رسول الله.. والعلم

من أهم خصائص النبوة التي وردت بها الأدلة العقلية والنقلية خاصية [العلم الشامل]، أو [العلم الراسخ]، وهي خاصية حاولت السنة المذهبية بطرق مختلفة أن تتجاهلها.. بل حاولت في أحيان كثيرة أن تلغيها.. بل صورت القائلين بها بصورة الضالين والمشركين والمغالين.
وهي تتجاهل بذلك كل ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة من تعليم الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم من عجائب العلوم وغرائبها مما لا يطيقه عقل الإنسان.
وأول ما يشير إلى هذه الناحية المهمة في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 31 – 33]
فهذه الآيات الكريمة تشير إلى العلوم التي تقتضيها الخلافة عن الله، وهي علوم كثيرة جدا إلى الدرجة التي سماها الله تعالى [الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا]، بل إلى الدرجة التي عجزت الملائكة عليهم السلام أن يعرفوها.. وهم من هم.. فإذا كان هذا عظمة العلم الذي لقن لآدم عليه السلام، فكيف بالعلم الذي لقن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
ويشير إلى هذا أيضا قوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل: 40] فإذا كان هذا علم صاحب من أصحاب سليمان عليه السلام، وهو علم مرتبط ببعض الكتاب، فكيف بعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو علم بكل الكتاب؟
ويشير إلى هذا العلم الذي أوتيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لدن الله تعالى ـ أيضا ـ قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113]
ويشير إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم ـ مخبرا عن نفسه ـ (إنِّي أرى ما لا ترَون، وأسمع ما لا تسمعون، إنَّ السماء أطت، وحقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، وما تلذَّذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)([1])
وهذا الحديث يذكرنا بقوله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ [الأنعام: 75]
فعلوم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام علوم رؤية ومشاهدة، وليست علوم تلقين.. لذلك لا يعتريها الخطأ، ولا يصيبها الوهم، ولا يدركها القصور.
وقد أخبر أبو ذر عن بعض العلوم التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدثهم عنها، فقال: (ولقد تَرَكَنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يُقَلِّب طائر بجناحيه في السماء إلا ذكرنا منه عِلمًا)([2])
وعن أبي زيد الأنصاري قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، ثم نزل فصلى العصر، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غابت الشمس، فحدثنا بما كان وما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا)([3])
وعن حذيفة قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما، فما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء وإنه ليكون الشيء فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه)([4])
وهكذا وردت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تخبر عن الحقائق العلمية في المجالات المختلفة النفسية والاجتماعية.. بل والطبية والفلكية والجيولوجية وغيرها.. وما غاب عنا أكثر بكثير.
ذلك أن علوم الإنسان الكامل علوم لا تحدها التخصصات، ولا تقيدها.. لأنها إن كانت كذلك كانت علامة جهل كبير.. فالمتخصص مقيد في سجن اختصاصه، ولذلك لا يفسر الأشياء إلا على ضوئها.
فالمسجون في سجن علم الاجتماع ـ مثلا ـ أو في سجن مدرسة من مدارسه يبني مواقفه على أساسها.. وهكذا المسجون في سجون علم النفس.. وهكذا المسجون في سجون التخصصات المختلفة.. حتى التخصصات الدقيقة منها..
ولهذا اختلفت علوم محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن كل أصحاب تلك العلوم اختلافا تاما.. فعلومه تستقي من محيط صبت فيه جميع بحار العلوم والمعارف، أو كانت هي مصدر جميع العلوم والمعارف.
ذلك أن علوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علوم ربانية تنبع من بحار علم الله الواسع، كما قال الله تعالى مخبرا أن القرآن الكريم نزل من مشكاة علم الله:﴿ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾ (النساء:166)
لهذا، فإننا نجد في القرآن الكريم، وفي تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم له كل حقائق العلوم ما تعلق منها بالوجود، أو بالحياة، أو بتنظيم الحياة.. كل ذلك نجده واضحا جليا في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة.
وقد أشار القرآن إلى هذا في قوله تعالى:﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: 89)
فكل الحاجات التي ترتبط بالإنسان توجد خلاصتها في هذا الكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. والذي قام محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته جميعا بتفسيره..
وقد يقول البعض هنا: ولكن العلوم كثيرة.. وقد وضعت في آلاف.. بل عشرات الآلاف من المراجع الضخمة؟
والجواب على ذلك بسيط، وهو أن عشرات الآلاف من الكتب قد يمكن تلخيص ما يفيد منها في كلمات معدودات.. بل قد يمكن تلخيص جهود بشرية طويلة في معادلة واحدة..
فالمعادلة التي تنص على العلاقة بين كتلة جسيم وطاقته، والتي تقول (ط = ك ث²).. أي: الطاقة = الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء.. قد كتب من أجل الوصول إليها آلاف الأوراق، وبذل من الجهود ـ طيلة تاريخ البشرية ـ ما بذل من أجل التحقق منها.. ولم يكن ذلك في علم واحد.. بل في علوم كثيرة.
وقد جاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآلاف المعادلات التي لا تقل عن هذه المعادلة..
فاعتبار الصلوات خمسا، وفي أوقات محددة معادلة تحتاج البشرية إلى آلاف السنين للتحقق من صدقها..
وهكذا اعتباره البنت ترث عند انفرادها النصف، وعند التعدد الثلثين.. والأم السدس عند تعدد الفرع الوارث أو تعدد الإخوة، والثلث عدا ذلك.. وهكذا في كل المسائل التي وردت في علوم الفرائض.. بل هكذا في كل العلوم التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم..
فالتناسق بينها جميعا في منتهى كماله.. مع أنه لتشريع قانون بسيط نحتاج إلى تخصصات كثيرة مختلفة.
فالتشريعات التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم تخدم الفرد والمجتمع.. وتخدم الجسد والنفس والعقل والقلب.. وتخدم الدنيا والآخرة.. ولا تضر فوق ذلك بشيء من الأشياء دق أو جل.
بعد هذا التقرير المختصر عن هذه البديهية التي دل عليها العقل والنقل، نرى السنة المذهبية تقف موقفا سلبيا ساخرا من هذه الناحية من نواحي العظمة في شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وكمثال على ذلك تلك الانتقادات الشديدة التي ووجه بها البوصيري على قوله في البردة:
فإن من جودك الدنيا وضرتها… ومن علومك علم اللوح والقلم
فقد قال بعضهم ردا عليه: (مثل هذهِ الأوصاف لا تصح إلا لله – عز وجل – وأنا أعجب لمن يتكلم بهذا الكلام إن كان يعقل معناهُ كيف يسوّغ لنفسهِ أن يقول مُخاطباً النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن من جودك الدنيا وضرتها)، (ومن) للتبعيض، والدنيا هي الدنيا وضرتُها هي الآخرة، فإذا كانت الدنيا والآخرة من جود الرسول عليه الصلاة والسلام – وليس كل جودهِ فما الذي بقي لله عز وجل؟ ما بقي لهُ شيء من الممكن لا في الدنيا ولا في الآخرة وكذلك قولهُ: ومن علومك علم اللوح والقلم. (ومن) هذه للتبعيض ولا أدري ماذا يبقى لله تعالى من العلم إذا خاطبنا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الخطاب؟)([5])
وهذا النص يرينا مدى محدودية القدرة الإلهية والعلم الإلهي لدى هؤلاء.. وكيف لا يكونون كذلك، وهم يعتقدون محدودية الذات الإلهية، والتي لا تساوي في عقائدهم التي يسمونها [عقائد السنة] بعض الأجرام السماوية التي يمتلئ بها الفضاء الفسيح.
ومن مظاهر تهوين السنة المذهبية لهذه الخاصية العظيمة من خواص النبوة ـ زيادة على هذا الموقف العام ـ قصر أصحاب السنة المذهبية علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الأمور الدينية، ويستندون في ذلك إلى ذلك الحديث الخطير الذي جعلوا منه معولا هدموا به كل ما ورد في النصوص المقدسة من شمولية علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والحديث هو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة وهم يلقحون النخل، فقال: (ما تصنعون؟) قالوا: كنا نصنعه، قال: (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا)، فتركوه، فنفضت أو فنقصت، قال: فذكروا ذلك له فقال: (إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر)([6])
وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: (أنتم أعلم بأمر دنياكم)
وفي رواية: (إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، فإذا كان من أمر دينكم فإلي)
بل في رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: (لو لم تفعلوا لصلح)([7])
ولكثرة الروايات الواردة في هذا الحديث ذكر بعضهم أن الحادثة متعددة، أي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر على ناس متعددين، وأخبرهم بأن التأبير لا منفعة فيه.. ثم تبين للجميع أن أخذهم بنصيحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أضرت بهم.. وحينذاك بين لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن غرضه من ذلك أن يذكر لهم أنهم أعلم بأمور دنياهم.. وأنهم لا ينبغي أن يأخذوا منه كل شيء.
والعجيب بعد ذلك كله أن يكون ذلك في أول مقدمه صلى الله عليه وآله وسلم للمدينة المنورة، وبذلك تكون أول نصيحة قدمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للفلاحين فيها نصيحة أضرت بهم، وبمنتوجهم الذي يعتمدون عليه في حياتهم.
ولست أدري كيف لم تمرر هذه الرواية على عقول المحدثين الذين زجوا بها في كتبهم، وكأنها حقيقة مقررة..
ولست أدري لم لم يعرضوها على قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3، 4]؟
ولست أدري لم لم يعرضوها على ما ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء؟ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: (اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق)([8])
ثم بعد هذا: هل يمكن لأي عاقل أن يتلاعب بأرزاق الذين يثقون فيه من أجل أن يقول لهم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) مع أنه كان يمكن أن يقولها لهم من غير أن يكلفهم شيئا؟
ولم تقف هذه الرواية عند المحدثين، بل انتقلت إلى كثير من الباحثين الذين صارت لهم جرأة بسببها على جميع أقوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. حتى صار أي صعلوك يقرأ حرفا من العلم يذهب إلى كتب الحديث، ثم يقرر بكل بساطة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخطأ في وصفه لتلك الوصفة، أو في ذكره لتلك القضية.
وكمثال على ذلك الموقف من الأحاديث التي وردت في بعض المسائل الطبية، وهو موقف كان يمكن قبوله لو بني على التشكيك في صحة الحديث من حيث الثبوت.. لكن المشكلة أن هؤلاء المشككين لم يتجرؤوا على ذلك مخافة أن يرميهم الناس بالبدعة.. فراحوا يشككون في صحة ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.. وكأن وثاقة المحدثين والرواة عندهم أعظم من وثاقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الأمثلة على ذلك هذا النص الذي كتبه بعض المعاصرين، وتلقاه الكثير من أبناء السنة المذهبية بترحيب كبير، يقول فيه: (لا يجب أن يكون اعتقاده صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الدنيا مطابقا للواقع، بل قد يقع الخطأ في ذلك الاعتقاد قليلا أو كثيرا، بل قد يصيب غيره حيث يخطئ هو صلى الله عليه وآله وسلم.. وليس في ذلك حطّ من منصبه العظيم الذي أكرمه الله به؛ لأن منصب النبوة مُنصب على العلم بالأمور الدينية: من الاعتقاد في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومن الأمور الشرعية. أما إن اعتقد دواء معينا يشفي من مرض معين، فإذا هو لا يشفي منه، أو أن تدبيرا زراعيا أو تجاريا أو صناعيا يؤدي إلى هدف معين، فإذا هو لا يؤدي إليه، أو يؤدي إلى عكسه، أو أن تدبيرا عسكريا أو إداريا سينتج مصلحة معينة، أو يدفع ضررا معينا، فإذا هو لا يفعل، فإن ذلك الاعتقاد لا دخل له بالنبوة، بل هو يعتقده من حيث هو إنسان، له تجاربه الشخصية، وتأثراته بما سبق من الحوادث، وما سمع أو رأى من غيره؛ مما أدى إلى نتائج معينة. فكل ذلك يؤدي إلى أن يعتقد كما يعتقد غيره من البشر، ثم قد ينكشف الغطاء فإذا الأمر على خلاف ما ظن أو اعتقد)([9])
وليت الأمر اقتصر على هؤلاء المعاصرين، بل تعداه إلى بعض السابقين الذين خيل لهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد يقول ما لا حقيقة واقعية له.
ومن أمثلة هؤلاء ابن خلدون الذي تجرأ فقال: (الطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل، وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عادياً للعرب، ووقع في ذكر أحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يُبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم…)؛ فلا ينبغي أن يُحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه، اللهم إذا استعمل على جهة التبرك وصدق القصد الإيماني، فيكون له أثر عظيم النفع، وليس ذلك في الطب المزاجي)([10])
ومثله قال القاضي عياض: (أما أحواله صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الدنيا؛ فنحن نسبرها على أسلوبها المتقدم بالعقد والقول والفعل؛ أما العقد منها، فقد يعتقد في أمور الدنيا الشيء على وجه ويظهر خلافه، أو يكون منه على شك أو ظن بخلاف أمور الشرع – ثم ذكر حديث تأبير النخل – ثم قال: وهذا على ما قررناه فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا وظنه من أحوالها لا ما قاله من قبل نفسه واجتهاده في شرع شرعه وسنة سنها.. فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة، ولا اعتقادها ولا تعليمها، يجوز عليه فيها ما ذكرناه، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة، وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وجعلها همه وشغل نفسه بها، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مشحون القلب بمعرفة الربوبية، ملآن الجوانح بعلوم الشريعة، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية)([11])
ومن الأمثلة على تلك الجرأة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كتبه بعضهم حول النصوص الكثيرة التي يحث فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على استعمال السواك، فقد قال بعد إيراده لها، واعترافه بصحتها: (إن ظاهر الحديث هو الأمر بالسواك، أما مقصد الحديث فهو نظافة الفم، ولما كان السواك هو الوسيلة المستخدمة في نظافة الفم والأسنان في ذلك الزمان فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر باستخدامه، ولكن السؤال المطروح الآن هو: إذا ما توفرت وسيلة عصرية لنظافة الفم والأسنان أفضل من السواك أليس من الأفضل الاستغناء بهذه الوسيلة عن السواك؟. ولقد حاول كثير من أدعياء الطب النبوي إثبات أن السواك أفضل من معاجين الأسنان والفرشاة، ولكن دون جدوى حيث انصرف أغلب الناس إلى المعجون والفرشاة، ولما يئس أدعياء الطب النبوي من إقناع الناس بالأخذ بظاهر الحديث استحدثوا معاجين أسنان من خلاصة السواك. وحتى هذه المعاجين لم يكتب لها النجاح أيضًا، وبقيت الفرشاة والمعاجين التقليدية أكثر فاعلية وأكثر انتشارًا في نظافة الفم والأسنان، بالإضافة إلى أن الفرشاة سهلة التنظيف والحفظ، كما أن المعاجين المطروحة للاستخدام تُصنع بطريقة علمية وصحية سليمة، وتضاف إليها مواد لمقاومة التسوس ونخر الأسنان. ولقد ثبت أن الاعتماد على السواك دون الفرشاة والمعجون هو واحد من الأسباب الرئيسية لتفشي ظاهرة تسوس الأسنان في بعض المجتمعات الإسلامية، كما أنه قد يكون وسيلة لنقل العدوى والأمراض حيث يصعب تنظيفه وحفظه. وإذا استحدثت مستقبلاً طريقة لنظافة الفم والأسنان أفضل من الفرشاة والمعجون فلا مانع من ترك الفرشاة والمعجون إلى هذه الطريقة)([12])
وهذا كلام خطير، وناتج عن جهل ودعوى أيضا.. لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في إمكانه أن يأمر بتنظيف الفم من دون ذكر الوسيلة المرتبطة بذلك.. وذكره للوسيلة، بل ربطها ببعض الشعائر التعبدية يدل على أن الوسيلة في ذاتها مطلوبة، وأن لها تأثيرها الذي لاشك فيه.
ونحن نوقن أن الأمة لو التزمت بهذه السنة في كل محل، وبعد كل أكل، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما احتاجت إلى طب أسنان.. ولذلك فإن تلك الدعوى بأن الذين التزموا بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السواك لم تنفعهم تلك السنة جرأة كبيرة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الأمثلة الخطيرة على هذه الظاهرة أيضا ـ ظاهرة الجرأة على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ ذلك الحديث الذي يرويه أصحاب السنة المذهبية كثيرا، ويوردونه في محال مخصوصة للانتصار لبعض الصحابة أو الطلقاء على حساب مصداقية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وذلك الحديث هو ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة.أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلا فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة)
وهذا الحديث الخطير يشوه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشويها عظيما، فهو يرسمه بصورة الظالم الذي يسارع إلى سب الناس وجلدهم والدعاء عليهم من غير استحقاق منهم لذلك، ثم يعتذر لذلك بأن يدعو لمن فعل بهم ذلك أن يتحول ما فعله بهم من أنواع الإهانات كفارة ورحمة.
وهذا يتنافى تماما مع تلك الصورة الجميلة التي صور القرآن الكريم بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصورته بها الأحاديث الكثيرة.
والغرض من كل هذا التشويه هو تحويل تلك الدعوات التي دعي بها على معاوية ومن هو من صنوه إلى رحمة وكفارة وقربة.
يقول ابن كثير في (البداية والنهاية) عند ترجمته لمعاوية بن أبي سفيان: (وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه.. أما في دنياه: فإنه لما صار إلى الشام أميرا، كان يأكل في اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لحم كثير، وبصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئا كثيرا، ويقول: والله ما أشبع وإنما أعيا، وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك.. وأما في الآخرة: فقد أتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الذي رواه البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة.أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلا فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة)([13])
وقد أيده في قوله هذا النووي فقال: (وقد فهم مسلم رحمه
الله من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقا للدعاء عليه، فلهذا أدخله في هذا
الباب، وجعله غيره من مناقب معاوية لأنه في الحقيقة يصير دعاء له)([14])
([1]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
([2]) تفسير عبد الرزاق 1/200) وتفسير الطبري (11/348)
([3]) رواه ابن سعد.
([4]) رواه أبو داود.
([5]) الكلام لابن العثيمين في بعض دروسه.
([6]) رواه مسلم..
([7]) رواه مسلم .
([8]) رواه أبو داود.
([9]) انظر ملفا بعنوان [الطب النبوي .. رؤى نقدية أحاديث “الطب النبوي”.. هل يُحتج بها] على إسلام أن لاين وغيره من المواقع.
([10]) المقدمة: ص493 .
([11]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى: 2 /183- 185.
([12]) انظر مقالا بعنوان [الطب النبوي .. رؤى نقدية] على موقع إسلام أون لاين، مع العلم أن الموقع تتبناه تيارات الإسلام السياسي.
([13]) البداية والنهاية: 8/ 128.
([14]) المنهاج: 16/156.