قلوب مقفلة

قلوب مقفلة

عندما كنت أقرأ قوله تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] كنت أتوهم بسبب حسن نيتي أن الآية الكريمة نزلت في قريش أو من حالفهم من قبائل العرب.. أو من أعلنوا العداوة بعد ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من اليهود..

لم أكن أعلم أبدا أن قريشا وغطفان وبني قريضة وبني النظير لا زالوا موجودين في كل عصر.. وأن أخطرهم من يحتكر القرآن، ويتصور أنه الوصي عليه.. وأن كل فهم لا يمر على منخاله هرطقة وزندقة وضلالة.

إلى أن عشت الواقع العملي بعد أن خرجت من البرج العاجي الجميل الذي كنت أعيش فيه.. والذي كنت لا أتصور النفاق أو الجهل أو الضلالة إلا في تلك القبائل المحدودة التي واجهت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعلنت حربها عليه.

وكانت بداية ذلك صدمة أصابتني في مقاتلي.. سأحكي لكم عنها لتعرفوا الواقع كما عرفته..

في ذلك اليوم دعينا إلى اجتماع بالمجلس العلمي لوزارة الأوقاف في بلد من البلاد الإسلامية، وكان الهدف منه هو تقييم المقالات المقدمة لطلب المشاركة في مؤتمر إسلامي كبير يقام في بعض الجامعات الأوروبية، ويهدف إلى تعريف الغرب بالقرآن الكريم، وبالحقائق العظيمة التي يحويها.

وقد أخبرونا أن وسائل الإعلام الغربية ستنقل المؤتمر مباشرة على الهواء في الكثير من القنوات الفضائية، ومترجما باللغات المختلفة.

كانت فرصة عظيمة شعرت بمنة الله علي فيها، فلعلي أستطيع أن أزكي مقالة أو مقالتين صالحتين قد تكونان سببا لهداية الكثير من الناس.. وخاصة في الغرب الذي يعرض له الإسلام دائما على أنه دين تخلف ورجعية وعنف وغير ذلك.

لكني لم أكن أتصور أبدا أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن..

عندما دخلنا قاعة الاجتماع قدم لنا رئيس الجلسة نصوص المحاضرات، وطلب منا النظر فيها واحدة واحدة، وإبداء الرأي في مدى صلاحيتها.. ثم ما لبثنا أن بدأنا نستعرض المحاضرات الواحدة تلو الأخرى.. وقد شرفني أعضاء المجلس العلمي باعتباري ضيفا على بلدهم أن أقدم لهم المحاضرات وأصحابها ليبدوا آراءهم فيها.. وقد آذاني ذلك التشريف كثيرا، لأني لم أستطع أن أتفوه بكلمة اعتراض واحدة على الترهات التي كانوا يطرحونها، والشغب الذي كانوا يثيرونه..

القرآن الكريم.. والعلوم الكونية:

أخذت المحاضرة الأولى، وكان عنوانها (القرآن الكريم.. والعلوم الكونية)، وأريتها لهم، ثم سلمتهم نسخا من نصها، ثم قلت: هذه محاضرة لطبيب وصحفي([1])، وهو صاحب اكتشافات هائلة في تخصصه، بالإضافة إلى تدينه، واهتمامه بالحقائق العلمية القرآنية، وقد ألف في ذلك كتبا، كلها عشق وهيام في كتاب الله، وفي الحقائق الجميلة التي دعا إليها.. وهو في محاضرته هذه يدعو إلى إعادة قراءة القرآن الكريم من خلال الفتوح العلمية التي فتح الله بها على البشرية، والتي تحقق بها تأويل قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [فصلت: 53].. وهو..

قام أحد أعضاء المجلس، وقاطعني بقوة، وقال: دعك من كل هذا الإطراء للدجالين والمنافقين، حتى لا يحشرك الله معهم.. فهذا الرويبضة الدعي أعرفه جيدا.. إنه من المنحرفين عن كتاب الله.. إنه من الزنادقة الذين يربطون القرآن بالعلم الحديث..

قال آخر: الذي لا أفهمه، وما ينبغي لي أن أفهمه، هو أن يجرؤ مفسرون محدثون على أن يخوضوا في كل هذا، فيخرج أحدهم على الناس بتفاسير قرآنية فيها طب وصيدلة وطبيعة وكيمياء، وجغرافيا وهندسة وفلك وزراعة وحيوان وحشرات وجيولوجية وبيولوجيا وفسيولوجيا وأنثروبولوجيا([2]).

ضحك الجميع.. وقال أحدهم: صدقت.. لا فض فوك يا ناصر السنة، وقامع البدعة.. يا من جعلك الله شوك سعدان في حلوق المبتدعة.

ثم التفت للجمع من أصحابه، وقال، وكأنه يخطب على منبر: ألا ترون من الغرابة أن يخرج تفسير عصري لكاتب صحفي.. يُخرج للناس ما غاب عن النبي الأمي وقومه البدو، من عصريات التكنولوجيا وحديث الطبيعيات والرياضيات وملاحة الفضاء([3]).

قال آخر: المشكلة ليست هنا فقط.. المشكلة أن يتسلل هذا الفهم إلى عقول أبناء الأمة وضمائرهم، فيُرسِّخ فيها أن القرآن الكريم إذا لم يقدم لهم ما لم يفهمه النبي الأمي من بيولوجيا وجيولوجيا وكيمياء عضوية وعلم أجنة وتشريح وأنثروبولوجيا.. فليس صالحاً لزماننا ولا جديراً بأن تسيغه عقليتنا العلمية أو يقبله منطقنا العصري… هكذا باسم العصرية، نغريهم بأن يرفضوا فهم كتاب الإسلام بعقلية نبي الإسلام وصحابته، ليفهموه في تفسير عصري من بدع هذا الزمان.. وباسم العلم، نخايلهم بتأويلات محدثة، تلوك ألفاظا ساذجة صماء عن الذرة والإلكترون وتكنولوجيا السدود وبيولوجيا الحشرات وديناميكا الصلب وجيولوجيا القمر..

قال آخر: هل رأيتم ما قال الأحمق في كتابه الذي أثار ضده كل المخلصين.. لقد قال فيه: (ما قام الدين أبدا منعزلا عن الحياة، ولا قام ليعادي العلم بل إنه قام ليُقدِّم لنا منتهى العلم.. وليقودنا إلى اليقين في مقابل الشك والاحتمال والترجيح.. جاء ليقول كلمة أخيرة.. فلا يمكن أن نخوض فيه دون أن نخوض في كل شيء.. ودون أن نثير القضية كاملة برمتها علما ودينا)([4])

هل رأيتم كيف يتلاعب بالكلمات ليمرر مشروعه الشيطاني؟

قال آخر: ليس ذلك فقط.. بل انظروا إلى الدعي ابن الدعي كيف يفسر قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41]، لقد غفل في تفسيره لها عن قول قتادة: (هذا مثل ضربه الله للمشرك مثل إلهه الذي يدعوه من دون الله كمثل بيت العنكبوت واهن ضعيف لا ينفعه)([5]) ، وراح يفسرها بقوله: (والحقيقة الملفتة للنظر هي وصف بيت العنكبوت بأنه أوهن البيوت، ولم يقل القرآن الكريم خيط العنكبوت، أو نسيج.. وإنما قال بيت.. والعلم كشف الآن بالقياس أن خيط العنكبوت أقوى من مثيله من الصلب ثلاث مرات.. فلماذا يقول القرآن: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} ، ولماذا يختم بكلمة {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}؟)

التفت للحضور، وقال بتعجب: أتدرون بماذا أجاب عن هذه الهرطقة وهذا التكلف الممقوت الذي نهينا عنه: (الواقع أن هناك سراً بجيولوجياً كشف العلم عنه..فالحقيقة أن بيت العنكبوت هو أبعد البيوت عن صفة البيت بما يلزم البيت من أمان وسكينة وطمأنينة، فالعنكبوت الأنثى هي التي تبني البيت وتغزل خيوطه، وهي الحاكمة عليه، وهي تقتل ذكرها بعد أن يلقحها وتأكله، والأبناء يأكل بعضهم بعضاً، ولهذا يعمد الذكر إلى الفرار بجلده.. و تغزل الأنثى العنكبوت بيتها ليكون فخاً وكميناً ومقتلاً لكل حشرة.. وكل من يدخل البيت من زوار وضيوف يقتل… أي أنه ليس بيتاً، بل مذبحة..و أنه أوهن البيوت لمن يحاول أن يتخذ منه ملجأ)([6])

هل رأيتم هرطقة فوق هذه الهرطقة؟.. هل رأيتم أحدا من السلف يفسر القرآن بما يسميه البيولوجيا؟.. هل عرف سلفنا الصالح البيولوجيا أصلا؟.. وما الحاجة لمعرفتها؟

قال آخر: صدقت شيخنا الفاضل.. لو كان هذا الرجل في زمن سلفنا الصالح لقطعوا رأسه ورموه في المزابل.. ولو كان في زمن الأمير العادل خالد القسري لضحى به مثلما ضحى بالجعد بن درهم.. ويل لنا كيف عشنا لهذا الزمن الرديء الذي يتجرأ فيه مثل هذا الصعلوك الرويبضة على الحديث عن القرآن.

خفت أن تخرج الأمور عن السيطرة، وأن يصدروا بعض الفتاوى في حق الرجل، فرحت أقول: لا بأس.. أظن أنكم متفقون على أن المحاضرة غير صالحة لإلقائها في المؤتمر..

قالوا جميعا بصوت واحد: أجل.. وكيف تريدنا أن نعرض على العالم تلك الهرطقة المؤدية إلى الزندقة؟

القرآن الكريم.. وسنن التاريخ:

أخذت المحاضرة الثانية، وكان عنوانها (القرآن الكريم.. وسنن التاريخ)، وأريتها لهم، ثم سلمتهم نصوصها، وأنا أقول: هذه محاضرة لعالم جليل أفنى عمره مع القرآن الكريم تلاوة وتدبرا وبحثا.. وقد استخرج الكثير من النظريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها من خلاله.. وهو في محاضرته هذه يستنبط لنا السنن التي تسير عليها حركة التاريخ.. وهو..

قاطعني أحدهم، وهو يقول: دعنا من الثناء عليه.. فأنا أعرفه أكثر مما تعرفه.. إنه من المنحرفين عن كتاب الله.. إنه يستعمل الرأي في تفسيره لكتاب الله.. بل إنه بدل البحث عن سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الواردة في القرآن الكريم راح يبحث عن سنن التاريخ فيه.. أليس ذلك عجبا؟

ضحك الجميع، فقام آخر، وقال ـ وهو يخطب بصوت مرتفع، ويلوح بيده ذات اليمين وذات الشمال ـ: يا قوم.. إن هذه هي السفسطة بعينها.. لقد رأيته يتلاعب بالألفاظ ليحاول أن يقنع من يقرأ له أو يستمع أن هناك شيئا اسمه (سنن التاريخ)، وأن القرآن الكريم قد دعا إلى مراعاتها.. عجبا.. هل نحن مطالبون بمراعاة سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم مراعاة سنن التاريخ؟

أخرج آخر وثيقة من محفظته، وقال: كنت أعلم أن اسم هذا الأفاك سيعرض هنا، ولهذا أتيتكم بما يثبت إدانته.. فمن كلامه تدينونه.

انظروا ماذا يقول: (لقد بُحثَ في القرآن الكريم الجزء الأعظم من مواده ومفرداته من زوايا مختلفة، وهناك أيضاً زاوية أخرى للبحث تضاف إلى تلك الزوايا، من زاوية مقدار ما تلقي هذه المادّة من أضواء على سنن التاريخ، على تلك الضوابط والقوانين والنواميس التي تتحكّم في عمليّة التاريخ، إذا كان يوجد في مفهوم القرآن شيءٌ من هذه النواميس والضوابط والقوانين)([7])

هل رأيتم كيف يتصور ببلاهته وجنونه أن سلفنا الصالح تركوا له ولغيره أي زيادة يمكنه أن يضيفها لفهم القرآن..

قال آخر: بل انظر إليه كيف ينتقد نقدا مبطنا تفاسير سلفنا الصالح للقصص القرآني.. لقد قال في ذلك: (فمثلا قصص الأنبياءعليهم السلام، التي تمثل الجزء الأعظم من هذه المادة القرآنية. فحصت قصص الأنبياء من زاوية تاريخية تناولها المؤرخون واستعرضوا الحوادث والوقائع التي تكلم عنها القرآن الكريم. وحينما لاحظوا الفراغات التي تركها هذا الكتاب العزيز، حاولوا أن يملؤوا هذه الفراغات بالروايات والأحاديث، أو بما هو مأثور عن أديان سابقة، أو بالأساطير والخرافات، فتكونت سجلات ذات طابع تاريخي لتنظيم هذه المادة القرآنية)

هل رأيتم كيف يتجرأ على تلك الثروة العظيمة من الروايات التي حكاها لنا سلفنا الصالح عن الأنبياء.. والتي لولاهم ما عرفنا كل تلك التفاصيل؟.. بل لولاهم ما عرفنا الأنبياء أصلا.. هل رأيتم كيف يصفها بالخرافة والأسطورة؟

أخذ أحدهم الوثيقة منه، وراح ينظر فيها مليا، ثم قال والدهشة بادية على وجهه: واويلاه.. انظروا  ماذا يقول المجرم.. إنه يريد أن ينفي القضاء والقدر بسنن التاريخ.. اسمعوا ماذا يقول.. إنه يقول:(هذا المفهوم القرآنيّ يعتبر فتحاً عظيماً للقرآن الكريم، لأنّنا في حدود ما نعلم، القرآن أوّل كتابٍ عرفه الإنسان أكّد على هذا المفهوم، وكشف عنه وأصرّ عليه، وقاوم بكلّ ما لديه من وسائل الإقناع والتفهيم. الإنسان الاعتياديّ كان يفسّر أحداث التاريخ بوصفها كومةً متراكمةً من الأحداث، يفسّرها على أساس الصدفة تارةً، وتارةً أخرى على أساس القضاء والقدر والإستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى. القرآن الكريم قاوم هذه النظرة العفويّة، وقاوم هذه النظرة الإستسلامية، ونبّه العقل البشريّ إلى أنّ هذه الساحة لها سننٌ، ولها قوانين، وأنّه لكي تستطيع أن تكون إنساناً فاعلاً مؤثّر، لا بدّ لك أن تكتشف هذه السنن، لا بدّ لك أن تتعرّف إلى هذه القوانين، لكي تستطيع أن تتحكّم فيها، وإلا تحكّمت هي فيك وأنت مغمض العينين.افتح عينيك على هذه القوانين، افتح عينيك على هذه السنن، لكي تكون أنت المتحكّم، لا لكي تكون هذه السنن هي المتحكّمة فيك..)

قال آخر: أعطني الوثيقة لأرى.. أظن أنه لا ينبغي أن نكتفي بمنعه من تقديم المحاضرة فقط، بل علينا أن نبين لولي أمرنا الصالح خطره ليقرر فيه قراره المناسب..

أخذ الوثيقة، وراح يقرأ فيها، ثم صاح: انظروا كيف يفسر قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}.. إنه لا يرجع فيها إلى قتادة ولا إلى عكرمة.. ولا يستند إلى السعدي ولا إلى الطبري.. بل هو يعمل عقله المجرد.. اسمعوا ماذا يقول.. إنه يذكر أن (الأجل أضيف إلى الأمّة، إلى الوجود المجموعيّ للناس، لا إلى هذا الفرد بالذات، أو ذاك الفرد بالذات. إذاً، هناك وراء الأجل المحدود المحتوم لكلّ إنسانٍ بوصفه الفرديّ، هناك أجلٌ آخر وميقاتٌ آخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الأفراد، للأمّة بوصفها مجتمعاً ينشئ ما بين أفراد العلاقات والصلاحيّات القائمة على أساس مجموعةٍ من الأفكار والمبادئ المسندة بمجموعةٍ من القوى والقابليّات. هذا المجتمع الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالأمّة، هذا له أجلٌ، له موتٌ، له حياةٌ، له حركةٌ، كما أن الفرد يتحرّك فيكون حيّاً ثمّ يموت. كذلك الأمّة تكون حيّة ثمّ تموت. وكما أنّ موت الفرد يخضع لأجلٍ ولقانونٍ ولناموس، كذلك الأُمم أيضاً لها آجالها المضبوطة)

أخذ آخر نص المحاضرة، وراح يتطلع فيها مليا، ثم صاح: ويله.. ثم ويله.. هل ترون ماذا يقول.. إنه يريد أن ينفي كل ما ورد في السنة من أن القيامة تقوم على شرار الخلق.. إنه يزعم أن مستقبل البشرية ممتلئ بالسعادة.. وأن الدين سيتحقق بالصورة الكاملة.. إنه بهذا ينفي الدجال والجساسة.. إنه ينفي كل ما ورد من نبوءات عن مستقبل البشرية الذين يسود فيه الجهل والظلام.. إنه يريد أن يقنع القارئ بأن في الخلف من سيكون أفضل من السلف..

أخذ المحاضرة رجل بجانبه، وقال: أرني.. فأنا أكاد أتيقن أنه رافضي مجوسي ملحد خبيث.

ثم تطلع في المحاضرة قليلا، ثم قال: أجل.. لقد شككت في ذلك منذ البداية.. انظروا إنه يعتبر المهدي بداية المرحلة السعيدة للبشرية.. وهو يدعو إلى توفير الأجواء لظهوره.. بل إنه يعتبر كل من عمل لذلك جنديا من جنوده.

قال ذلك، ثم صاح في الحضور: من سمح لهؤلاء المبتدعة أن يرسلوا محاضراتهم لنا.. وكيف تركتموها تمر؟

ثم مزق المحاضرة بكل حقد، وهو يطلق كلمات بذيئة لا أطيق كتابتها ولا نقلها لكم.

بعد أجواء انفعالية شديدة قام رجل كان أكثرهم هدوءا وتملكا لأعصابه، وقال: دعونا من هذا الهراء.. هل جئنا هنا لنسمع الهرطقة والزندقة.. أحدهم يربط القرآن بالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والجيولوجيا.. والآخر يربطه التاريخ.. ماذا يريد هؤلاء من كتاب ربنا؟

القرآن الكريم.. وعلم النفس:

بعد الجدل الطويل الذي خلفته المحاضرة الثانية، قدمت المحاضرة الثالثة ببرودة لأني أعلم أن مصيرها سيكون مثل سابقاتها، قلت لهم: هذه محاضرة بعنوان (منهج القرآن الكريم في علاج الأمراض النفسية)، وهي مهمة جدا، لأن كاتبها طبيب نفسي..

قاطعني أحدهم بقوة، وهو يقول: وما علاقة الطبيب النفسي بالقرآن.. رحم الله امرؤا عرف قدر نفسه.. ويلنا كيف عشنا لزمان يتجرأ فيه الكل على الحديث عن القرآن.

قام آخر، وقال: إن هذا الرجل مثل سابقيه.. إنه يريد أن يجعل من القرآن كتابا في علم النفس.. إنه يريد منا أن نخلط كلام الله المقدس بما اكتشفه علم النفس المدنس.

قال آخر: صدقت.. لقد كتب كتابا في هذا المجال بعنوان (القرآن وعلم النفس).. وذكر أنه ليس (إلا محاولة لجمع الحقائق والمفاهيم النفسية التي وردت في القرآن، والاسترشاد بها في تكوين صورة واضحة عن شخصية الإنسان وسلوكه، لتمهيد الطريق لنشأة دراسات جديدة في علم النفس تحاول وضع الأسس لنظريات جديدة في الشخصية تتفق مع الحقائق والمفاهيم التي وردت في القرآن)([8])

قال آخر: لقد قرأت الكتاب.. إنه مشحون بالضلال والزندقة.. لقد ذكر في الفصل الأول من الكتاب، والذي عنونه بـ (دوافع السلوك في القرآن) أن مشيئة الله اقتضت وجود الدوافع الفسيولوجية في فطرة كل من الإنسان والحيوان لتحقيق حفظ النوع.. وذكر أنه لا يوجد في القرآن أو السنة ما يشير إلى استقذار هذه الدوافع أو إنكارها أو ما يدعو إلى كبتها، إنما يدعو القرآن إلى السيطرة على الدوافع والتحكم فيها وإشباعها فقط في الحدود التي يسمح بها الشرع لمصلحة الفرد والجماعة.

ألا ترونه في هذا يتفق مع ما يدعو إليه الليبراليون والوجوديون والملاحدة.. فكيف نصلح أنفسنا إن لم نكبت ونقاوم دوافعها الغريزية؟

قال آخر: بلى.. والأخطر من ذلك أنه راح يخضع معجزات الأنبياء لهرطقات علم النفس..  لقد ذكر في كتابه أن هناك نوعا من الإدراك الحسي الخارج عن نطاق الحواس مثل الاستشفاف([9])، والتخاطر([10])، والاستهتاف ([11])..وذكر مثالا لذلك بما ورد في القرآن الكريم من أن يعقوب عليه السلام شم ريح ابنه يوسف حينما تحركت القافلة التي تحمل قميصه من أرض مصر بعيدا عن المكان الذي يوجد فيه يعقوب بمسيرة عدة أيام.

قال آخر: والأخطر من ذلك أنه راح يحول العبادات التي أمرنا الله بأدائها إلى مصحات نفسية، ليس الغرض منها العبادة، وإنما معالجة المشاكل النفسية.

قال آخر: أجل.. لقد حول الصلاة بفهمه السقيم من عبادة لله إلى وسيلة لتحقيق الصفاء الروحي والاطمئنان القلبي والأمن النفسي. واعتبر أن انصراف الإنسان عن مشاكل الحياة أثناء الصلاة يبعث فيه حالة من الاسترخاء التام وهدوء النفس، وراحة العقل وبالتالي يساعد ذلك على تخفيف حدة التوترات الناشئة عن ضغوط الحياة اليومية.

قال آخر: بل إنه ذكر عند حديثه عن الدعاء كلاما خطيرا، فقد قال: (وفي الدعاء يقوم الإنسان بمناجاة ربه ويبث إليه ما يشكوه وما يعانيه من مشكلات تزعجه وتقلقه. وإن مجرد تعبير الإنسان عن مشكلاته يساعده علي التخلص من القلق، وإذا كانت حالة الإنسان النفسية تتحسن إذا أفضي الإنسان بمشكلاته لصديق حميم، فما بالك إذا أفضي بمشكلاته لله سبحانه)

قال آخر: ونفس الشيء قام به من تحريف الصيام عن معناه العبادي إلى معناه النفسي.. فذكر أن (للصيام فوائد نفسية عظيمة، ففيه تربية وتهذيب للنفس وعلاج لكثير من أمراض النفس والجسم، فالصيام تدريب للإنسان علي مقاومة شهواته والسيطرة عليها، وبالتالي تعليم الإنسان قوة الإرادة وصلابة العزيمة في سلوكه العام بالحياة.. والصيام يجعل الغني يشعر بآلام الفقير فيدفعه ذلك إلى البر والإحسان وبالتالي تقوي روح التعاون والتضامن في المجتمع)

قال آخر: ونفس الشيء قام به من تحريف الزكاة حيث ذكر أنها (تعلم المسلم حب الآخرين، وتخلصه من الأنانية وحب الذات والبخل والطمع وتقوي الشعور بالانتماء الاجتماعي)

قال آخر: ونفس الشيء قام به من تحريف الحج.. حيث ذكر أن (زيارة الأماكن المقدسة تمد المسلم بطاقة روحية روحية عظيمة تزيل عنه كروب الحياة وهمومها، وتغمره بشعور عظيم من الأمن والطمأنينة والسعادة… والحج تدريب علي تحمل المشاق والتعب وعلى التواضع، ويقوي الروابط بين المسلمين من جميع الأجناس والأمم والطبقات)

قال آخر: بل إنه عند حديثه عن التوبة حولها عن مسارها تماما، فذكر أن (الشعور بالذنب يسبب للإنسان الشعور بالنقص والقلق، مما يؤدي إلى نشوء أعراض الأمراض النفسية.. ويمدنا القرآن بأسلوب فريد في علاج الشعور بالذنب ألا وهو التوبة، فالتوبة تغفر الذنوب، وتقوي في الإنسان الأمل في رضوان الله فتخفف من حده قلقه)

قام آخر، وقال: أرى أن الرجل زنديق، وأنه لا يكفي أن نرمي محاضرته في المزبلة.. بل نحتاج إلى رمي رأسه أيضا..

كبر الجميع لكلماته هذه.. وكبرت معهم خشية على رأسي أن ترمى.. واستغفرت في سري من ذلك التكبير الذي لا أزال نادما عليه.

القرآن الكريم.. وسنن التغيير:

بعد الجدل الطويل الذي خلفته المحاضرة الثالثة، أخذت المحاضرة الرابعة، وقلت لهم: وهذه محاضرة بعنوان (القرآن الكريم.. وسنن التغيير).. وهي لجودت ..

وضع أحدهم يده في فمه، وهو يقول: اسكت.. ولا تنجس فمك بذكر اسمه.. إنه رويبضة مارق، تلميذ من تلاميذ الهنود المشركين.. لقد تأثر بمقولات غاندي في اللاعنف، بل هو يتصور أن الدين يمكن أن ينتشر ويؤمن الناس به من غير أن نستعمل أي سيف أو رمح.. إنه يريد منا أن نقتدي ببلال الحبشي والحسين.. لا بخالد والقعقاع.. إنه يريد أن يجعل من المسلمين شعباً من الشهداء، أو أمة من القتلى.

قال آخر: صدقت.. فقد رأيته في كتابه [مذهب ابن آدم الأول] يدعونا إلى أن نقول لمن يريد قتلنا: { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } [المائدة: 28]غافلا على أن الآية مرتبطة بشرع من قبلنا، لا بشرعنا.. لأن شرعنا شرع لنا أن نعاقب، بل أن نبادر إلى العقوبة.. فلا دين من دون عنف.. وهو يقول باللاعنف.

قال آخر، وكان يظهر عليه الهدوء والوقار([12]): لقد بحثت عن الرجل.. فوجدت أنه ليس عربيا.. لا أبا ولا أما.. بل هو شركسي.. بل هو ـ وإمعانا في حبه لقومه ـ لا يرتدي العمامة التي ارتداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وإنما يرتدي القبعة الشركسية.

وبعد بحث طويل لي في هذا المجال وجدت أن الشراكسة الذين ينحدر منهم هذا الرويبضة متأثرون بالديانة الشامانية القديمة التي كانت تنتشر في القوقاز.. ومتأثرون أيضا بعقائد الزرادشتية والهندوسية والبوذية.. لأن الشراكسة وغيرهم من الأمم غير العربية، وبسبب بعدهم عن لغة القرآن الكريم، بقوا محافظين على الكثير من الهرطقات التي كان يؤمن بها أسلافهم.

قال آخر: صدقت.. فاللاعنف هو عقيدة دينية هندوسية وبوذية وجاينية وطاوية وكونفوشية وتيبيتية، وهي عقيدة عند ديانات جديدة مثل نيو أيج وغيرها.. وغاندي حينما نادى باللاعنف، كان يرتكز إلى مبادئ دينية هندوسية طبقية.. ففي الهندوسية خمس طبقات.. وتعتبر الطبقة الخامسة أدنى تلك الطبقات، ويتوجب عليها دينياً أن تلتزم بمكانتها الطبقية.. وكان غاندي من تلك الطبقة.. ولهذا أطلق شعار اللاعنف.

قال آخر: صدقت.. فاللاعنف في تلك الديانات الوثنية كالهندوسية والبوذية والجاينية مبدأ ديني أساسي، حيث يصور بوذا وجيان وهما (إلهان هندوسيان) يتعايشان مع الأفاعي والنمور والحيوانات. وتنتقل البقرة بحرية وتتبختر في مشيتها في دروب وشوارع الهند، لأن مبدأ اللاعنف الهندوسي يوجب على الناس تقديسها وعبادتها. فلا عنف مع الحيوان ومع الطبيعة ومع النبات ومع الحجر نفسه.. وكلنا نسمع عن النباتيين الذين لا يأكلون لحم الحيوان.. وذلك انطلاقاً من مبدأ اللاعنف الذي يمنع ذبح الحيوان.

قام آخر، وراح يخطب بصوت مرتفع، وهو يلوح بيده ذات اليمين، وذات الشمال: يا قوم.. ما هذا.. أين وصل بنا الأمر.. هذه عاقبة ابتعادنا عن منهج السلف.. أخبروني بربكم ما حاجتنا لأن نعتقد بعقائد أولئك الذين حرموا من نعمة الإسلام ؟.. ما حاجتنا لأن نعتقد بعبارة قالها قزم حقير منبوذ اسمه غاندي؟

ثم راح يسرع في كلامه، ويرطن فيه، حتى أني لم أفهم ولو كلمة واحدة، فقد كانت كلماته يسابق بعضها بعضا، وكل كلمة تالية تبلع التي سبقتها أو تذبحها..

وبعد فترة طويلة اختلط فيها كلام البشر بأصوات الأنعام، جلس وهو يلهث من كثرة حديثه.. فقام آخر أكثر هدوءا، وقال: لا بأس.. مهما كان شأنه.. ومهما كانت الديانة التي تأثر بها.. دعونا نطلع على محاضرته.. فلعله تاب فيها عن تلك الهرطقات التي كان يؤمن بها.

قال ذلك، ثم أخذ المحاضرة، واطلع عليها بسرعة، ثم صاح، وكأن عقربا لدغته([13]): انظروا إلى السفيه الرويبضة ماذا يقول.. يبدو عليه أنه ليس متأثرا بتلك الديانات فقط.. بل هو متأثر أيضا بالشيوعية الملحدة.. أنظروا.. لقد قال معلقا على قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]: (الفكر الماركـســـي لبه ومبتداه ومنتهاه في إدراك محتوى هذه الآية، حيث لمحوا قدرة الإنسان على صـنــع التاريخ، والقيام بعملية التغيير، فهذا الضجيج الذي أحدثه الفكر الماركسي خلال أكثر من مئة عام، إنما كان تبنّيهم لهذه الفكرة وإدراكهم لها)([14])

هل رأيتم هرقطة فوق هذه الهرطقة.. ألا ترون من العجب أن يصدر مثل هذا الرأي عن رجل يتصور أنه داعية، بل يتصور أنه يسعى لـحـل مشاكل الأمة الإسلامية، فإذا به يشهد للفكر الـمـاركـسـي بالأصالة والثناء عليه، وكأنه بأسلوبه هذا يُشعر الناس أن مصدر الفكر الماركسي من كتاب الله، وظن أنه بهذه الطريقة – ومــــن خــلال ذكر الآيات القرآنية – يتمكن من تدعيم منهجه المادي بين المسلمين..

أخذ آخر المحاضرة، واطلع عليها قليلا، ثم قال: الأغرب من ذلك هو دعوته الشباب المسلم إلى القيام بعملية التغيير، انطلاقاً من هذا المبدأ، إنها دعوة سافرة لتبنّي منهج المادية، اسمعوا ماذا يقول: (وكذلك إذا تذكرنا أن علينا أن لا نبخس الناس أشياءهم، وأن الحكمة لا تضر من أي وعاء خرجت، فإن الاعتراف بجانب الصواب الذي في النظرية الماركسية لا يضرنا شيئاً، ولكن إذا رفـضـنا جانب الصواب بسبب جانب الكفر الذي عندهم لا نكون مصيبين)([15])

هل رأيتم جنونا فوق هذا الجنون.. فأي حكمة عند الماركسيين الشيوعيين الملاحدة، وأي صـــواب لديهم.. وهل يمكن لعاقل أن يصدق أي مقولة لهم؟

قال آخر، وهو يمسك بالمحاضرة: انظروا إليه، وهو يدعونا إلى الاطمئنان على أنفسنا من الشيوعيين، بل يؤكد أن الخـوف علـى آيات الله مستبعد في ظل الأفكار الشيوعية فيقول: (لم يعد هنا ما يجعلنا نخاف على آيـــات الكتاب، لأن آيات الآفاق والأنفس ستبين أن آيات الكتاب هي الحق) ([16])

إن لسان حال هذا الإمعة يقول من حيث لا يشعر: خذوا أفكار الشيوعيين ودَعوا كفرهم.. ولعله يستمد هذا من المثل الشعبي المضلل: (خــذ مــن أقــوالهم وما عليك من أفعالهم)

بل إنه عبر عن ذلك صراحة، فقال: (ولكن حين يصل (الماركسي) مـن أقواله إلى القول: بأنه أصبح بناءً على ذلك من الواجب نبذ كل نظرية إيمانية على الإطلاق – هنا نقول له: إن هذه النتيجة من تلك المقدمة هي الفكرة الطوباوية الناشئة عن الكراهية والعاطفة لا عن الدراسة الموضوعية) ([17])

قال آخر: صدقت.. إنه يدعو في محاضرته بصــراحــة للتمسك بالفكر الماركسي من خلال الدعوة للأخذ بجانب الصواب الذي اكتشفه في النظرية الماركسية، فيقول: (وحين يقول الماركسي: إن دراسة التاريخ الاجتماعي أصبحت علماً، ينبغي ألا نقول له أخطأت، بل نقول له: هذا حق، وإذا اعتبر أن مظاهر الطبيعة قادرة على إعطائنا حقائق موضوعية، عـلـيـنـا أن نراه تقـريــراً بأن آيــات الآفاق تعطي حقائق موضوعية، ونزيد له أيضاً: بأن آيات الأنفس كذلك تعطي حـقــائق موضوعية) ([18])

هل رأيتم يا قوم في حياتكم جميعا هرطقة أعظم من هذه الهرطقة.. لو أن هذا الرجل كان في عهد سلفنا الأول، وملوكنا الصالحين العادلين، وخصوصا المتوكل منهم، لقطع لسانه كما قطع لسان ابن السكيت..

قال آخر متحسرا: إن سكوتنا نحن عن هذا وأمثاله هو الذي جرأهم على الدين.. ولو أننا انتهجنا معهم منهج سلفنا الصالح لما قامت لهم قائمة، ولدخلوا جحورهم مثلما دخل المعتزلة في جحورهم في عهد سلفنا الأول.

قال آخر: كف عن حزنك يا أخي.. فما باليد حيلة.. لقد كان لهم ملوك عادلون، وخلفاء صالحون، أتاحوا لهم قمع المبتدعة، أما نحن الآن.. فأنتم تعلمون أن هذه الهيئات الدولية المبتدعة صارت تتدخل في كل صغيرة وكبيرة من شؤوننا باسم حقوق الإنسان.. حتى أنهم ألغو الرق.. وهل يمكن لدين من الأديان أن يقوم من غير تشريع الرق؟

قال آخر: لكن لابد من عمل ما.. فلا ينبغي أن نرى أحكام الأسلام وهي تنسخ حكما حكما.. ألغو الرق.. وألغو الخلافة العادلة.. وسيأتي اليوم الذي يلغون فيه الصلاة.

قال آخر: لا تقلقوا.. فالأمور تسير في صالحنا.. وستريكم الأيام رجالا، يحيون هذه السنن جميعا، بإذن السلطان العلني، أو بإذنه الخفي.

***

بعد أن قدمت الكثير من المحاضرات التي تحاول أن تستنبط من القرآن الكريم ما يرتبط بجوانب الحياة المختلفة، لم تبق بين يدي إلا مجموعة محاضرات كنت أنوي ألا أعرضها أبدا، لأنها لم تكن تتناسب إطلاقا مع الجهة التي سيقام فيها المؤتمر.. بالإضافة إلى أنها بالكاد تفهم من العرب المختصين، فكيف بالأجانب..

لكني مع ذلك، وإبراء للذمة، ولبلاهتي وقلة تجربتي، رحت أقدمها لهم..

أخذت المحاضرة الأولى، وقلت ببرودة: هذه محاضرة بعنوان (لا النافية الجنس ومواردها في القرآن الكريم).. ولا أظنه يصلح لهذا المؤتمر.. فهو..

قاطعني أحدهم، وهو يقول بحماسة: كيف تقول هذا.. أعرف صاحب هذا البحث جيدا.. لقد كتب في كل الحروف القرآنية، وبين مواضعها المختلفة، وأحصاها إحصاء دقيقا.

قال آخر: أجل.. محاضراته في قمة الجمال والروعة.. وهو فوق ذلك فصيح.. يخرج الحروف مخارجها بدقة عالية.

قال آخر: أجل.. أجل.. لابد أن نمرر هذه المحاضرة.

قلت: ولكن.. أنتم تعلمون جيدا لمن نريد أن نلقي هذه المحاضرة..

قالوا جميعا بصوت واحد: دورنا أن تقدم لنا المحاضرات، لا أن تلقننا ماذا نفعل..

صمت، ثم أخذت محاضرة أخرى بعنوان (وجوه إعراب البسملة)، فطاروا فرحا.. ووافقوا عليها بالإجماع.

أخذت محاضرة أخرى بعنوان: (التحقيق العلمي في عدد فتية أهل الكهف)، فوافقوا بالإجماع من غير اعتراض.

قلت لهم: ولكن ألا ترون القرآن الكريم نهى عن البحث في هذه المسائل؟

غضب أحدهم، وقال: ولكن سلفنا بحثوا فيها حتى أنهم سموا كلب أهل الكهف.. إن معرفة الحقيقة في هذا الباب تدل على الرسوخ في العلم.. ونحن نميز أعلمنا بمعرفة هذه الدقائق.

وهكذا بقيت أقدم لهم أمثال هذه المحاضرات، فيوافقون عليها من غير أي اعتراض.

بعد أيام من ذلك الاجتماع أقيم المؤتمر، ونقلته القنوات الفضائية العالمية، وحضره الأساتذة الكبار.. وقد خرجوا بما أكد لهم كل مواقفهم من الإسلام والمسلمين.. بل وأضافوا إليها اعتبار القرآن الكريم سببا فيما يعيشه المسلمون من تخلف وعنف ورجعية.


([1]) أشير به إلى مصطفى محمود والضجة التي أحدثها كتابه (القرآن محاولة لفهم عصري)

([2]) الكلام الوارد هنا منقول بتصرف من نقد لبنت الشاطئ لمصطفى محمود في كتابها القرآن وقضايا العصر.

([3]) المرجع السابق.

([4]) مصطفى محمود، القرآن.. محاولة لفهم عصري، ص 42.

([5]) تفسير الطبري (20/ 38)

([6])القرآن محاولة لفهم عصري، 251.

([7]) النصوص المنقولة هنا بين قوسين هي من كتاب [المدرسة القرآنية للسيد الشهيد محمد باقر الصدر]

([8]) أشير به إلى د. محمد عثمان نجاتي أستاذ علم النفس بجامعتي القاهرة والكويت كتابه القيم بعنوان (القرآن وعلم النفس)

([9]) هو رؤية الأشياء أو الأحداث البعيدة الخارجة عن مجال حاسة الإبصار.

([10]) هو إدراك خواطر وأفكار شخص آخر يكون في الغالب في مكان بعيد.

([11]) هو سماع نداء أو حديث من مكان بعيد خارج عن مجال حاسة السمع.

([12]) الانتقادات الموجهة لجودت سعيد هنا منقولة بتصرف شديد من مقال بعنوان: انتهى زمن جودت سعيد، لمحمد نمر المدني.

([13]) بعض الانتقادات الموجهة لجودت هنا من مقالات لعادل التل في مجلة البيان في الأعداد 63، 64، 65، 66. قام بجمعها مع غيرها ونشرها في كتاب بعنوان [أخطار النزعة المادية في العالم الإسلامي]

([14]) اقرأ وربك الأكرم، جودت سعيد، ص219..

([15]) حتى يغيروا ما بأنفسهم، جودت سعيد، ص80.

([16]) حتى يغيروا ما بأنفسهم، جودت سعيد، ص80.

([17]) حتى يغيروا ما بأنفسهم، جودت سعيد، ص81.

([18]) حتى يغيروا ما بأنفسهم، جودت سعيد، ص81.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *