سابعا ـ الرحمة

قام الحكيم السابع بين الصفين، وقال: أخبروني يا من لا تزالون تحملون سيوفكم عن أول اسم من أسماء الله الحسنى تجدونه في القرآن الكريم.
قام رجل من القوم، وقال: ذاك مما يعرفه صغارنا.. إنه لا شك اسمه الرحمن المقترن باسم الرحيم.. فقد تكرر ذكرهما في سورة الفاتحة مرتين.. وتكرر ذكر رحمة الله في القرآن الكريم بما لا يعد ولا يحصى.. بل لم يذكر من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا مثلما ذكرت رحمة الله.
قال الحكيم: فهل رحمة الله خاصة بقوم دون قوم.. أو بخلق دون خلق.. أم أنها وسعت الخلق جميعا؟
قال الرجل: لاشك أنها وسعت الخلق جميعا، وقد قال تعالى::{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ }
قال الحكيم: فهل يمكنها أن تسع المذنبين والغافلين والعاصين؟
قال الرجل: ويلك.. وهل أنت في شك من ذلك.. فرحمة الله وسعت كل شيء.. حتى المذنبين والغافلين والعاصين، وقد قال تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }[الزمر: 53]، وقال: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [الأنعام: 147]
قال الحكيم: فهل تجدون في أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام من عمر طويلا وهو كافر مشرك.. لكن رحمة الله تداركته في آخر لحظة.. فآمن واتبع الرسل ومحيت عنه كل خطاياه.. بل عوض بدلها الدرجات الرفيعة من الجنة؟
قال الرجل: أجل.. وهو كثير جدا.. وقد ذكر القرآن الكريم من أمثلته سحرة فرعون، فقد عاشوا حياتهم كلها في بلاطه يشركون بالله.. ويمارسون كل صنوف الانحراف، ولكن رحمة الله تداركتهم.. كما قال تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 70]، و{ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) } [طه: 72 – 76]
قال الحكيم: فهل تراهم قد فازوا بالسعادة الأبدية بعد قولهم هذا؟
قال الرجل: لا شك في ذلك.. ومن شك في ذلك فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ورميت رأسه في المزابل.
قال الحكيم: أرأيتم لو أن رجلا من الغيورين أمثالكم راح لبعض هؤلاء السحرة، فقتلهم، كيف يكون مصيرهم؟
قال الرجل: لا شك أن مصيرهم حينها سيكون جهنم، وبئس المصير.
قال الحكيم: فكم سيمكثون فيها حينها؟
قال الرجل: سيخلدون فيها خلودا أبديا.
قال الحكيم: ألا يكون الذي قتلهم حينها قد جنى عليهم..وقد حرمهم من السعادة الأبدية.. وأنزلهم دار الشقاوة الأبدية.
قال الرجل: أجل..
قال الحكيم: فهل تراه قاسيا بفعله ذلك، أم رحيما؟
قال الرجل: بل أراه قاسيا لأن الله رحمهم بمد آجالهم حتى يروا من آيات الله ما تطمئن له قلوبهم، ويتخلصوا به من ضلالهم.
قال الحكيم: فلم لا تتركون الفرصة لمن ترونهم قد ابتدعوا أو ضلوا عسى هداية الله تملأ قلوبهم.. وعسى رحمة الله التي وسعت كل شيء تتداركهم؟
سكت الرجل، فقال الحكيم: أخبروني عن خبر إبراهيم عليه السلام عندما جاءه الملائكة الذين يريدون إنزال العقوبة على قوم لوط بعد أن قامت الحجة عليهم.. هل ترونه راح يشجعهم على ذلك، ويفرح بما عزموا عليه، أم ترونه راح يستعمل كل الوسائل لمنعهم، مع علمه بأنهم ملائكة الله؟
قام رجل آخر، فقال: لقد حكى القرآن الكريم عن ذلك.. فقد قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74]، لكن الله عاتبه على ذلك، فقال: {يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 76]
قال الحكيم: فهل ترون الله تعالى مدح إبراهيم عليه السلام في موقفه ذلك أم لا؟
قال الرجل: بل مدحه.. فقد قال تعالى قبل ذكر عتابه له: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]
قال الحكيم: فهل كانت أفعال قوم لوط أفعالا شنيعة، وكان إبراهيم يعلم بها أم لا؟
قال الرجل: بل كانت أفعالا شنيعة.. وكان إبراهيم عليه السلام يعلم بها.
قال الحكيم: ومع ذلك.. فقد توسط لهم ورحمهم وأثنى الله عليه بذلك.
قال الرجل: ذلك صحيح.
قال الحكيم: ولم كان كذلك؟
قال الرجل: لأن الأنبياء عليهم السلام جبلوا على الرحمة.. وقد أخبر الله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان من فرط حزنه على قومه بسبب عدم إيمانهم يكاد يقتل نفسه.. قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } [الكهف: 6]، وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 3]
قال الحكيم: ولم كان كذلك؟
قال الرجل: لحرصه على إيمانهم، وقد قال تعالى يبين ذلك: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة: 128]
قال الحكيم: أرأيتم لو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تمكن حينها منهم، أكان يقيم عليهم جميعا حد الردة، فيقتلهم لشركهم، ولصدهم عن دين الله؟
قال الرجل: وأنى لنا أن نعرف ذلك.
قال الحكيم: بلى.. ألم ترووا في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجاب من سأله: (هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟)، قال: (لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال، ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا)([1])
قال الرجل: الحديث صحيح.. وقد رواه جمع كثير من الثقاة الذين لا نشك في نزاهتم وضبطهم وكفاءتهم في الرواية.
قال الحكيم: ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في إمكانه عن طريق ملك الجبال أن يقيم عليهم أحكام الدين.. ويقضي عليهم دفعة واحدة، وتستريح الأرض من شركهم؟
قال الرجل: لقد طمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أن يكون من أولاد أولئك المشركين من يؤمن به.
قال الحكيم: فلم لا تطمعون في أولاد من تحاربونهم أن ينتهجوا الصراط الذي تنتهجونه.
قال الرجل: لقد كان ذلك في مكة.. لا في المدينة.. وكان قبل الهجرة لا بعدها.
قال الحكيم: فهل ترون رحمة الله ورحمة رسوله نسخت أم عطلت بعد الهجرة؟
قال الرجل: معاذ الله.. فرسول الله كما ذكره ربه رحمة للعالمين.. كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107]
قال الحكيم: ولكنكم تجعلونه رحمة خاصة بكم حين تسمحون لأنفسكم أن تقتل كل من يخالفكم بحجة أنه يخالف نبيكم.
سكت الرجل، فقال الحكيم: ألستم تذكرون في دواوينكم التي هي أهم عندكم من كل شيء أن كبار المشركين الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتفننوا في حربه قد أسلموا، وحسن إسلامهم.. وأنهم صاروا صحابة أجلاء.. وأنهم اكتسبوا بعد كل تلك الحروب التي خاضوها ضد الإسلام من الحرمة والمنعة ما لم يكتسبه الذين ولدوا في الإسلام وعاشوا به، وماتوا عليه.
قال الرجل: تقصد هندا وأبا سفيان؟
قال الحكيم: وغيرهما كثير.. ألستم تجلونهم وتعظمونهم مع كل ما فعلوه؟
قال الرجل: لأن رحمة الله تداركتهم.. فتحولوا من أعداء أشقياء إلى صحابة أجلاء.
قال الحكيم: فلم لا تدعون رحمة الله تتدارك هؤلاء البسطاء الذين تقاتلونهم.. ولم لا تدعون رحمة الله تتنزل على أولادهم وأحفادهم إن لم تتنزل عليهم؟
سكت الرجل، فقال الحكيم: أخبروني ماذا تفعلون برجل يحمل النجاسات.. ويضعها في المسجد؟
سل بعضهم سيفه، وقال: من رأيته يفعل ذلك لأغمدن سيفي في صدره.. أو لأجتزن رقبته وأرمي برأسه للكلاب والثعالب.
قال الحكيم: فهل لك دليل على ذلك من سنة نبيك الذي تزعم أنك تتبعه؟
قال الرجل: أجل.. فالمساجد من شعائر الله.. ومن حقرها فقد حقر شعائر الله.. وليس لذلك سوى القتل.
قال الحكيم: فهل أنت أكثر تعظيما لشعائر الله من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال الرجل: معاذ الله.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أعلم الخلق بالله، وأعظمهم تعظيما لشعائره.
قال الحكيم: فما سنته فيمن فعل ذلك؟
قال الرجل: أنا لم أسمع بأي سنة في هذا الباب.
قال الحكيم: ألم تسمع بحديث الذي بال في المسجد؟
قال الرجل: بلى.. لقد أنستنيه الأيام مع أنني لدي إجازة من مشايخي بروايته.. فقد حدثني شيخي عن شيخه إلى أبي هريرة قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مه مه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزرموه، دعوه)، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، دعاه فقال له: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن)، فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه عليه([2]).
قال الحكيم: بورك في حفظك للحديث.. لكنك لم تكمله.. فللحديث تتمة.
قال الرجل: أجل.. وقد رويتها بسندي عن أبي هريرة أن أعرابيا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس، فصلى ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحداً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لقد تحجرت واسعاً. ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: (إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)، صبوا عليه سجلا من ماء([3]).
قال الحكيم: فهل ترى أن هذه الحادثة خاصة بزمنه صلى الله عليه وآله وسلم.. أم أنها عامة؟
قال الرجل: بل هي عامة.. فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الحديث لصحابته هذه المقولة: (إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)
قال الحكيم: فهل ترون ما تقومون به من قتل بعضكم بعضا من أجل رأي أو قضية أو موقف داخل في التيسير أم التعسير؟
سكت الرجل، فقال الحكيم: بل هو داخل في التعسير.. وأنتم بمواقفكم هذه تخالفون سنة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم.. بل تحولون دين الرحمة إلى دين قسوة.. ودين اليسر إلى دين عسر.. أنتم تحرفون الدين تحريفا خطيرا.
رمى رجل سيفه، وقال: بورك فيك أيها الحكيم.. لقد تذكرت لتوي كيف فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما تمكن من أعدائه الذين صبوا عليه وأصحابه جميع أنواع العذاب، وسلبوا أموالهم، وديارهم، وأجلوهم عن بلادهم، لكنه صلى الله عليه وآله وسلم قابل كل تلك الإساءات بالعفو والصفح والحلم قائلاً: (يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟)، قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(اذهبوا فأنتم الطلقاء)
لقد أنزل الله عليه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (النحل:126)، فاختار أن يعفو عنهم ويصبر على ما كان منهم، وأن لا يعاقب فقال: (نصبر ولا نعاقب)
رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث جابر أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما قفل معه أدركتهم القائلة في في واد كثير العضاة فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت سمرة فعلق سيفه، ونمنا نومة، فإذارسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: (إن هذا اخترط علي سيفي، وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده فقال: من يمنعك مني؟) فقلت: الله ثلاثا، ولم يعاقبه وجلس([4]).
رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث جابر الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل يقبض يوم حنين من فضة في ثوب بلال، ويفرقها، فقال له رجل: يا رسول الله أعدل، فقال: (ويحك، من يعدل إذا أنا لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن كنت لا أعدل) فقال عمر: ألا أضرب عنقه فإنه منافق؟ فقال: (معاذ الله أن يتحدث أني أقتل أصحابي)([5])
رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث عبد الله بن مسعود قال: لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناسا في القسمة ليؤلفهم، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى ناسا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله تعالى، قال: فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيته، فأخبرته بما قال، فتغير وجهه حتى كان كالصرف، ثم قال: (فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله؟ ثم قال: (يرحم الله موسى u، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)([6])
رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث عبد الله بن سلام: أن زيد بن سعية ـ وهو أحد علماء أهل الكتاب من اليهود ـ قال: إنه لم يبق من علامات النبوة شئ إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما منه: أن يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه، فابتعت منه تمرا معلوما إلى أجل معلوم، وأعطيته الثمن، فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة، أتيته، فأخذت بجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ، فقلت: يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فوالله إنكم يا بني عبد المطلب لمطل، وقد كان لي بمخالطتكم علم، فقال عمر: أي عدو الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أسمع؟ فوالله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إلى عمر في سكون، وتؤدة، وتبسم، ثم قال: (أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعا، مكان ما رعته)، ففعل عمر، فقلت: يا عمر، كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا اثنتين لم أخبر هما منه، يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فقد خبرتهما، فأشهدك أني رضيت بالله تعالى ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيا([7]).
رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث عائشة قالت: ابتاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جزورا من أعرابي بوسق من تمر الذخيرة، فجاء منزله، فالتمس التمر، فلم يجده، فخرج إلى الأعرابي فقال: (عبد الله، إنا قد ابتعنا منك جزورك هذا بوسق، من تمر الذخيرة، ونحن نرى أن عندنا، فلم نجده) فقال: الأعرابي: واغدراه واغدراه، فوكزه الناس وقالوا: إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقول هذا؟ فقال: (دعوه، فإن لصاحب الحق مقالا) فردد ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرتين أو ثلاثا، فلما رآه لا يفقه عنه قال لرجل من أصحابه: (اذهب إلى خولة بنت حكيم بن أمية فقل لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لك إن كان عندك وسق من تمر الذخيرة فسلفينا حتى نؤديه إليك إن شاء الله تعالى) فذهب إليها الرجل، ثم رجع قال: قالت: نعم هو عندنا يا رسول الله، فابعث من يقبضه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للرجل: (اذهب فأوفه الذي له) فذهب، فأوفاه الذي له، قال فمر الأعرابي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو جالس في أصحابه، فقال: جزاك الله خيرا، فقد أوفيت وأطيبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أولئك خيار الناس الموفون المطيبون)([8])
رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث أنس قال: كنت أمشى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليْه بُرُدٌ نجرانىّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابىّ فجذبه بردائه جذبة شديدة، فنظرتُ إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أثَّر بها حاشية الرَّداء من شدَّة الجذبة، ثم قال: يا محمد مُرْ لى من مال الله الذى عندك، فالْتَفتَ إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء([9]).
رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث الرجل الذي أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتقاضاه فأغلظ له، فهم به أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(دعوه فإن لصاحب الحق مقالا، ثم قال: اعطوه شيئا مثل سنة)، فقالوا: يا رسول الله، لا نجد إلا أفضل من سنه، قال: (اعطوها، وخيركم أحسنكم قضاء)([10])
رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث اليهودية التي أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها فجئ بها، فقيل: ألا تقتلها فقال: (لا)([11])
رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما كسرت رباعيته، وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه، وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لم أبعث لعانا، ولكن بعثت داعيا ورحمة، اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون)([12])
رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي قول أنس: (ما رأيت أحدا كان أرحم بالعباد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([13])
رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث مالك بن الحويرث قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحيما، رفيقا، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلنا، فسألنا عمن تركنا عند أهلنا، فأخبرناه، فقال: (ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا عندهم)([14])
رمى آخر بسيفه،
وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال: (إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجاوز في
صلاتي مما أعلم من شدة وجدانه من بكائه)([15])
([1]) رواه البخاري.
([2]) رواه البخاري ومسلم.
([3]) رواه أبو داود.
([4]) رواه البخاري.
([5]) رواه أبو الشيخ، وابن حبان.
([6]) رواه مسلم.
([7]) رواه ابن حبان، والحاكم.
([8]) رواه أحمد، وأبو الشيخ.
([9]) رواه البخارى ومسلم.
([10]) رواه البخاري ومسلم.
([11]) رواه البخاري.
([12]) رواه البيهقي في شعب الإيمان، مرسلا، ورواه موصولا عن سهل بن سعد مختصرا: (اللهم: اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون)
([13]) رواه مسلم.
([14]) رواه البخاري ومسلم.
([15]) رواه البخاري ومسلم.