رسول الله.. والعصمة

من أهم ما يميز الذين يصطفيهم الله للوساطة بينه وبين خلقه عن غيرهم من الناس (العصمة)، لأنها تعني الصفاء التام للمعدن الذي يتلقى عن الله، ويكون واسطة بينه وبين خلقه.. ولذلك ورد في النصوص المقدسة الدعوة المطلقة للاهتداء بهديهم.. وفي كل أحوالهم، كما قال تعالى بعد ذكره لبعض أسماء الرسل عليهم الصلاة والسلام: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]
وهكذا أمرنا الله تعالى بأن نلتزم كل شيء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التزاما مطلقا، فقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]
وورد في السنة النبوية المطهرة توضيح لهذه الحقيقة العظيمة، إلى الدرجة التعبير بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو نفسه القرآن الكريم.. وليس هناك من فرق بينهما إلا أن أحدهما صامت والآخر ناطق.
وكما أن القرآن الكريم محفوظ من التحريف، ومحفوظ من أن يأيته الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محفوظ ومعصوم عصمة مطلقة، فلا يصدر عنه إلا الكمال المحض..
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومثله سائر الأنبياء، والمصطفين يحلقون في عوالم من الكمال لا يمكن تقدير قدرها.. ولذلك نحن لا نرى منهم إلا ظلالا باهتة حقيرة بجنب حقيقتهم العظيمة..
ويكفي تصور وظيفتهم لتندك عروش عقولنا.. فهؤلاء ليسوا سفراء أمريكا ولا روسيا.. بل هم سفراء الله الذين خلق كل شيء.. والذين اختارهم من بين خلقه جميعا ليعرفوا الخلق به، وبمواضع رضاه.
ولذلك من الاحتقار لله أن نتهمه في اختياره.. وأن نعتبر اختياره اعتباطا، وأن نعتبر أنفسنا أكثر حكمة وصوابية حين نختار.
وهذا للأسف ما وقعت فيه السنة المذهبية ـ شعرت أو لم تشعر ـ حين احتقرت العصمة، وقزمتها، واختصرتها في مواضع قليلة محددة، تغليبا لبشرية الرسول على نبوته.. مع أن نبوة الرسول أي رسول هي المتغلبة على بشريته..
ولذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يحن للطعام والشراب كحنينا، فقد كان يواصل، ويقول: (أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني)([1])
وكان لا تعتريه الغفلة أبدا عن ذكر الله.. بل كان ـ كما ورد في الروايات الكثيرة ـ تنام عيناه ولا ينام قلبه، فقد روي أن جماعة من اليهود لمّا قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة سألوه، فقالوا: يا محمد كيف نومك، فقد أُخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (تنام عيني، وقلبي يقظان)([2]).. ولذلك من الخطأ الكبير أن نتهم من هذا حاله بالسهو أو النسيان أو الغفلة.
أما طاعته لله، فهي سكن قلبه، وروح روحه، وسعادته المطلقة.. فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما ورد في السنة النبوية ـ يقول لبلال: (أرحنا بها يا بلال)([3])، وكان يعتبر الصلاة قرة عينه([4])..
وكان فوق ذلك أقرب الخلق إلى الله، وأعلم الخلق بالله، وبأمر الله، وبكون الله، فلذلك من الخطأ الكبير أن نتهمه بالجهل أو الغفلة أو الخطأ أو أي لون من هذا القبيل.
وهكذا، فإن العقل والنقل يدلان على الطهارة المطلقة للمصطفى من الله للوساطة بينه وبين خلقه، لأنه لو لم يكن كذلك لكان ذلك حائلا بينه وبين القدرة على التلقي من الملأ الأعلى، فتلك القدرة تحتاج إلى مرآة صافية ممتلئة بالطهارة والقدسية حتى لا تختلط الحقائق المقدسة بأهواء النفوس ودنسها، كما قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]
وقد فسر صلى الله عليه وآله وسلم الآية بقوله: (إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت)([5])
انطلاقا من هذه الحقائق نحب أن نرى هنا باختصار الصورة التي يحملها أهل القلوب المريضة عن النبوة، وكيف نزلوا بها إلى الدركات السفلى، حتى تصوروا أن النبي ليس سوى ساعي بريد لم يكن له من دور إلا تبليغ رسالة ربه.
وسنقتصر على علم من أعلام السنة المذهبية لنرى موقفه من النبوة، ثم كيف سرى ذلك إلى الموقف من النبي نفسه.
وهذا العلم هو شيخ الإسلام البشري، وحافظ السنة المذهبية (ابن تيمية)، والذي يعتبره التيار السلفي والحركي موجها وإماما ومرجعا عند الخلاف.
ومن أول ما يدل على هذا الموقف السلبي من النبوة هو ثناؤه على كل الكتب التي تمتلئ بالقصص والأساطير التي تشوه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وترميهم بالعظائم، بل هو فوق ذلك يعتبرها من كتب السنة، وأنها في هذا الموضوع بالذات أعرف بالأنبياء من كتب المنزهة.
ومن أقواله في هذا: (.. من أئمة أهل التفسير، الذين ينقلونها بالأسانيد المعروفة، كتفسير ابن جريج، وسعيد بن أبي عروبة، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأحمد، وإسحاق وتفسير بقي بن مخلد وابن جرير الطبري، ومحمد بن أسلم الطوسي، وابن أبي حاتم، وأبي بكر بن المنذر، وغيرهم من العلماء الأكابر، الذين لهم في الإسلام لسان صدق، وتفاسيرهم متضمنة للمنقولات التي يعتمد عليها في التفسير)([6])
وقال ـ دفاعا عن الإسرائيليات الكثيرة الواردة في تلك الكتب، والتي شوهت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أيما تشويه ـ: (ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وغيرهم من أئمة المسلمين متفقين على ما دل عليه الكتاب والسنة من أحوال الأنبياء، لا يعرف عن أحد منهم القول بما أحدثته المعتزلة والرافضة ومن تبعهم في هذا الباب، بل كتب التفسير والحديث والآثار والزهد وأخبار السلف مشحونة عن الصحابة والتابعين بمثل ما دل عليه القرآن، وليس فيهم من حرف الآيات كتحريف هؤلاء، ولا من كذب بما في الأحاديث كتكذيب هؤلاء، ولا من قال هذا يمنع الوثوق، أو يوجب التنفير ونحو ذلك كما قال هؤلاء، بل أقوال هؤلاء الذين غلوا بجهل من الأقوال المبتدعة في الإسلام)([7])
فهو في هذا النص يعتبر الروايات المشوهة لجمال وعصمة الأنبياء سنة، ويعتبر تنزيه الأنبياء والقول بطهارتهم تحريفا.. وله الحق في ذلك، فالسنة التي يقصدها هي السنة المذهبية، لا السنة النبوية.
بل إن ابن تيمية ـ نتيجة سوء فهمه للنبوة ـ لا يرى المعصية قادحا في كمال الأنبياء، وفي استحقاقهم للوظائف الخطيرة التي كلفوا بها، يقول في ذلك – أثناء رده على المنزهة -: (ونكتة أمرهم أنهم ظنوا وقوع ذلك من الأنبياء والأئمة نقصا، وأن ذلك يجب تنزيههم عنه، وهم مخطئون إما في هذه المقدمة، وإما في هذه المقدمة.. أما المقدمة الأولى فليس من تاب إلى الله تعالى وأناب إليه بحيث صار بعد التوبة أعلى درجة مما كان قبلها منقوصا ولا مغضوضا منه، بل هذا مفضل عظيم مكرم، وبهذا ينحل جميع ما يوردونه من الشبه، وإذا عرف أن أولياء الله يكون الرجل منهم قد أسلم بعد كفره وآمن بعد نفاقه وأطاع بعد معصيته، كما كان أفضل أولياء الله من هذه الأمة – وهم السابقون الأولون – يبين صحة هذا الأصل)([8])
ومن خلال هذا النص يتبين لنا الدافع الذي جعل ابن تيمية يحطم كل تلك المكانة الرفيعة التي نالها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قلوب الناس بسبب طهارتهم وعصمتهم، وهو مبالغته في شأن الصحابة.. فهو لا يريد أن يتهمهم الناس بالنقص لكونهم أسلموا بعد كفر، وأطاعوا بعد معصية، فلم يجد إلا أن يلحق الأنبياء بهم.
بل إن الأمر بلغ به إلى المماراة في القطعيات، فيحاول بكل الوسائل أن يقنع أتباعه بدور المعصية في تحقيق الكمال.
يقول في ذلك: (والإنسان ينتقل من نقص إلى كمال، فلا ينظر إلى نقص البداية، ولكن ينظر إلى كمال النهاية، فلا يعاب الإنسان بكونه كان نطفة ثم صار علقة ثم صار مضغة، إذا كان الله بعد ذلك خلقه في أحسن تقويم.. فمن يجعل التائب الذي اجتباه الله وهداه منقوصا بما كان من الذنب الذي تاب منه، وقد صار بعد التوبة خيرا مما كان قبل التوبة، فهو جاهل بدين الله تعالى وما بعث الله به رسوله، وإذا لم يكن في ذلك نقص مع وجود ما ذكر فجميع ما يذكرونه هو مبني على أن ذلك نقص، وهو نقص إذا لم يتب منه، أو هو نقص عمن ساواه إذا لم يصر بعد التوبة مثله، فأما إذا تاب توبة محت أثره بالكلية وبدلت سيئاته حسنات فلا نقص فيه بالنسبة إلى حاله، وإذا صار بعد التوبة أفضل ممن يساويه أو مثله لم يكن ناقصا عنه)([9])
بل إنه فوق ذلك كله يعتبر تنزيه الأنبياء عن المعاصي غضا من مرتبتهم، وسلبا للدرجة التي أعطاهم الله، يقول في ذلك: (وجوب كون النبي لا يتوب إلى الله فينال محبة الله وفرحه بتوبته وترتفع درجته بذلك ويكون بعد التوبة التي يحبه الله منه خيرا مما كان قبلها فهذا مع ما فيه من التكذيب للكتاب والسنة غض من مناصب الأنبياء وسلبهم هذه الدرجة ومنع إحسان الله إليهم وتفضله عليهم بالرحمة والمغفرة)([10])
وهو يعود ليستدل بالصحابة الذين من أجلهم شوه الأنبياء، بل شوه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه ليحفظ مكانتهم التي يتصورها لهم، يقول في ذلك: (ومن اعتقد أن كل من لم يكفر ولم يذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره وتاب بعد ذنبه، فهو مخالف ما علم بالإضطرار من دين الإسلام! فإنه من المعلوم أن الصحابة الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد كفرهم وهداهم الله به بعد ضلالهم، وتابوا إلى الله بعد ذنوبهم أفضل من أولادهم الذين ولدوا على الإسلام، وهل يشبه بني الأنصار بالأنصار، أو بني المهاجرين بالمهاجرين إلا من لا علم له)([11])
وقد بلغ من احتقار ابن تيمية للنبوة أنه جوز الكفر على الأنبياء، وقد قدم لذلك بمقدمة عقدية تصور أنها كافية، وهي أن الله يفعل ما يشاء، وبالتالي يمكنه أن يختار أي كافر، بل أي مجرم ليتولى هذا المنصب الخطير، يقول في ذلك: (ومما يبين الكلام في مسألة العصمة أن تعرف النبوة ولوازمها وشروطها، فإن الناس تكلموا في ذلك بحسب أصولهم في أفعال الله تعالى إذا كان جعل الشخص نبياً رسولاً من أفعال الله تعالى فمن نفى الحِكَم والأسباب في أفعاله وجعلها معلقةً بمحض المشيئة، وجوَّز عليه فعل كل ممكن، ولم ينزهه عن فعل من الأفعال، كما هو قول الجهم بن صفوان وكثير من الناس كالأشعري ومن وافقه من أهل الكلام من أتباع مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من مثبتة القدر، فهؤلاء يجوزون بعثة كل مكلف! والنبوة عندهم مجرد إعلامه بما أوحاه إليه ! والرسالة مجرد أمره بتبليغ ما أوحاه إليه ! والنبوة عندهم صفة ثبوتية ولامستلزمة لصفة يختص بها، بل هي من الصفات الإضافية كما يقولون، مثل ذلك في الأحكام الشرعية)([12])
وكمثال عملي على ذلك ما ورد في (مجموع الفتاوى) من قوله بكفر نبي الله شعيب عليه السلام وغيره من الأنبياء قبل نبوتهم، وقد قدم لذلك بقوله: (هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها، ومنها قوله: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ [الأعراف: 88] الآية وما في معناها)([13])
ثم راح يبرز قدراته الاستنباطية في هذا الجانب، فقال: (التحقيق: أن الله سبحانه إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه حتى في النسب كما في حديث هرقل. ومن نشأ بين قوم مشركين جهال لم يكن عليه نقص إذا كان على مثل دينهم إذا كان معروفا بالصدق والأمانة وفعل ما يعرفون وجوبه وترك ما يعرفون قبحه، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]، فلم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب، وليس في هذا ما ينفر عن القبول منهم؛ ولهذا لم يذكره أحد من المشركين قادحا. وقد اتفقوا على جواز بعثة رسول لا يعرف ما جاءت به الرسل قبله من النبوة والشرائع، وأن من لم يقر بذلك بعد الرسالة فهو كافر، والرسل قبل الوحي لا تعلمه فضلا عن أن تقر به.. قال تعالى: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ [غافر: 15])([14])
ومثلما دافع عن المعصية، وكونها كمالا في حق الأنبياء، راح يدافع عن كفرهم، مبينا أن ذلك أيضا كمال في حقهم، فقال: (والرسول الذي ينشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم يكون أكمل من غيره من جهة تأييد الله له بالعلم والهدى وبالنصر والقهر كما كان نوح وإبراهيم)([15])
وهذا الموقف من ابن تيمية هو نفسه موقف تلاميذه من أهل السنة المذهبية، فقد قال مشهور صالح آل الشيخ في شرحه للطحاوية المسمى بـ (إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل): (القسم الثاني، من جهة الذنوب: الذنوب أقسام: فمنها الكفر وجائز في حق الأنبياء والرسل أنْ يكونوا على غير التوحيد قبل الرسالة والنبوة.. والثاني من جهة الذنوب، فالذنوب قسمان كبائر وصغائر: والكبائر جائزة فيما قبل النبوة، ممنوعة فيما بعد النبوة والرسالة؛ فليس في الرسل من اقترف كبيرة بعد النبوة والرسالة أو تَقَحَّمَها عليهم الصلاة والسلام بخلاف من أجاز ذلك من أهل البدع)([16])
وسئل هذا السؤال: (أشكل عليَّ قولك: النبي قد يكون على غير التوحيد قبل الرسالة؟)، فأجاب بقوله: (نعم النبي قد يكون على غير ذلك، فيصطفيه الله – عز وجل – وينبهه؛ يعني ما فيه مشكل في ذلك، قد يكون غافلا)([17])
بل إن ابن تيمية ومدرسته ينقلون من النصوص ما لا يستثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.. خاصة وأنهم مهدوا لذلك بكون الكمال في الكفر والمعصية السابقين.
ومن الأمثلة على ذلك حديث يردده ابن تيمية كثيرا يدل بظاهره على أن زيدا بن عمرو بن نفيل عم عمر بن الخطاب كان أكثر ورعا عن الشرك وأسبابه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روى في (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) وغيره من كتبه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، وذلك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوحي، فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سفرة في لحم. فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: (إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه)([18])
بل يضيف إليها كل الروايات التي ورد بها الحديث ليؤكد المعنى، فيقول: (وفي رواية له: وإن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض الكلأ، ثم أنتم تذبحونها على غير اسم الله؟!) إنكارا لذلك وإعظاما له)([19])
وبذلك أصبح زيد بن عمرو بن نفيل عم عمر بن الخطاب أكثر عقلا وحكمة وإيمانا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وذلك ليس بمستغرب لأن أساس السنة المذهبية هو تعظيم الصحابة، ولو على حساب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولو أننا تأملنا ما يطلق عليه موافقات عمر بن الخطاب، ومبالغة أهل السنة المذهبية فيها([20])، لرأينا كيف يهان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل كيف يهان القرآن الكريم نفسه، والذي يتوقف نزوله ـ حسب تلك الروايات ـ على الشدة التي يبديها عمر في المطالبة بنزول الأحكام كما يطلبها هو.. فتأتي كما يطلبها هو.. بل أحيانا تأتي بنفس الصيغة التي نطق بها.. وذلك ما يثير من الشبه التي يتعلق بها المنكرون للنبوة ما لا يعلم به إلا الله.
ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في الرواية أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يارسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى)، فنزلت الآية بنفس الصيغة ([21]).
ومنها أنه لما اجتمع على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نساؤه مطالبين بالنفقة، قال لهن عمر: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن)، فنزلت كذلك([22]).
والأخطر من ذلك كله تلك الرواية التي تبين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أنه كان معرضا للعذاب بسببه اجتهاده الخاطئ في الأسرى.. وأنه لم يكن لينجو إلا عمر الذي نزل القرآن ـ بزعمهم ـ بموافقته([23]).
وهكذا يصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ بحسب السنة المذهبية ـ تلميذا لأصحابه، لا أستاذا لهم.. بل يصبح القرآن الكريم نفسه رهينا للآراء والتوجهات التي تملى عليه.. تعالى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن الكريم عن ذلك علوا عظيما.
ولذلك لا عجب أن ينتفض أهل السنة المذهبية إذا ما انتقد أي موقف من مواقف الصحابة، ويعتبرون المنتقد مبتدعا، بينما لا حرج على أي شخص، بل على أي صعلوك أن ينتقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويبين خطأ اجتهاده، لأن الرسول في أذهان هؤلاء هم الصحابة وليس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل إن الرسول الحقيقي عندهم هو ابن تيمية نفسه.
وقد حدث الدكتور عبدالعزيز بن محمد بن عبدالله السدحان في كتابه (الإمام ابن باز دروس وعبر) تحت عنوان (سرعة استحضاره للأدلة)، فقال ـ يذكر مجلسا من مجالس ابن باز ـ: (نقل أحدهم مقولة عن بعض أهل العلم مفادُها: (لو لم نُخبرَ بختام النبوة لقُلنا: إن ابن تيمية نبي)، فعُرِضت العبارة على بعض أهل العلم فبالغ في أنكارِها. وعرضتُها بنفسي على سماحته – رحمه الله تعالى – فتبسم ضاحكًا، وقال ما معناه: نعم، لذلك أصل.. ثم ذكرَ حديث (لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب)([24])
وهكذا يتصرف هؤلاء في النبوة كما يحلو لهم.. وكأن النبوة
لعبة من لعب الصبيان.. لا مرتبة من المراتب التي لا يصل العقل إلى كنهها
وحقيقتها.. ووظيفة تنوء السموات والأرض دون حملها.
([1]) رواه البخاري ومسلم.
([2]) رواه البخاري ومسلم.
([3]) رواه أحمد وأبو داود.
([4]) أما تلك الزيادة الواردة: (حبب إلي من دنياكم النساء)، فأرى أنها موضوعة، فرسول الله a هو سيد الزاهدين، وأعظم الزهد الزهد في هذا الجانب، وقد طبقه رسول الله a في أحسن صوره كما شرحنا ذلك بتفصيل في كتاب [النبي المعصوم]
([5]) رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح.
([6]) منهاج السنة النبوية (7/ 179)
([7]) منهاج السنة النبوية (2/ 434)
([8]) منهاج السنة النبوية (2/ 430)
([9]) منهاج السنة النبوية (2/ 434)
([10]) منهاج السنة النبوية (2/ 397)
([11]) منهاج السنة النبوية (2/ 398)
([12]) منهاج السنة:2/413.
([13]) مجموع الفتاوى (15/ 30)
([14]) مجموع الفتاوى (15/ 30)
([15]) مجموع الفتاوى (15/ 31)
([16]) شرح الطحاوية لصالح آل الشيخ ، ص: 84.
([17]) شرح الطحاوية لصالح آل الشيخ ، ص: 86.
([18]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 63)
([19]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 63)
([20]) فقد ألفت فيها المؤلفات الكثيرة، ومنها: نفائس الدرر في موافقات عمر، لأبي بكر ابن زيد الدمشقي، وقطف الثمر في موافقات عمر: لجلال الدين السيوطي، ونظم الدرر في موافقات عمر: لمحمد بن إبراهيم البلبيسي، والموافقات العمرية للقرآن الشريف: لمحمد بن جمال الدين، والدر المستطاب لموافقات عمر بن الخطاب: لحامد بن على العمادي الدمشقي، وضم الدرر في موافقات عمر: لبدر الدين محمد بن محمد الغزي، واقتطاف الثمر في موافقات عمر: لابن البدر الخطيب البعلي الدمشقي، والموافقات التي وقعت في القرآن لعمر بن الخطاب: أحمد بن علي بن محمد المقدسي، وغيرها..
([21]) رواه البخاري.
([22]) رواه أحمد.
([23]) رواه أحمد.
([24]) الإمام ابن باز دروس وعبر، ص 33.