كلهن أمهات المؤمنين.. فلم التمييز؟

كلهن أمهات المؤمنين.. فلم التمييز؟

من النتائج الخطيرة لذلك الحشد الكبير من التشويه لعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، – والذي قام به المبتدعة الجدد من أصحاب التشيع البدعي والسنة المذهبية، وتحت إشراف مباشر من شياطين الإنس والجن، وباستخدام كل الأساليب والوسائل – ذلك التمييز العنصري بين أمهات المؤمنين، حتى صار الناس لا يسمعون إلا بعائشة، ولا يعرفون من زوجات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غيرها، بل وصل الأمر إلى أخطر من ذلك حين خرج بعض المغفلين منهم، فراحوا يصفون الحياة الرومانسية لبيت النبوة، ويضعون في ذلك الأحاديث والأكاذيب، التي تصور الحياة الطاهرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والممتلئة بالمعاناة والآلام والشدائد، بحياة أولئك الفارغين المتسكعين الذين قصروا حياتهم على امرأة أعطوها عقولهم وقلوبهم وهممهم.

ومن الآثار السلبية الخطيرة لذلك أنهم أوقروا في نفوس العامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعدل بين زوجاته، لأنه لم يكن ـ بحسبهم ـ يحب إلا عائشة، ولا يحن إلا لها، ولا ينطق إلا بفضلها.. وكأن سائر زوجاته صلى الله عليه وآله وسلم مجرد خادمات في بيته، ولسن زوجات محترمات كان لهن فضلهن وحرمتهن كعائشة سواء بسواء.

والأخطر من ذلك كله هو دفاعهم المستميت عن سن عائشة، وأنها دخلت بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صبية صغيرة، وما مات عنها إلا وهي في أوائل شبابها، وكل من أوصله بحثه العلمي إلى خلاف ذلك رموه بما تعودوا أن يرموا به مخالفوهم من البدعة والضلالة.

بل وصل الأمر إلى ما هو أخطر من ذلك كله، وهو الغفلة عن تلك المرأة العظيمة التي ضحت بمالها ونفسها في سبيل الله.. ولا تدانيها في ذلك ـ وبشهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ أي زوجة من زوجاته: (خديجة بنت خويلد)

تلك التي عاشت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جزءا مهما من حياته، وفي فترة شبابه وكهولته، والتي لم يتزوج عليها غيرها مع كبر سنها، وصغر سنه.. والتي حزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفقدها حزنا شديدا، بل ظل يذكرها إلى آخر أيام حياته.. وما ذلك لنزوة أو غريزة أو شهوة، فقد تعالى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك كله.. وإنما لما يحمله قلب تلك المرأة من طهارة وصدق وإيمان جعلها تتبوأ الدرجة العليا في سلم نساء العالمين، هي وأخواتها من النساء الثلاث.. ابنتها فاطمة التي هي بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومريم، وامرأة فرعون.

ففي الحديث عن ابن عباس قال: خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض أربعة خطوط. فقال: أتدرون ما هذا؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: (أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة ابنة محمد صلى الله عليه وآله وسلمومريم ابنة عمران وآسية ابنة مزاحم امرأة فرعون)([1])

وعن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (حسبك من نساء العالمين: مريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد. وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون)([2])

وهذا الفضل الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس فضلا اعتباطيا، ولا عاطفيا، فرسول الله أكبر من أن يحكم بعاطفته، وقد قال تعالى عنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]

فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلمهو المعبر عن الحقائق الكبرى للوجود، ولا يمكن لمن كان هذا شأنه أن يميل بهوى، أو ينطق عن عاطفة.

ولذلك فإن فضل خديجة بهذا الاعتبار، ينطبق مع العدل الإلهي، فقد قدمت خديجة من الخدمات لهذا الدين ما لا يصح احتقاره أو التهوين منه.. فقد كانت من أول النساء إسلاما، وبذلت كل ما لها في سبيل الله إلى أن ماتت في الشعب فقيرة محاصرة لا تجد شيئا تأكله..

ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من ذكرها، لكونها قدوة صالحة للنساء، ومن السنة النبوية الالتزام بهذه السنة.. وهي ذكر خديجة وفضلها وجهادها ومناقبها.. لكن السنة المذهبية غيبت ذلك كله.. وغيبت معه الدور المثالي للمرأة الصالحة في القيام بالدور الذي تنوء به كواهل الرجال.

ففي الحديث عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة. فيحسن الثناء عليها. فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة. فقلت: هل كانت إلا عجوزاً، فقد أبدلك الله خيراً منها، فغضب، ثم قال: (لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس. وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس. ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء)، قالت عائشة: (فقلت في نفسي لا أذكرها بسيئة أبداً)([3])

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا والله ما أبدلني الله خيراً منها) كلمة عظيمة من الذي لا ينطق عن الهوى، وهي مشفوعة بقسم.. وما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقسم عن هوى..

وكمقارنة بسيطة بين خديجة وغيرها من نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم نكن نجرؤ على ذكرها لولا أن القرآن الكريم ذكرها، ولولا أن التمييز العنصري الذي نراه اضطرنا إليها لما ذكرناها.

فقد روي بالأسانيد الكثيرة المتواترة ما يدل على الصبر الذي أبدته خديجة في حياتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة، وفي أوقات الشدة العظيمة إلى أن ماتت محاصرة في الشعب.. في نفس الوقت الذي يذكر القرآن الكريم والسنة الصحيحة أن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ وعائشة من بينهن ـ اشتكين حياة الشظف التي يعشنها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدرجة التي نزل القرآن الكريم يخيرن فيها بين صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصبر على حياته أو أن يملكن أمرهن بالافتراق عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال تعالى يبين ذلك: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } [الأحزاب: 28، 29]

وقد أورد البخاري في سبب نزولها أن عائشة أخبرت: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمجاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه، فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك)، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه. قالت: ثم قال: (وإن الله قال: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} إلى تمام الآيتين، فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة)([4])

نعم هذا موقف طيب، وأصحاب السنة المذهبية يذكرونه بفخر، ولكنهم يغفلون في غمرة فخرهم واستعلائهم أن خديجة لم يخطر على بالها أصلا أن تطالب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمثل هذا أو غيره.. بل كانت غنية، ومع ذلك ضحت بمالها كله في سبيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولم تشتك أي شكوى.. بل بذلت ذلك برضا وطمأنينة وسعادة.

لكن السنة المذهبية للأسف نسفت كل فضلها الذي وردت به الأحاديث الكثيرة، وراحت تهون من شأنها بطرق مختلفة.

منها طريقة التمييع أو ذكر الخلاف في مسألة التفاضل بينها وبين عائشة، فقد قال ابن القيم في زاد المعاد: (وفاطمة أفضل بناته على الإطلاق، وقيل إنها أفضل نساء العالمين، وقيل بل أمها خديجة، وقيل بل عائشة، وقيل بل بالوقف في ذلك)([5])

ومثل ذلك قال في (جلاء الأفهام) نقلا عن ابن تيمية شيخ إسلام السنة المذهبية: (ومنها أنها خير نساء الأمة واختلف في تفضيلها على عائشة على ثلاثة أقوال، ثالثها الوقف، وسألت شيخنا ابن تيمية فقال: اختص كل واحدة منها بخاصة، فخديجة كان تأثيرها في أول الإسلام، وكانت تسلي رسول الله وتثبته وتسكنه وتبذل دونه مالها فأدركت عزة الإسلام، واحتملت الأذى في الله وفي رسوله، وكانت نصرتها للرسول في أعظم أوقات الحاجة فلها من النصرة والبذل ما ليس لغيرها، وعائشة تأثيرها في آخر الإسلام فلها من التفقه في الدين وتبليغه إلى الأمة وانتفاع نبيها بما أدت إليهم من العلم ما ليس لغيرها هذا معنى كلامه)([6])

ولو تأملنا هذا الدليل الذي ذكره ابن تيمية على تساوي عائشة وخديجة في الفضل، لأدركنا ذلك التمييز العنصري بين أمهات المؤمنين، وإلا فإن جميع أمهات المؤمنين بلغن الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأدين ما رأينه واجبا عليهن، فلم تخص بذلك زوجة دون زوجة.

هذه الخطوة الأولى التي يبدأ بها عادة أصحاب السنة المذهبية، وهي تمييع القضايا بذكر الخلاف الوارد فيها حتى لو كان خلافا اجتهاديا في موضع ورد فيه النص القطعي.

أما الخطوة الثانية، فهي الاحتيال على النص نفسه، حيث لا تصبح فيه خديجة ـ كما ورد في السنة النبوية ـ سيدة نساء العالمين، ولا حتى سيدة زوجاته.. بل تصبح عائشة هي تلك المرأة، وكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غفل أو نسي أن يذكر عائشة، فذكر بدلها خديجة.

وسأورد هنا ما ذكره ابن تيمية عند بيانه لتفضيل عائشة على خديجة مع أدلته على ذلك، ثم نناقشها، فقد قال في (منهاج السنة النبوية)، وهو من أهم الكتب المؤسسة للسنة المذهبية: (والجواب أولا أن يقال إن أهل السنة ليسوا مجمعين على أن عائشة أفضل نسائه، بل قد ذهب إلى ذلك كثير من أهل السنة، واحتجوا بما في الصحيحين عن أبي موسى وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلمقال: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)، والثريد هو أفضل الأطعمة لأنه خبز ولحم.. وذلك أن البر أفضل الأقوات، واللحم أفضل الإدام.. فإذا كان اللحم سيد الإدام، والبر سيد الأقوات، ومجموعهما الثريد، كان الثريد أفضل الطعام. وقد صح من غير وجه عن الصادق المصدوق أنه قال: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)([7])

وقد تبعه على هذا الاستدلال العجيب الشيخ العثيمين الذي قال في شرحه على الواسطية: (قوله: (والتي قال فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) قوله: (على النساء): أي: على جميع النساء.. وقيل: إن المراد: فضل عائشة على النساء، أي من أزواجه اللاتي على قيد الحياة، فلا تدخل في ذلك خديجة.. لكن ظاهر الحديث العموم، لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)، وقد أخرجه الشيخان بدون ذكر خديجة. وهذا يدل على أنها أفضل النساء مطلقاً، ولكن ليست أفضل من فاطمة باعتبار النسب؛ لأن فاطمة بلا شك أشرف من عائشة نسباً، وأما المنزلة، فإن عائشة لها من الفضائل العظيمة ما لم يدركه أحد غيرها من النساء)

ومثلهما قال الملا علي القاري: (والأظهر أنها أفضل من جميع النساء، كما هو ظاهر الإطلاق، من حيث الجامعية للكمالات العلمية والعملية المعبر عنهما في التشبيه بالثريد؛ لأنه أفضل طعام العرب، وأنه مركب من الخبز واللحم والمرقة، ولا نظير له في الأغذية، ثم إنه جامع بين الغذاء، واللذة، والقوة، وسهولة التناول، وقلة المؤونة في المضغ، وسرعة المرور في الحلقوم والمريء؛ فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لها المثل به ليعلم أنها أعطيت مع حسن الخلق، وحسن الخلق، وحسن الحديث، وحلاوة المنطق، وفصاحة اللهجة، وجودة القريحة، ورزانة الرأي، ورصانة العقل، والتحبب إلى البعل، فهي تصلح للتبعل، والتحدث، والاستئناس بها، والإصغاء إليها، وإلى غير ذلك من المعاني التي اجتمعت فيها، وحسبك من تلك المعاني أنها عقلت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم تعقل غيرها من النساء، وروت عنه ما لم يرو مثلها من الرجال، والله أعلم بالحال)([8])

والغرابة في استدلال ابن تيمية والعثيمين والملا علي القاري، وغيرهم من أتباع السنة المذهبية، يكمن في أمرين:

الأول: هو في الإعراض عن النصوص الواضحة الكثيرة التي تحدد مكانة خديجه ومنزلتها وفضلها على نساء العالمين.. وهي نصوص صريحة لا تحتاج أي تأويل أو تكلف في الشرح والتوضيح.

بالإضافة إلى ذلك، فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة عندما ذكرت له أن الله أبدله خيرا من خديجة: (لا والله ما أبدلني الله خيرا منها؟)، وهو دليل واضح قطعي في فضل خديجة.. لكن مع ذلك ما أسهل أن تؤول النصوص ويتلاعب بها، وقد سمعت بعضهم يقول في هذا الحديث بعد محاولة التشكيك في سنده: (حتى لو صحت فهي ليست نصاً، لأن من الممكن أن يكون المعنى: أن الله ما أبدلني خيراً منها، لكن أبدلني مثلها)

وهكذا الأمر في الاحتيال على الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي تدل على فضل فاطمة الزهراء على نساء العالمين، ففي كتب أصحاب السنة المذهبية تفضيل لعائشة على فاطمة مع أن البخاري روى في صحيحه قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حق فاطمة الزهراء: (أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين)([9])، وروى: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاطمة سيدة نساء أهل الجنة) ([10])، وروى في باب مناقب فاطمة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاطمة سيدة نساء أهل الجنة)([11])، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمقوله: (يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة) ([12])

لكن البخاري عند أصحاب السنة المذهبية مقبول ومبجل ومحترم بشرط ألا يعارض الأصول التي يعتمدون عليها، فهم يقيمون الدنيا ولا يقعدوها لمن نقد حديثا في البخاري.. لكنهم يعطون لأنفسهم الحرية المطلقة في إنكار ما يشاءون إذا تعارض ذلك مع الأصول التي تعتمد عليها سنتهم المذهبية.

الثاني: هو استدلالهم بتفضيل الثريد على سائر الطعام مع ما ورد في نصوص أخرى من فضل اللبن أو التمر أو حتى الخل.. وكلها أحاديث صحيحة.. بالإضافة إلى أن هذه الزيادة في الحديث (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) متكلم فيها، والبعض يعتبرها إدراجا من كلام أبي موسى الأشعري، وهي لا يمكن أن تقاوم كل تلك النصوص الصحيحة الصريحة في فضل خديجة.

بعد هذا فإنا نبادر أولئك الذين يميعون القضايا، ويقولون ـ كما تعودنا أن نسمع منهم ـ: ما الحاجة لطرح لمثل هذه الأمور التي لا يتعلق بها عمل؟

والجواب بسيط وشرعي وأخلاقي.. وهو أننا في في غمرة انتصاراتنا لأهوائنا وذواتنا وأنفسنا وسنتنا المذهبية رحنا نضحي بسمعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين نصوره وهو يتعلق بفتاة صغيرة، يسدي لها كل حين أنواع التكريم والتبجيل والتعظيم في نفس الوقت الذي يغفل فيه عن الزوجة التي ساندته لأكثر من خمس وعشرين سنة، وضحت بكل شيء في سبيل الإسلام، وكأننا من حيث لا نشعر نشبهه بأولئك السياسيين الذين إذا ما ارتقى أحدهم في مرتبة من مراتب السلطة ينسى التي عاش معها شظف العيش، والتي أعانته ليصل إلى ما وصل إليه، ليبدأ حياته مع صبية من الصبايا، يعطيها كل شيء.

ليس ذلك فقط، بل نقوم بتمييز عنصري خطير بين زوجات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حين نصوره، وكأنه لم يكن يعدل بين زوجاته.. بل نحتقر الكثير من زوجاته من حيث لا يشعر حين نقارن علاقته بسودة أو أم سلمة أو غيرهما من نسائه بعلاقته مع عائشة.. وكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الإنسان الكامل الممتلئ بالزهد والعفاف والمتوجه بكل روحانية لله رب العالمين لا يختلف عن أي إنسان آخر مسجون في قيود غريزته وأهوائه.

مع أنه قد روي في السيرة المطهرة أن المشركين عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجمل نسائهم مع كل مفاتيح الدنيا التي يملكونها، ومع ذلك قال لهم: (والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته)([13])

بل صور القرآن الكريم ذلك أحسن تصوير حين ذكر ارتقاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمإلى الملأ الأعلى.. وهناك لم ينشغل بشيء.. ولم يزغ طرفه لشيء.. قال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} [النجم: 13 – 17]

فهل يمكن لهذا الرسول العظيم الذي رأى الجنة ونعيمها، ورأى من آيات ربه الكبرى أن يزيغ بصره في الدنيا لأي شيء؟


([1]) رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 223 / 9)

([2]) رواه الترمذي بسند صحيح والنسائي والحاكم (التاج الجامع للأصول 379 / 3)

([3]) رواه أحمد وإسناده حسن (الزوائد 224 / 9)

([4]) صحيح البخاري برقم (4785)

([5]) زاد المعاد ج: 1 ص: 104.

([6]) جلاء الأفهام ج: 1 ص: 234.

([7]) منهاج السنة النبوية ج: 4 ص: 301.

([8]) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، ملا علي القاري، (18/ 60)

([9]) البخاري (4/183)

([10]) البخاري (4/209)

([11]) البخاري (4/219)

([12]) البخاري (7/142)

([13]) الروض الأنف (3/ 45)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *