رسول الله.. والشياطين

رسول الله.. والشياطين

مع أن في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تبين ضعف الشيطان أمام عباد الله المخلصين سواء كانوا أنبياء أو غير أنبياء، مع ذكر النماذج التطبيقية على ذلك إلا أننا نجد في تراثنا الحديثي، وما تبعه من الفهم السلفي صورة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يقف ضعيفا أمام الشيطان، حتى أنه يتسلط عليه في أخطر ما ندب إليه، وهو تبليغه للقرآن الكريم.

بل نجد الشيطان الرجيم يفر من أصحابه، ويخاف منهم، ويسلك خلاف مسالكهم، بينما لا يستشعر أي خوف منه صلى الله عليه وآله وسلم.. مع أن الشيطان لا يعظم خوفه إلا ممن قويت صلتهم بالله، وعظم قربهم منه، وكثر ذكرهم له.

بل إنهم يصورون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان من الضعف أمام الشيطان بحيث كان كل حين يحتاج إلى عملية جراحية خاصة لتخرج منه الشريحة التي يتصل الشيطان من خلالها بقلبه.

بل إنهم يصورون أن الشيطان يتسلط على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل حين، فيسب ويشتم ويلعن من لا يستحق السب ولا الشتم ولا اللعن.. ولذلك وجد مخرجا أو حيلة لذلك بتحويل كل سبابه ولعناته وشتائمه إلى رحمة إلهية.

هذا الكلام الخطير الذي نقوله ليس دعاوى.. ولا مجرد اتهامات لا أساس لها.. وإنما هو وللأسف الشديد ـ مما يمتلئ به تراثنا الحديثي، بل أصبح إنكاره أو نقده نوعا من البدعة.. بل يهدد منكره من الطرد من الفرقة الناجية، ومن السنة والجماعة..

ولإثبات ذلك نبدأ بعلاقة الشيطان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل حياته قبل النبوة.. والتي اتفق الجميع ـ حتى المشركون أنفسهم ـ أنها كانت ممتلئة بالصدق والطهارة وحسن الخلق.. ولكن الفرق بين تفسير قومه صلى الله عليه وآله وسلم لذلك وتفسير أهل السنة المذهبية لذلك مختلف تماما.

أما تفسير قومه لذلك، وهو تفسير بديهي عقلي منطقي، فهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم بطبعه وجبلته كان كذلك.. ولذلك آمن الصادقون من قومه بمجرد إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بنبوته، لأن كل ما فيه يدل عليه..

والعقل يؤيد هذا، لأن الله سبحانه وتعالى صاحب العدالة المطلقة لا يحابي أحدا، ولا يجامل أحدا، ولا يعطي أحدا ما لا يستحق، كما قال تعالى: الله ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]

لكن التفسير المذهبي لذلك يختلف تماما، فقد تصوروا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن كذلك بطبعه، ولا بقدرته على مواجهة تلك البيئة الممتلئة بالانحرافات، وإنما واجهها لأن الله تعالى خصه من دون الناس بأن نزع حظ الشيطان منه، أو بتعبيرنا المعاصر: نزع الشريحة التي يقوم الشيطان من خلالها بالتواصل معه.

ولسنا ندري كيف نثبت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل تلك الكمالات، ونحن نقول بهذا، لأن القول بهذا وحده كاف لإخراج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مضمار السباق الذي جعله الله بين عباده ليرى أحسنهم عملا.. لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الاعتبار يشبه ذلك العداء الكسول المحتال الذي يتحدى غيره أن يلحقوا به وهو يستعمل المنشطات..

ثم بعد القول بهذا كيف يأمرنا الله تعالى باتخاذه أسوة، لأن أي شخص من الناس يمكنه أن يقول: يا رب.. كيف تأمرنا بالاقتداء برجل قد أجريب له عملية نزعت من الشيطان القدرة على التأثير فيه، بينما لم تجر لنا نفس العملية.. فكيف يمكننا أن نتأسى برجل أوتي ما لم نؤت؟

وقبل أن نناقش هذا نورد الروايات الواردة، وموقف أهل السنة المذهبية منها، ثم نبين مدى مطابقتها للقرآن الكريم وللسنة النبوية المطهرة.

فمن الروايات الواردة في هذا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يلعب مع الصبيان، فأتاه آت، فأخذه فشق بطنه، فاستخرج منه علقة، فرمى بها، وقال: هذه نصيب الشيطان منك، ثم غسله فى طست من ذهب، من ماء زمزم، ثم لأمه، فأقبل الصبيان إلى ظئره: قتل محمد، قتل محمد، فاستقبلت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد انتقع لونه. قال أنس: فلقد كنا نرى أثر المخيط في صدره)([1])

هذا هو المحل الأول للشق، أما المحل الثاني، فرواه قتادة عن أنس في حديث الإسراء والمعراج وفيه: (فأتيت بطست من ذهب ملآن حكمة وإيمانا، فشق من النحر إلى مراق البطن، ثم غسل البطن بماء زمزم، ثم مليء حكمة وإيمانا… الحديث)([2])

وهناك محل ثالث رواه أبو نعيم الأصبهاني، وذكر أنه عند البعثة، وأيده ابن حجر حيث قال: (بل ثلاث مرات، فقد ثبت أيضا عند البعثة كما أخرجه أبو نعيم في الدلائل، ولكل حكمة)([3])

ثم بين الحكم المرتبطة بكل حادثة، فذكر أن الأول كان في زمن الطفولة، لينشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، ثم عند البعث زيادة في إكرامه ليتلقى ما يوحى اليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير، ثم عند الاسراء ليتأهب للمناجاة.

ومن الروايات الواردة في هذا، والتي توضح حقيقة ما جرى ببعض التفصيل ـ بحسب ما يراه أصحاب السنة المذهبية ـ ما رواه أبو نعيم في (دلائل النبوة) عن أبي هريرة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان حريصا أن يسأله عن الذي لا يسأله غيره، فقال: يا رسول الله ما أول ما ابتدئت به من أمر النبوة؟ فقال: إذ سألتني إني لفي صحراء أمشي ابن عشر حجج إذا أنا برجلين فوق رأسي يقول أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم فأخذاني فلصقاني بحلاوة القفا ثم شقا بطني فكان جبريل يختلف بالماء في طست من ذهب وكان ميكائيل يغسل جوفي فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره فإذا صدري فيما أرى مفلوقا لا أجد له وجعا ثم قال: اشقق قلبه فشق قلبي فقال: أخرج الغل والحسد منه فأخرج شبه العلقة فنبذه ثم قال: أدخل الرأفة والرحمة في قلبه فأدخل شيئا كهيئة الفضة، ثم أخرج ذرورا كان معه، فذر عليه، ثم نقر إبهامي، ثم قال: اغد فرجعت بما لم أغد به من رحمتي على الصغير ورقتي على الكبير.

وهذا الحديث عجيب، ومتناقض تماما مع سنة الله تعالى في اختبار عباده.. فإذا كان الغل والحسد والقسوة والغلظة مرتبطين بخلايا أو أنسجة موجودة في الجسم، فلم لا يريح الله عباده منها بإتاحة مثل هذه العمليات لهم؟

فإن قيل: إن التكليف والابتلاء يستلزمان وجود كل ذلك.. فكيف خص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك دون سائر الناس؟ وكيف اعتبره القرآن الكريم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاحب خلق عظيم مع أن الخلق العظيم الذي حصل له لم يبذل فيه أي جهد، ولم يعان في سبيل تحصيله أي عناء، بل الفضل للملائكة الذين طهروره من تلك الأدواء، ووضعوا بدلها الرأفة والرحمة كما ورد في الرواية.

وإذا كان الأمر كما قالوا، فلم ورد في القرآن الكريم التهديدات الشديدة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن لم يلتزم بأوامر الله مثله مثل سائر الناس، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)﴾ [الحاقة: 44 – 47]

وإذا كان الأمر كما قالوا، فلم كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد الناس خشية لله، ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما بال أقوام يتنزهون عن الشئ أصنعه؟ فوالله إني لأعلمهم بالله تعالى، وأشدهم له خشية)([4]).. أم أن تلك الخشية أيضا قد غرست في صدره صلى الله عليه وآله وسلم مع ما غرس من الرأفة والرحمة؟

نطرح هذه الأسئلة وغيرها، ونحن نتألم ألما شديدا أن يتعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمثل هذه الإهانات، وهذا التحقير، بحيث يصبح مغلوبا على أمره، لولا أن ينقذه الله بإخراج حظ الشيطان منه..

ومع تلك العمليات التي يصورها أرباب السنة المذهبية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغية استنقاذه من الشيطان إلا أن الشيطان كان يتسلط عليه ـ كما يروون ـ كل حين، فقد رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن جبريل أتاني، فقال: إن عفريتا من الجن يكيدك، فإذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي)([5])

ورووا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لقد أتاني شيطان فنازعني، ثم نازعني، فأخذت بحلقه، فوالذي بعثني بالحق، ما أرسلته حتى وجدت برد لسانه على يدي، ولولا دعوة سليمان لأصبح طريحا في المسجد)([6])

ورووا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (دخلتُ البيتَ فإذا شيطانٌ خلف البابِ فخنقته حتى وجدتُ برد لسانه على يدي، فلولا دعوةُ العبدِ الصالحِ لأصبحَ مربوطًا يراه الناسُ)([7])

وقد نسي من رووا هذه الأحاديث، وراحوا يشوهون بها شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك الآيات الكثيرة التي يقرر فيها القرآن الكريم أنه لا سلطان للشيطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، كما قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)﴾ [النحل: 98 – 100]

بل يذكر القرآن الكريم على لسان الشيطان نفسه أنه لا يستطيع أن يقترب مجرد الاقتراب من عباد الله المخلصين، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [إبراهيم: 22]

فإذا كان الشيطان لا يستطيع أن يفعل شيئا مع هؤلاء، فكيف يستطيع أن يتصارع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل كيف يستطيع أن يقترب منه مجرد اقتراب مع أن الله تعالى ذكر أنه يخنس من الذين آمنوا بمجرد ذكرهم لله.. وهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغفل عن ذكر الله طرفة عين؟

وهل كان أولئك المخلصين من الصديقين والأنبياء والصالحين أعظم مكانة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث استطاعوا الانفلات منه في نفس الوقت الذي سلط فيه الشيطان عليه؟

بل إن السنة المذهبية تذهب إلى أبعد من ذلك حين تصور أن الشيطان الرجيم يخاف من بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يخاف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، ففي الحديث الذي رواه الترمذي وصححه الألباني عن أبي بريدة عن أبيه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء، فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن كنت نذرت فاضربي، وإلا فلا)، فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها، ثم قعدت عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسا وهي تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف)([8])

وهنا يستبشر أصحاب السنة المذهبية، ويكبرون فرحين مبتهجين بأن الشيطان يخاف من عمر.. وينسون أن عمر والصحابة جميعا، بل كل الدنيا لا تساوي شيئا أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فكيف يخاف الشيطان في مجلس من عمر، ولا يخاف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

وليتركوا الحديث ورواية الترمذي له وتصحيح الألباني، وليعودوا إلى عقولهم قليلا، وليسألوها عن حقيقة الشيطان، وعن دوره في الأرض، ثم عن أكثر الناس ترويعا له ومضادة لمشروعه.. أليس هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

 أليس رسول الله هو المنتدب من العناية الإلهية ليحطم المشروع الذي أقسم الشيطان على أن يفعله ببني آدم ليزج بهم معه في دركات جهنم؟

ولكن أصحاب السنة المذهبية لا يهتمون بالإجابة على هذه التساؤلات لأنها لا تخطر على بالهم أصلا.. وإن سألهم أحد من الناس، فما أسهل أن يجيبوه بما تعودوا أن يجيبوا به مخالفوهم من التبديع والتضليل والتكفير.

والسنة المذهبية لا تكتفي بهذا التشويه والاحتقار لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواجهة الشيطان، بل هي تصور أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد أن عاين ملاك الوحي، ونزل عليه من القرآن الكريم ما نزل بقي في شك من أمره، وهل كان من نزل عليه ملاك أم شيطان، ولولا أن زوجته ـ كما تذكر الرواية ـ احتالت لذلك حيلة، لبقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شكه وريبته.

فقد روى أصحاب السنة المذهبية أن خديجة قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي ابن عم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي نفسي بيده إذا جاءك؟ قال: نعم. قالت: فإذا جاءك فأخبرني به. فجاءه جبريل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا خديجة هذا جبريل قد جاءني فقالت: قم يا بن عمي فاجلس على فخذي اليسرى. فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فجلس عليها، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم. قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى فتحول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فجلس على فخذها اليمنى فقالت: هل تراه؟ قال نعم. فحسرت فألقت خمارها ورسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم جالس في حجرها ثم قالت: هل تراه؟ قال: لا. قالت يا بن عم اثبت وأبشر فواللَّه إنه لملك ما هذا شيطان([9]).

بل رووا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع ما عاينه من أمر الله في غار حراء، بقي في شك من أمره، وخشي أن يكون ما حصل له مسا من الشيطان، لولا أن طمأنه ورقة بن نوفل..

وهكذا تحط السنة المذهبية من قدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتجعله فريسة للشكوك والشياطين لولا أن يخلصه منها بشر من الناس ما نالوا فضلهم إلا برؤيته وصحبته والتعلم على يديه ونيل بركته.

ولم تكتف السنة المذهبية بهذا، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك حين صورت أن الشيطان استطاع بقدراته الخارقة أن يخترق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يقرأ كلام ربه، ليجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينطق بكلام الشيطان بدل كلام ربه.. ولست أدري كيف أطاق ذلك مع أن الله تعالى يذكر في القرآن الكريم أن سلطان الشيطان الوحيد على الإنسان قاصر على الوسوسة.

والرواية التي تذكر هذا هي التي تسمى قصة الغرانيق، وهي التي تلقفها المستشرقون والمبشرون وبنوا عليها جدرا من الأباطيل، والعيب ليس فيهم، ولكن العيب فيمن يدعي أنه ينتمي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يقبل مثل تلك الرواية أو يرويها أو يحاول كل جهده أن ينتصر لها.

ومن أعظم هؤلاء الذين انتصورا لها شيخ إسلام السنة المذهبية ابن تيمية الذي انتصر لها في مواضع كثيرة من كتبه، بطرق مختلفة..

 وقبل أن نذكر كلام ابن تيمية في المسألة، والذي تلقفه تلاميذه كالقرآن الموحى، نذكر الرواية، فعن أبي العالية، قال: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما جلساؤك عبد بني فلان ومولى بني فلان، فلو ذكرت آلهتنا بشيء جالسناك، فإنه يأتيك أشراف العرب فإذا رأوا جلساءك أشراف قومك كان أرغب لهم فيك، قال: فألقى الشيطان في أمنيته، فنزلت هذه الآية: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) قال: فأجرى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وشفاعتهن ترجى، مثلهن لا ينسى؛ قال: فسجد النبي حين قرأها، وسجد معه المسلمون والمشركون؛ فلما علم الذي أجرى على لسانه، كبر ذلك عليه، فأنزل الله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحج: 52]([10])

وكعادة ابن تيمية في مثل هذه المسائل فإنه يبدأها عادة بتهوينها، وذكر الخلاف فيها، ثم ببيان أن السلف الذين هم المتحدث الرسمي باسم الدين يرون رأيا معينا، ثم يجتهد في الانتصار لهم.. ثم يختم ذلك بتبديع وتضليل من خالفهم.. وقد يذكر ذلك التبديع والتضيل في المحل نفسه، وقد يؤجله لمحل آخر..

وسنورد بعض أقواله هنا تاركين للقارئ أن يكتشف المنطق الذي يفكر به أصحاب السنة المذهبية، والصورة التي يحملونها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال ابن تيمية: (النبي هو المنبئ عن الله، والرسول هو الذي أرسله الله تعالى، وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين.. ولكن هل يصدر ما يستدركه الله فينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته؟ هذا فيه قولان: والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك.. والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)، وقالوا: إن هذا لم يثبت، ومن علم أنه ثبت: قال هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم يلفظ به الرسول، ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا، وقالوا في قوله: ﴿إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: 52] هو حديث النفس، وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف فقالوا هذا منقول نقلا ثابتا لا يمكن القدح فيه والقرآن يدل عليه.. فقالوا الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير، والحديث، والقرآن يوافق ذلك فإن نسخ الله لما يلقي الشيطان وإحكامه آياته إنما يكون لرفع ما وقع في آياته، وتمييز الحق من الباطل حتى لا تختلط آياته بغيرها، وجعل ما ألقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم إنما يكون إذا كان ذلك ظاهرا يسمعه الناس لا باطنا في النفس والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ)([11])

وقال في (منهاج السنة النبوية)، أو على الأصح (منهاج السنة المذهبية): (وما جرى في (سورة النجم). من قوله تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجى على المشهور عند السلف والخلف من أن ذلك جرى على لسانه ثم نسخه الله وأبطله)([12])

وقد وافقه على هذا أكثر سلفية العصر، فقد قال سليمان آل شيخ في تيسير العزيز الحميد عن قصة الغرانيق: (وهي قصة مشهورة صحيحة رويت عن ابن عباس من طرق بعضها صحيح ورويت عن جماعة من التابعين بأسانيد صحيحة منهم عروة وسعيد بن جبير وأبو العالية وأبو بكر بن عبدالرحمن وعكرمة والضحاك وقتادة ومحمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس والسدي وغيرهم وذكرها أيضا أهل السير وغيرهم وأصلها في الصحيحين والمقصود منها قوله تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى فإن الغرانيق هي الملائكة على قول وعلى آخر هي الأصنام)([13])


([1])   رواه مسلم.

([2])   رواه البخاري ومسلم.

([3])   فتح الباري لابن حجر (7/ 204)

([4])  رواه البخاري في الأدب المفرد.

([5])   ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان.

([6])   رواه ابن أبي الدنيا.

([7])   رواه الطبراني في (الأوسط)

([8])   رواه الترمذي.

([9])   رواه الطبراني في المعجم الأوسط.

([10])   تفسير الطبري (18/ 664)

([11])   مجموع الفتاوى (10/ 292)

([12])   منهاج السنة النبوية (2/ 409)

([13])   تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد: ص219..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *