رسول الله.. والوسيلة

رسول الله.. والوسيلة

من الوظائف الكبرى التي جعلها الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي هون من شأنها أصحاب القلوب المريضة من أهل السنة المذهبية وظيفة [الوسيلة]

وهي تعني ـ باختصار ـ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتنا فقط بدليل النجاة الذي تمثل في الشريعة السمحة، بل هو فوق ذلك حبل النجاة وسفيتنتها التي من لم يركبها لم ينل شيئا، ولم يصل إلى شيء.

أو هو ـ بعبارة أخرى ـ ليس مجرد طبيب يصف الأدوية لأمته فقط، بل هو نفسه صلى الله عليه وآله وسلم الدواء الذي من لم يستعمله لم يشف أبدا.

وهذه الحقيقة التي تدعمها كل الأدلة العقلية والنقلية حاولت السنة المذهبية، وخاصة ممثلوها الكبار من أصحاب المدارس السلفية أن ينزعوا صلاحياتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتقتصر علاقته بالأمة على الدور التبليغي والتشريعي دون ما سواه من الأدوار.

ولم يكتفوا بذلك التهميش والتهوين من هذا الدور العظيم الذي تدل عليه كل الأدلة، بل راحوا يتهمون من يقول بهذه الوظيفة بالشرك والبدعة والضلال.

وهذه التهمة الجاهزة ناتجة من سوء فهمهم للتوحيد.. فهم يتصورون الله ـ نتيجة للوثة الوثنية التي تسربت إلى السنة المذهبية ـ كما يتصورون الملوك والحكام الذين لا يحبون أن تنشغل الرعية عنهم بغيرهم، ولذلك يعتبرون كل تعظيم لغير الملك شركا.. وينسون أن رسل الله وجميع الذين اصطفاهم الله ليسوا سوى مظهر من مظاهر العناية الإلهية، ومنبع من منابع الرحمة الربانية.

وينسون أن الرحمة الكاملة، والعناية التامة لا تتمثل فقط في تبليغ الشرائع، وبيان الأحكام، وإنما تتمثل فوق ذلك في أن يكون الرسول المصطفى من لدن الله هو نفسه طوق النجاة، وسفينتها.

وفرق كبير بين أن تمد يدك لشخص يغرق، وتمسك بها، وتنقذه، وبين أن تكتفي ببعض المواعظ والإرشادات التي تبين له ما عليه أن يفعل.

ولهذا من العجب أن يؤمن هؤلاء بأن الله جعل من الماء كل شيء حيا.. ولا يعتبرون القول بهذا شركا.. بينما لو ذكرت لهم بأن الله جعل الحياة الحقيقية في التعلق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعلقا تاما، لا بشرعه فقط، بل بذاته أيضا، يعتبرون ذلك شركا وبدعة وضلالة.. وكأن الماء أشرف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأعظم منزلة منه.

وبناء على هذا المعنى أولوا كل النصوص الدالة على هذه الوظيفة التي جعلها الله لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وظيفة الوسيلة، حتى تنحصر وظيفته صلى الله عليه وآله وسلم في البلاغ والتبيين فقط.

وللدلاله على هذا، سنذكر هنا ـ باختصار ـ أربعة نماذج من مواقف أصحاب السنة المذهبية تدل على موقفهم من هذه الوظيفة:

اختصار المعية في الصحابة:

وهو من أخطر المواقف التي تعدم وظيفة [الوسيلة]، وتزيلها من الوجود تماما، ذلك أن الاعتقاد بأنه لم يظفر بصحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير صحابته المعدودين الذين عاصروه، وأن الأمة لم تظفر بعدهم إلا بسنته وشريعته يقطع الصلة بين الأمة ونبيها، لأن علاقتها به تصبح قاصرة على علاقة الاتباع والطاعة، وهي علاقة مرتبطة بالشريعة، لا بشخصة صلى الله عليه وآله وسلم.

وبذلك فإن أفراد الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبهذا المنطق لا يستطيعون ـ بسبب الزمن الذي حال بينهم وبين معاصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن يتنعموا بتلك الصحبة الشريفة، وأن يظفروا بتلك المكانة الرفيعة، وأن تمتد إليهم يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولهذا نجد أصحاب السنة المذهبية يبالغون في مكانة الصحابة على حساب مكانة الأمة.. ويتصورون أن الصحابة حتى لو صدر منهم ما صدر أشرف وأكرم وأعظم من الأمة جميعا، حتى أنهم يذكرون أن أولئك العشاق الذين امتلأت قلوبهم شوقا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل مات الكثير منهم شوقا، وهو في طريق زيارة قبره الشريف لا يساوون شسع نعل حتى أولئك الذين لم يكونوا يبالون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم معه، حتى يضطر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يناديهم من خلفهم، كما قال تعالى: ﴿ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [آل عمران: 153]

بل منهم من ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم الجمعة، وذهب ليلاقي القافلة، كما صور ذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [الجمعة: 11]

ونحن لا نذكر هذا تحقيرا لمن فعل ذلك، ولكنا نتعجب أن يحتقر أولياء الأمة العظام الذين أفنوا حياتهم في حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واعتبارهم جميعا لا يساوون شيئا أمام أدنى الصحابة.

ومن الأمثلة على مواقف أصحاب السنة المذهبية في هذا ما جاء في (الصواعق المحرقة) لابن حجر الهيتمي من قوله: (وأما ما اختص به الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وفازوا به من مشاهدة طلعته ورؤية ذاته المشرفة المكرمة فأمر من وراء العقل، إذ لا يسع أحدا أن يأتي من الأعمال وإن جلت بما يقارب ذلك فضلا عن أن يماثله، ومن ثم سئل عبد الله ابن المبارك ـ وناهيك به جلالة وعلما ـ أيهما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال الغبار الذي دخل أنف فرس معاوية مع رسول الله خير من عمر بن عبد العزيز كذا وكذا مرة، أشار بذلك إلى أن فضيلة صحبته ورؤيته لا يعدلها شيء)

ولست أدري ما دليله على هذا، ذلك أن الأحاديث الشريفة الكثيرة، والتي يؤيدها القرآن الكريم، ويؤيدها قبل ذلك العقل السليم تعتبر المعية الحقيقة هي معية المحبة والتعلق والشوق، لا معية الزمان والمكان والأجساد، فقد قال تعالى يبين المعية الكاذبة: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)﴾ [الحديد: 13، 14]

ولهذا فإن من القصور والغبن للأمة جميعا قصر المعية الواردة في قوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الفتح: 29] على صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل كل من اتصف بتلك الصفات التي وردت في الآية تشمله المعية.

وقد ورد في الأحاديث الكثيرة ما يدل على هذا المعنى.. ولكن السنة المذهبية تعظم ما تشاء من النصوص، وتلغي ما تشاء منها.

ومن تلك الأحاديث ما رواه المحدثون من أن رجلا جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله: إنك لأحبُّ إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك وعرفتُ أنك إذا دخلتَ الجنة رُفعتَ مع النبيئين، وإني إذا دخلتُ الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يردَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزل جبريل بهذه الآية: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69]([1])

وعن أنس قال: (بينا أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أعددت لها؟) قال: (ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله)، قال:(فأنت مع من أحببت)([2])

فهذا الحديث الشريف يربط المعية برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمحبته.. فكل من أحبه، فهو معه، كان في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم، أو لم يكن في زمانه.

ومن تلك الأحاديث الحديث العظيم المشهور الذي يظهر يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشريفة، وهي تمتد إلى قلوب أمته من بعده.. ففي الحديث الذي تهتز له قلوب الأولياء أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (وددت أني لقيت إخواني)، فقال له أصحابه: أوليس نحن إخوانك؟ قال: (أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني)([3])

وفي رواية: (ومتى ألقى إخواني؟)، قالوا: يا رسول الله، ألسنا إخوانك؟ قال: (بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين آمنوا بي ولم يروني)([4])

بل ورد في أحاديث أخرى كثيرة ما يدل على المكانة الرفيعة التي يحظى بها من لم يتشرف برؤيته صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا، وأنها لا تقل عن مكانة صحابته، فقد ورد في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي، يودُّ أحدهم لو رآني بأهله وماله)([5])

وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أشدَّ أمتي لي حبا قوم يكونون أو يجيئون، وفي رواية – يخرجون بعدي- يود ّأحدهم أنه أعطى أهله وماله وأنه رآني)([6])

وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحبُّ إليه من مثل أهله وماله)([7])

بل ذكر صلى الله عليه وآله وسلم المنهج الذي يمكن أن يصل به المؤمن إلى تلك المكانة الرفيعة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (إن أقربكم مني يوم القيامة في كل موطن أكثركم علي صلاة في الدنيا، من صلى علي مائة مرة في يوم الجمعة وليلة الجمعة قضى الله له مائة حاجة سبعين من حوائج الآخرة وثلاثين من حوائج الدنيا، ثم يوكل الله بذلك ملكا يدخله في قبري كما يدخل عليكم الهدايا يخبرني من صلى علي باسمه ونسبه إلى عشيرته فأثبته عندي في صحيفة بيضاء)([8])

فهذا الحديث يرسم خطة واضحة للمعية لا علاقة لها بالزمان، ولا بالمكان، بل علاقتها فقط بمدى التواصل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي تمثل الصلاة عليه أحد أهم مقوماته.

وورد في حديث آخر مقوم آخر، لا يرتبط لا بالمكان، ولا بالزمان، فقال: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون)([9])

 فهذا الحديث يحدد حسن الخلق مقياسا لمكانة المؤمن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مما لا علاقة له لا بالمكان، ولا بالزمان.

ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خياركم أحاسنكم أخلاقا)([10]) فقد ربط صلى الله عليه وآله وسلم الخيرية في هذه الأمة، وفي غيرها من الأمم بالأخلاق الحسنة.

وهذه الأحاديث وغيرها تتناسب مع ما يقتضيه العقل السليم، لأنه من الغريب أن تصنف الأمة في قربها من الله تعالى وقربها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أساس زماني أو مكاني، لأن أي شخص قد يحتج على الله، فيقول له: يا رب لو أنك جعلتني في الزمن الذي كان فيه صلى الله عليه وآله وسلم لرأيت ما أصنع.

ولكن عندما يقرن الأمر بالطاعة والمحبة والولاء حينها لا يبقى عذر لأحد.. لأن كل أحد يمكنه أن يحقق هذه المعاني من غير حاجة لزمان ولا لمكان.

وقد حصل هذا بالفعل.. وقد حظي الصوفية عموما([11]) بهذا الشرف من دون كثير من الناس، وبذلك يكونون أقرب الناس إلى التمثل بالسنة النبوية في هذا المجال.

ولهذا نراهم يستعملون كل الوسائل للتواصل الروحي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل يرون الرجوع إليه صلى الله عليه وآله وسلم في كل محل، وقد نقل النبهاني عن كتاب (العهود المحمدية) للشعراني قوله نصيحة لمن رغب في المجاورة في أحد الحرمين: (فإن كان من أهل الصفاء فليشاوره صلى الله عليه وآله وسلم في كل مسألة فيها رأي أو قياس ويفعل ما أشار به صلى الله عليه وآله وسلم بشرط أن يسمع لفظه صلى الله عليه وآله وسلم صريحا يقظة)([12])

ولهذا نراهم يعظمون رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقظة أو مناما، ويلتمسون كل الوسائل لتحصيلها، ومن أهمها كثرة الصلاة والسلام عليه، والتي تؤدي بالقلب إلى الاشتغال به اشتغالا كليا يطغى على الروح والجسد، وحينها تحصل الرؤية بكل اللطائف..

وقد بين الشيخ علي جمعة حقيقة الرؤية، وعدم استحالتها عقلا ونقلا، فقال: (ورؤيته صلى الله عليه وآله وسلم لا تعدو إلا أن تكون انكشافًا للولي عن حاله الذي هو في قبره صلى الله عليه وآله وسلم يقظة، وهذا لا ينكره العقل، ويؤيده النقل.. وقد تكون الرؤية رؤية صورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحقيقية بمعنى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكانه في روضته الشريف، والرائي رأى صورته الشريفة، وتسمى صورة من عالم المثال، وذلك ينتج من كثرة المحبة والتفكير في شخصه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، فالإنسان قد تتعدد صورته بتعدد الأسطح العاكسة كالمرايا وغيرها)([13])

بل إن السيوطي يذهب إلى أبعد من ذلك، فيقول ـ بعد إيراده للنصوص الواردة في هذا المجال ـ: (فحصل من مجموع هذه النقول والأحاديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حي بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل منه شيء، وأنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم، فإذا أراد الله رفع الحجاب عمن أراد كرامته رآه على هيئته التي هو عليها لا مانع من ذلك ولا داعي إلى التخصيص برؤية المثال)([14])

ومن الأحاديث التي يمكن الاستدلال بها على هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي)([15])

فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فسيراني في اليقظة) تدل على إمكان رؤيته في حياته، وتخصيص اليقظة بيوم القيامة بعيد، لأمرين:

الأول: أن أمته صلى الله عليه وآله وسلم ستراه يوم القيامة من رآه في المنام ومن لم يره.

الثاني: أن الحديث لم يقيد اليقظة بيوم القيامة، وهذا التخصيص بغير مخصص تحكم ومعاندة.

بناء على هذا، فقد اهتم الصوفية بهذه المسألة، وألفوا في تقريرها والبرهنة عليها كتبا منها كتاب السيوطي المعنون بـ (تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي والملك)، والذي قال في مقدمته: (فقد كثر السؤال عن رؤية أرباب الأحوال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليقظة، وأن طائفة من أهل العصر ممن لا قدم لهم في العلم بالغوا في إنكار ذلك والتعجب منه، وادعوا أنه مستحيل، فألفت هذه الكراسة في ذلك وسميتها (تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي والملك)

وقد ساق النفراوي المالكي أسماء من قال بهذا من العلماء، وأدلتهم عليها، فقال: (يجوز رؤيته صلى الله عليه وآله وسلم في اليقظة والمنام باتفاق الحفاظ، وإنما اختلفوا هل يرى الرائي ذاته الشريفة حقيقة أو يرى مثالا يحكيها، فذهب إلى الأول جماعة وذهب إلى الثاني: الغزالي، والقرافي، واليافعي، وآخرون، واحتج الأولون بأنه سراج الهداية، ونور الهدى، وشمس المعارف كما يرى النور والسراج والشمس من بعد، والمرئي جرم الشمس بأعراضه فكذلك البدن الشريف، فلا تفارق ذاته القبر الشريف، بل يخرق الله الحجب للرائي ويزيل الموانع حتى يراه كل راء ولو من المشرق والمغرب، أو تجعل الحجب شفافة لا تحجب ما وراءها، والذي جزم به القرافي أن رؤياه منامًا إدراك بجزء لم تحله آفة النوم من القلب فهو بعين البصيرة لا بعين البصر بدليل أنه قد يراه الأعمى. وقد حكى ابن أبي جمرة وجماعة أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقظة. وروي: (من رآني مناما فسيراني يقظة)، ومنكر ذلك محروم؛ لأنه إن كان ممن يكذب بكرامات الأولياء، فالبحث معه ساقط لتكذيبه ما أثبتته السنة أشار إلى جميع ذلك شيخ مشايخنا اللقاني في شرح جوهرة التوحيد)([16])

وقال الساحلي في (بغية السالك) بعدما ذكر طبقات الناس في انطباع صورته الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم في نفوسهم: (ووراء هذا ما هو أعلى درجة منه، وهو أن يراه بعين رأسه عيانا في عالم الحس ولا تنكر هذا، فقد يكرم الله من يشاء من عباده بإقامة صورته الكريمة له حتى يشاهدها، وهذا من جائز الكرامات التي يتحف الله بها أولياءه)([17])

وقال مبينا دور الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حصول ذلك التواصل المقدس مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (حدثني أبي قال:حدثني شيخي أبو القاسم المريد قال: (كان من جملة أصحابي الذين أخذوا عني رجل يقال له أبو عبد الله بن الخطيب بلغ بكثرة الصلاة على النبيصلى الله عليه وآله وسلم  درجة القرب منه واتصال مواصلته، حتى أن الفقيهين المحدثين كانا إذا اختلفا في الحديث من أحاديث النبي  صلى الله عليه وآله وسلم، فقال أحدهما: هو صحيح، وقال الآخر: هو ضعيف، أتيا (إلى أبي) عبد الله بن الخطيب، فيرغبان منه أن يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحديث المختلف فيه، ثم إنه إذا نام رأى النبي، فيسأله عن ذلك الحديث، فيقول له: إما نعم أنا قلته، وإما لم أقله.. فيعرفهما بذلك، فيفيدهما ذلك قوة ظن لما علم من صدق أبي عبد الله بن الخطيب، واشتهر من حاله في العدالة.. وهذا وإن لم يفد قطعا، فلا يقصر عن تغليب الظن، وكان بحيث لا يتصرف في أمر إلا عن إذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم)([18])

بل ذكر ـ فوق ذلك ـ ما كنا قد أشرنا إليه من أن هذا النوع من العلاقة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من أن ينحصر في صحابته، فقال: (وحدثني أبي عن شيخه أبي القاسم عن شيخه أبي عمران أنه قال في حكاية طويلة: (أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنهم اختصوا به من دوننا؟ والله لأزاحمنهم فيه حتى يعلموا أنهم قد خلفوا بعدهم رجالا)

ثم علق على ذلك بقوله: (وهذا إشارة لتمكن وصلته به، بكثرة ذكره، والعكوف على حبه)

وما ذكره الساحلي عن أبي عمران هو نفس ما ذكره الغزالي في الإحياء منسوبا إلى أبي مسلم الخولاني حيث يقول: (وكان أبو مسلم الخولاني قد علق سوطا في مسجد بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه: (قومي، فوالله لأزحفن بك زحفا، حتى يكون الكلل منك لا مني)، فإذا دخلت الفترة تناول سوطه وضرب به ساقه. ويقول: أنت أولى بالضرب من دابتي، وكان يقول: أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يستأثروا به دوننا، كلا، والله لنزاحمنهم عليه زحاما حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالا)([19])

في مقابل هذا الانفتاح العظيم على التواصل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي تدل عليه الأدلة العقلية والنقلية نجد جمودا خطيرا من أصحاب السنة المذهبية، والذين يتعاملون بنظرة مادية مع هذه المسألة متجاهلين أن مبنى الإيمان على الغيبية والقدرة المطلقة لله.. ولذلك لا يسأل المؤمن عن الكيفية ما دام قد تقرر في العقل الإمكان.

ومن الأمثلة على جمود أصحاب السنة المذهبية في هذه المسألة ما قاله الشيخ عبدالعزيز بن باز عند حديثه عن (حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف): (بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحضر المولد ؛ ولهذا يقومون له مُحَيِّين ومرحّبين، وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل، فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، ولا يتصل بأحد من الناس، ولا يحضر اجتماعاتهم، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة، كما قال الله تعالى في سورة المؤمنون:﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ (المؤمنون:15- 16)، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر.وأول شافع وأول مشفع)([20]) عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام. فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث، كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة)

وما ذكره ابن باز من الأدلة عجيب، فلا أحد يجادل في وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا في كونه أول من ينشق عنه القبر.. ولكن ذلك لا يعني عدم تواصله صلى الله عليه وآله وسلم مع أمته، وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه رأى الأنبياء، وصلى بهم، وأخبر عن حياتهم، وهم في قبورهم.

ولست أدري ما الذي يضر ابن باز أن يستشعر المؤمنون في مجالسهم حضور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويتنعمون بذلك الحضور، وتمتلئ قلوبهم لهفة وشوقا له صلى الله عليه وآله وسلم.

لكن أهل هذه السنة لا يفقهون هذه المعاني الجليلة، ولا يستشعرونها، لأن التدين الذي يؤمنون به تدين لا يتجاوز الظواهر والسطحيات، ولذلك يقصرون علاقتهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على تلك الظواهر والسطحيات.

وليت الأمر اقتصر على هؤلاء المعاصرين، بل نجد ـ للأسف ـ من المتقدمين، ومن الذين تمتلئ بكتبهم رفوف مكتباتنا ـ من يردد أمثال هذه الكلمات، فقد قال القرطبي: (وهذا القول يدرك فساده بأوائل العقول، ويلزم عليه ألا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه رائيان في آن واحد في مكانين وأن يحيا الآن، ويخرج من قبره ويمشى في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى في قبره منه شيء فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب، لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره، وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل)([21])

وكل هذه الإلزامات لا مبرر لها، بل لو أننا طبقنا ما قاله على العوالم الغيبية لانتفى الإيمان بها، لأن أحكام عالم الغيب ليست كأحكام عالم الشهادة، بل إن الفيزياء الحديثة تنفى الكثير من التصورات التي نتوهمها عن عالم الشهادة نفسه.

فكون الشيء في مكانين في وقت واحد لم يعد مستحيلا كما كان يتصور في الفيزياء القديمة، والتي اعتمد عليها القرطبي في تلك الدعاوى التي ادعاها.

وبهذا يمكن تفسير ما ورد في النصوص المقدسة من أن ملك الموت يقوم بقبض أرواح خلق كثيرين وفي أماكن متعددة في نفس الوقت.. فذلك ليس مستغربا عقلا، وقد دل عليه النقل.

ومثل القرطبي نجد ابن تيمية الذي لم يكتف بدعوى الاستحالة التي ذكرها القرطبي، بل حاول أن يجد لها تفسيرا كعادته، والتفسير هو أن الذي تمثل هو الشيطان، مع أن الحديث الصحيح يذكر استحالة تمثل الشيطان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

يقول ابن تيمية: (والضلال من أهل القبلة يرون من يعظمونه: إما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإما غيره من الأنبياء يقظة، ويخاطبهم ويخاطبونه، وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث فيجيبهم، ومنهم من يخيل إليه أن الحجرة قد انشقت وخرج منها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعانقه وصاحباه، ومنهم من يخيل إليه أنه رفع صوته بالسلام حتى وصل مسيرة أيام وإلى مكان بعيد.. وهذا موجود عند خلق كثير، كما هو موجود عند النصارى والمشركين، لكن كثير من الناس يكذب بهذا، وكثير منهم إذا صدق به يظنه أنه من الآيات الإلهية، وأن الذي رأى ذلك رآه لصلاحه ودينه، ولم يعلم أنه من الشيطان، وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله الشيطان، ومن كان أقل علما قال له ما يعلم أنه مخالف للشريعة خلافا ظاهرا، ومن عنده علم منها لا يقول له ما يعلم أنه مخالف للشريعة ولا مفيدا فائدة في دينه، بل يضله عن بعض ما كان يعرفه، فإن هذا فعل الشياطين، وهو إن ظن أنه قد استفاد شيئا فالذي خسره من دينه أكثر، ولهذا لم يقل قط أحد من الصحابة: إن الخضر أتاه، ولا موسى ولا عيسى، ولا أنه سمع رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وابن عمر كان يسلم إذا قدم من سفر ولم يقل قط أنه يسمع الرد، وكذلك التابعون وتابعوهم، وإنما حدث هذا من بعض المتأخرين ممن قل علمه بالتوحيد والسنة، فأضله الشيطان كما أضل النصارى في أمور لقلة علمهم بما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام)([22])

ولم يكتف أصحاب السنة المذهبية بقطع التواصل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الباب، بل نراهم يقطعون كل باب حتى باب الرؤية المنامية، فيقصرونها على صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون غيرهم من أفراد الأمة.

ومن الأمثلة على ذلك ما قاله الشيخ ابن جبرين عندما سئل: (هل يمكن رؤية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المنام؟ وما علامة صحة ذلك؟)

فأجاب بقوله: (وردت أحاديث كثيرة كما في صحيح البخاري في كتاب التعبير باب: (من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام).. وظاهره اختصاص الرؤيا الصحيحة بمن كان يعرف صورته وهم الصحابة الذين رأوه في حياته، أما التابعون ومن بعدهم فإن رؤيتهم له لا تدل على الرؤية الصحيحة، حيث أنهم ما رأوه في اليقظة، ولا عرفوا صورته مقابلة، فيمكن أن يكون المرئي شبيهاً به على غير صورته الحقيقية، ولا مانع من تشبه الشيطان بغيره وزعمه أنه محمد صلى الله عليه وآله وسلم)([23])

 بعد هذا، فإننا لا ننكر أنه قد يقع بعض الاستغلال الخاطئ لرؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه قد يوجد بعض المدعين الذين يشوهون هذا المعنى.. لكن ذلك لا يعني أن نسد هذا الباب من الفضل الإلهي عن أمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنقطع صلتها به، أو لنجعل صلتها به محصورة في دوائر محدودة ضيقة هي أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة.

اعتبار التوسل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شركا:

مع أن التوسل في حقيقته ليس سوى استشعار بأن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكانة عند الله تجعله يستطيع أن يمد بالعون من مد يده إليه.. ويغيث من استغاثه.. ويشفع فيمن طلب منه أن يشفع له..

ومع أن هذا من الحقائق المقررة في القرآن الكريم إلا أن أصحاب السنة المذهبية شاغبوا فيها إلى درجة اعتبار القائلين بهذا مشركين شركا جليا تحل به دماؤهم وأموالهم وأعراضهم.

ومن الأمثلة على ذلك ما كتبه الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ تعليقا على بعض الأبيات في البردة، واعتبارها شركا: (بلغنا من نحو سنتين اشتغالكم ببردة البوصيري، وفيها من الشرك الأكبر ما لا يخفى، من ذلك قوله: (يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك) إلى آخر الأبيات، التي فيها طلب ثواب الدار الآخرة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده، وكونه صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الأنبياء لا يلزم أن يختص دونهم بأمر نهى الله عنه عباده عموماً، وخصوصاً، بل هو مأمور أن ينهى عنه، ويتبرأ منه، كما تبرأ منه المسيح بن مريم في الآيات في آخر سورة المائدة، وكما تبرأت منه الملائكة في الآيات التي في سورة سبأ.. وأما اللياذ: فهو كالعياذ، سواء، فالعياذ لدفع الشر، واللياذ لجلب الخير، وحكى الإمام أحمد وغيره الإجماع على أنه لا يجوز العياذ إلا بالله، وأسمائه، وصفاته، وأما العياذ بغيره: فشرك، ولا فرق)([24])

ولست أدري كيف ينكرون هذا، وهم يقرؤون في القرآن الكريم الأدلة الكثيرة المثبتة للشفاعة والمثبتة قبل ذلك للوسائط، كقوله تعالى: ﴿ وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [التوبة: 74]، وقال عن سليمان عليه السلام: ﴿ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [ص: 39]

بل ورد في كتب السنة التي يعتمدونها ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيكون ملاذا يوم القيامة للخلائق جميعا يطلبون منه أن يشفع لهم عند الله، ففي الحديث الوارد في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة: (فيأتون، فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله عليّ، ويلهمني من محامده، وحسن الثناء ليه ما لم يفتحه على أحد قبلي، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال ك أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب)

ولست أدري كيف يعتبرون الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة، واللجوء إليه إيمانا وتسليما، في نفس الوقت الذي يعتبرون اللجوء إليه في الدنيا شركا وكفرا.

وهل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له وجود يوم القيامة، وليس له وجود الآن؟

أو أن مكانته عند الله، والتي تؤهله للشفاعة، مؤجلة إلى يوم القيامة، أما في هذه الدنيا، فلا مكانة له؟

والأخطر من ذلك كله هو كيفية استحالة القضية الواحدة إلى إيمان من جهة، وإلى شرك من جهة أخرى.. وهذا من أعجب العجب الذي يقع فيه أصحاب السنة المذهبية.

إذ أنهم يعتبرون لجوء الخلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومد أيديهم إليه في الآخرة إيمانا وتسليما، في نفس الوقت الذي يعتبرون مد أيديهم إليه في الدنيا شركا.. مع أنه لو كان ذلك شركا، لكان في الآخرة أكبر لأن الخلق في ذلك الموقف عاينوا أهوال القيامة، وانكشفت الحقائق أمامهم رأي العين.

بالإضافة إلى هذا، فقد ورد في الأحاديث الكثيرة ما يدل على لجوء الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس لأجل أمر دينهم فقط، بل لأمور دنياهم أيضا، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجيب دعواتهم.. بل يحضهم على التوسل به لتحقيقها.

بل ورد في القرآن الكريم الأوامر الإلهية تدعو إلى استثمار هذه الناحية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاستفادة منها، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 64]

وبناء على هذا كان التوسل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نوعا من الحضور معه، والشعور بمعيته، وله تأثير كبير في ربط القلب بمحبته، وهو السبيل الصحيح لسلوك سنته.

لكن أصحاب السنة المذهبية حرموا الأمة من الاستفادة من هذه المعاني الجليلة حين اعتبروا كل ذلك شركا وضلالة، وأولوا كل ما ورد في ذلك من النصوص، أو كذبوها مع ورود الأدلة الكثيرة على صحتها.

ومن أمثلة تلك المواقف موقف ابن تيمية الذي راح في هذا المحل ـ كغيره من المحال التي لا تتناسب مع منهجه ـ يطلق أيقونته المعهودة في تكذيب النصوص التي لا تتناسب مع هواه الأموي، فقال في كتابه الذي خصصه لهذا الغرض (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة): (السؤال به، فهذا يجوّزه طائفة من الناس، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف، وهو موجود في دعاء كثير من الناس، لكنَّ ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك كله ضعيفٌ بل موضوع، وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة، إلا حديث الأعمى الذي علَّمه أن يقول: (أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة)، وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه، فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشفاعته، وهو طلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء، وقد أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول: (اللهم شَفِّعْه فيَّ) ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان ذلك مما يعد من آيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدْعُ لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله)([25])

وبما أننا رددنا على هذا بتفصيل في كتابنا [شيخ الإسلام في قفص الاتهام]، وذكرنا الكثير من الأدلة على تهافت ما ذكره ابن تيمية من عدم صحة ما ورد في هذه المسألة من نصوص، فسنكتفي هنا بالرد على ما ذكره من ارتباط التوسل بحياته صلى الله عليه وآله وسلم، وقصر ذلك على صحابته دون غيرهم من أفراد الأمة، وهو قول يفضي إلى قطع صلة الأمة بنبيها كما ذكرنا ذلك سابقا.

والرد على هذا ـ أولا ـ بأن موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يغاير حياته إلا في ناحية واحدة، وهي انقطاع الوحي، أما ما عداه فإن حياته صلى الله عليه وآله وسلم لاشك فيها، بل تدل عليها كل الأدلة.. فإن كان الشهداء، وهم أدنى بآلاف آلاف الدرجات من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نفى الله موتهم، ونهى عن اعتقاد ذلك، فقال تعالى:﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران:169)، فكيف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيد الشهداء والعارفين والنبيين؟

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن أعمال أمته تعرض عليه، وأنه يدعو لهم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم، تعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله تعالى وإن رأيت شرا استغفرت لكم) ([26])

فإن شك في هذا الحديث، فقد قال تعالى:﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (التوبة:105)

فإن قيل: بأن هذه رؤية وليست دعاء أو شفاعة، فنقول: إن كان الله تعالى أخبر بدعوة الملائكة ـ عليهم السلام ـ للمؤمنين، كما قال تعالى:﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ (غافر:7)، فإن كان هذا مع حملة العرش، فكيف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومع أمته التي كلف بها، وهو أحرص الخلق عليها؟

وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيراً استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا) ([27])

فإن جاز هذا للعشائر والأقارب، وهم أفراد من الأمة، فكيف لا يجوز لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أحن على أمته من آبائهم، وأمهاتهم، وقد قال تعالى:﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ (الأحزاب: 6)

هذا أولا.. وبالإضافة إليه فإن الشرك الحقيقي هو اعتقاد التأثير لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حال حياته، وعدم التأثير بعد موته.. لأن المؤمن يدرك أن الله هو الفاعل والمؤثر مطلقا.. وأن دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الوساطة.. أي أنه وسيلة للفضل الإلهي.. ولذلك فإن هذه اللفظة وحدها [الوسيلة] تدل كل عاقل على التوحيد الحقيقي الذي تدل عليه السنة النبوية.. لا التوحيد الذي يدعو إليه أصحاب السنة المذهبية.

الحكم ببدعية جميع مظاهر الارتباط الشعوري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

مع أن النصوص الكثيرة تدل على أن العلاقة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تقتصر فقط على الجانب التشريعي، بل تتعداه إلى تلك المشاعر العاطفية العميقة، والتي قد تفرز من السلوكات ما لا يمكن الحكم عليه بالضلالة أو البدعة باعتباره إفرازا طبيعيا لتلك المحبة والأشواق العظيمة إلا أننا نجد أصحاب السنة المذهبية يغضون الطرف عن كل تلك النصوص، ويهملونها، ولا يهتمون بها، بل يعتبرون السنة في الجفاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والبدعة في كل السلوكات التي ترشح عن المحبة، وتنبع من الشوق.

ولهذا نجد علما كبيرا من أعلام السنة المذهبية، كابن تيمية، يقف مواقف سلبية من زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل يحاول بكل ما أوتي من أسلحة التبديع والتضليل أن يحول من زيارته صلى الله عليه وآله وسلم والتي تحن لها القلوب، إلى معصية من المعاصي، بل بدعة من البدع، مع أن ذلك مما تعارفت عليه الأمة الإسلامية سلفها وخلفها، بل ما تعارفت عليه الأمم من قبلها حتى لا تنقطع صلتها بمن ترجع إليهم في شؤون دينها ودنياها، وحتى لا تزول آثارهم التي تدل عليهم.

وقد ذكر ابن تيمية هذه المسألة في مواضع كثيرة من كتبه، ومنها فتواه لمن سأله عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن زار قبري وجبت له شفاعتي)، و(من زار البيت ولم يزرني فقد جفاني)، وهل زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجه الاستحباب أو لا؟

فأجاب: (أمّا قوله: (مَن زار قبري وجبت له شفاعتي) فهذا الحديث رواه الدارقطني ـ فيما قيل ـ بإسناد ضعيف، ولهذا ذكره غير واحد من الموضوعات، ولم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها من كتب الصحاح والسنن والمسانيد، وأمّا الحديث الآخر قوله: (مَن حج البيت ولم يزرني فقد جفاني)، فهذا لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، بل هو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعناه مخالف للإجماع، فإنّ جفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الكبائر.. وأمّا زيارته فليست واجبة باتّفاق المسلمين، بل ليس فيها أمر في الكتاب ولا في السنّة، وإنّما الأمر الموجود في الكتاب والسنّة بالصلاة عليه والتسليم. وأكثر ما اعتمده العلماء في الزيارة قوله في الحديث الذي رواه أبو داود: (ما من مسلم يسلّم عليّ، إلاّ ردّ الله عليّ روحي حتى أردّ عليه السلام)([28])

بل إن الأمر وصل به إلى هذا الجفاء الذي عبر عنه بقوله: (أن إتيان مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقصد ذلك والسفر لذلك أولى من إتيان قبره لو كانت الحجرة مفتوحة والسفر إليه بإجماع المسلمين. فإن الصحابة كانوا يأتون مسجده في اليوم والليلة خمس مرات والحجرة إلى جانب المسجد لم يدخلها أحد منهم لأنهم قد علموا أنه نهاهم أن يتخذوا القبور مساجد وأن يتخذوا قبره عيدا أو وثنا.. وكذلك قد علموا أن صلاتهم وسلامهم عليه في المسجد أولى من عند قبره. وكل من يسافر للزيارة فسفره إنما يكون إلى المسجد سواء قصد ذلك أو لم يقصده والسفر إلى المسجد مستحب بالنص والإجماع)([29])

وقال: (لو كان قبر نبينا يزار كما تزار القبور لكان أهل مدينته أحق الناس بذلك كما أن أهل كل مدينة أحق بزيارة من عندهم من الصالحين فلما اتفق السلف وأئمة الدين على أن أهل مدينته لا يزورون قبره بل ولا يقفون عنده للسلام إذا دخلوا المسجد وخرجوا وإن لم يسمى هذا زيارة، بل يكره لهم ذلك عند غير السفر!! كما ذكر ذلك مالك وبين أن ذلك من البدع التي لم يكن صدر هذه الأمة يفعلونه علم أن من جعل زيارة قبره مشروعة كزيارة قبر غيره فقد خالف إجماع المسلمين)([30])

وقال في (الرد على الأخنائي): (ولهذا كان الصحابة في عهد الخلفاء الراشدين إذا دخلوا المسجد.. لم يكونوا يذهبون إلى ناحية القبر فيزورونه هناك ولا يقفون خارج الحجرة كما لم يكونوا يدخلون الحجرة أيضا لزيارة قبره.. ولا كانوا أيضا يأتون من بيوتهم لمجرد زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم بل هذا من البدع التي أنكرها الأئمة والعلماء وإن كان الزائر ليس مقصوده إلا الصلاة والسلام عليه وبينوا أن السلف لم يفعلوها)([31])

وقال في نفس الكتاب: (ومعلوم أن أهل المدينة لا يكره لهم زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد وغيرهم… ولكن قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم خص بالمنع شرعا وحسا كما دفن في الحجرة ومنع الناس من زيارة قبره من الحجرة كما تزار سائر القبور فيصل الزائر إلى عند القبر، وقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس كذلك فلا تستحب هذه الزيارة في حقه ولا تمكن)([32])

بل إنه لم يكتف بهذا، بل راح يحرم السفر لزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويعتبره بدعة، ويحرم قصر الصلاة لمن فعل هذا، وكأن الذي يريد أن يزور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يفعل معصية.

وقد أفتى الفتاوى الكثيرة في ذلك، منها قوله: (وأما إذا كان قصده بالسفر زيارة قبر النبي دون الصلاة في مسجده، فهذه المسألة فيها خلاف، فالذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أن هذا غير مشروع ولا مأمور به، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)([33])

ومنها قوله في (مجموع الفتاوى): (السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة)([34])

ومنها قوله في تبديع أشواق المسلمين لزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الهم بالحج: (حتى أن أحدهم إذا أراد الحج لم يكن أكثر همه الفرض الذي فرضه الله عليه وهو حج بيت الله الحرام، وهو شعار الحنيفية ملة إبراهيم إمام أهل دين الله بل يقصد المدينة. ولا يقصد ما رغب فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة في مسجده.. بل يقصد من زيارة قبره أو قبر غيره ما لم يأمر الله به ورسوله ولا فعله أصحابه ولا استحسنه أئمة الدين. وربما كان مقصوده بالحج من زيارة قبره أكثر من مقصوده بالحج وربما سوى بين القصدين وكل هذا ضلال عن الدين باتفاق المسلمين بل نفس السفر لزيارة قبر من القبور – قبر نبي أو غيره – منهي عنه عند جمهور العلماء حتى أنهم لا يجوزون قصد الصلاة فيه بناء على أنه سفر معصية.. وكل حديث يروى في زيارة القبر فهو ضعيف بل موضوع)([35])

وقد حصل بسبب فتاواه في ذلك فتنة عظيمة في الأمة لا نزال نعيشها آثارها إلى الآن، قال الحافظ ابن حجر يشير إلى ذلك: (والحاصل أنهم ألزموا ابن تيمية بتحريم شدِّ الرحل إلى زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية)([36])

وقال الحافظ أبو زرعة العراقي في بعض أجوبته المسماة (الأجوبة المرضية عن الأسئلة المكية) عند الكلام على المسائل التي انفرد ابن تيمية بها: (وما أبشع مسألتي ابن تيمية في الطلاق والزيارة، وقد رد عليه فيهما معاً الشيخ تقي الدين السبكي، وأفرد ذلك بالتصنيف فأجاد وأحسن)([37])

وقال في (طرح التثريب): (وللشيخ تقي الدين ابن تيمية هنا كلام بشع عجيب يتضمن منع شد الرحل للزيارة، وأنه ليس من القرب، بل بضد ذلك، ورد عليه الشيخ تقي الدين السبكي في شفاء السِّقام فشفى صدور قوم مؤمنين)([38])

وذكر الحافظ العلائي المسائل التي انفرد بها ابن تيمية، ومنها هذه المسألة، فقال: (ومنها أنَّ إنشاء السفر لزيارة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم معصية لا تقصر فيها الصلاة، وبالغ في ذلك ولم يقل به أحد من المسلمين قبله)

هذا نموذج من النماذج وإلا فإن ابن تيمية ومدرسته وأعلام السنة المذهبية لم يتركوا حبلا يربط الأمة بنبيها إلا قطعوه، وليتهم اكتفوا بقطعه، بل راحوا يتهمون الذين يمدون أيديهم كل حين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبدعة والضلالة والشرك، وغيرها من التهم الجاهزة.

قطع صلة الأمة بأهل بيت نبيها صلى الله عليه وآله وسلم

من الحبال الممدودة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمته من بعده، والتي تواترت النصوص بالدلالة عليها حبل أهل بيته عليهم السلام، والذين وردت الوصية بهم بأساليب مختلفة.

لعل أبلغها ما ورد في القرآن الكريم عند حديثه عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.. فالله تعالى يعطي أهمية خاصة لذرية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويبين أن لهم مكانة كبيرة، لا من الجانب العاطفي فقط، وإنما من جانب العملي أيضا، باعتبار أن لهم اصطفاء خاصا، ودورا مهما في الرسالة وحفظها والوفاء بمقتضياتها.

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى سنته في ذلك، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 33، 34]

ومن العجيب أن يطالب عشاق آل بيت النبوة بالدليل بعد هذه الآية الكريمة، وهي أوضح الواضحات.. فإن كان الله تعالى قد اصطفى آل إبراهيم وآل عمران.. وهما أدنى من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكثير.. فكيف لا يصطفى آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

ومثل تلك الآية الكريمة قوله تعالى عند تسميته للأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورين في القرآن الكريم: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)﴾ [الأنعام: 83 – 87]

فهذه الآيات الكريمة توضح الصلات النبسية بين الأنبياء جميعا، وتبين أن الاجتباء الإلهي شملهم بهذا الشكل، ولا راد لاجتباء الله.

ولم يكتف القرآن الكريم بهذا التعميم، بل ذكر تفاصيل كثيرة تدل عليه، حتى يترسخ في الأذهان أن اصطفاء الأنبياء فضل إلهي باعتباره استمرارا للنهج الرسالي وتوحيدا لمسيرته حتى لا تنحرف به الطرق والمناهج.

ومن تلك التفاصيل ما ذكره الله تعالى من اصطفائه لآل إبراهيم عليهم السلام في آيات متعددة، كقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 27]

بل إن القرآن الكريم يذكر أن إبراهيم عليه السلام نفسه دعا الله أن يكون الخط الرسالي ممتدا في ذريته، فقال: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124]

وقد صرح القرآن الكريم بانقسام ذريته إلى محسن وظالم في قوله تعالى: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ [الصافات: 112، 113]

بل إن الله تعالى صرح بأن الأمر باق في عقبه، فقال: ﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: 28]

بل إن الله تعالى ذكر أن إبراهيم عليه السلام – كما سأل ربه أن يجعل ذريته أئمة للناس – سأله أيضا أن يوفق الناس لمودتهم والاقتداء بهم، فقال – على لسان إبراهيم عليه السلام -: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 37]

ومن تلك التفاصيل ما ذكره الله تعالى من اصطفائه لآل موسى وآل هارون عليهم السلام، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في قصة طالوت: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 248]

بل إننا نجد أن الله تعالى اختار هارون أخا موسى عليه السلام ليكون معينا له ووزيرا بناء على طلب موسى، فقال:﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ﴾ [الفرقان: 35]

ومن تلك التفاصيل ما ذكره الله تعالى من اصطفائه لآل يعقوب عليهم السلام، وهم وإن كانوا جزءا من آل إبراهيم، لكن القرآن خصهم بالذكر عند الحديث عن يوسف بن يعقوب عليهما السلام في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [يوسف: 6]

وذكرهم عند الحديث عن زكريا عليه السلام حينما دعا الله عز وجل وطلب الذرية الصالحة، فقال: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 5، 6]

 ومن تلك التفاصيل ما ذكره الله تعالى من اصطفائه لآل داود عليهم السلام،والذين ورد ذكرهم في قوله تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]، وقد بين القرآن الكريم أن سليمان ورث داود، فقال: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل: 16]

وهكذا نجد حديث الله عن اصطفائه لآل بيت أنبيائه، وإعطائهم مكانة خاصة، وهي سنته فيهم، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولى بذلك منهم، إن لم يكن نظيرا لهم فيه، وقد قال تعالى عنه: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأحقاف: 9]

لكن السنة المذهبية تعرض عن كل هذه النصوص الواضحة في دلالتها، والقطعية في ثبوتها لتعتبر أن تقديم آل الرسول على غيرهم أثر من آثار الجاهلية في تقديم أهل بيت الرؤساء، كما نص على ذلك ابن تيمية بقوله في (منهاج السنة) – على طريقته الخاصة في التحايل -: (وإنما قال من فيه أثر جاهلية عربية أو فارسية: إن بيت الرسول أحق بالولاية. لكون العرب كانت في جاهليتها تقدم أهل بيت الرؤساء، وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك، فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا، كما نقل عن أبي سفيان، وصاحب هذا الرأي لم يكن له غرض في علي، بل كان العباس عنده بحكم رأيه أولى من علي، وإن قدر أنه رجح عليا، فلعلمه بأن الإسلام يقدم الإيمان والتقوى على النسب، فأراد أن يجمع بين حكم الجاهلية والإسلام)([39])

وابن تيمية بهذا القول وغيره من الأقوال الشنيعة يرمي كما كبير من النصوص التي يوصي فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بآل بيته، ويعتبرهم مراجع الأمة من بعده، بل يعتبرهم صمام أمنها، وسفينة نجاتها كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها غرق)([40])

ففي الحديث المتواتر في كتب السنة، قال r: (إني تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، الثقلين وأحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)([41])

وفي رواية: (أيها الناس. إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول من ربي فأجيب. وإني تارك فيكم الثقلين. أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به. فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال: وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي)([42])

وللأسف فإن هذا الحديث مع وروده بلفظ (كتاب الله وعترتي) ومع كثرة الروايات الواردة فيه بهذا المعنى استبدل بحديث آخر، وصار هو المعروف عند الناس، وهو استبدال (عترتي) بلفظ (سنتي) مع أنه لم يرد في أي من الصحاح الست، وقد أخرج الحديث بهذا اللفظ مالك بن أنس في موطئه ونقله مرسلا غير مسند، وأخذ عنه بعد ذلك البعض كالطبري وابن هشام ونقلوه مرسلا كما ورد عن مالك.

مع العلم أنه في قانون المحدثين لا يروى الحديث إلا بأصح صيغه، هذا في حال كون الصيغة المروية عن مالك صحيحة باعتبار المحدثين لأنها مرسلة، ولكنه للأسف صار الحديث المرسل هو الأصل، وصار الحديث المتواتر في حكم المكتوم، بل لو أن شخصا حدث به لاتهم في دينه.

بالإضافة إلى هذا، فقد وردت الأدلة الكثيرة التي تدل على وجوب الرجوع إلى آل البيت لتلقي الدين، وهي لا تعد ولا تحصى، فقد ورد في الحديث الصحيح المعروف: (علي مني وأنا منه. ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي)([43])

وقال r: (ومن أحبّ أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويدخل الجنّة التي وعدني بها ربّي، وهي جنّة الخلد، فليتوّلَ عليّاً وذرّيته من بعدي؛ فإنّهم لن يخرجوكم من هدى، ولن يدخلوكم باب ضلالة)([44])

وقال r: (إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله. فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا. قال عمر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا. ولكنه خاصف النعل وكان علي يخصف نعل رسول الله في الحجرة عند فاطمة)([45])

وفي رواية أخرى: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لتنتهن معشر قريش، أو ليبعثن الله عليكم رجلا مني امتحن الله قلبه للإيمان، يضرب أعناقكم على الدين. قيل يا رسول الله أبو بكر؟ قال: لا. قيل: عمر. قال: لا. ولكن خاصف النعل في الحجرة)([46])

لكن السنة المذهبية ـ للأسف ـ أعرضت عنهم، بل قدمت عليهم الطلقاء واليهود، حتى أن مرويات كعب الأحبار في تفسير القرآن الكريم وفي كتب العقيدة أكبر بكثير من المرويات التي رووها عن أهل البيت عليهم السلام.

بل إننا نجد أهل هذه السنة يعظمون السنة التي حصل فيها المأساة الكبرى حين حصل الصلح بين الحسن بن علي مع معاوية، ويسمون تلك السنة سنة الجماعة.. ويعتبرون معاوية بموجبها خليفة للمسلمين مع تلك النصوص الكثيرة التي تعتبر الحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة.. وأن له مكانة عظيمة في الدين..

ولكن مع ذلك يعتبرون ذلك الموقف إقرارا منه بحقانية معاوية، وهم ينسون أن يقرؤوا قوله تعالى في وصف وضع قريب من الوضع الذي كان فيه الحسن بن علي: ﴿قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ [طه: 92 – 94]

فهذه الآيات توضح سنة من سنن الغواية التي يتلاعب بها الشيطان بأتباع الأنبياء حين يسول لهم أن يأخذوا دينهم من السامري، ويتركوا النبي وآل بيت النبي.

ومثلما حصل للحسن بن علي حصل لأخيه الحسين بن علي الذي ورد في الأحاديث الكثيرة بيان فضله ومرتبته من الدين، وأنه نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك نجد أصحاب السنة المذهبية حين يذكرون تلك التضحية العظيمة التي قام بها الحسين للحفاظ على الدين في وجه من يريد تحريفه، يحتقرون ما فعله، بل يعتبرونه من الأخطاء الكبرى التي لا منفعة فيها.. ويقدمون عليه مواقف ابن عمر وغيره من الصحابة..

يقول ابن تيمية: (ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا بل تمكن أولئــك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى قتلوه مظلوماً شهيداً وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده. فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء، بل زاد الشر بخروجه وقتله ونقص الخير بذلك وصار ذلك سبباً لشر عظيم)([47])

وهكذا أصبح ابن تيمية وغيره من أعلام السنة المذهبية أساتذة وأئمة وناصحين لذلك الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً، حسين سِبْطٌ من الأسباط)([48])

بل أعلن صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في حياته الشريفة أنه سلم لمن سالم وحرب لمن حارب، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى ابنته فاطمة وإلى علي ومعهما الحسن والحسين وقال لهم: (أنا حرب لمن حاربكم، وسِلْمٌ لمن سالمكم) ([49] وقال: (من أحب الحسن والحسين أحببته، ومن أحببته أحبه الله، ومن أحبه الله أدخله جنات النعيم، ومن أبغضهما أو بغى عليهما أبغضته ومن أبغضته أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله جهنم وله عذاب مقيم)([50])

ولكن مع ذلك فإن أصحاب السنة المذهبية اعتبروا كل من سالم آل بيت النبوة ووقف معهم ضالا ومبتدعا، واعتبروا كل من حاربهم وناصبهم العداء سنيا ومهتديا.


([1])  حديث حسن أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال رواه الطبراني في الأوسط والصغير وحسنه ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي وهو ثقة. انظر أسباب النزول للإمام السيوطي ص 128..

([2])  رواه الطبراني في الكبير.

([3])  مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 66).

([4])    وهي لأحمد، وأبي يعلى.

([5])  رواه مسلم.

([6])  رواه أحمد.

([7])  رواه البخاري.

([8])   حياة الأنبياء في قبورهم للبيهقي (ص: 93).

([9])   سنن الترمذي.

([10])   رواه الترمذي.

([11])   لا أقصد كل الصوفية، لأن منهم من بالغ في التأثر بمنتجات السنة المذهبية حرصا على ألا يصنف خارجها.

([12])  النبهاني، سعادة الدارين، صـ 440.

([13])   انظر كتابه: البيان القويم لتصحيح بعض المفاهيم، دار السندس للتراث الإسلامي.

([14])   تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي والملك.

([15])   رواه البخاري، وأبو داود.

([16])   الفواكه الدواني.

([17])   بغية السالك للساحلي: 1/248.

([18])   بغية السالك للساحلي: 1/249.

([19])   إحياء علوم الدين:4/436.

([20])   رواه مسلم.

([21])  نقلا عن فتح الباري ( 12 / 384 ) .

([22])   مجموع الفتاوى:  27 / 391 – 393.

([23])   فتاوى في الرؤى، لابن جبرين.

([24])   رسائل وفتاوى الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد عبد الوهاب: 1/82.

([25])  قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة 1/ 122)

([26])  رواه ابن سعد عن بكر بن عبد الله مرسلا.

([27])  رواه أحمد والطيالسي.

([28])  مجموع الفتاوى: 27/25.

([29])  مجموع الفتاوى (27/ 309).

([30])  مجموع الفتاوى 27/ 243.

([31])  الرد على الأخنائي ص 385.

([32])  الرد على الأخنائي ص 386.

([33])  الفتاوى الكبرى 5/ 146.

([34])  مجموع الفتاوى 27/ 220.

([35])  مجموع الفتاوى (4/ 519)

([36])  فتح الباري: (5/66).

([37])  الأجوبة المرضية عن الأسئلة المكية ص96–98.

([38])  طرح التثريب ( 6 / 43 )

([39])   منهاج السنة النبوية (6/ 455)

([40])   رواه البزار، والطبراني.

([41])   رواه أبو داود.

([42])  رواه مسلم.

([43])  رواه أحمد.

([44])  رواه الحاكم.

([45])  رواه الترمذي وأحمد.

([46])  رواه الترمذي وأحمد.

([47])   منهاج السنة ج4 ص530-531.

([48])   رواه أحمد وابن ماجة.

([49])   رواه أحمد.

([50])   رواه الطبراني في الكبير.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *