر من خمسمائة صفحة من القطع الكبير، فكله في كشف عقائد ابن تيمية الضالة.
أشار صاحبي الوهابي التائب إلى رجل منهم، كان ممتلئا سلاما وصفاء ونورا، وقال، وهو يخاطبني: لاشك أنك سمعت بهذا الرجل، وقرأت له، وأحببته قبل أن تراه إنه الشيخ ابن عطاء الله الإسكندري المالكي.. وهو ممثل المالكية في هذا المجلس.
قلت، وقد امتلأ قلبي فرحا وسرورا: أهلا وسهلا بك سيدي، لقد استفدت من حكمك كثيرا، بل من جميع كتبك.. لكن المعاصرين من قومك ينفرون منك بحجة أنك لم تكن على علاقة طيبة بابن تيمية.. لقد قال عنك الذهبي: (رأيته بالإسكندرية فيما أرى، وكان يتكلم على الناس ويقول أشياء نافعة وله عبارة عذبة وفيه صدق، وله مشاركة في الفضائل، ولكنه كان من كبار القائمين على الشيخ تقي الدين ابن تيمية)([67]).. وقال عنك الشوكاني: (وهو ممن قام على الشيخ تقي الدين بن تيمية، فبالغ في ذلك وكان يتكلم على الناس وله في ذلك تصانيف)([68])
قال ابن عطاء الله: أجل يا بني.. لقد فعلت ذلك..
قلت: الحمد لله أنك تبت منه.
قال ابن عطاء الله: وهل يتوب المرء من حسناته.. بل أنا أتوب إلى الله من تقصيري في تأليف الكتب في الرد عليه والتحذير منه، واكتفائي بدل ذلك بالمناظرة الشفاهية التي لا يستفيد منها إلا من حضرها.
قال ذلك، ثم أخرج وثيقة من محفظته، وقدمها لي، وقال: خذ هذه الوثيقة، ففيها أسماء من قدرت على الالتقاء به من علماء المالكية في مختلف المجالات، وفيها تواقيعهم، وهم يطالبون جميعا بالوقوف بقوة في وجه التحريفات التي قام بها ابن تيمية وأتباعه نحو الإسلام.. الذي حولوه من دين رحمة للعالمين إلى دين قسوة للعالمين.. ومن دين عدالة إلى دين جور.. ومن دين محبة وسلام إلى دين بغض وصراع.
قدم لي الوثيقة، وقد دهشت من كثرة الأعلام الواردين فيها.. وكان من بينهم الإمام الحافظ الشيخ أبي الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني، وقد سألت ابن عطاء الله عنه، فذكر لي أنه من أكابر علماء المغرب، بل العالم الإسلامي، وأنه كان شديداً على ابن تيمية في مصنفاته الكثيرة، ومنها (قطع العروق الوردية)، و(حصول التفريج)، و(هداية الصغراء)، ورسالتـه الأخيـرة لعبدالله التليدي المغربي التي طبعت بعنوان (در الغمام الرقيق).. ومن أقواله في ابن تيمية: (وكتب ابن القيم كلها نافعة مباركة عليها نور وفيها إفادة وهداية بخلاف كتب شيخه ابن تيمية فإنها مظلمة بخبث طوية صاحبها وكبريائه وأنانيته، بل ما ضل من ضل عن الصراط المستقيم إلا بكتبه ويكفيك أن قرن الشيطان النجدي وأتباعه ومذهبه الفاسد وليد أفكار ابن تيمية وأقواله، أما ابن القيم فهو وإن كان على مذهب شيخه إلا أنه كان معتدلاً من جهة، وطيب القلب منوره من جهة، فلذلك يحصل الانتفاع بكتبه دون كتب شيخه .. وبعد فلسنا نقول إن كل ما يذهب إليه ابن القيم في كتبه وما يقرره من آرائه وإن كان مؤيداً بدليله في نظره هو الحق، بل نوجب على مبتغي الحق وطالب السلامة أن لا يقلد مخلوقاً كائناً من كان، وأن يتبع الدليل بحسب نظره، ونظر أهل الحق إن عجز هو عن الاستقلال بإدراكه، فإن لابن القيم والحنابلة هنات وأوهـاماً وطامات)([69])
وكان من بينهم المحدث الفقيه الشريف الشيخ عبدالله بن محمد بن الصديق الغماري الحسني، وقد سألت ابن عطاء الله عنه، فذكر لي أنه مثل سائر العلماء الغماريين ممن جمعوا بين الحديث والفقه والتصوف مع حب عظيم للعترة الطاهرة، وأن من كتبه في ذلك كتابه (أفضل مقول في مناقب أفضل رسول صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن أقواله فيه قوله: (وانحراف ابن تيمية عن علي وأهل البيت معروف، وحتى حُكم عليه بالنفاق لأجل ذلك)([70])
وقال في كتابه (سمير الصالحين): (ويدلّ أيضاً على أن علياً رضي الله عنه كان ميمون النقيبة، سعيد الحظ، على نقيض ما قال ابن تيمية في منهاجه عنه أنه كان مشئوماً مخذولاً، وتلك كلمة فاجـرة، تنبئ عمـا في قلب قائلها من حقد على وصيّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخيـه كرم الله وجهه)([71])
وكان من بينهم الحافظ الشريف الشيخ محمد عبدالحي بن عبدالكبير الكتاني المغربي، وقد سألت ابن عطاء الله عنه، فذكر لي أنه كان من كبار المحذرين من ابن تيمية، ومن تصريحاته في ذلك قوله: (فإني أرى هذه الضلالات وما يتبعها من الشناعات التي كان أول مذيع لها وموضح لظلامها الشيخ أحـمد بن تيميـة رحمه الله تعالى وعفـا عنـه قد كادت الآن أن تشيع وفي كل بلاد أهل السنة تذيـع…)([72])
وقوله في كتابه الشهير (فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمسلسلات): (ومن أبشع وأشنع ما نقل عنه رحمه الله قوله في حديث ينزل ربنا في الثلث الأخير من الليل كنزولى هذا قال الرحالة ابن بطوطة في رحلته وشاهدته نزل درجة من المنبر الذي كان يخطب عليه وقال القاضي أبو عبدالله المقري الكبير في رحلته نظم اللآلي في سلوك الأمالي حين تعرض لشيخيه ابني الإمام التلمساني ورحلتهما ناظرا تقي الدين ابن تيمية وظهرا عليه وكان ذلك من أسباب محنته، وكان له مقالات شنيعة من إمرار حديث النزول على ظاهره وقوله فيه كنزولي هذا، وقوله فيمن سافر لا ينوي إلا زيارة القبر الكريم لا يقصر لحديث لا تشد الرحال اه، ونقله عنه حفيده أبو العباس المقري في أزهار الرياض وأقره مع أن تآليفه المتداولة الآن بالطبع ليس فيها إلا التوريك في مسألة إبقاء المتشابه على ظاهره مع التنزيه والتنديد بالمؤولين وهو على الإجمال مصيب في ذلك، وأما مسألة الزيارة فإنه انتدب للكلام معه فيها جماعة من الأئمة الأعلام وفوقوا إليه فيها السهام كالشيخ تقي الدين السبكي والكمال ابن الزملكاني وناهيك بهما وتصدى للرّد على ابن السبكي ابن عبد الهادي الحنبلي ولكنه ينقل الجرح ويغفل عن التعديل وسلك سبيل العنف والتشديد وقد ردّ عليه وانتصر للسبكي جماعة منهم الإمام عالم الحجاز في القرن الحادي عشر الشمس محمد علي بن علان الصديقي المكي له (المبرد المبكي في ردّ الصارم المنكي) ومن أهل عصرنا البـرهان إبراهيم بن عثمان السمنودي المصري سماه (نصرة الإمام السبكي بردّ الصارم المنكي) وكذا الحافظ ابن حجر له (الإنارة بطرق حديث الزيارة) وانظر مبحثها من فتح الباري والمواهب اللدنية وشروحها…)([73])
وكان من بينهم الشيخ أحـمد زروق المالكي، وقد سألت ابن عطاء الله عنه، فذكر لي قوله: (ابن تيمية رجل مسلم له باب الحفظ والإتقان، مطعون عليه في عقائد الإيمان، مثلوب بنقص العقل فضلاً عن العرفان…)([74])
وكان من بينهم الشيخ محمد البرلسي الرشيدي المالكي، وقد سألت ابن عطاء الله عنه، فذكر لي قوله: (وقد تجاسر ابن تيمية عامله الله بعدله وادعى أن السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم محرم بالإجماع، وأن الصلاة لا تقصر فيه لعصيان المسافر به، وأن سائر الأحاديث الواردة في فضل الزيارة موضوعة، وأطال بذلك بما تمجه الأسماع وتنفر منه الطباع، وقد عاد شؤم كلامه عليه حتى تجاوز إلى الجناب الأقدس المستحق لكل كمال أنفس وحاول ما ينافي العظمة والكمال بادعائه الجهة والتجسيم، وأظهر هذا الأمر على المنابر، وشاع وذاع ذكره في الأصاغر والأكابر وخالف الأئمة في مسائل كثيرة، واستدرك على الخلفاء الراشدين باعتراضات سخيفة حقيرة، فسقط من عين أعيان علماء الأمة، وصار مُثله بين العوام فضلاً عن الأئمة، وتعقب العلماء كلماته الفاسدة وزيفوا حججه الداحضة الكاسدة وأظهروا عوار سقطاته، وبينوا قبائح أوهامه وغلطاته، حتى قال في حقه العز بن جماعة: إن هو إلا عبد أضله الله وأغواه، وألبسه رداء الخزى وأرداه…)([75])
أشار صاحبي الوهابي التائب إلى رجل آخر كان يبدو ذا وقار وحزم وشدة، وقال: هذا الرجل الذي تراه هو قال القاضي شرف الدين عبدالغني بن يحيى الحراني قال الحنبلي…. وهو ممثل الحنابلة في هذا المجلس.
قلت: أهلا وسهلا ومرحبا.. وكيف لا أعرفه.. إنه قاضي الحنابلة المعاصر لابن تيمية.. لكني إلى الآن لا أعرف هل أنت كما وصفك ابن كثير بقوله: (إن القاضي شرف الدين كان قليل العلم، مزجي البضاعة)([76]).. أو أنك كما وصفك الذهبي فقال: (القاضي الشيخ الإمام قاضي القضاة شرف الدين عبدالغني بن يحيى… من كبار الرؤوس… وكان متوسطاً في المذهب، محمود السيرة، كثير المكارم)([77])
قال الحنبلي: أنا عبد الله.. ويهمني وصف الله لي لا وصف الناس.. لكني أقول لك فقط: لا تأخذ مواقفك من الناس من كلام أعدائهم.. فعين العدواة لا تبدي إلا المساوئ.
قلت: وهل كان ابن كثير معاديا لك؟
قال: ابن كثير وضع مقياسا طبقه على جميع الأعلام الذين ترجم لهم.. لقد اعتبر كل من أحب ابن تيمية وتبعه عالما صالحا.. واعتبر من اختلف معه مزجي البضاعة في العلم منحرفا..
قلت: ومن أين له هذا المقياس الفاسد؟
قال: لقد قاسه على ما ورد في الحديث عن علي بن أبي طالب: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم، إلي أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق)([78])
قلت: بئس هذا القياس الذي قاسه.. أيقاس ابن تيمية بأمير المؤمنين ويعسوب الدين وباب مدينة العلم؟
قال: ليت الأمر وقف على ذلك.. الأمر أخطر بكثير.
قلت: ألهذا كنت من العلماء الذين واجهوا ابن تيمية، وكنت سببا مع غيرك من العلماء لدخوله السجن([79]).
قال: أجل.. وأنا نادم على ذلك.
قلت: الحمد لله.. فما أبشع أن يكون الشخص سببا في سجن الناس.
قال: أنا لست نادما على ما كتبته وفعلته.. نادم على ما لم أكتبه وما لم أفعله.
قلت: وما ذاك؟
قال: لم أكن أعلم أن تلك الأفكار التي حبسناها في القمقم سينفخ فيها الشيطان في يوم من الأيام، وتملأ الدنيا بالصراع.. وإلا لو فطنا لذلك لاجتمعنا وكتبنا ردودا علمية مفصلة تحمي الأمة من آثار ذلك الفكر التخريبي الذي دمر حياة المسلمين.
قال ذلك، ثم قدم لي وثيقة فيها أسماء لبعض الأعلام الكبار، وبجانب كل اسم منها توقيع وختم.. وقد رأيت أن الحنابلة الذين رفعوا شكواهم على ابن تيمية أقل بكثير من إخوانهم من سائر المذاهب، فسألته عن ذلك، فقال: صدقت.. فأكثر الحنابلة للأسف.. وبسبب غلوهم في الإمام أحمد حتى (جعلوا محبته دليلاً على الإسلام وبغضه دليلًا على الكفر والزندقة) سرت إليهم الكثير من الضلالات والانحرافات التي أضرت بالأمة([80]) كالتكفير، والظلم، والشتم، والكذب، والقسوة في المعاملة، والذم بالمحاسن، والأثر السيئ في الجرح والتعديل، والتجسيم الصريح، أو التأويل بالبالطل، وإرهاب المتسائلين، وتفضيل الكفار على المسلمين، وتفضيل الفسقة والظلمة على الصالحين، والمغالطة، والانتصار بالأساطير والأحلام، وتجويز قتل الخصوم، والاسرائيليات، والتناقض، والتقوّل على الخصوم، وزرع الكراهية الشديدة مع عدم معرفة حق المسلم، والأثر السيء على العلاقات الاجتماعية، واستثارة العامة والغوغاء، والتزهيد من العودة للقرآن الكريم مع المبالغة في نشر أقوال العلماء الشاذة.. مع انتشار عقائد ردود الأفعال كالنصب وذم العقل، والتركيز على الجزئيات وترك الأصول، وإطلاق دعاوى الاجماع، واطلاق دعاوى الاتفاق مع الكتاب والسنة والصحابة، وتعميم معتقد البعض أو بعض الأفراد على جميع المسلمين، مع إرجاع أصول المخالفين كل فرقة أصول الفرقة الأخرى لأصول غير مسلمة يهودية أو نصرانية أو مجوسية.
وكل هذه الانحرافات سرت لابن تيمية.. أو تضخمت عنده.. ولذلك لا أمانع مع كوني حنبلي المذهب أن أعتبر حنبلية ابن تيمية – بالإضافة الى نفسه المحبة للصراع – سببا فيما نجتمع هنا لأجله.
قلت: ولكن مع ذلك أسمع عن بعض الحنابلة من الصوفية والمتكلمين وغيرهم؟
قال: أجل.. ذلك صحيح.. وكل من ترى تواقيعهم هنا منهم.. فالحنبلي الذي يتخلص من رعونة نفسه بالتصوف.. ويتخلص من بلادة عقله وتعصبه بالنظر الكلامي العقلي.. يصبح إنسانا سويا بريئا من ذلك الغلو الذي وقع فيه الكثير من أصحابنا([81]).
رحت أنظر في الأسماء، وقد تعجبت إذ وجدت من بينها اسم الذهبي، فقلت له: ما بالك يا رجل.. أراك أخطأت في هذا الاسم.. فالذهبي من أصدقاء ابن تيمية المقربين.. وقد سمعت البارحة أحاديث له في فضله..
قال الحنبلي: صدقت في ذلك.. فلا مانع أن يثنى المرء على شخص معين في بادىء الأمر اعتمادا على حسن الظن به، ثم بعدما يتبين له حاله يقدحه ويذمه، وهذا أمر مشاهد ومعروف، ومن قال غير ذلك، فليراجع كتب التواريخ والطبقات.
لقد كان في جملة المثنين عليه التاج الفزاري المعروف بالفركاح وابنه البرهان والجلال القزويني والكمال الزملكاني ومحمَّد بن الحريري الأنصاري والعلاء القونوي وغيرهم، لكن ثناء هؤلاء انقلب بعد ذلك.. وتخلى عنه هؤلاء جميعهم.
قلت: أجل.. لقد طالعت أمثال ذلك.. ولكن ليس مع الذهبي.. إنه شخص مختلف تماما.. وثناؤه على ابن تيمية يدل على كونه صادقا في ذلك.
قال الحنبلي: صدقت.. ومن قال لك غير ذلك.. لكن لم يقبل التيميون الثناء، ويعرضون عن الهجاء.. أليس الذي صدق في الثناء يصدق في الهجاء.. لقد ذكر الذهبي نفسه ذلك في رسالته (بيان زغل العلم والطلب).. فقد ورد فيها قوله: (فوالله ما رمقت عيني أوسع علمًا ولا أقوى ذكاء من رجل يقال له ابن تيمية مع الزهد في المأكل والملبس والنساء، ومع القيام في الحق والجهاد بكل ممكن، وقد تعبت في وزنه وفتشه حتى مللت في سنين متطاولة، فما وجدت أَخَّرَهُ بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفَّروه إلا الكبر والعجب وفرط الغرام في رياسة المشيخة والازدراء بالكبار، فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبة الظهور، نسأل الله المسامحة، فقد قام عليه أناس ليسوا بأورع منه ولا أعلم منه ولا أزهد منه، بل يتجاوزون عن ذنوب أصحابهم وآثام أصدقائهم، وما سلَّطهم الله عليه بتقواهم وجلالتهم بل بذنوبه، وما دفع الله عنه وعن أتباعه أكثر، وما جرى عليهم إلا بعض ما يستحقّون، فلا تكن في ريب من ذلك)
وقال في موضع آخر من رسالته: (فإن برعت في الأصول وتوابعها من المنطق والحكمة والفلسفة وآراء الأوائل ومحارات العقول، واعتصمت مع ذلك بالكتاب والسُّنّة وأصول السلف، ولفقت بين العقل والنقل، فما أظنك في ذلك تبلغ رتبة ابن تيمية ولا والله تقاربها، وقد رأيتَ ما آل أمره إليه من الحطّ عليه والهجر والتضليل والتكفير والتكذيب بحقّ وبباطل، فقد كان قبل أن يدخل في هذه الصناعة منوَّرًا مضيئًا على مُحَيَّاه سِيْمَا السلف، ثم صار مظلما مكسوفا عليه قتمة عند خلائق من الناس، ودجّالاً أفّاكًا كافرًا عند أعدائه، ومبتدعًا فاضلاً محقّقًا بارعًا عند طوائف من عقلاء الفضلاء)
قلت: شوقتني إلى هذه الرسالة، فهلا قرأت لي بعض ما فيها.
قال الحنبلي: أجل.. فما اجتمعنا هنا إلا لأجل ذلك حتى نتفق على التهم التي نقدمها للقاضي لمحاكمة ابن تيمية.
فمما جاء في هذه الرسالة([82]) قوله – وهو يخاطب ابن تيمية -: (إلى كم ترى القذاة في عين أخيك وتنسى الجذع في عينك!.. إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعباراتك وتذم العلماء وتتبع عورات الناس مع علمك بنهي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تذكروا موتاكم إلا بخير، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) بلى أعرف أنك تقول لي لتنصر نفسك: (إنما الوقيعة في هؤلاء الذين ما شموا رائحة الإسلام ولا عرفوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو جهاد).. بلى والله عرفوا خيرا كثيرا مما إذا عمل به العبد فقد فاز وجهلوا شيئا كثيرا مما لا يعنيهم، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.. يا رجل بالله عليك كف عنا فإنك محجاج عليم اللسان لا تقر ولا تنام. إياكم والغلوطات في الدين كره نبيك صلى الله عليه وآله وسلم المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال وقال: (إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان)، وكثرة الكلام بغير زلل تقسي القلوب إذا كان في الحلال والحرام، فكيف إذا كان في عبارات اليونسية والفلاسفة وتلك الكفريات التي تعمى القلوب.. يا خيبة من اتبعك فإنه معرض للزندقة والانحلال، لا سيما إذا كان قليل العلم والدين.. فهل معظم أتباعك إلا قعيد مربوط خفيف العقل أو عامي كذاب بليد الذهن أو غريب واجم قوي المكر أو ناشف صالح عديم الفهم، فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل، يا مسلم أقدم حمار شهوتك لمدح نفسك.. إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار.. إلى كم تصادقها وتزدري الأبرار.. إلى كم تعظمها وتصغر العباد. إلى متى تخاللها وتمقت الزهاد.. إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح – والله – بها أحاديث الصحيحين.. يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك بل في كل وقت تغير عليها بالتضعيف والاهدار أو بالتأويل والإنكار، أما آن لك أن ترعوى؟ أما حان لك أن تتوب وتنيب؟ أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل.. بلى – والله – ما أذكر أنك تذكر الموت بل تزدري بمن يذكر الموت فما أظنك تقبل على قولي ولا تصغي إلى وعظي بل لك همة كبيرة في نقض هذه الورقة بمجلدات وتقطع لي أذناب الكلام ولا تزال تنتصر حتى أقول: وألبتة سكت.. فإذا كان هذا حالك عندي وأنا الشفوق المحب الواد فكيف حالك عند أعدائك.. وأعداؤك – والله – فيهم صلحاء وعقلاء وفضلاء كما أن أولياءك فيهم فجرة وكذبة وجهلة وبطلة وعور وبقر.. قد رضيت منك بأن تسبني علانية وتنتفع بمقالتي سرا (فرحم الله امرؤا أهدى إلي عيوبي) فإني كثير العيوب غزير الذنوب)
أشار صاحبي الوهابي التائب إلى رجل آخر كان يرتدي عمامة سوداء مثل العمائم التي يرتديها علماء الشيعة، وقال: هذا الرجل الذي تراه هو آية الله السيد علي الحسيني الميلاني.. وهو ممثل الشيعة الإمامية في هذا المجلس.
توجهت إليه ببرودة قائلا: مرحبا بك.. ولكن ما الذي وضعك بين علماء أهل السنة؟
قال: أولست من علماء أهل السنة؟
قلت: أنت من الشيعة الرافضة.. وشتان ما بينكم وبين أهل السنة.
قال: في أي شيء ترى الفوارق بيننا؟
قلت: في أمور كثيرة لا تعد ولا تحصى.. بل كأن بيننا وبينكم جبالا من نار.. أو كأن لكم دينكم ولنا ديننا.
ابتسم الميلاني، ثم قال: هذا كله من تأثيرات ابن تيمية فيكم.. وإلا فإن المسافة بيننا وبينكم لا تبلغ كل هذا الحد، بل لا تبلغ دونه بكثير.. أجبني على أسئلتي، وربما ستقتنع بما أقول.
قلت: لا بأس.. ولو أني أعلم قدرتكم على قلب الحقائق.
ضحك الميلاني ملء فيه، ثم قال: لا تخف.. لن أقلب الحقائق.. سأتكلم مع عقلك وفطرتك.. أخبرني عن الوظيفة التي كلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها؟
قلت: لقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما أرسل سائر الرسل لتعريفنا بربنا وبمصيرنا وبوظيفتنا في هذه الحياة.. ويعرفنا بحقائق الوجود كما هي عليه.
قال: فنحن نتفق معكم في كل ذلك.. بل نتفق مع من تراهم معي أكثر من اتفاقهم مع من يسمون أنفسهم الفرقة الناجية أو يحتكرون لقب أهل السنة لأنفسهم دون غيرهم من الناس.
قلت: تقصد التيميين والوهابيين والسلفيين.
قال: أجل.. فالمسافة التي بيننا وبين أصحاب المذاهب الأربعة في هذه المسائل أقرب من المسافة التي بينهم وبين التيميين والسلفيين.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لأننا وإياهم نتفق على تنزيه ربنا عن الجسمية ومتطلباتها المختلفة.. والسلفيون والتيميون يجسمون ويشبهون، ويجعلون ربهم جرما من الأجرام السماوية العليا لا يختلف عنها إلا في كيفيته التي لم يروها بعد.. أليس هذا كافيا للتفريق؟
قلت: بلى.. وأنا أعلم أن الخلاف بين الطائفتين الكبيرتين في المسيحية من الكاثوليك والأرثوذكس قائم على أساس الخلاف بينهما في طبيعة المسيح وعلاقتها بالله.
قال: ليس ذلك فقط هو محل الاتفاق بيننا.. نحن نتفق مع أصحاب المذاهب الأربعة في تعظيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطاهرة واعتبارهم وسيلة إلى الله، وتعظيم كل ما يرتبط بهم والتبرك بهم.. بينما السلفيون والتيميون يعتبرون ذلك معصية.. بل يعتبرونه شركا.
قلت: صدقت في هذا.. ولكن المشكلة أننا نختلف معكم في الصحابة؟
قال: هل يمكنك أن تقرأ لي الآية التي تنص على وظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قلت: بلى.. لقد نص القرآن الكريم على وظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آيات كثيرة منها قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164]
قال: فما الوظائف التي كلف بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية الكريمة؟
قلت: هي تلاوة القرآن الكريم والتزكية وتعليم الكتاب والحكمة.
قال: فأين الصحابة فيها؟
قلت: الصحابة هم الواسطة التي تصلنا بها الآيات والحكمة فإذا قطعناها فلن يصلنا شيء؟
قال: أنت ترى أن الدين جميعا قد وصلنا بأصوله وفروعه.. فالقرآن الذي نقرؤه هو نفسه قرآنكم.. وصلاتنا هي صلاتكم.. وجميع شعائرنا التعبدية لا تختلف عن شعائركم.. بل إن أكثر الأحاديث التي لديكم توجد لدينا.. لا نختلف إلا في أن راويها عندنا هم آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وروايها عندكم هو أبو هريرة أو ابن عمر.. فهل ترى أن المطلوب في الحديث نصه أم سنده؟
قلت: لاشك أن المطلوب هو نصه..
قال: فنحن نتفق في أكثر النصوص.. ولا نختلف إلا في أسانيدها.. أتستحق الأسانيد كل هذا الخلاف؟ أم أنك تعتبر أن الأسانيد الواردة عن الصحابة أعظم حرمة من الأسانيد الواردة عن أهل البيت؟
قلت: صدقت في هذا.. وقد قرأت الكثير من كتب الرواية عندكم، فوجدتها ممتلئة بالأحاديث التي في كتبنا.. وقد تعجبت لذلك عجبا شديدا.
قال: لا تتعجب يا بني.. فكل ما ينشره الطائفيون المثيرون للفتن في الأمة ليسوا سوى تلاميذ لمدرسة ابن تيمية وسلفه.. وإلا فإننا نحترم الصحابة مثلما تحترمونهم.. والخلاف بيننا لا يعدو المصاديق.. فنحن نعظم بلالا وعمارا والمقداد وأبا ذر وغيرهم من الذين وقفوا في وجه الفئة الباغية، وأنتم تعظمون آخرين.. والله يحكم بيننا يوم القيامة فيما نختلف فيه.
قلت: فهل كتبت كتبا في ابن تيمية؟
قال: أجل.. ولهذا تراني هنا بينكم.. لقد تتبعت ما كتبه ابن تيمية حول العترة الطاهرة، وفندته من خلال المصادر المعتمدة عند أهل الحديث، وذلك في كتابي (ابـن تيميـة وإمامـة علـي بـن أبـي طالـب عليـه السـلام)
قال ذلك، ثم قدم لي وثيقة بأسماء علماء الإمامية الذين ردوا على ابن تيمية، وقد وجدت من بينهم الكثير من الأعلام الكبار..
أشار صاحبي الوهابي التائب إلى رجل آخر كان يرتدي ثيابا يمانية، وقال: هذا الرجل الذي تراه هو السيد الحسن بن إسحق بن المهدي الزيدي الصنعاني([83])، وهو ممثل الزيدية في هذا المجلس.
قلت: أهلا وسهلا ومرحبا.. لقد سمعنا الناس يذكرون أنكم أقرب الفرق إلى السنة.
ابتسم، وقال: أتريد أن أكرر لك ما قال السيد الميلاني.. السنة حق الأمة جميعا.. ولا يحق لأحد من الناس أن يقرب من يشاء أو يبعد من يشاء..
قلت: صدقت.. لقد أغرقتنا الطائفية، فصرنا لا نميز بين الحق والباطل..
قال: لا عليك.. سيأتي اليوم الذي تطفأ فيه نارها.
قلت: إن نارها لن تنطفئ حتى تأتي على الأخضر واليابس.
قال: هذه سنة الله.. الله تعالى وضع لعباده أنواع البلاء ليختبر نفوسهم.. فمن كان صادقا هدي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم.. ومن كان غير ذلك، لن ينال غير ذلك.
قلت: أأنتم معشر الزيدية أيضا تختلفون مع ابن تيمية؟
قال: وهل هناك من العقلاء من لا يختلف معه.. إننا نختلف معه في كل ما يختلفون فيه إخواننا من أصحاب المذاهب.. نختلف معه في تجسيمه لله، فنحن بحمد الله من المنزهة.. ونختلف معه في نصبه وعداوته لآل بيت النبوة، فنحن بحمد الله من الموالين لهم.. ونختلف معهم في الصراع الذي نشره في الأمة، فنحن دعاة وحدة وسلام.
قلت: فهل كتبتم في الرد عليه؟
قال: كل كتبنا ترد عليه.. كتبنا التي ترد على التجسيم ترد عليه.. وكتبنا التي تنتصر لآل بيت النبوة ترد عليه.. وهكذا يمكنك الرجوع لأي كتاب ألفه أعلامنا ستجد الردود القوية الواضحة عليه سمته أو لم تسمه.
قلت: أظن أنهم اختاروك ممثلا للزيدية لأن لك ردودا خاصة على ابن تيمية.
قال: أجل.. أنا مثل إخواني ضقت ذرعا بجرائم ابن تيمية في حق الأمة، ولهذا كتبت رسالة في الرد عليه..
قلت: على أي موضوع قصرتها؟
قال: رددت فيها على منهج ابن تيمية العام، لكني تحدثت فيها بتفصيل حول مخاريقه وأكاذيبه في كتابه (منهاج السنة)([84])
أشار صاحبي الوهابي التائب إلى رجل آخر كنت أتابع محاضراته أحيانا على بعض القنوات الفضائية، وقال: هذا الرجل الذي تراه هو..
قاطعته قائلا: أنا أعرفه إنه الخليلي.. وهو ممثل الإباضية في هذا المجلس.. وقد تعجبت لدخوله مع علماء المذاهب الأربعة مع كونه إباضيا.
ابتسم الخليلي، وقال: لن أكرر لك ما ذكره أخي وصديقي الميلاني، فكل ما تراه من تفريق للأمة واحتكار للسنة هو من آثار الطائفية التي نشرها ابن تيمية.. وإلا فإن المسافة بيننا وبين أصحاب المذاهب الأربعة في القضايا الكبرى للدين أقرب من المسافة التي بيننا وبين ابن تيمية وأتباعه.. ولهذا تراه يضعنا جميعا في سلة واحدة.
قلت: أجل.. وأنا أكبر فيك وفي أصحابك حرصكم على الوحدة الإسلامية وعلى السلام الذي جاء به الدين.. ولكني أتعجب أن يكون لكم موقف سلبي من ابن تيمية وأنتم الذين يغلب عليكم السلام والسماحة.
قال: السلام والسماحة هي التي دعتنا لمواجهة هؤلاء الذين جعلوا من الدين الإلهي وسيلة للعنف والفتنة التفرقة والطائفية.
قلت: فهل كتبت وأصحابك ردودا على ابن تيمية؟
قال: كل كتبنا ترد عليه سواء باسمه أو بغير اسمه.. فنحن نعتبر عقائد ابن تيمية في الله عقائد ضلالة، لأن الله أعظم من أن يحصر في حد أو يجري عليه ما يجري على الأجسام.. وقد قلت في بعض كتبي: (ومن بين أئمة الحشوية الذين ضللهم أتباع المذاهب الأربعة، وهم -كما قلت- يلزون أنفسهم بهذه المذاهب الأربعة، ويلصقونها بهم، من بينهم مجدد النحلة الحشوية ابن تيمية الحراني فقد ضلله العدد الكثير من أئمة المذاهب الأربعة.. من بين هؤلاء العلامة ابن حجر الهيثمي، فقد قال في كتابه (الفتاوى الحديثية): (وإياك أن تصغي إلى ما في كتب ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وغيرهما ممن اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله؟! وكيف تجاوز هؤلاء الملحدون الحدود وتعدوا الرسوم، وخرقوا أسياج الشريعة والحقيقة، فظنوا بذلك أنهم على هدى من ربهم، وليسوا كذلك)
وقلت: (ومن بين هؤلاء الذين ردوا هذه الروايات شيخا الحشوية اللذان جددا نحلتها ابن تيمية وابن القيم..)
وقلت: (ولكن ابن تيمية يرفض ذلك لأجل موافقته لمذهب أرسطو، ويحاول أن يلوي الأدلة، ويرد بعضها بكونها غير متواترة، ويؤول بعضها بما يتفق مع هواه في هذه القضية..)
قال ذلك، ثم قدم لي وثيقة عن أعلام الإباضية الذين وقفوا معه هذا الموقف.. فوجدتهم جميعا على ذلك.
بعد أن تعرفت على أعلام الأمة الذين تشرفت بزيارتهم، سألتهم عن سر اجتماعهم في بيتي، وعدم ذهابهم إلى المحكمة مباشرة، فقال الكوثري: لقد أردنا من حضورنا هنا أن نسد الخلل الذي وقعنا فيه في المحاكمات السابقة.
قلت: أي خلل.. أرى أن المحاكمات السابقة كانت ناجحة بدليل أنه زج بابن تيمية في السجن بسببها.
قال: وما يفيدنا أن يسجن جسده.. بينما تظل أفكاره تشوه الدين وتحطم بنيان الأمة كما ترى.
قلت: فأنتم تريدون محاكمة أفكاره إذن؟
قال: أجل.. ووددنا محاكمته هو أيضا.. لكن المشكلة أننا عندما ذهبنا للقاضي، وطلبنا منه إحضاره أخبرنا أنه في حماية أبي بكر البغدادي وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري.. وأنه أرسل الرسل والكتب لهؤلاء ليسلموه لمحاكمته، فرفضوا، بل أعلنوا الحرب على من يتجرأ على ذلك.
قلت: وما علاقة ابن تيمية بأسامة وأيمن والبغدادي؟
قال: إنه ركن أصيل في دولتهم.. إنه يعمل وزيرا لأوقافهم، ومفتيا لديارهم، وأحيانا يستدعونه كسياف لضرب بعض الرقاب التي يتورعون عن ضربها.
قلت: ولكن ما علاقتي أنا بكل هذا.. هل تريدون أن أذهب إلى أسامة أو البغدادي أو أيمن للتوسل إليهم ليعطوني ابن تيمية لأسلمه لكم.
قال الميلاني: لا.. هل تريد منا أن نضحي بك، وتنتشر صور ذبحك في القنوات.. أنت تعلم أن هؤلاء لا يسمعون إلا للأصنام التي صاروا يعبدونها من دون الله.
قال ابن عطاء الله: اسمع يا بني.. جئنا إلى بيتك، واخترناك لحضور المحاكمة لسببين.
قلت: فما السبب الأول منها؟
قال الخليلي: السبب الأول هو قلمك.. فقد علمنا أن لديك قلما يصور كل شيء بدقة عالية.. وبأمانة وورع..
قلت: سأعطيكم قلمي.. لا بأس.
قال: لا.. قيمة القلم في اليد التي يكتب بها.. كما أن قيمة السيف في اليد التي تضرب به.
قلت: لقد ذكرت ورع قلمي.. ولهذا اعذروني.. فإني لا يمكنني أن أترك لقلمي الفرصة ليأكل من لحوم العلماء المسمومة.. أنتم تعلمون خطورة ذلك.
قال: أيهما أولى بالورع.. هل الورع عن الكلام في شخص قد نشر كل ما عنده من أحقاد.. ولم يترك أحدا إلا ومسه بلسانه، بل بسيفه؟.. أم الورع عن ترك الأمة المسلمة وهي في غفلة من أمرها يوجهها تلاميذ هذا الذي يعتبرونه شيخا للإسلام، بل ناطقا وحيدا باسم الإسلام؟
قلت: ولكن يمكننا استبدال النقض بالبناء.. فبدل أن نهدم ما بناه الآخرون نبني نحن بناء جديدا.
قال: ذلك لك أيضا.. يمكنك أن تفعله متى شئت.. ولكن لا يمكن أن تبني وغيرك يهدم.. ولا يمكن أن يعرف الناس الدين الصحيح، وهم يرون كل الأبواق تنادي بالدين المشوه.
قلت: أراكم أقنعتموني بهذا.. فما السبب الثاني؟
قال الميلاني: السبب الثاني هو ما ذكرته الآن..
قلت: تقصدون قناعتي.
قال: أجل.. فهناك من الناس من لو أتيته ببحار من الأدلة لما ذل لها، ولا قبلها.. ولا سلم لها.
قلت: فهل تعتبرون استسلامي للدليل مكرمة..
قال: بل أعظم مكرمة.. ولهذا جئناك لتحضر معنا، ولك أن تسأل ما تشاء.. وتدافع عن ابن تيمية كما تشاء.
قلت: أنتم تريدون مني إذن أن أكون محاميا على ابن تيمية؟
قال: أجل..
قلت: ولكن ذلك لا يستقيم.. فلو استدعيتم الخميس أو العثيمين أو العريفي أو القرني أو العرعور لكانوا أولى منهم.
قال: لم نستدعهم لسببين.. الأول منهما أنهما يعتقدون أن ابن تيمية هو شيخ الإسلام الأكبر.. وقاضيه الأعظم.. وأن لديه حصانة إلهية تحميه من كل المحاكمات..
والثاني هو أن هؤلاء الذين ذكرتهم كلهم يعملون لدى أسامة وأيمن والبغدادي.. بل يتولون مناصب رفيعة في دولة الخلافة التي أقامها ابن تيمية وتلاميذه.
قلت: لكني لست تيميا حتى أحامي عنه.
قال: ولكنك قرأت كتبه جميعا.
قلت: ذلك صحيح..
قال: وذلك يكفي.. فإن رأيت أننا تقولنا عليه قولا لم يقله، فلك الحق أن ترد علينا، وألا تكتبه.. وقد أحضرنا لك برنامجا يحوي جميع كتبه بأرقام صفحاتها.. فكل نص نذكره من كلام ابن تيمية يمكنك التأكد منه.
قلت: لا حاجة لي ببرنامجكم.. فقد يكون قد دس فيه على ابن تيمية ما لم يقله.. لدي برنامج فيه جميع كتب ابن تيمية.. وهو من إصدار أتباعه المحبين له..
قال الكوثري: أظن أننا اتفقنا.. فهلم بنا إلى المحكمة..
قلت: لا.. قبل أن أسير معكم لابد أن تحددوا لي أولا التهم التي تريدون أن تحاكموا على أساسها ابن تيمية.. فلعلكم تريدون أن تتهموه بما لم يقله.
قال الهندي: لقد اجتمعنا مع جميع الفقهاء والمحدثين والمفسرين وغيرهم من جميع أتباع المذاهب الإسلامية، وقد رأينا أنه يمكن حصر التهم في ثلاثة.
قلت: وما هي؟
قال: التجسيم والتشبيه.. والنصب والعداوة.. والصراع والفتنة..
قلت: هل اجتمعتم جميعا من أجل هذه التهم الثلاثة فقط؟
قال: وهل تركت هذه التهم فتنة إلا أشعلتها، ولا تشويها في الدين إلا أحدثته.
قلت: لم أفهم ما تعني.
قال: هذه التهم ترتبط بكل ما يرتبط بالدين من جميع جوانبه.. أما الأولى، فتتعلق بتشويه ابن تيمية للعقائد في الله التي هي أصل أصول الدين.. وأما الثانية فتتعلق بتشويهه للرسالة والرسل ومن يتعلق بهم من أولياء الله وأصفيائه.. وأما الثالثة، فتتعلق بصراعه مع الأمة ونشره للفتن بينها.. والتي لا تزالون تعيشون آثارها إلى اليوم.
قلت: وعيت هذا.. فما تريدون بالتهمة الأولى.. تهمة التجسيم والتشبيه؟
قال الهندي: لقد اتفق كل من انتقد ابن تيمية من العلماء المعاصرين له أو غيرهم على رميه بهذه التهمة..
قلت: لكني لم أفهم معنى هذه التهمة بعد.. بل قد سمعت من الكثير من جيراننا وإمام مسجدنا دفاعه عن ابن تيمية في هذا.. وأنه ليس مجسما ولا مشبها.
قال: ستسمع الأدلة بتفاصيلها في المحكمة..
قلت: فأخبروا عقلي الصغير الآن عن المراد بالتجسيم والتشبيه.
قال الحنبلي: سأذكر لك نصا لبعض أصحابنا من الحنابلة يوضح لك المراد من هذه التهمة.. لقد قال ابن الجوزي..
قاطعته قائلا: مهلا.. فابن الجوزي كان قبل ابن تيمية.
قال: أنت الآن طلبت الحديث عن معنى التجسيم.
قلت: أجل..
قال: فقد شرحه ابن الجوزي عند حديثه عن مجسمة الحنابلة، فقال: (ورأيت من أصحابنا من تكلّم في الأُصول بما لا يصلح، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبو عبد الله بن حامد، وصاحبه القاضي، وابن الزاغوني، فصنّفوا كتباً شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحسّ، فسمعوا أنّ الله تعالى خلق آدم على صورته، فاثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات، وعينين، وفماً، ولهوات، وأضراساً، وأضواء لوجهه هي السبحات، ويدين، وأصابع، وكفّاً، وخنصراً، وإبهاماً، وصدراً، وفخذاً، وساقين، ورجلين، وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس.. وقالوا: يجوز أن يَمس ويُمس، ويدني العبد من ذاته، وقال بعضهم: ويتنفّس، ثمّ يرضون العوام بقولهم: لا كما يعقل! وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، فسمّوها بالصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل)
قلت: فهمت ذلك.. ولكن ابن الجوزي ذكر أن هذا قوله أبي عبد الله بن حامد، وصاحبه القاضي، وابن الزاغوني.. ولا يوجد في هذه الأسماء ابن تيمية.
قال: سترى في المحكمة بالأدلة القطعية أن ابن تيمية أحد هؤلاء، بل سيدهم الذي حفظ أقوالهم، ودعا لها، وبدع من خالفها.
قلت: فما تريدون بالتهمة الثانية.. تهمة النصب والعداوة.
قال الميلاني: لقد اتفق كل من انتقد ابن تيمية من العلماء المعاصرين له أو غيرهم على رميه بهذه التهمة.. وهي عداوته للطاهرين ابتداء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطاهرة إلى عداوته لكل الأمة.
قلت: دعنا منك يا سيد.. فأنتم الشيعة تتسرعون في رمي الناس بالنصب.
قال ابن عطاء الله: اتق الله يا بني.. فالسيد الميلاني محقق كبير.. وهو لا يقول الكلمة إلا بعد أن يقتلها بحثا.. وإن لم يرقك ما يقول، فسأذكر لك كلام بعض أصحابنا من المالكية من الذين جمعوا بين الحديث والفقه والتصوف، وهو الإمام الحافظ الشيخ أبو الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني.
قلت: أعرفه إنه من أكابر علماء المغرب، بل العالم الإسلامي، وقد كان شديداً على ابن تيمية في مصنفاته الكثيرة..
قال: ومن التهم التي اهتم بها ورد عليها تهمة النصب والعداوة، وقد قال في في كـتابه (البرهـان الجـلي): (بل بلغت العداوة من ابن تيمية إلى درجة المكابرة وانكار المحسوس فصرّح بكل جرأة ووقاحة ولؤم ونذالة ونفاق وجهالة انه لم يصح في فضل علي عليه السلام حديث أصلاً، وأن ما ورد منها في الصحيحين لا يثبت له فضلاً ولا مزية على غيره… بل أضاف ابن تيمية إلى ذلك من قبيح القول في علي وآل بيته الأطهار، وما دل على أنه رأس المنافقين في عصره لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح المخرج في صحيح مسلم مخاطبـا لعلي عليه السلام (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) كما ألزم ابن تيمية بذلك أهل عصره وحكموا بنفاقه.. وكيف لا يلزم بالنفاق مع نطقه قبحه الله بما لا ينطق به مؤمن في حق فاطمة سيدة نساء العالمين صلى الله عليها وسلم وحق زوجها أخي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيد المؤمنين)
قال الهندي: وهكذا كل أصحابنا من الشافعية متفقون على رمي ابن تيمية بهذه التهمة، وقد قال الشيخ محمود السيد صبيح المصري في كتابه الضخم (أخطاء ابن تيمية في حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته): (وقد تتبعت كثيراً من أقوال مبتدعة هذا العصر فوجدت أكثر استدلالهم بابن تيمية، فتتبعت بحول الله وقوته كلام ابن تيمية فيما يقرب من أربعين ألف صفحة أو يزيد فوجدته قد أخطأ أخطاء شنيعة في حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلموأهل بيته وصحابته، وأنت خبير أن جناب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلموأهل بيته أهم عندنا أجمعين من جناب ابن تيمية..)(1)
وقال: (… ودرج المسلمون على تعظيم قرابة ونسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى خرج ابن تيمية في القرن الثامن الهجري وكأن بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته ثأراً، فما وجد من خصيصة من خصائصهم إلا نفاها أو قللها أو صرف معناها، فضلاً عن سوء أدبه في التعبير والكلام عليهم، وما وجد من أمر قد يختلط على العامـة إلا وتكلم وزاده تخليطاً، وفي سبيل ذلك نفى ابن تيمية كثيراً جداً من خصائص النبـي صلى الله عليه وآله وسلم وفضله وفضائل أهل بيته)([85])
قلت: ولكن هذه الأقوال لا تكفي لرمي ابن تيمية بهذه التهمة الخطيرة.
قال: نحن لم نذكر لك هذه الأقوال كأدلة، وإنما ذكرناها لبيان التهمة.. أما الأدلة فستسمعها مفصلة في المحاكمة.
قلت: وعيت هذا.. فما تريدون بالتهمة الثالثة؟
قال الميلاني: ألسنا نروي جميعا في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة حجة الوداع:(يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ (الحجرات:13)([86])
قلت: أجل.. ونروي معه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي ألا إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان خير من فلان بن فلان فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم أين المتقون)([87]).. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحدكم، كلكم بنو آدم ليس لأحد على أحد فضل الا بالدين أو تقوى وكفى بالرجل أن يكون بذيا فاحشا بخيلا) ([88])
قال الميلاني: بورك فيك.. ولكن ابن تيمية يقول غير ذلك.. لقد كتب في كتابه الذي سماه (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم)، وهو من أهم كتبه التي أراد أن يوضح فيها معنى الصراط المستقيم الذي نقرؤه كل يوم في سورة الفاتحة عند قوله تعالى:﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]..
قاطعته قائلا: أجل.. أعرف هذا الكتاب جيدا.. وللتيميين المتيمين بابن تيمية اهتمام بالغ به.. فهم يكادون يعتبرونه قرآنهم أو إنجيلهم.. خاصة ما ذكر فيه من كيفية التعامل مع أهل الكتاب، وضرورة مخالفتهم في الصغيرة والكبيرة.
قال: وذلك من الفتنة.. ولكني لا أقصده.. أقصد فتنة أخرى لا تقل خطرا.. لقد عقد ابن تيمية في هذ الكتاب فصلا خاصا.. بل بابا خاصا بعنوان (باب تفضيل جنس العجم على العرب نفاق)، قال فيه: (إن الذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم: عبرانيهم وسريانيهم، رومهم وفرسهم وغيرهم..)([89])
قلت: لعله يقصد فضل العرب لكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم.. فهو شرف عرضي لا ذاتي.
قال: لا.. لقد ذكر ابن تيمية أن شرفهم ذاتي، وليس عارضا.. فالعرب – كما نص على ذلك في كتابه – أفضل الأجناس بما وهبهم الله من طاقات لم توهب لغيرهم.. لقد عبر عن هذا، فقال: (وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم بمجرد كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم، وإن كان هذا من الفضل، بل هم أنفسهم أفضل. وبذلك ثبت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه أفضل نفساً ونسباً، وإلا لزم الدور)([90])
قلت: لعله رأي رآه.. ولا حرج عليه في أن يرى ما يشاء، أو يفضل ما يشاء.
قال: أجل.. له أن يرى ما يشاء ويفضل ما يشاء.. لكن ليس له أن يربطه بالدين أو يخالف به ما نص عليه الذكر الحكيم.
قلت: وهل فعل ذلك؟
قال: أجل.. لقد اعتبر أن من خالف قوله ذلك مبتدعا، لقد قال في ذلك: (فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق) ([91])
بل إنه استدل على هذا بحديث يعلم ضعه الشديد، يقول في ذلك: (ونعرف للعرب حقها وفضلها وسابقتها، ونحبهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (حب العرب إيمان، وبغضهم نفاق وكفر)([92]))، ثم علق عليه بقوله: (وهذا الإسناد وحده فيه نظر، لكن لعله روي من وجه آخر، وإنما كتبته لموافقته معنى حديث سلمان، فإنه قد صرح في حديث سلمان: بأن بغضهم نوع كفر، ومقتضى ذلك: أن حبهم نوع إيمان، فكان هذا موافقا له)([93])
ولم يكتف بهذا، بل راح يزج بالدين في الصراع الذي كان قائما بين الشعوب الإسلامية المختلفة، بدل أن يذكرهم بالآيات والأحاديث التي تدل على أن الكرامة عند الله للتقوى وليس للنسب، يقول في ذلك: (وذهبت فرقة من الناس إلى أن لا فضل لجنس العرب على جنس العجم. وهؤلاء يسمون الشعوبية لانتصارهم للشعوب التي هي مغايرة للقبائل، كما قيل: (القبائل للعرب والشعوب للعجم)، ومن الناس من قد يفضل بعض أنواع العجم على العرب. والغالب أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن نوع نفاق، إما في الاعتقاد، وإما في العمل المنبعث عن هوى النفس مع شبهات اقتضت ذلك)([94])
بل إنه في موضع آخر صرح بما هو أشد من ذلك جميعا، فاعتبر أن مجرد بغض العرب كفر، فقال: (بغض جنس العرب ومعاداتهم كفر أو سبب لكفر)
بل اعتبر أن حبهم يزيد في الإيمان، فقال: (ومقتضاه أنهم أفضل من غيرهم وأن محبتهم سبب قوة الإيمان)
بل إنه دعا إلى تقسيم الأعطيات والأموال على الأمة بحسب أنسابهم، كما فعل السلف الصالح.. فيبدأ بالعرب، ويوفون نصيبهم من العطاء.. ثم بعد ذلك وبنصيب أقل يعطى العجم.. وقد كان ذلك ديدن الدول الإسلامية التي كان يحكمها العرب.. (هكذا كان الديوان على عهد الخلفاء الراشدين وسائر الخلفاء من بني أمية وولد العباس، إلى أن تغير الأمر بعد ذلك)([95])
قلت: وعيت هذا.. ولكني أقرأ في كتب ابن تيمية أشياء كثيرة جميلة، لا يمكن اتهامه فيها.
قال: وهل يمكن لعاقل أن يسقيك السم الزعاف دون أن يضعه في العسل الحلو اللذيذ.. وهل يأتيك الشيطان إلا من أبواب الخير ليزج بك في نيران الشر؟
قلت: ذلك صحيح.. ولكن هل ينطبق ذلك على ابن تيمية.. وهل كان ابن تيمية يخدع الأمة بذلك العسل المسموم؟
قال: الله أعلم بنيات الناس ومقاصدهم.. ولكن اعلم أن كل من قرأ ابن تيمية من أعلام الأمة الصادقين ذكر حيله وخداعه ومكره..
قلت: فهلا ضربت لي مثالا عن أحدهم ليطمئن قلبي.
قال: سأضرب لك مثلا يقرب لك ذلك، وهو ما ذكره الشيخ تقي الدين أبو بكر بن محمد الحسيني الحصني الشافعي، فقد قال في مقدمة كتابه الذي ألفه في الرد على ابن تيمية، والمعنون بـ (دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى الإمام أحمد): (.. فأول شيء سلكه من المكر والخديعة أن انتمى إلى مذهب الإمام أحمد، وشرع يطلب العلم ويتعبد فمالت إليه قلوب المشايخ فشرعوا في إكرامه والتوسعة عليه فأظهر التعفف فزادوا في الغربة فيه والوقوع عليه.. ثم شرع ينظر في كلام العلماء ويعلق في مسوّداته حتى ظن أنه صار له قوة في التصنيف والمناظرة، أخذ يدوّن ويذكر أنه جاءه استفتاء من بلد كذا، وليس لذلك حقيقة، فيكتب عليها على صورة الجواب، ويذكر مالا ينتقد عليه، وفي بعضها ما يمكن أن ينتقد إلا أنه يشير إليه على وجه التلبيس بحيث لا يقف على مراده إلاّ حاذق عالم مفنن، فإذا ناظر أمكنه أن يقطع من ناظره إلا ذلك المفنن الفطن.. ثم مع ذلك شرع يتلقى الناس بالأنس وبسط الوجه ولين الكلام، ويذكر أشياء تحْلوا للنفس لا سيما الألفاظ العذبة مع اشتمالها على الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة.. فطلبوا منه أن يُذكَّر الناس ففعل فطار ذكره بالعلم والتعبد والتعفف، ففزع الناس إليه بالأسئلة، فكان إذا جاءه أحد يسأله عن مسألة قال له: عاودني فيها، فإذا جاءه قال: هذه مسألة مشكلة، ولكن لك عندي مخرج أقوله لك بشرط فإني أتقلدها في عنقي، فيقول: أنا أوفي لك، فيقول: أن تكتم علي، فيعطيه العهود والمواثيق على ذلك فيفتيه بما فيه فرجه، حتى صار له بذلك أتباع كثيرة يقومون في نصرته أن لو عرض له عارض.. ثم إنه علم أن ذلك لا يخلصه، فكان إذا كان في بعض المجالس قال: إنا لله وإنا إليه راجعون قد انفتق فتوق من أنواع المفاسد يبعد ارتـتاقها، ولو كان لي حكم لكنت أجعل فلاناً وزيراً وفلاناً محتسباً وفلاناً دويداراً وفلاناً أمير البلد. فيسمع أولئك وفي قلوبهم من تلك المناصب فكانوا يقومون في نصرته.. ثم اعلم أن مثل هؤلاء لا يقدرون على مقاومة العلماء إذا قاموا في نحره فجعل له مخلصاً منهم بأن ينظر إلى من الأمر إليه في ذلك المجلس، فيقول له ما عقيدة إمامك؟ فإذا قال: كذا وكذا قال: أشهد أنها حق، وأنا مخطيء، واشهدوا أني على عقيدة إمامك وهذا كان سبب عدم إراقة دمه، فإذا انفض المجلس أشاع أتباعه أن الحق في جهته ومعه، وأنه قطع الجميع، ألا تروه كيف خرج سالماً؟ حتى حصل بسبب ذلك افتتان خلق كثير، لا سيما من العوام، فلما تكرر ذلك منه علموا أنه إنما يفعل ذلك خديعة ومكراً، فكانوا مع قوله ذلك يسجنونه، ولم يزل ينتقل من سجن إلى سجن حتى أهلكه الله عز وجل في سجن الزندقة والكفر.. ومن قواعده المقررة عنده وجرى عليها أتباعه التوقي بكل ممكن، حقاً كان أو باطلاً ولو بالأيمان الفاجرة، سواءً كانت بالله عزوجل أو بغيره)([96])
وقال: (ثم اعلم قبل الخوض في ذكر بعض ما وقع منه وانتقد عليه أنه يؤكد في بعض مصنفاته كلام رجل من أهل الحق ويدس في غضونه شيئاً من معتقده الفاسد، فيجري عليه الغبي بمعرفة كلام أهل الحق فيهلك وقد هلك بسبب ذلك خلق.. وأعمق من ذلك أنه يذكر أن ذلك الرجل ذكر ذلك في الكتاب الفلاني وليس لذلك الكتاب حقيقة وإنما قصده بذلك انفضاض المجلس، ويؤكد قوله بأن يقول ما يبعد أن هذا الكتاب عند فلان، ويسمى شخصاً بعيد المسافة، كل ذلك خديعة ومكراً وتلبيساً، لأجل خلاص نفسه، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله)([97])
قلت: أرى أن الرجل يتجنى على ابن تيمية بكلامه هذا؟
قال: لك أن تقول ذلك.. ولكن عندما تسمع
الأدلة ستفهم جيدا سر هذه الكلمات.
([1]) قال الهيثمي في ( المجمع ) ( 10/268 ): ( رواه الطبراني، وإسناده حسن )
([2]) النص مقتبس من مقدمة كتاب (على ساحل ابن تيمية) لعائض القرني ببعض التصرف الذي يقتضيه المقام، وهكذا بعض النصوص التي نوردها في هذا المقام حتى لا يقال بأننا نقولهم ما لم يقولوا.
([3]) النص مقتبس من كتاب (على ساحل ابن تيمية) بتصرف.
([4]) البدر الطالع 1/70.
([5]) النص التالي من الكتاب السابق بتصرف.
([6]) النص التالي من الكتاب السابق بتصرف.
([7]) هذه الأوصاف منقولة من ترجمة له.
([8]) النص التالي من الكتاب السابق (على ساحل ابن تيمية بتصرف) بتصرف.
([9]) ما نذكره من الثناء عليه هنا منقول بتصرف من مقال بعنوان: (نبذة مختصرة عن السيرة الذاتية للشيخ إحسان إلهي ظهير) لخالد بن سليمان الجبرين.
([10]) النص التالي من الكتاب السابق (على ساحل ابن تيمية بتصرف) بتصرف.
([11]) ما نذكره من الثناء عليه هنا منقول بتصرف من ترجمة مفصلة له من: موقع شبكة سحاب السلفية.
([12]) الأوصاف التالية من مقال بعنوان: جوانب من سيرة الإمام ابن باز من موقعه الرسمي على النت.
([13]) النص التالي من الكتاب السابق (على ساحل ابن تيمية بتصرف) بتصرف.
([14]) ما نذكره من الثناء عليه هنا منقول بتصرف من ترجمة مفصلة له من مقال بعنوان: محب الدين الخطيب، د. خالد النجار، منشور بموقع الألوكة.
([15]) الكلام الوارد هنا من كتاب [على ساحل ابن تيمية] بتصرف.
([16]) النص مقتبس بتصرف من كتاب الشيخ عبد الرحمن الخالق المعنون بـ (لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية)
([17]) النص مقتبس بتصرف من كتاب الشيخ عبد الرحمن الخالق المعنون بـ (لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية)
([18]) النص مقتبس بتصرف من كتاب الشيخ عبد الرحمن الخالق المعنون بـ (لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية)
([19]) الرد الوافر على من زعم بأن من سمى ابن تيمة شيخ الاسلام كافر، ص 129.
([20]) تهذيب التهذيب (1/ 312)
([21]) البداية والنهاية (14/ 156)
([22]) الروح (ص: 34)
([23]) استفدنا الكثير من المادة العلمية المرتبطة بالمنكرين من علماء المذاهب الأربعة على ابن تيمية من كتاب [ابن تيمية وموقف أهل السنة منه]، للشيخ عـادل كاظـم عـبدالله.
([24]) مقدمة تاريخ الكوثري، ص 15.
([25]) مقدمة تاريخ الكوثري، 16.
([26]) مقدمة تاريخ الكوثري، ص16.
([27]) الإشفاق في أحكام الطلاق، محمد زاهـد الكوثري، ص 268.
([28]) مقالات الكوثري ، ص 293.
([29]) البدر الطالع ، ج2 ص 137. وكتاب الضوء اللامع، السخاوي، ج9 ص 292.
([30]) لضوء اللامع، ج7 ص 47.
([31]) سعادة الدارين في الرد على الفرقتين، ابراهيم السمنودي، ج1 ص 173.
([32]) تطهير الفؤاد، محمد بخيت المطيعي ، ص 13.
([33]) المشبهة والمجسمة، عبدالرحمن خليفة، ص 12.
([34]) المشبهة والمجسمة، ص 39.
([35]) السلفية المعاصرة إلى أين؟، محمد زكي إبراهيم، ص 88.
([36]) الإمام الكوثري، أحمد خيري، ص 29.
([37]) فتاوى الشيخ محمد أبوزهرة، محمد أبو زهرة، ص 118.
([38]) طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين السبكي، ج 5 ص 92.
([39]) الضوء اللامع، السخاوي، ج1 ص 107.
([40]) الفتاوى السهمية، ص 49.
([41]) الفتاوى السهمية في ابن تيمية، أجاب عنها جماعة من العلماء.
([42]) دفع شبه من شبه وتمرد، ص 314.
([43]) دفع شبه من شبه وتمرد، ص 343.
([44]) الفتاوى السهمية، ص 45.
([45]) المواهب اللدنية، القسطلاني، ج4 ص 574.
([46]) لفتاوى الحديثية، ابن حجر الهيتمي، ص144.
([47]) الجوهر المنظم، ص 29.
([48]) أشرف الوسائل، ابن حجر الهيتمي، ص172.
([49]) نسيم الرياض، أحمد بن محمد الخفاجي، ج5 ص 96.
([50]) نسيم الرياض، ج 5 ص 113.
([51]) روضة المحتـاجين لمعرفة قواعـد الدين، ص 384.
([52]) فرقان القرآن، سلامه القضاعي، ص 61.
([53]) مقدمة كتاب فرقان القرآن، ص 2.
([54]) فيض الوهاب، عبدربه القليوبي، ج1 ص 149.
([55]) فيض الوهاب، ج5 ص 151.
([56]) فهرس الفهارس والأثبات، ج1 ص 227. وكتاب السلفية الوهابية، ص 140.
([57]) الدرر الكامنة، ،ج1 ص 153 وما بعدها.
([58]) الدرر الكامنة، ج1 ص 146. والبداية والنهاية، 2126.
([59]) مقدمة كتاب كشف المين، طارق السعدي
([60]) كشف المين، الخاتمة، ط دار الجنيد
([61]) كشف الستور، محمود سعيد بن ممدوح، ص 6.
([62]) كشف الستور، ص 185.
([63]) غاية التبجيل، محمود سعيد بن ممدوح، ص 119.
([64]) نقض الرسالة التدمرية، سعيد فوده، ص 6.
([65]) تهذيب شرح السنوسية، سعيد فوده، ص 38.
([66]) بحوث في علم الكلام، سعيد فوده، ص 44.
([67]) ذيل تاريخ الإسلام، الذهبي، ص 86.
([68]) البدر الطالع بمحاسن القرن السابع، محمد بن علي الشوكاني، ج1 ص 74.
([69]) الجواب المفيد، أحمد الغماري، ص 11.
([70]) أفضل مقول، عبدالله الغماري، ص 25.
([71]) سمير الصالحين، عبدالله الغماري، ص77.
([72]) شواهد الحق، ، ص 14.
([73]) فهرس الفهارس والأثبات، ج1 ص 227.
([74]) شواهد الحق، ص 453.
([75]) شواهد الحق، ص 15.
([76]) البداية والنهاية، ابن كثير ، ص 2126،
([77]) ذيل تاريخ الإسلام، ص 92.
([78]) رواه مسلم رقم (78)، والترمذي رقم (3737)، والنسائي 8 / 117.
([79]) الدرر الكامنة، أحمد بن حجر العسقلاني، ج1 ص 147.
([80]) انظر تفاصيل هذه الصفات في كتاب (قراءة في كتب العقائد – المذهب الحنبلي نموذجاً) للشيخ حسن بن فرحان المالكي.
([81]) سنرى في الرسالة الكثير من الأمثلة عن غلو الحنابلة وأثره في ابن تيمية.
([82]) انظر نص الرسالة كاملا في (السيف الصقيل رد ابن زفيل) السبكي – هامش ص 211- 219 – مكتبة زهران – ومعه تكملة الرد على نونية ابن القيم بقلم: محمد زاهد بن الحسن الكوثري – تقديم: لجنة من علماء الأزهر.. ونحن لا نعتمد عليها في المحاكمة، لأن الشخص يحاكم على أفعاله وأقواله لا على مواقف الناس منه.. ولهذا فقد ذكرناها باعتبارها وثيقة قد تكون صحيحة وقد لا تكون صحيحة.. لأن الكثير من المغرمين بابن تيمية يتركون القضية الأساسية ويجادلون في التفاصيل.. ولهذا فإن أحسن جواب لمن كذب هذه الرسالة أن نسلم له ولا نجادله..
([83]) الحسن بن إسحاق [ ١٠٩٣ ١١٦٠ ه ]: عالم كبير، ومحقق شهير وشاعر أديب، بليغ، مولده بالغراس ونشأ في حجر أبيه وعنه أخذ وعن أخيه، ومشاهير علماء عصره حتى فاق الأقران وبلغ الغاية في العلم وفي الإجتهاد. (انظر: أعلام المؤلفين الزيدية: ج ١/308).
([84]) الرسالة مطبوعة ضمن مجموع يحوي عدة رسائل زيدية في الإمــامة، تقع الرسالة في الصفحات بين (157) و(191) من المجموع.
(1) أخطاء ابن تيمية، الدكتور محمود السيد صبيح، ص 6، ط الأولى، 1423هـ.
([85]) أخطـاء ابن تيمية، ص 69.
([86]) رواه البيهقي والطبراني.
([87]) قال المنذري: رواه الطبراني في الأوسط والصغير والبيهقي مرفوعا وموقوفا وقال المحفوظ الموقوف، الترغيب والترهيب: 3/375.
([88]) رواه أحمد.
([89]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 419)
([90]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 420)
([91]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 420)
([92]) رواه الحاكم في مستدركه (4 / 87).
([93]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 437).
([94]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 421)
([95]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 446)
([96]) دفع شبه من شبه وتمرد، ص 314.
([97]) دفع شبه من شبه وتمرد، ص 315.