قسوة.. وغلظة

من أهم صفات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ـ كما يذكر القرآن الكريم ـ تلك الرحمة العظيمة التي ملأ الله بها قلوبهم، والتي تجلت في كل التضحيات التي ضحوا بها من أجل هداية أقوامهم، وكل ذلك الصبر الذي صبروه تجاه تلك المواجهات الشرسة التي ووجهوا بها، وقد ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود قوله: (كأنِّي أنظر إلى النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء، ضربه قومه فأَدْمَوه، فهو يمسح الدَّم عن وجهه، ويقول: ربِّ اغفر لقومي، فإنَّهم لا يعلمون)([1])
وهذه المقولة التي وصف بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تمثل كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكلهم رحمة ولطف وهداية.. ومن أساء إلى أي واحد منهم في هذه الناحية فقد أساء إليهم جميعا، كما ورد في الحديث: (الأنبياء إخوة بنو علات([2]) أمهاتهم شتى، ودينهم واحد)([3])
وهذه الأخوة تتفق في جميع القيم الإنسانية الرفيعة.. لأن أول صفات النبي أن يتصف بكل مستلزمات الكمال الإنساني.. ومن أهم تلك الكمالات الرحمة واللطف واللين، كما قال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]
وذكر حرصه الشديد على إيمان الناس رحمة بهم، فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة: 128]
وهذه الرحمة التي جعلها الله في قلب النبي لا تقتصر فقط على أصحابه والمقربين منه، بل تتعداه إلى أعدائه الذين يشفق عليهم ويحرص على هدايتهم، كما قال تعالى ذاكرا حزن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الشديد على إعراض قومه: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]
وقد حكى القرآن الكريم قصة إبراهيم عليه السلام، وهو يجادل عن قوم لوط، مع عتوهم وطغيانهم، فقال: { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)} [هود: 74 – 76]
وحكى عنه وهو يخاطب قريبه([4]) بتلك اللغة الممتلئة بالرقة واللطف والأدب والحرص الشديد، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)} [مريم: 41 – 45]
وعندما رد عليه بذلك الرد القاسي قائلا: { أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46]
أجابه إبراهيم عليه السلام بلطف وأدب قائلا: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 47، 48]
وهكذا نرى تلك الرحمة من لوط عليه السلام، وهو يبدي كل ذلك الحرص على ضيوفه الذين أتوه من دون أن يعرفهم، ومع ذلك استعمل كل الوسائل لحمايتهم، كما قال تعالى: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) } [هود: 78 – 81]
وهكذا نرى يعقوب عليه السلام، وبعد كل تلك المعاناة التي عاناها بسبب تصرف أولاده، ومع ذلك عفا عنهم بل وعدهم أن يستغفر لهم، قال تعالى: { قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف: 97، 98]
وهكذا نرى يوسف عليه السلام، ومع كل تلك الإساءات التي قام بها إخوته تجاهه، ولكنه مع ذلك عفا عنهم بكل سهولة ويسر، قال تعالى: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) } [يوسف: 89 – 93]
هكذا يتحدث القرآن الكريم عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكيف كانت أخلاقهم الرفيعة وآدابهم العالية وإنسانيتهم السامية.
لكن الرؤية السلفية ـ بفعل الأساطير التي سطرتها في كتب التفسير والحديث والعقيدة ـ نسخت هذه الصورة الجميلة، ووضعت بدلها صورة قاتمة ممتلئة بالغلظة والقسوة لا تتناسب حتى مع أجلاف الناس وغلاظهم.
وسنذكر هنا ثلاثة نماذج عن تلك الصورة التي رسمتها السلفية عن ثلاثة من أنبياء الله العظام هم: موسى وسليمان ويونس عليهم السلام مقارنة بالصورة القرآنية التي صورت لهم.
موسى عليه السلام:
كما ذكرنا سابقا فإن موسى عليه السلام ـ بالإضافة إلى كونه نبيا كريما من أنبياء الله ـ كلف بإمامة قومه، وقبل ذلك كلف بإخراجهم من نير الاستعباد الذي كانوا يعانون منه.
وقد ذكر القرآن الكريم المواصفات التي استحق أن ينال بها رتبة المخلص لأمته، وأولها تلك القوة في الحق، والتي جعلته يقوم بما يقوم به من أعمال قد يكون في ظاهرها بعض الشدة، ولكن باطنها مملوء بالرحمة واللطف.
وكمثال على ذلك يتعلق به المخطئة عادة، ويشوهون به صورة هذا النبي العظيم قتله للقبطي، مع أن القرآن الكريم لم يذكر هذا ليجرمه، وإنما ذكره ليبين قوة موسى عليه السلام في نصرة الحق.. وليس في النص المقدس ما يدل على معاتبة الله أو توبيخه.. وما حصل من موسى عليه السلام من استغفار شيء طبيعي بالنسبة لأرواح الأنبياء الشفافة شديدة الحساسية التي تستغفر في كل حين، ولكل شيء، حتى لو لم يكن معصية.
ولهذا نرى شيخ الأنبياء نوحاً عليه السلام يقول:{ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} (نوح:28)
ويقتفيه إبراهيم عليه السلام ويقول:{ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (ابراهيم:41)
وعلى أثرهم يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:{ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285)
والمنشأ الوحيد لهذا الطلب مرّة بعد أُخرى هو وقوفهم على أنّ ما قاموا به من الأَعمال والطاعات وإن كانت في حد ذاتها بالغة حدّ الكمال لكن المطلوب والمترقّب منهم أكمل وأفضل منه.
وهذا ما فسر به منزهة الأنبياء من تفسيرهم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله، وفي لفظ: وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)([5]).. فقد قال أبو الحسن الشاذلي في الحديث: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألته عن حديث: (إنه ليغان على قلبي)، فقال: (يا مبارك ذلك غين الأنوار)
وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي: (لا تعتقد أن الغين حالة نقص، بل هو حالة كمال.. فذلك مثل جفن العين حين يمسح الدمع القذى عن العين، فإنه يمنع العين عن الرؤية، فهو من هذه الحيثية نقص، وفي الحقيقة هو كمال.. فهكذا بصيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم متعرضة للأغبرة الثائرة من أنفاس الأخيار، فدعت الحاجة إلى ستر حدقة بصيرته، صيانة لها، ووقاية عن ذلك)
وقال أبو سعيد الخراز: (الغين شئ لا يجده إلا الأنبياء وأكابر الأبرار والأولياء، لصفاء أسرارهم، وهو كالغيم الرقيق الذي لا يدوم)
وقال آخر: (لم يزل صلى الله عليه وآله وسلم مترقيا من رتبة إلى رتبة، فكلما رقي درجة التفت إلى ما خلفها، وجد منها وحشة لقصورها بالإضافة إلى التي انتهى إليها، وذلك هو الغين، فيستغفر منه)([6])
وقد أورد الشريف المرتضى ـ وهو من الذين اعتبرهم ابن تيمية مبتدعة بسبب قولهم بالعصمة المطلقة للأنبياء ـ الإشكال الذي يورده المخطئة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام حول قتل موسى عليه السلام للقبطي، فقال: (فإن قيل: فما الوجه في قتل موسى عليه السلام للقبطي وليس يخلو من أن يكون مستحقا للقتل أو غير مستحق، فإن كان مستحقا فلا معنى لندمه عليه السلام، وقوله: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص: 15] وقوله: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]، وإن كان غير مستحق فهو عاص في قتله، وما بنا حاجة إلى أن نقول إن القتل لا يكون صغيرة لأنكم تنفون الصغير والكبير من المعاصي عنهم عليهم السلام)([7])
ثم أجاب على ذلك بقوله: (مما يجاب به عن هذا السؤال إن موسى عليه السلام لم يعتمد القتل ولا أراده، وإنما اجتاز فاستغاث به رجل من شيعته على رجل من عدوه بغى عليه وظلمه وقصد إلى قتله، فأراد موسى عليه السلام أن يخلصه من يده ويدفع عنه مكروهه، فأدى ذلك إلى القتل من غير قصد إليه، فكل ألم يقع على سبيل المدافعة للظالم من غير أن يكون مقصودا فهو حسن غير قبيح ولا يستحق عليه العوض به، ولا فرق بين أن تكون المدافعة من الانسان عن نفسه، وبين أن يكون عن غيره في هذا الباب والشرط في الأمرين أن يكون الضرر غير مقصود، وأن يكون القصد كله إلى دفع المكروه والمنع من وقوع الضرر. فإن أدى ذلك إلى ضرر فهو غير قبيح)([8])
وقد ربط السبحاني في الرد على المخطئة في هذا بين فعل موسى عليه السلام والواقع الذي كان يعيشه، لأن للواقع دورا كبيرا في التمييز بين الجريمة وغيرها، فقال: (قبل توضيح هذه النقاط نلفت نظر القارئ الكريم إلى بعض ما كانت الفراعنة عليه من الأعمال الإجرامية، ويكفي في ذلك قوله سبحانه: ( إِنَّ فِرْعَونَ عَلا فِي الأرضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ ويَسْتَحْي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدينَ ) (1)، ولم يكن فرعون قائماً بهذه الأعمال إلاّ بعمالة القبطيين الذين كانوا أعضاده وأنصاره، وفي ظل هذه المناصرة ملكت الفراعنة بني إسرائيل رجالاً ونساءً، فاستعبدوهم كما يعرب عن ذلك قوله سبحانه: ( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ).. وعلى ذلك فقتل واحد من أنصار الطغمة الأثيمة التي ذبحت مئات بل آلاف الأطفال من بني إسرائيل واستحيوا نساءهم، لا يعد في محكمة العقل والوجدان عملاً قبيحاً غير صحيح، أضف إلى ذلك أنّ القبطي المقتول كان بصدد قتل الإسرائيلي لو لم يناصره موسى كما يحكي عنه قوله: (يقتتلان)، ولو قتله القبطي لم يكن لفعله أيّ ردّ فعل ؛ لأنّه كان منتمياً للنظام السائد الذي لم يزل يستأصل بني إسرائيل ويريق دماءهم طوال سنين، فكان قتله في نظره من قبيل قتل الإنسان الشريف أحد عبيده لأجل تخلّفه عن أمره)([9])
ومما شوه به السلفية موسى عليه السلام مما يتعلق بغضبه في الحق، ما فسروا به قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)} [الأعراف: 150، 151]
فقد رووا أن موسى عليه السلام ألقى الألواح بشدة إلى أن تكسر ستة أسباعها، وقد رووا عن ابن عباس:( صام موسى أربعين يوما فلمّا ألقى الألواح فتكسّرت صام مثلها فردّت عليه وأعيدت له في لوحين مكان الذي انكسر)([10])
مع أنه ليس في النص المقدس ما يدل على أي شيء من ذلك، وقد أورد الشريف المرتضى قول المخطئة في استدلالهم بهذا على معاصي الأنبياء عليهم السلام، فقال ـ موردا شبهتهم بصيغة تساؤل ـ (ما وجه قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 150] أوليس ظاهر هذه الآية يدل على أن هارون عليه السلام أحدث ما أوجب إيقاع ذلك الفعل منه؟ وبعد فما الاعتذار لموسى عليه السلام من ذلك وهو فعل السخفاء والمتسرعين وليس من عادة الحكماء المتماسكين؟)([11])
ثم أجاب على هذه الشبهة بقوله: (ليس فيما حكاه الله تعالى من فعل موسى وأخيه عليهما السلام ما يقتضي وقوع معصية ولا قبيح من واحد منهما، وذلك أن موسى عليه السلام أقبل وهو غضبان على قومه لما أحدثوا بعده مستعظما لفعلهم مفكرا منكرا ما كان منهم، فأخذ برأس أخيه وجره إليه كما يفعل الانسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب وشدة الفكر. ألا ترى أن المفكر الغضبان قد يعض على شفيته ويفتل أصابعه ويقبض على لحيته؟ فأجرى موسى عليه السلام أخاه هارون مجرى نفسه، لأنه كان أخاه وشريكه وحريمه.. وأما قوله: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، فليس يدل على أنه وقع على سبيل الاستخفاف، بل لا يمتنع أن يكون هارون عليه السلام خاف من أن يتوهم بنو إسرائيل لسوء ظنهم أنه منكر عليه معاتب له.. وقال قوم إن موسى عليه السلام لما جرى من قومه من بعده ما جرى اشتد حزنه وجزعه، ورأى من أخيه هارون عليه السلام مثل ما كان عليه من الجزع والقلق، أخذ برأسه إليه متوجعا له مسكنا له، كما يفعل أحدنا بمن تناله المصيبة العظيمة فيجزع لها ويقلق منها)([12])
ومما شوه به السلفية موسى عليه السلام مما يتعلق بهذا الجانب، ما رووه تفسير قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص: 81]، فمع أن الآية واضحة في أن الله تعالى هو الذي خسف بقارون، وهو الذي عاقبه بذلك إلا أن السلفية يروون بأن موسى عليه السلام هو الذي فعل ذلك، وأنه كان قاسيا في عقابة لقارون، وأن الله عاتبه على تلك القسوة.
فقد رووا عن عن ابن عباس، قال: (لما نزلت الزكاة أتى قارون موسى، فصالحه على كل ألف دينار دينارا، وكل ألف شيء شيئا، أو قال: وكل ألف شاة شاة [الطبري يشك] قال: ثم أتى بيته فحسبه فوجده كثيرا، فجمع بني إسرائيل، فقال: يا بني إسرائيل، إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه، وهو الآن يريد أن يأخذ من أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا وأنت سيدنا، فمرنا بما شئت، فقال: آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي، فتجعلوا لها جعلا فتقذفه بنفسها، فدعوها فجعل لها جعلا على أن تقذفه بنفسها، ثم أتى موسى، فقال لموسى: إن بني إسرائيل قد اجتمعوا لتأمرهم ولتنهاهم، فخرج إليهم وهم في براح من الأرض، فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة، ومن زنى وله امرأة جلدناه حتى يموت، أو رجمناه حتى يموت [الطبري يشك] فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة. قال: ادعوها، فإن قالت، فهو كما قالت; فلما جاءت قال لها موسى: يا فلانة، قالت: يا لبيك، قال: أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ قالت: لا وكذبوا، ولكن جعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي، فوثب، فسجد وهو بينهم، فأوحى الله إليه: مر الأرض بما شئت، قال: يا أرض خذيهم! فأخذتهم إلى أقدامهم. ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى ركبهم. ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى حقيهم، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أعناقهم؛ قال: فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى، ويتضرعون إليه. قال: يا أرض خذيهم، فانطبقت عليهم، فأوحى الله إليه: يا موسى، يقول لك عبادي: يا موسى، يا موسى فلا ترحمهم؟ أما لو إياي دعوا، لوجدوني قريبا مجيبا)([13])
ومما شوه به السلفية موسى عليه السلام مما يتعلق بهذا الجانب ما رووه عن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( نزل نبي من الأنبياء([14]) تحت شجرة فلدغَتْهُ نملةٌ، فأمر بجهازه فأُخرج من تحتها، ثم أمر ببيتها فأُحرق بالنار، فأوحى الله إليه: فهلا نملةٌ واحدة؟)([15]) وفي رواية لمسلم: (فأوحى الله إليه أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح؟)
وهذه رواية خطيرة لا تتوافق أبدا مع رحمة الأنبياء ولطفهم وأخلاقهم العالية.. وقد ذكر القرآن الكريم ذلك التواضع الذي تواضع به سليمان عليه السلام أمام النملة، وما كان لموسى عليه السلام أن يختلف عن سليمان عليه السلام في ذلك.
وقد ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة، فجعلت تعرش، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها، ورأى قرية نمل قد أحرقناها، فقال: من أحرق هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بعذاب النار إلا رب النار([16]).
هؤلاء هم الأنبياء كما يصورهم القرآن الكريم، وكما تصورهم السنة النبوية، لا كما يصورهم السلفية، وسلف السلفية، وما كان موسى عليه السلام ليختلف عن إخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في ذلك وغيره.
سليمان عليه السلام:
خلافا للصورة القرآنية التي تصور سليمان عليه السلام بصورة النبي الأواب الشكور المتواضع نرى التصوير السلفي لهذا النبي الكريم، والمتناقض تماما مع ما ورد في القرآن الكريم، والمتفق ـ في نفس الوقت ـ مع الرواية الإسرائيلية التي تصور سليمان عليه السلام ملكا لا نبيا.
ومن تلك الروايات التي يوردونها عنه عليه السلام ما رووه عن ابن عباس، قال: كان سليمان ابن داود يوضع له ستمائه كرسي، ثم يجيء أشراف الإنس فيجلسون مما يليه، ثم يجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس، قال: ثم يدعو الطير فتظلهم، ثم يدعو الريح فتحملهم، قال: فتسير في الغداة الواحدة مسيرة شهر)([17])
وهذا مخالف لما ورد في القرآن الكريم من تقريب الأنبياء للمستضعفين أكثر من تقريبهم لأعيان الناس ووجهائهم كما تنص الرواية.
وهو مخالف كذلك لما ورد في القرآن الكريم من النهي عن الترف.. فما كان سليمان عليه السلام ليستخدم ما أعطاه الله من طاقات في سبيل تحقيق رغبات النفوس المترفة.
وليت روايات السلفية توقفت عند هذا الحد، بل إنها تروي أن سليمان عليه السلام كان يغزو كل حين.. لا لشيء إلا لأجل الغزو والغنيمة.. ومن الروايات التي أوردوها في هذا، والتي تصور سليمان عليه السلام بصورة المستبد القاسي، ما بوب له الطبري بقوله: [ذكر غزوته أبا زوجته جرادة وخبر الشيطان الذي أخذ خاتمه]([18])
وقد ذكرنا سابقا قصته في ذلك.. وهي بالإضافة إلى ما ذكرناه من تشويهها له عليه السلام في ذلك الجانب، فإنها تسيء إليه أيضا في هذا الجانب.. ذلك أنهم يصورون أنه تزوج ابنة الملك الذي قتله، ثم يعاتبون تغيرها عليه رغم حبه الشديد لها، فقد ورد في الرواية: (فقتل ملكها واستفاء ما فيها، وأصاب فيما أصاب ابنة لذلك الملك لم ير مثلها حسنا وجمالا، فاصطفاها لنفسه، ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة ثقة، وأحبها حبا لم يحبه شيئا من نسائه، ووقعت نفسه عليها، فكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها، ولا يرقأ دمعها، فقال لها، لما رأى ما بها وهو يشق عليه من ذلك ما يرى: ويحك، ما هذا الحزن الذي لا يذهب، والدمع الذي لا يرقأ! قالت: إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه، فيحزنني ذلك، قال: فقد ابد لك الله به ملكا هو أعظم من ملكه، وسلطانا هو أعظم من سلطانه، وهداك للإسلام وهو خير من ذلك كله) ([19])
وهذا الجواب الذي أوردوه على لسان عليه السلام عجيب.. فهل هناك من يؤثر السطان والجاه على الوالد.. وهل يمكن لأي مال أو جاه أو سلطان أن يعوض المرأة عن أبيها؟
وهم لا يكتفون كذلك بهذا التشويه.. بل يفسرون قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)} [النمل: 20، 21]، والظاهر فيها أن سليمان عليه السلام قال ذلك بقصد التهديد.. لكن سلف السلفية حولوا منها قصة طويلة..
فقد رووا عن ابن عباس، في قوله: (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا) قال: نتف ريشه، ورووا عنه أن عذابه: نتفه وتشميسه، ورووا عن مجاهد: (نتف ريش الهدهد كله، فلا يغفو سنة)، ورووا عن ابن زيد: قيل لبعض أهل العلم: هذا الذبح، فما العذاب الشديد؟. قال: نتف ريشه بتركه بضعة تنزو([20]).
وبذلك استطاع السلفية أن يشرعنوا تعذيب الحيوانات، ويجعلوا من سليمان عليه السلام قدوتهم في ذلك.. كما جعلوا من موسى عليه السلام قدوتهم في حرق النمل.
ولم يكتفوا بذلك أيضا، بل راحوا يفسرون قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ } [ص: 30 – 33] بما يتناسب مع الغلظة والخشونة التي صوروا بها الأنبياء عليهم السلام.
فقد ذكروا في تفسير الآيات الكريمة أن سليمان عليه السلام عرض عليه الخيل الجياد في وقت العصر، فألهاه هذا العرض عن صلاة العصر، فلما اقترب المغرب غضب وطلب من الله أن يرد الشمس بعد أن غربت ليصلي العصر فردت.. وكصورة من غضبه على الخيل لأنها كانت السبب في فوات العصر وألهته عن الصلاة قام وقطع سوقها وأعناقها مسحاً بالسيف([21]).
ومن العجيب أن الطبري ـ وخلافا لعادته ـ رد هذا القول على الرغم من أن القائلين به من أعلام السلف، وانتصر لرواية لابن عباس يقول فيها: (جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها: حبا لها)، والتي علق عليها بقوله: (وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس أشبه بتأويل الآية، لأن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن إن شاء الله ليعذب حيوانا بالعرقبة، ويهلك مالا من ماله بغير سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنطر إليها، ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها)([22])
لكن هذه الحسنة، أو هذا الموقف الطيب للطبري لم يعجب السلفية، فقد أورده ابن كثير ورد عليه بقوله: (وهذا القول اختاره ابن جرير، واستدل له بأنه لم يكن سليمان عليه السلام ليعذب حيوانا بالعرقبة، ويهلك مالا من ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها.. وهذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر؛ لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا، ولا سيما إذا كان غضبا لله عز وجل بسبب أنه شغل بها حتى خرج وقت الصلاة؛ ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله تعالى ما هو خير منها وهي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر، فهذا أسرع وخير من الخيل) ([23])
هذه الرؤية السلفية.. أما الرؤية التنزيهية للأنبياء عليهم السلام التي يبدعها السلفية، فقد فسرت الآية على وفق مقتضى اللغة تفسيرا جميلا ينطلق من كمال الرسل عليهم السلام، ويدل على مكانتهم الرفيعة، فقد قال السبحاني في الآية الكريمة بعد أن أورد الوجوه النحوية في كل كلمة منها: (وتقدير الجملة: أحببت الخير حبّاً ناشئاً عن ذكر الله سبحانه وأمره، حيث أمر عباده المخلصين بالإعداد للجهاد ومكافحة الشرك وقلع الفساد بالسيف والخيل ؛ ولأجل ذلك قمت بعرض الخيل، كل ذلك امتثالاً لأمره سبحانه لا إجابة لدعوة الغرائز التي لا يخلو منها إنسان كما أشار إليه سبحانه بقوله: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [آل عمران: 14] )([24])
وانطلاقا من هذا المعنى فسر قوله تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33] (أي شرع بمسح أعراف خيله وعراقيبها بيده تقديراً لركّابها ومربّيها الذين قاموا بواجبهم بإعداد وسائل الجهاد)
ثم قرب ما حصل بطريقة عصرية، فقال: (إلى هنا اتضح مفاد مفردات الآية وجملها، وعلى هذا تكون الآيات هادفة إلى تصوير عرض عسكري قام به أحد الأنبياء ذوي السلطة والقدرة في أيّام ملكه وقدرته، وحاصله: إنّ سليمان النبي الذي أشار القرآن إلى ملكه وقدرته وسطوته وسيطرته على جنوده من الإنس والجن، وتعرّفه على منطق الطير، إلى غير ذلك من صنوف قدرته وعظمته التي خصّها به بين الأنبياء قام في عشيّة يوم بعرض عسكري، وقد ركب جنوده من الخيل السراع، فأخذت تركض من بين يديه إلى أنْ غابت عن بصره، فأمر أصحابه بردّها عليه، حتّى إذا ما وصلت إليه قام تقديراً لجهودهم بمسح أعناق الخيل وعراقيبها، ولم يكن قيامه بهذا العمل صادراً عنه لجهة إظهار القدرة والسطوة أو للبطر والشهوة، بل إطاعة لأمره سبحانه وذكره حتى يقف الموحّدون على وظائفهم، ويستعدّوا للكفاح والنضال ما تمكّنوا، ويهيّئوا الأدوات اللازمة في هذا المجال، وهذا هو الذي تهدف إليه الآيات وينطبق عليها انطباقاً واضحاً، فهلّم معي ندرس المعنى الذي فُرض على الآيات، وهي بعيدة عن تحمّله وبريئة منه)([25])
يونس عليه السلام:
وهو من الأنبياء الكرام الذين ذكروا في القرآن الكريم في عداد الرسل الكرام الذين قيل فيهم بعد ذكرهم في سورة الأنعام: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [النساء: 165]
وهي شهادة من الله تعالى على أداء هذا الرسول الكريم لوظيفته العظيمة، بالإضافة إلى دلالتها على القرب العظيم من الله، والذي يتحلى به كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بدون استثناء.
وقد ذكر الله تعالى أيضا أن قومه من الأقوام القلائل الذين آمنوا بعد أن كاد العذاب ينزل بهم، كما قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [يونس: 98]
وقد أخبر الله تعالى بالإضافة إلى ذلك أنه، وبعد أن أدى الدور الدعوي الذي كلف به كسائر الرسل، خرج من بين قومه غاضبا من إعراضهم عن الله، ظانا أنه قد أدى ما عليه من واجب رسالي، لكن الله ابتلاة بعد ركوبه البحر بأن يلتهمه الحوت، ولا ينجو منه إلا بذكر الله كما قال تعالى: { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87، 88]، وقال:{ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)} [الصافات: 139 – 148]
وذكر الله تعالى لهذا الموقف العظيم الذي وقفه يونس عليه السلام دليل على مدى تعمق الإيمان في قلوب الأنبياء عليهم الصلاة.. إذ أنه وفي تلك الحالة العظيمة لم ينس أن يذكر الله ويسبحه ويستغفره إلى الدرجة التي استحق بها أن يحصل له خارق الإنجاء.
وهذا هو موضع الهدي في هذه القصة القرآنية.. وهي ما أشار إليه قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88]
خاصة وأن هذه الآيات الكريمة قرنت بالآيات التي تبين استجابة الله لرسله وأنبيائه، فقد جاء بعدها قوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 89، 90]
وجاء قبلها قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ } [الأنبياء: 83 – 86]
وختمت جميعا بقوله تعالى يصف هؤلاء الأنبياء جميعا: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء: 90]
هذه هي الصورة القرآنية ليونس عليه السلام.. لكن السلفية لم ينظروا إلى تلك الآيات جميعا، وراحوا إلى آيات متشابهات، يطبقونها وحدها على يونس عليه السلام لينحرفوا بصورته كما انحرفوا بصور سائر الأنبياء عليهم السلام، وهذه الآية هي قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } [القلم: 48 – 50]
ومن الروايات التي صوروا بها الحادثة ما رووه عن ابن عباس، قال: (بعثه الله، يعني يونس إلى أهل قريته، فردوا عليه ما جاءهم به وامتنعوا منه، فلما فعلوا ذلك أوحى الله إليه: إني مرسل عليهم العذاب في يوم كذا وكذا، فاخرج من بين أظهرهم، فأعلم قومه الذي وعده الله من عذابه إياهم، فقالوا: ارمقوه، فإن خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم، فلما كانت الليلة التي وعدوا بالعذاب في صبحها أدلج ورآه القوم، فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم، وفرقوا بين كل دابة وولدها، ثم عجوا إلى الله، فاستقالوه، فأقالهم، وتنظر يونس الخبر عن القرية وأهلها، حتى مر به مار، فقال: ما فعل أهل القرية؟ فقال: فعلوا أن نبيهم خرج من بين أظهرهم، عرفوا أنه صدقهم ما وعدهم من العذاب، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض، ثم فرقوا بين كل ذات ولد وولدها، وعجوا إلى الله وتابوا إليه، فقبل منهم، وأخر عنهم العذاب، قال: فقال يونس عند ذلك وغضب: والله لا أرجع إليهم كذابا أبدا، وعدتهم العذاب في يوم ثم رد عنهم، ومضى على وجهه مغاضبا)([26])
وهذا حديث خطير، فهو يصور يونس عليه السلام بصورة الغاضب من ربه، لأنه لم ينفذ العذاب عليهم.. ويصورونه فوق ذلك بصورة الغليظ القاسي الذي لم يفرح بإيمان قومه، بل يصورونه حزينا لأجل إيمانهم.
بل ورد في كثير من رواياتهم أن غضب يونس كان من الله.. والعجب أن الله يختار نبيا يغضب عليه، وممن قال بذلك كما يروي أعلام السلفية سعيد بن أبي الحسن، فقد قال ـ يحكي عن سلفه ـ: (بلغني أن يونس لما أصاب الذنب، انطلق مغاضبا لربه، واستزله الشيطان)
ومثله قال الشعبي في قوله (إذ ذهب مغاضبا) قال: (مغاضبا لربه)
ومثله عن سلمة، وزاد فيه: (فخرج يونس ينظر العذاب، فلم ير شيئا، قال: جربوا علي كذبا، فذهب مغاضبا لربه حتى أتى البحر) ([27])
بل رووا عن عن وهب بن منبه، أنه قال: (إن يونس بن متى كان عبدا صالحا، وكان في خلقه ضيق، فلما حملت عليه أثقال النبوة، ولها أثقال لا يحملها إلا قليل، تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل، فقذفها بين يديه، وخرج هاربا منها، يقول الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } [الأحقاف: 35] {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48]: أي لا تلق أمري كما ألقاه) ([28])
وقد علق الطبري على هذه الروايات وغيرها بقوله: (وهذا القول، أعني قول من قال: ذهب عن قومه مغاضبا لربه، أشبه بتأويل الآية، وذلك لدلالة قوله {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] على ذلك، على أن الذين وجهوا تأويل ذلك إلى أنه ذهب مغاضبا لقومه، إنما زعموا أنهم فعلوا ذلك استنكارا منهم أن يغاضب نبي من الأنبياء ربه، واستعظاما له، وهم بقيلهم أنه ذهب مغاضبا لقومه قد دخلوا في أمر أعظم ما أنكروا، وذلك أن الذين قالوا: ذهب مغاضبا لربه اختلفوا في سبب ذهابه كذلك، فقال بعضهم: إنما فعل ما فعل من ذلك كراهة أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم، واستحيا منهم، ولم يعلم السبب الذي دفع به عنهم البلاء، وقال بعض من قال هذا القول: كان من أخلاق قومه الذين فارقهم قتل من جربوا عليه الكذب، عسى أن يقتلوه من أجل أنه وعدهم العذاب، فلم ينزل بهم ما وعدهم من ذلك، وقد ذكرنا الرواية بذلك في سوره يونس، فكرهنا إعادته في هذا الموضع. وقال آخرون: بل إنما غاضب ربه من أجل أنه أمر بالمصير إلى قوم لينذرهم بأسه، ويدعوهم إليه، فسأل ربه أن ينظره، ليتأهب للشخوص إليهم، فقيل له: الأمر أسرع من ذلك، ولم ينظر حتى شاء أن ينظر إلى أن يأخذ نعلا ليلبسها، فقيل له نحو القول الأول، وكان رجلا في خلقه ضيق، فقال: أعجلني ربي أن آخذ نعلا فذهب مغاضبا. وممن ذكر هذا القول عنه: الحسن البصري)([29])
ثم حاول كعادة السلفية أن يبرر غضبه على ربه بهذه المقولة التي لا يقبلها إلا عقل سلفي، فقد قال: (وليس في واحد من هذين القولين من وصف نبي الله يونس صلوات الله عليه شيء إلا وهو دون ما وصفه بما وصفه الذين قالوا: ذهب مغاضبا لقومه، لأن ذهابه عن قومه مغاضبا لهم، وقد أمره الله تعالى بالمقام بين أظهرهم، ليبلغهم رسالته، ويحذرهم بأسه، وعقوبته على تركهم الإيمان به، والعمل بطاعتك لا شك أن فيه ما فيه، ولولا أنه قد كان صلى الله عليه وسلم أتى ما قاله الذين وصفوه بإتيان الخطيئة، لم يكن الله تعالى ذكره ليعاقبه العقوبة التي ذكرها في كتابه، ويصفه بالصفة التي وصفه بها)([30])
هذه هي الرؤية السلفية التي نص عليها الطبري، والتي انتصر لها ابن تيمية وغيره من أعلام السلفية..
أما الرؤية التنزيهية التي اعتبرها ابن تيمية والسلفية بدعة، فقد نظرت إلى قصة يونس عليه السلام وفق الرؤية القرآنية، ووفق مكانة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.. ولذلك فسرتها بما يتناسب مع تلك المكانة الرفيعة.
وسنقتبس هنا ـ مثلما فعلنا سابقا ـ نصا قاله عالم من علماء المنزهة هو الشريف المرتضى في الانتصار ليونس عليه السلام.. وقد ساق كعادته الشبهة بشكل تساؤل قبل أن يجيب عليها، فقال: (فإن قيل فما معنى قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87، 88] وما معنى غضبه وعلى من كان غضبه وكيف ظن أن الله تعالى لا يقدر عليه؟ وذلك مما لا يظنه مثله؟ وكيف اعترف بأنه من الظالمين والظلم قبيح؟)([31])
ثم أجاب على ذلك بقوله: (قلنا أما من يونس عليه السلام خرج مغاضبا لربه من حيث لم ينزل بقومه العذاب، فقد خرج في الافتراء على الأنبياء عليهم السلام وسوء الظن بهم عن الحد، وليس يجوز أن يغاضب ربه إلا من كان معاديا له وجاهل بأن الحكمة في سائر أفعاله، وهذا لا يليق باتباع الأنبياء عليه السلام من المؤمنين فضلا عمن عصمه الله تعالى ورفع درجته، أقبح من ذلك ظن الجهال وإضافتهم إليه عليه السلام أنه ظن أن ربه لا يقدر عليه من جهة القدرة التي يصح بها الفعل. ويكاد يخرج عندنا من ظن بالأنبياء عليهم السلام مثل ذلك عن باب التمييز والتكليف. وإنما كان غضبه عليه السلام على قومه لبقائهم على تكذيبه وإصرارهم على الكفر ويأسه من إقلاعهم وتوبتهم، فخرج من بينهم خوفا من أن ينزل العذاب بهم وهو مقيم بينهم) ([32])
ثم فسر قوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87]، وهو أعلم باللغة من الطبري، بل من كل أعلام السلفية، فقال: (معناه أن لا نضيق عليه المسلك ونشدد عليه المحنة والتكليف، لأن ذلك مما يجوز أن يظنه النبي، ولا شبهة في أن قول القائل قدرت وقدرت بالتخفيف والتشديد معناه التضييق، قال الله تعالى: { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ} [الطلاق: 7]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26] أي يوسع ويضيق، وقال تعالى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } [الفجر: 16] أي ضيق، والتضييق الذي قدره الله عليه هو ما لحقه من الحصول في بطن الحوت وما ناله في ذلك من المشقة الشديدة إلى أن نجاه الله تعالى منها) ([33])
ومثل ذلك فسر قوله تعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] فهو على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والخشوع له والخضوع بين يديه، لأنه لما دعاه لكشف ما امتحنه به وسأله أن ينجيه من الظلمات التي هي ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل، فعل ما يفعله الخاضع الخاشع من الانقطاع والاعتراف بالتقصير، وليس لأحد أن يقول كيف يعترف بأنه كان من الظالمين ولم يقع منه ظلم، وهل هذا إلا الكذب بعينه؟ وليس يجوز أن يكذب النبي عليه السلام في حال خضوع ولا غيره، وذلك أنه يمكن أن يريد بقوله إني كنت من الظالمين، أي من الجنس الذي يقع منهم الظلم، فيكون صدقا، وإن ورد على سبيل الخضوع والخشوع لأن جنس البشر لا يمتنع منه وقوع الظلم)([34])
ثم أورد الشبهة التي يتعلق بها السلفية، فقال: (فإن قيل: فأي فائدة في أن يضيف نفسه إلى الجنس الذي يقع منهم الظلم إذا كان الظلم منتفيا عنه في نفسه؟)
ثم أجاب عليها بذكره لشفافية الرسل وحساسية أوراحهم وأدبهم العظيم مع الله، فقال: (قلنا: الفائدة في ذلك التطامن لله تعالى والتخاضع ونفي التكبر والتجبر، لأن من كان مجتهدا في رغبة إلى مالك قدير، فلا بد من أن يتطأطأ، ويجتهد في الخضوع بين يديه، ومن أكبر الخضوع أن يضيف نفسه إلى القبيل الذي يخطئون ويصيبون كما يقول الانسان، إذا أراد أن يكسر نفسه وينفي عنها دواعي الكبر والخيلاء: إنما أنا من البشر ولست من الملائكة، وأنا ممن يخطئ ويصيب. وهو لا يريد إضافة الخطأ إلى نفسه في الحال، بل يكون الفايدة ما ذكرناها) ([35])
هذه مقارنة بين صورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما وردت في القرآن الكريم، وكما يراها المنزهة.. وبين الصورة التي يصورهم بها السلفية، ولا عجب أن تثمر كل صورة ما يتناسب معها.
ولا عجب بعد هذا من أخلاق السلفية
الممتلئة بالخشونة والغلظة عندما نعلم أن صفات أنبيائهم ـ كصفات ربهم ـ لم
يقتبسوها من القرآن الكريم، ولم يقتبسوها من مشاعل الهداية التي أوصى بها النبي صلى
الله عليه وآله وسلم.. وإنما اقتبسوها من إخوانهم من اليهود الذين انحرفوا بهم في
التيه الذي وقعوا فيه.
([1]) أحمد (1/380) (3611) والبخاري (4/213، 9/20) ومسلم (5/179)
([2]) علة: يقال: هم بنو علات إذا كان أبوهم واحدا وأمهاتهم شتى الواحدة علة مثل جنات وجنة. المصباح المنير 2/583..
([3]) ابن عساكر (47/372)، وانظر: صحيح الجامع،: 1452.
([4]) ذكرنا هنا [قريبه] بدل أباه، كما يدل عليه ظاهر القرآن الكريم لأن الله تعالى أخبر أن إبراهيم عليه السلام تبرأ من استغفاره لهذا القريب الذي ذكر المفسرون أنه عمه، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [التوبة: 114]، وفي نفس الوقت نرى القرآن الكريم يذكر عن إبراهيم عليه السلام وفي مرحلة متقدمة من عمره ـ أي بعد بنائه البيت ـ يستغفر لوالده، قال تعالى: { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41]، وهذا يدل دلالة واضحة وقطعية على أن الأب المذكور في سورة مريم والتوبة ليس والدا لإبراهيم عليه السلام.. وذلك أن الأب في اللغة يطلق على الأب الحقيقي والعم، بخلاف الوالد الذي لا يطلق إلا على الأب الحقيقي، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة: 133]، فقد اعتبر أولاد يعقوب إسماعيل أبا له مع كونه كان عما ولم يكن أبا حقيقيا.
([5]) مسلم رقم (2702)، وأبو داود رقم (1515)
([6]) انظر هذه الأقوال وغيرها في: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (7/ 64(
([7]) تنزيه الأنبياء، ص 101.
([8]) تنزيه الأنبياء، ص 102.
([9]) عصمة الأنبياء للسبحاني، ص156.
([10]) الكشف والبيان عن تفسير القرآن (4/ 287)
([11]) تنزيه الأنبياء، ص117.
([12]) تنزيه الأنبياء، ص118.
([13]) تفسير الطبري (19/ 629)
([14]) روى الحكيم الترمذي في النوادر أنه موسى u وبذلك جزم الكلاباذي في معاني الأخبار والقرطبي في التفسير، انظر: فتح الباري لابن حجر (6/ 358)
([15]) أحمد (2/402) والبخاري (4/75) ومسلم (7/43)
([16]) أحمد (1/396) (3763) وفي (1/423) (4018) والبخاري في «الأدب المفرد» (382) وأبو داود (2675 و 5268)
([17]) تفسير الطبري (19/ 441)
([18]) تاريخ الطبري (1/ 496)
([19]) تاريخ الطبري (1/ 496)
([20]) انظر الروايات التي أوردوها في ذلك في: تفسير الطبري (19/ 443)
([21]) تفسير الطبري (21/ 195).
([22]) تفسير الطبري (21/ 196).
([23]) انظر: تفسير ابن كثير: 7/65.
([24]) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، ص175.
([25]) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، ص175، وقد ذكر أن هذا التفسير اختاره السيد المرتضى في تنزيه الأنبياء: 95 ـ 97، والرازي في مفاتيح الغيب: 7/136، والمجلسي في البحار: 14/103 ـ 104.
([26]) تفسير الطبري (18/ 512).
([27]) تفسير الطبري (18/ 512).
([28]) تفسير الطبري (18/ 513).
([29]) تفسير الطبري (18/ 513).
([30]) تفسير الطبري (18/ 513).
([31]) تنزيه الأنبياء، ص141.
([32]) تنزيه الأنبياء، ص142.
([33]) تنزيه الأنبياء، ص142.
([34]) تنزيه الأنبياء، ص143.
([35]) تنزيه الأنبياء، ص143.