عرب.. وعجم

عرب.. وعجم

سأحكي لكم اليوم قصة قد تفسر تنزيلنا الواقعي والتاريخي والتراثي للآية الكريمة التي يقرر فيها الله سبحانه وتعالى عظمة العدالة الإلهية التي لا تفرق بين بشر وبشر، أو شعب وشعب، أو قبيلة وقبيلة.. وهي قوله تعالى:{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(الحجرات:13)

هذه الآية الكريمة تدعونا إلى التواضع مع خلق الله جميعا، واعتبار أنفسنا أفرادا في مجتمع الإنسانية الكبير الذي لا يحق لأحد أن يضع موازين المفاضلة فيه غير خالقه ورازقه ومدبر أموره والعارف بسريريته وعلانيته.

كان يمكن لهذه الآية الكريمة – لو اتخذت قانونا يضبط العلاقات الإنسانية – أن تجعل البشر جميعا إخوة متحابين لا صراع بينهم، ولا قتال.. لكن الفهم المدنس، وبعض الأيدي الملوثة حرفت الآية الكريمة تحريفا شديدا.. وأعادت إزار الكبرياء بالقوميات والعرقيات ليدخل من جديد.. والخطورة الكبرى أن يدخل باسم الدين نفسه.

قد تستغربون هذا.. ولكن الحكاية التي سأحكيها تزيل هذا الاستغراب:

سمعت ذات يوم أن هناك عالما كبيرا سيزور مدينتنا ليلقي بعض المحاضرات المهمة التي تبصرنا بواقعنا والمؤامرات والتحديات التي يواجهها..

وقد حسبت في البداية أنه محلل سياسي كبير.. أو خبير في المستقبليات.. أو متخصص في التخصصات العلمية التي ترتبط بهذا المجال الخطير.. ولهذا كنت مهتما لا بحضوري الشخصي فقط، بل بدعوة كل من أعرفهم ليحضروا.. فلا يمكن أن نتجاوز المخاطر التي تتربص بنا بغير الوعي وفقه الواقع بكل تفاصيله.

لكني ندمت بعد ذلك لا على حضوري فقط.. بل على أولئك المغفلين الذين كنت سببا فيما حصل لهم من انتكاسة فكرية خطيرة صعب علي أن أعالجهم منها بعد ذلك.

طبعا كعادتنا في أمثال هذه المجالس يقوم المنظمون بثناء كبير على المحاضر وخبرته وشهاداته ونحو ذلك ليكون محل ثقة لدى المستمعين.. لكن المنظمين في هذه الجلسة لم يفعلوا شيئا من ذلك.. سأصور لكم الأحداث كما وقعت بتفاصيلهم.. وعلقوا بما تروه مناسبا:

تقدم مقدم المحاضرة من المنصة، وراح – بعد الترحيب بالحضور- يقول: محاضرنا اليوم علم كبير من أعلام الدعوة الإسلامية السنية السلفية الأثرية.. وقيمته ليس في العلوم التي يحفظها عن ظهر قلب فقط.. وإنما في كونه ولد وتربى في أسرة نجدية ذات نسب عريق يعود إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأحفاده من العلماء.. ولا أنسى قبل أن يتقدم لإلقاء محاضرته أن ألقي عليكم جزءا من أرجوزة طويلة كتبها محمد البشير الإبراهيمي مثنيا على آبائه وأجداده من علماء نجد الذي أحيوا الدين بعد أن اندراسه، وأحيوا التوحيد بعد أن عم الدنيا ظلام الشرك.. يقول الإبراهيمي في قصيدته([1]):

إنا إذا ما ليل نجد عسعسا  ‍
والصبح عن ضيائه تنفسا  ‍
ونقطع اليوم نناجي الطرسا  ‍
موطدا على التقى مؤسسا  ‍
وعلمهم غيث يغادي الجلسا
  وغربت هذي ائجواري خنسا
  قمنا نؤدي الواجب ائمقدسا
  وننتحي بعد العشاء مجلسا
  في شيخة حديثهم يجلو الأسى
  كأننا شرب يحث الأكؤسا

إلى آخر الأرجوزة الطويلة التي اعتبر فيها الإبراهيمي نجدا وعلماء نجد قطب الأمة ومحورها، بل وقبلتها التي إن لم تتوجه لها وقعت في البدعة والشرك والضلالة.

بعد أن نفخ المقدم المحاضر بكل صنوف المديح والثناء.. وبعد أن جحظت العيون وهي تنتظر طلوع الطلعة البهية التي تبصرها بالمؤامرات التي تحاك لها.. تقدم المحاضر بهندامه النجدي المعروف.. وبعد مقدمة طويلة أخذ يقول: لاشك أنكم تنتظرون مني أن أحدثكم عن المؤامرات التي تحيكها أمريكا لنا.. أو تحيكها إسرائيل.. أو تحيكها بريطانيا.. لا.. لن أذكر لكم ذلك.. لسبب بسيط وهو أن ألئك مهما كان فهم أعداء ظاهرون.. ويمكننا لو طبقنا التعاليم الشرعية معهم أن نحولهم إلى أصدقاء.. إن هؤلاء جميعا مهما بلغ خطرهم، فإنهم لن يحتلوا سوى أرضنا، ولن يستلبوا سوى خيراتنا.. وكل ذلك متاع الحياة الدنيا.. والآخرة خير وأبقى..

إن الخطر الكبير أيها المؤمنون هو فيمن يسمون باسم الإسلام.. وهم في الحقيقة منافقون كافرون ضالون مشركون ما دخلوا الدين إلا ليخربوه.. لاشك أنكم عرفتم من أقصد..

إن الخطر الأكبر هو المشروع الفارسي الذي يريد إحياء امبراطورية كسرى.. أنتم تعلمون أن الفرس منذ زالت دولتهم، وهم يحقدون على المسلمين، ويحقدون على الصحابة، ويحقدون على العرب لأنهم أبناء الصحابة.. وكل ما ترونه في وقع التاريخي ناتج من مؤامراتهم..

لقد طفت حول العالم أجمع.. كما طاف إخواني من النجديين للتحذير من هذا المشروع الخطير الذي يريد أن يستأصل الإسلام والسنة والسلف.. والحمد لله فنحن علماء نجد كنا ندرك خطورة هذا المشروع من البداية بخلاف المغفلين من سائر البلاد الإسلامية والذين عمي على قلوبهم، فلم يدركوه إلا بعد أن استفحل خطره..

أما نحن.. ودولتنا الكريمة.. فقد قمنا بكل الجهود لمحاربته.. ابتداء من تلك الحرب التي امتدت ثماني سنوات.. وبعدها كل المقاطعات الاقتصادية.. ولا نزال نتحالف مع الجميع من أجل أن نقف في وجه هذا المشروع الخبيث..

بقي المحاضر يتحدث بهذا ومثله ساعة كاملة إلى أن اعتقد الحضور أن الفرس ليسوا بشرا، وإنما هم عفاريت من الجن.. أو أنهم من كوكب آخر.. وأن قلوبهم ليست سوى مراجل تغلي حقدا على العرب والعروبة.

بعد أن انتهى من محاضرته، تقدم أستاذ محترم كنت أعرفه وأعرف حرصه على الوحدة الإسلامية، بل على الأخوة الإنسانية، وراح يقول بأدب، بعد شكره للمحاضر: ليتك سيدي الفاضل طرحت أفكارك من غير أن تربطها بشعب من الشعوب.. ففي كل الشعوب يوجد الصالح والمنحرف.. وفي كل الشعوب يوجد التقي والفاسق.. والله سبحانه وتعالى يحاسب البشر على أعمالهم لا على أنسابهم.

انتفض النجدي غاضبا، وقال: أرأيتم أيها الحضور.. بهذا وأمثاله يتسلل المشروع الفارسي الخطير إلى بلاد المسلمين.. بهذا المغفل وأمثاله يتسرب كسرى إلى حاراتنا وبيوتنا ليبني امبراطوريته من جديد..

بربكم كيف يمكننا أن نحذر الناس من المشروع الفارسي، ونحن نذكر لهم أن الفرس مسلمون وطيبون..

بربكم كيف يمكننا أن ننجح في عاصفة الحزم التي نواجه بها المشروع الفارسي، ونحن بهذه البلاهة أو الغفلة..

ثم قام بقوة، وقال: لا.. لا.. لا يمكن أبدا أن يحتالوا على عواطفنا بمثل هذه الكلمات..

كان الأستاذ قوي الشخصية، ولا يخاف أن يؤلب عليه المحاضر الحضور، ولذلك قام من جديد، وقال: إن سمحت لي أيها المحاضر.. فأنا أريد أن أسألك عن قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}([2]).. هل ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تفسيرها شيء.

قال المحاضر: الآية واضحة.. وهي لا تحتاج إلى تفسير.. ولا إلى سبب النزول.. ففيها تهديد الله سبحانه وتعالى للعرب الذين نزل القرآن الكريم بين ظهرانيهم أنهم في حال توليهم وتخليهم عن الدور المناط بهم، أنه سيتولى ذلك قوم آخرون، وأنهم سيؤدون الأمانة بصدق وإخلاص، وأنهم لن يكون أمثال القوم الأولين الذين شوهوا الرسالة..

 قال الأستاذ: كلامك صحيح.. ولكن الله سبحانه وتعالى أخبر أن من وظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيان الحقائق القرآنية ومصاديقها، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 44]

ارتبك المحاضر، ولم يدر ما يقول، فقام إمام كان حاضرا، وقال: لا بأس.. قد يكون المحاضر مرهقا، ولم يتذكر الحديث الذي ورد في تفسير الآية، والذي صححه الألباني وغيرهم من المحدثين، وهو أن المراد منها قوم سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقد روى أبو هريرة قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية : {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}( محمد: 38) قالوا : ومن يستبدل بنا ؟ قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منكب سلمان – أي سلمان الفارسي ثم قال: (هذا وقومه)([3]).. فقد وضح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث أن هؤلاء البدائل هم سلمان وقومه.. أي الفرس..

غضب المحاضر غضبا شديدا، وقال: اسكت أيها الأبله.. ألا تعرف أنه ليس كل ما يحفظ يقال.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ماسمع)([4]

قام الإمام غاضبا، وقال: بلى.. وقد سمعت معها قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}( البقرة: 146)، وقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ }( آل عمران: 187)

قال المحاضر: ألا ترى أيها  المغفل أن الآيتين نزلتا في أهل الكتاب من قبلنا.

قال الإمام: لن أجادلك في هذا، ولكني أقرأ عليك قوله صلى الله عليه وآله وسلم :  (من كتم علما يَعلمه جاء يوم القيامة مُلْجَمًا بِلِجَام من نار)([5]) ، قد صححه الشيخ شعيب الأرنؤوط.. وقال الحاكم قبله: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ، وليس له علة.

قام المحاضر: من هؤلاء كنت أحذركم.. إن هؤلاء هم الذين يمدون المشروع الفارسي بالقوة.. إنهم جنود كسرى البلهاء..

ثم طلب من مقدم الجلسة أن يمنع أمثال هؤلاء من الحديث، وقال له: لا تدعوا هؤلاء يوسوسون لكم، ويفتنونكم عن دينكم.. لا تأذن بالحديث إلا لمن ترى فيه سيما أهل السنة والجماعة.. وسيما السلف والأثر.. ومن عداهم لا تأذن لهم.

قام أحد هؤلاء، وقد كنت أعرفه جيدا، وقد كان يعمل تاجرا، وله علاقات مالية بنجد وتجار نجد.. وكان صاحب لحية طويلة، وقميص قصير.. فاستبشر النجدي لقيامه، وقال: ائذن له بالحديث.. فإني أرى فيه سيما الإيمان والتوحيد.

تقدم التاجر، وقال: شكرا جزيلا لك على هذه التحذيرات الخطيرة التي نبهتنا لها.. والتي لا يزال نفر من قومنا في غفلة منها.. ونحن نريد أن نستغل وجودك معنا لتبين لنا المشروع البديل للمشروع الفارسي حتى نكون جنودا في هذا المشروع.

استبشر النجدي خير لكلامه، وقال: هذا هو العقل الذي نريد.. العقل الذي يفكر فيما يعمل.. لا العقل الذي يجادل ويخوض فيما لا ينفع..

ثم أخرج خريطة من جيبه تضم الوطن العربي، وقال: نحن نريد أن تتحالف هذه الشعوب العربية جميعا في وجه المشروع الفارسي.. نريد مشروعا عربيا..

قام بعض الحضور، وقال: ولكن الإسلام دين عالمي.. ولا علاقة له بجنس دون جنس.

قال النجدي: أجل.. ولكن الله سبحانه وتعالى أعطى الريادة للعرب.. العرب هم سادة العالم.. العرب هم خير خلق الله.. ولا يمكن لأحد مهما عمل أن يكون له فضلهم وشرفهم.

قام الإمام، وقال: ولكن.. ألم تسمع ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة الوداع:(يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل  لعربي على   عجمي  ولا لعجمي على   عربي  ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (الحجرات:13)، ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله،  قال: فليبلغ الشاهد الغائب) ([6]).. وقوله في حديث آخر: (إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي ألا إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان خير من فلان بن فلان فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم أين المتقون) ([7]).. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم :(إن الله عز وجل أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم وآدم من تراب مؤمن تقي وفاجر شقي، لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها) ([8]).. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحدكم، كلكم بنو آدم  ليس لأحد على أحد فضل الا بالدين أو تقوى وكفى بالرجل أن يكون بذيا فاحشا بخيلا) ([9])

غضب النجدي غضبا شديدا، وقال: إلى متى يظل هذا الغبي ينشر ما نحتاج إلى كتمانه في هذه الأيام.. ألا يعرف أنه ليس كل ما يعرف يقال.. لقد ورد عن كبار الصحابة من رواة الحديث أنهم كتموا بعض ما رووه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلمهم أن المصلحة في ذلك الكتمان.. لقد روي في الحديث الصحيح عن أبي هريرة، قال: (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين ؛ فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم)([10]

ثم من هذا الرويبضة حتى يستنبط من القرآن والحديث.. أهو خير من ابن تيمية الذي سمع كل هذه الأحاديث ورواها ومع ذلك يقول بخلافها..

عجب الجميع لقوله هذا، ولم أدر إلا وأنا أصيح من حيث لا أشعر: هل حقا ابن تيمية يخالف هذه الأحاديث؟

قال النجدي: أجل.. ابن تيمية كان واعيا جدا لخطورة تسرب مثل هذه الأحاديث في أذهان الناس.. لأنها تجعلهم عرضة لأي مشروع أعجمي يريد أن يحرف ديننا ا لعربي..

أخرج كتابا من محفظته، وقال: انظروا هذا الكتاب الذي سماه شيخ الإسلام (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم).. إنه من أهم كتب ابن تيمية التي توضح معنى الصراط  المستقيم الذي نقرؤه كل يوم في سورة الفاتحة عند قوله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6]

فلن يفهم الصراط المستقيم من لم يقرأ هذا الكتاب..

لقد عقد فيه شيخ الإسلام فصلا خاصا.. بل بابا خاصا بعنوان (باب تفضيل جنس العجم على العرب نفاق)

فتح الكتاب على موضع كان محددا، وراح يقرأ: (إن الذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم: عبرانيهم وسريانيهم، رومهم وفرسهم وغيرهم..)

طوى الكتاب، ثم قال: لا تظنوا أن ذلك بسبب كون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم.. لا هذه معلومة خاطئة.. فالعرب أفضل الأجناس بما وهبهم الله من طاقات لم توهب لغيرهم.. لقد ذكر شيخ الإسلام هذا، فقال في نفس هذا الكتاب: (وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم بمجرد كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم، وإن كان هذا من الفضل، بل هم أنفسهم أفضل. وبذلك ثبت لرسول الله (ص) أنه أفضل نفساً ونسباً، وإلا لزم الدور)

سكت قليلا يتأمل موقع كلامه من الحضور، ثم قال: أعلم أن في هذه القاعة الكثير من العجم الذين قد لا يرضيهم هذا الكلام.. ولكن ما عساي أقول لهم.. هذا هو الدين.. ولا ينبغي لعقولنا أن تتدخل فيما يقوله الدين وإلا حق علينا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]

قام رجل من الحضور، وقال: انظر ما تقول يا شيخ.. أنت الآن تحطم أشياء كثيرة كنا نعتقدها من بديهيات الدين ومبادئه.. لعل ما تقوله رأي انفرد به بعض الفقهاء.. فلا توجب علينا الالتزام به.

غضب النجدي، وقال: ويلك.. أقول لك (شيخ الإسلام).. وتقول لي بعض الفقهاء.. لو وقف شيخ الإسلام في صف وكل الفقهاء في صف لوقفت مع شيخ الإسلام.. لأن الحق يدور معه حيثما دار..

ومع ذلك فشيخ الإسلام نقل بتواضعه كلام الفقهاء في هذه المسألة، بل نقل إجماعهم فيها..

فتح الكتاب، ثم راح يقرأ: (ولهذا ذكر أبو محمد بن حرب بن إسماعيل بن خلف الكرماني صاحب الإمام أحمد في وصفه للسنة التي قال فيها: (هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق)

انظر ما يقول شيخ الإسلام.. لقد ذكر أن هذا  (هو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم. فكان من قولهم.. (ونعرف للعرب حقها وفضلها وسابقتها، ونحبهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (حب العرب إيمان، وبغضهم نفاق وكفر)([11]) )

قام الإمام، وقال: ولكن الحديث ضعيف.. فلم يروه إلا..

قاطعه النجدي، وقال: ويلك.. أأنت أعلم أم شيخ الإسلام.. ألا تعلم ما قاله بعض سلفنا الصالح من أن كل حديث لا يعرفه شيخ الإسلام، فليس بحديث.. لقد علق شيخ الإسلام على الحديث بقوله: (وهذا الإسناد وحده فيه نظر، لكن لعله روي من وجه آخر، وإنما كتبته لموافقته معنى حديث سلمان، فإنه قد صرح في حديث سلمان: بأن بغضهم نوع كفر، ومقتضى ذلك: أن حبهم نوع إيمان، فكان هذا موافقا له)([12])

قام رجل كنت أراه دائما يدعو إلى نفس ما يدعو إليه الشيخ من القومية العربية، وراح يقول، والفرح باد على وجهه: شكرا يا شيخ.. لطالما كنت أنادي فيهم بهذا.. لكن للأسف وجود بعض الأعاجم في هذه البلاد جعلهم لا يلتفتون لكلامي.. فحدثنا عن بدعة الشعوبية..

قال النجدي: بورك فيك أخا العرب.. لقد سرني كلامك كثيرا.. لقد اعتبر شيخ الإسلام الشعوبية بدعة وضلالا.. بل قد تصل بصاحبها إلى الكفر.. لقد قال: (ولا نقول بقول الشعوبية وأرذال الموالي الذين لا يحبون العرب ولا يقرون لهم بفضلهم، فإن قولهم بدعة وخلاف)([13])

انظروا أيها الحاضرون كيف اعتبر شيخ الإسلام مجرد عدم محبة العرب وعدم الإقرار بفضلهم على سائر الناس بدعة وخلافا.

وصرح في موضع آخر بما أدل من هذا، فقال: (وذهبت فرقة من الناس إلى أن لا فضل لجنس العرب على جنس العجم. وهؤلاء يسمون الشعوبية لانتصارهم للشعوب التي هي مغايرة للقبائل، كما قيل: (القبائل للعرب والشعوب للعجم)، ومن الناس من قد يفضل بعض أنواع العجم على العرب. والغالب أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن نوع نفاق، إما في الاعتقاد، وإما في العمل المنبعث عن هوى النفس مع شبهات اقتضت ذلك)([14]

بل إنه في موضع آخر صرح بما هو أشد من ذلك جميعا، فاعتبر أن مجرد بغض العرب كفر، فقال: (بغض جنس العرب ومعاداتهم كفر أو سبب لكفر)

بل اعتبر أن حبهم يزيد في الإيمان، فقال: (ومقتضاه أنهم أفضل من غيرهم وأن محبتهم سبب قوة الإيمان)

بل إنه دعا إلى تقسيم الأعطيات والأموال على الأمة بحسب أنسابهم، كما فعل السلف الصالح.. فيبدأ بالعرب، ويوفون نصيبهم من العطاء.. ثم بعد ذلك وبنصيب أقل يعطى العجم.. وقد كان ذلك ديدن الدول الإسلامية التي كان يحكمها العرب.. (هكذا كان الديوان على عهد الخلفاء الراشدين وسائر الخلفاء من بني أمية وولد العباس، إلى أن تغير الأمر بعد ذلك)([15])

قال القومي: فحدثنا عن حكم العجم للعرب.. هل تراه مرضيا في الشريعة؟

قال النجدي: بورك فيك.. هذا سؤال مهم جدا.. فمن البدع الحادثة، والتي خربت الأمة الإسلامية حكم العجم من الفرس والكرد والأمازيغ والترك للعرب.. لقد قال المتنبي يذكر خطورة حكم العجم للعرب:

وإنّما الناس بالملوك  ‍
لا أدبٌ عندهم ولا حسب
  وما تفلح عُربٌ ملوكها عجم
  ولا عهودٌ لهم ولا ذمـــــــــــم

والتاريخ يشهد عجز العجم عن حكم العرب بشكل جيد إلا في النادر.. وأحسن دولة لهم كانت دولة المماليك. كان في أقوى قوتها في أول عهدها زمن بيبرس، ثم لم تلبث أن ضعفت لأن حكامها ما أرادوا الاعتماد على العرب في الجيش، وإنما استقدموا العبيد ليدربوهم على القتال، خوفاً من انقلاب العرب عليهم. وهذا دوماً كان مصدر ضعف لهم. ثم لم يعد يكفي العبيد الأتراك فجاءوا بالعبيد الشركس فانقلبوا عليهم، ثم هؤلاء بدورهم أصابهم الضعف لنفس السبب حتى انهارت الدولة.. فسبب الضعف أنهم دوماً أقلية لا يريدون الاعتماد على العرب. أما العثمانيون فهم مثال على الفشل الذريع في حكم العرب. وكانت دولتهم أقوى قبل أن يحكموا بلاد العرب لأن جيشهم توزع على بلاد شاسعة، مع رفضهم في نفس الوقت الاعتماد على العرب في مناصب قيادية.

قام القومي فرحا يكاد يرقص من فرحه، وراح يقول: فحدثنا عن الطاقات التي اختص الله بها العرب دون غيرهم من الأجناس حتى يستحقوا أن ينالوا كل هذه الفضائل.

قال النجدي: بورك فيك وفي سؤالك..

ثم أخرج كتابا من محفظتته، وقال: انظروا.. هذا الكتاب كتبه أحد تلاميذ شيخ الإسلام النجباء.. إن عنوانه (مسبوك الذهب، في فضل العرب، وشرف العلم على شرف النسب)، وهو للعلامة الجليل مرعي بن يوسف الحنبلي الكرمي.. اسمعوا ما يقول فيه..

فتح الكتاب، وراح يقرأ فيه: (.. وأما العقل الدال على فضل العرب: فقد ثبت بالتواتر المحسوس المشاهد أن العرب أكثر الناس سخاء، وكرما، وشجاعة، ومروءة، وشهامة، وبلاغة، وفصاحة. ولسانهم أتم الألسنة بيانا، وتمييزا للمعاني جمعا وفرقا بجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل، إذا شاء المتكلم الجمع. ويميز بين كل لفظين مشتبهين بلفظ آخر مختصر، إلى غير ذلك من خصائص اللسان العربي.. ومن كان كذلك فالعقل قاض بفضله قطعا على من ليس كذلك، ولهم مكارم أخلاق محمودة لا تنحصر، غريزة في أنفسهم، وسجية لهم جبلوا عليها، لكن كانوا قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير ليس عندهم علم منزل من السماء، ولا هم أيضا مشتغلون ببعض العلوم العقلية المحضة كالطب أو الحساب أو المنطق ونحوه. إنما علمهم ما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب أو ما حفظوه من أنسابهم وأيامهم، أو ما احتاجوا إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم، أو الحروب، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالهدى الذي ما جعل الله. في الأرض مثله تلقوه عنه بعد مجاهدته الشديدة لهم، ومعالجتهم على نقلهم عن تلك العادات الجاهلية التي كانت قد أحالت قلوبهم عن فطرتها، فلما تلقوا عنه ذلك الهدى زالت تلك الريون عن قلوبهم واستنارت بهدي الله فأخذوا هذا الهدي العظيم بتلك الفطرة الجيدة فاجتمع لهم الكمال التام بالقوة المخلوقة فيهم، والهدى الذي أنزله عليهم)([16])

بقي النجدي يقرأ من كتاب الكرمي تارة، وكتاب ابن تيمية تارة أخرى.. والقومي ومن معه يكادون يرقصون فرحا.. وغيرهم يكادون يسقطون ألما.. وقد رأيت الوجوه التي كانت متآلفة متآخية بدأت تتغير.. وبدأت النفرة تبدو عليها.. ثم سرعان ما حصل بين بعض العرب وبعض العجم خلاف.. فصاح العربي بأعلى صوته: واعرباه.. وصاح العجمي: واقوماه..

ثم ما لبثت المشادة أن تحولت إلى حرب قاسية شديدة لم تقف إلا بتدخل الشرطة التي أخرجت أكثر من في القاعة من المتصارعين، وتركت الشيخ مشعل الفتنة يستمر في أداء دوره الشيطاني الخطير.

قام الإمام بعد ذهاب الشرطة، وقال: سمعنا أيها الشيخ أنك من نجد؟

قال النجدي: أجل.. أنا من نجد.. تلك البلاد التي أنقذ الله بها الإسلام.. تلك البلاد التي أنجبت جدي الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. والشيخ عبد اللطيف.. والشيخ ابن إبراهيم.. وغيرهم من المشايخ الذين لولاهم لما بقي للسنة ذكر.

قال الإمام: فهل ورد في النصوص في فضلكم شيء؟

قال النجدي: كل ما ورد في النصوص من فضل العرب، فهو فينا.. فنحن أساس العرب وجذرها، ونحن شرف العرب وفخرها.

قال الإمام: لا.. ليس العقل فقط هو الذي يدل على فضلكم.. بل ورد في الحديث الصحيح ما يدل على ذلك..

قال النجدي: شكرا جزيلا.. هاته.. لم أكن أعلم بذلك.. لطالما كنت أقول في نفسي: يستحيل ألا يذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فضلنا شيء.

قال الإمام: لقد ورد في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (اللهم بارك لنا في شامنا ، اللهم بارك لنا في يمننا)، فقالوا: وفي نجدنا يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا)، فقال الناس: وفي نجدنا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الزلازل والفتن هناك: وهناك يطلع قرن الشيطان)([17])

غضب النجدي غضبا شديدا، وقال: أخرجوا هذا الرويبضة من هذا المجلس.. إنه جاهل وابن جاهل.. ألا يعلم أن شراح الحديث ذكروا أن المراد بنجد في هذا الحديث خصوصا العراق..

قام الإمام غضبا، وقال: ولكن ابن تيمية الذي هو شيخك وشيخ الإسلام الذي تدين به يذكر أن المراد بنجد هي البلاد التي جئت منها لتنشر الفتن.. لقد قال فيما ردَّ به على ( تأسيس التقديس) للرازي: (قد تواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إخباره بأن الفتنة ورأس الكفر من المشرق الذي هو مشرق مدينته كنجد وما يشرق عنها).. ثم ساق بعض الأحاديث الواردة في ذلك في الصحيحين وغيرهما إلى أن قال: (ولا ريب أن من هؤلاء ظهرت الردة وغيرها من الكفر، من جهة مسيلمة الكذاب وأتباعه وطليحة الأسدي وأتباعه، وسجاح وأتباعها، حتى قاتلهم أبو بكر الصديق ومن معه من المؤمنين، حتى قتل من قتل، وعاد إلى الإسلام من عاد مؤمنا أو منافقا)([18])

قام رجل آخر، وقال: أليس النجد هو المرتفع؟

قال النجدي: بلى.. ولذلك فإنه يطلق على العراق أيضا.. وهذا ما ذكره الشراح.

قال الرجل: ولكن من خلال ما ذكره العلم الحديث فإن الرياض التي هي قاعدة نجد يبلغ ارتفاعها عن سطح الأرض 635 مترًا. أما ارتفاع العراق التقريبي عن سطح البحر فلا يعدو (34 مترًا).

قام النجدي من مكانه، ثم سار خارجا، وهو يقول: لقد قلت لهم لا ترسلوني للبلاد التي يختلط فيها العرب بالعجم.. إنها بلاد الكفر.. إنها بلاد النفاق..

كانت هذه آخر كلمات سمعناها معه، ولم نره بعدها.. لكنا ظللنا زمانا طويلا نكتوي بنار الفتنة التي أحدثها في بلادنا.. والتي راح ضحيتها بعد ذلك عشرات الرجال من خيرة أبناء مدينتنا.


([1]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (4/ 126).

([2]) سورة محمد: 38.

([3]) رواه الترمذي، قال الألباني: صحيح.

([4]) صحيح مسلم.

([5]) رواه الحاكم وابن حبان.

([6])  رواه البيهقي والطبراني.

([7])  قال المنذري: رواه الطبراني في الأوسط والصغير والبيهقي مرفوعا وموقوفا وقال المحفوظ الموقوف، الترغيب والترهيب: 3/375.

([8])  رواه أحمد.

([9])  رواه أحمد.

([10]) رواه البخاري..

([11]) رواه الحاكم في مستدركه (4 / 87).

([12]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 1/ 437).

([13]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 1/ 421).

([14]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 1/ 421)

([15]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 1/ 446)

([16]) مسبوك الذهب في فضل العرب وشرف العلم على شرف النسب (ص: 40)

([17]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما..

([18]) انظر: بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية ج1 ص 17- 24.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *