رسول الله.. والحياء

رسول الله.. والحياء

ورد في النصوص المقدسة الكثيرة اعتبار الحياء من أمهات الأخلاق، وأركانها، وأنه يستحيل أن يكون الإنسان متخلقا، وهو خال من الحياء..

بل أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الحياء هو الخلق الممثل للإنسان المسلم، فقال: (إن لكلّ دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء)([1])

بل أخبر أنه أثر من آثار الإيمان وعلامة من علاماته، فقال مخاطبا رجلا رآه يعاتب أخاه في الحياء: (دعه فإن الحياء من الإيمان)([2])

بل ذكر صلى الله عليه وآله وسلم أن الحياء منبع لكل خير، ولكل خلق طيب، فقال: (الحياء لا يأتي إلا بخير)([3])

وقد وضح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سر كون الحياء أصلا من الأصول التي تنبع منها جميع الأخلاق الطيبة، فقال ـ موضحا لمن قصر الحياء على مناح معينة ـ: (ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)([4])

ووضح في حديث آخر أسرار تأثير فقدان الحياء في اعتلال الشخصية وانحرافها، فقال: (إن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبدا نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتا ممقتا، فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنا مخونا، فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما ملعنا، فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعنا نزعت منه ربقة الإسلام)([5])

وهكذا نرى من خلال هذه الأحاديث وغيرها قيمة الحياء في الدين، وعلاقته بالإيمان، وعلاقته بكمال الشخصية..

لكنا عندما نعود للقلوب المريضة التي أتيح لها أن تسرب بعض سمومها إلى تراثنا الحديثي نجدها ترسم صورة مختلفة تماما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تتناقض مع هذا الخلق العظيم.. فهي تصوره بصورة الفاحش المتفحش الذي يمارس من السلوكات ما يستحيي منه أبسط الناس وأحقرهم وأبعدهم عن ذلك الكمال الذي آتاه الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن الأمثلة على ذلك الحديث المروي في مناقب عثمان بن عفان.. والذي أراد واضعه من خلاله أن يحبب الناس في عثمان باعتباره من الشخصيات التي وقع حولها التنازع بين مذاهب الأمة وطوائفها، لكنه نسي أن الذي سيضحي به ليثبت به تلك المنقبة هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو أستاذ الأساتذة ومربي الأمة جميعا، بل هو رسول الرسل، وأقرب المقربين إلى الله.

ونص الحديث هو ما رواه مسلم وغيره عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مضطجعا في بيتي، كاشفا عن فخذيه، أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له، وهو على تلك الحال، فتحدث، ثم استأذن عمر، فأذن له، وهو كذلك، فتحدث، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسوى ثيابه – قال محمد: ولا أقول ذلك في يوم واحد – فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك فقال: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)([6])

وقد تلقف أصحاب السنة المذهبية هذا الحديث كما يتلقفون القرآن الكريم، يأبون من يتكلم فيه، ويبررون كل ذلك بأشياء لا قيمة لها أمام قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]

ذلك أنهم إن قالوا: إن ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كشفه لفخذه لم يكن مما يستدعي الحياء، فذلك يجعلهم يتناقضون مع ما ورد في السنن الكثيرة من إثبات كون الفخذ عورة([7]).. وبذلك يكون كشفها حراما.. وبذلك يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تصورهم قد ارتكب حراما.

فإن جادلوا، وقالوا: ومع تلك الأحاديث.. فالأرجح أن الفخذ ليس عورة.. رد عليهم بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر في الحديث بأن كشفها ليس من الحياء.. لأن المستحيي لا يتورع عن الحرام فقط، بل يتورع عن الشبهات، بل حتى عن المباحات التي لا تنسجم مع ما يقتضيه الخلق الطيب.

فإن جادولوا ـ وهذه عادتهم ـ بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خص بذلك عثمان.. رد عليهم بأن الخلق واحد مع الجميع، فلا يمكن لشخص أن يعتبر صادقا، وهو يصدق مع قوم دون قوم.. أو في قضية دون قضية..

فإن جادلوا، وقالوا: ولكن الحديث في صحيح مسلم.. قلنا لهم: صحيح مسلم وصحيح البخاري وكل كتب الدنيا فداء لشعرة من شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فأيهما أعظم لكم أن يرد حديث قد يتوهم راويه أو يخطئ كاتبه، أو تمس كرامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويمس أعظم ميزة فيه صلى الله عليه وآله وسلم وهو أخلاقه العالية التي لا يضاهيها أي كان صحابيا كان أو نبيا أو حتى ملاكا مقربا.. فكيف تتصورون بربكم أن صحابيا ـ لا ترون عصمته ـ يكون أعظم خلقا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

هذا مثال على ذلك.. وليت الأمر توقف على هذا.. بل ربما يكون واضع هذا الحديث وأمثاله يؤسسون نظريا لما هو أخطر وأعظم.. لأنهم إن أودعوا في النفوس بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتوفر له الحياء الذي يتوفر لعثمان.. فإنهم بعد ذلك يمكنهم أن يضعوا من الأحاديث العملية المثبتة لذلك ما يسهل قبوله، خاصة من الذين يقدمون السلف والسنة المذهبية التي جاءوا بها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.

ومن الأمثلة العملية التي نزعوا بها ثوب الحياء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الحديث الخطير الذي يكفي تصور مشهده ليرتعش كل الجسم منه.

ففيه نرى السنة المذهبية، وهي بكامل أمراضها تضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في موقف حرج جدا مناف لكل قيام الحياء والعفاف والنبل، وكل ذلك لتظهر الصحابة في مظهر أكرم وأشرف وأنبل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي كان يتتلمذ على أيديهم، لا هم الذين يتتلمذون على يديه.

ونص الحديث كما رواه الترمذي وصححه الألباني عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا فسمعنا لغطا وصوت صبيان، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا حبشية تزفن والصبيان حولها، فقال: (يا عائشة تعالي فانظري)، فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: (أما شبعت، أما شبعت؟). قالت: فجعلت أقول لا لأنظر منزلتي عنده إذ طلع عمر، قالت: فارفض الناس عنها: قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأنظر إلى شياطين الإنس والجن قد فروا من عمر)، قالت: فرجعت([8]).:

ومع أن تصور هذا الحديث وحده كاف للدلالة على ما نقول.. ولكن مع ذلك نحتاج إلى بعض التوضيحات التي ترسم المشهد، وتقربه من القارئ المعاصر.

والصورة هي أنه كانت هناك جارية.. والظاهر أنها عاقلة بالغة.. بدا لها أن ترقص كما يرقص الحبشة في الشارع.. وأمام الناس.. وكان الصبية يلتفون حولها، وهي بتلك الحالة.. فلمحها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ ونستغفر الله من هذا ـ فأسرع إلى عائشة، وطلب منها أن تحضر مجلس الرقص.. وعندما حضرت وضعت عائشة ـ بحسب الحديث ـ ذقنها على منكب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وأمام الناس.

وبعد مدة طلع عمر فانفض الناس عن الجارية خوفا منه.. مع أنه كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معهم.. ومع ذلك لم يشعروا بشيء..

وليت الأمر توقف عند هذا، إذن لأمكن أن نحتال ببعض المبررات.. لكن المشكلة أن هؤلاء ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما رأى الناس يفرون لحضور عمر قال: (إني لأنظر إلى شياطين الانس والجن قد فروا من عمر)

وهذا عجب عجاب.. وتصور المشهد وحده كاف لضرب كل القيم التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

ولن أجادل هؤلاء كثيرا.. بل أكتفي بأن أطلب منهم فقط أن يحيوا السنة المرتبطة بهذا المشهد.. بأن يحضروا زوجاتهم.. ثم يطلبون منهم أن يشاهدوا عروض الرقص التي يقوم بها الحبشة أو غيرهم.

فإن عز عليهم ذلك، وخافوا على وقارهم، فليكتفوا بأن يحضروا زوجاتهم ـ وأمام الملأ من الناس ـ ويحيوا سنة وضع الزوجة ذقنها على منكب زوجها كما رووا في الحديث..

أم أنهم يرون ذلك خادشا لحيائهم ووقارهم ومروءتهم.. فإن كان كذلك فلم جوزوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نزهوا عنه نفوسهم.

وقد قرأت في فتاواهم الكثيرة ما يدل على حرمة ما هو أقل درجة من الفعل الذي وصفوا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد وجه للشيخ محمد الصالح المنجد في موقعه [الإسلام سؤال وجواب] هذا السؤال: (هل يجوز للزوجين أن يقبض كل منهم على يد الأخر وهم يمشون في الشارع؟)

ومع أن هذا أدنى بكثير من المشهد الذي رسموه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكن مع ذلك كان جواب الشيخ: (يجب على الرجل وامرأته إذا سارا معا في الشارع أن يتحليا بالحشمة ويتصفا بالوقار، وخاصة إذا كانا ملتزمين بأحكام الدين وآداب الإسلام، فإن الناس في العادة يتخذونهما قدوة، وينظرون إليهما نظرة تبجيل واحترام، فلا بد من مراعاة ذلك..)

هذه صورة من الصور التي تستعلي بها السنة المذهبية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه حين تجوز عليه من خوارم المروءة ما تنزه نفسها وسدنتها عنه.

وبمناسبة ذكر السدنة لو أنك قبل أن تورد الحديث ذكرت لهؤلاء أنه قد نشر على النت صورة لابن باز أو العثيمين أو غيرهما من المشايخ، وهو على الحالة التي صور بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاشتد غضبه، وذكر لك أن ذلك كذب، وأن ابن باز أو ابن العثيمين أكبر وأتقى من أن يفعلا هذا.

وبهذه المناسبة أذكر أني في بعض المجالس، حيث كنا نتحدث عن سورة عبس، فذكرت للجالسين، وأكثرهم من أهل السنة المذهبية، أن هناك رواية تنص على أن الذي عبس هو عثمان بن عفان، وليس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقامت قيامة أحدهم، وقال لي: أنت بقولك هذا تطعن في الصحابة.. ونسي أنه بقوله أنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطعن في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لكن السنة المذهبية تجوز الطعن في رسول الله، ولا تجوز انتقاد بعض مواقف أصحابه، مهما كان ذلك الانتقاد لطيفا ومؤدبا.

وليت السنة المذهبية اكتفت بأمثال هذه المشاهد.. بل إنها توغل في رفع الحياء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين تصوره بتلك الصورة التي نهى عنها نهيا شديدا، بل اعتبر فاعلها شيطانا، وهو ما نص عليه الحديث الذي ذكر فيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل المسجد، وفيه نسوة من الأنصار، فوعظهن، وذكرهن، وأمرهن أن يتصدقن، ولو من حليهن، ثم قال: (ألا عست امرأة أن تخبر القوم بما يكون من زوجها إذا خلا بها، ألا هل عسى رجل أن يخبر القوم بما يكون منه إذا خلا بأهله)، فقامت امرأة سفعاء الخدين، فقالت: والله إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلن. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (فلا تفعلوا ذلك، أفلا أنبئكم ما مثل ذلك؟ مثل شيطان لقي شيطانة بالطريق، فوقع بها، والناس ينظرون)([9])

فمع أن أصحاب السنة المذهبية يروون هذا الحديث، ويطبقونه في حياتهم أحسن تطبيق، فلا نرى أحدهم يذكر علاقته بأهله.. لكنهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتجرؤون فيذكرون ما يستحيا من ذكره..

ومن الروايات الورادة في هذا المجال ـ والتي يرتجف الفؤاد من ذكرها وسماعها ـ ما رواه مسلم تحت عنوان (باب: ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه إلى أن يأتي امرأته أو جاريته فيواقعها)

ثم أورد رواية عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى امرأة، فأتى امرأته زينب، وهي تمعس منيئة لها، فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه، فقال: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة، فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه)([10])

وفي رواية أخرى، أو حادثة أخرى ـ كما يذكر أصحاب السنة المذهبية عند تعدد الروايات ـ عن عبد الله بن مسعود قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأة فأعجبته، فأتى سودة وهي تصنع طيبا وعندها نسوة، فأخلينه، فقضى حاجته، ثم قال: (أيما رجل رأى امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن معها مثل الذي معها)([11])

ولست أدري ما أقول تعليقا على هذه الروايات، وهل هي تتعلق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي نعرفه.. والممتلئ بالطهارة والعفة.. ذلك الذي وصف الله تهجده وزهده وعبادته وتقواه.. ذلك الذي أتته الدنيا راغمة، فقال: إليك عني.. ذلك الذي آثر في شبابته إلى كهولته أن يتزوج امرأة تكبره سنا، وكان مع ذلك في أكثر أوقاته متوجها إلى ربه مستغرقا في تلك العوالم الجميلة.. أم أنه شخص آخر مختلف تماما.

وهذا الشخص الذي ألصقوه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غريب جدا، فهو لا يكتفي بأن يستأذن أصحابه من أجل أن يعاشر زوجته.. بل يستأذن النساء أيضا بأن يتركنه مع زوجته لقضاء حاجته.. ثم يعود إليهم، وتعود هي إليهن.. وكأنه لم يحصل شيء.. وكأنه لم يفعل شيئا يجتهد أصحاب الطبع السليم في ستره، ويستحيون من مجرد الإشارة إليه.

وفوق ذلك يرمون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رمى بصره للمرأة الغريبة الأجنبية، فأعجبته.. وهم يريدون بذلك: أثارت شهوته.. لأن الإعجاب المجرد لا يدعو إلى ما ذكروه..

ومن الأمثلة على هذا ما روي أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل، هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل)([12])

فهل يمكن لمن روى هذا، أو نقله، أو لأي مفت في الدنيا أن يذكر لمستفتيه كيف يعاشر أهله؟ وهل هناك ضرورة تدعو إلى ذلك؟

ولكن هؤلاء يجوزون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل ما يتنافى مع المروءة والشهامة والنبل في نفس الوقت الذي ينزهون أنفسهم عنه.

ومن الأمثلة الخطيرة على ذلك ما كرره ابن تيمية مرارا عند تحذيره من صحبة الأحداث والمردان من قوله: (وقد روى الشعبي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن وفد عبد القيس لما قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان فيهم غلام ظاهر الوضاءة أجلسه خلف ظهره؛ وقال: إنما كانت خطيئة داود – عليه السلام – النظر) ([13])

ثم علق عليه بقوله: (هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مزوج بتسع نسوة؛ والوفد قوم صالحون، ولم تكن الفاحشة معروفة في العرب؟)([14])

وقد رواه ـ مع تشدده مع الأحاديث ـ وكأنه حديث صحيح لا مجال لرفضه مع أن الحديث مكذوب موضوع..

وهو دليل على تلك الصورة البشعة التي يحملها دعاة السنة المذهبية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فهل يمكن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الطاهر المطاهر الممتلئ بالقداسة أن يخطر على باله مثل ذلك الشذوذ أصلا..

والأمثلة على ذلك غير ما ذكرت كثيرة، وهي مما يفرح به المبشرون والمستشرقون والمستغربون، وهي كلها مما يورده أصحاب السنة المذهبية من باب تبيين أحكام الشريعة.. فهل أحكام الشريعة تبين بتشويه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبنزع تلك الصورة القدسية عنه لتحل بدلها صورة المراهق الشهواني الذي لا علاقة له بالدين ولا برب العالمين؟

عندما نترك كل هذا الغثاء والدخن الذي جاءت به السنة المذهبية ونذهب إلى السنة النبوية نجد الأمر عكس ذلك تماما، فالقرآن الكريم الذي هو المصدر الأول للسنة النبوية وللتعريف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسنته وسيرته يصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحياء الشديد، وفي موقف كان يمكن أن يكون حازما فيه، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الأحزاب: 53]

تصوروا هذا المشهد الذي يتولى فيه الله سبحانه وتعالى إخبار الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستحيي من إخراجهم بيته بعد سمرهم الطويل عنده.. وكان في إمكانه صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرجهم بأي طريقة.. ولكنه كان حريصا على قلوبهم ومشاعرهم أن تتأذى ولو بما لا يتأذى منه.

ولذلك وصفت السنة النبوية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه كان أشد حياء من العذراء في خدرها([15]).. وأنه صلى الله عليه وآله وسلم لحيائه الشديد، لم يكن يرد سائلا، فعن أنس بن مالك قال: (وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يُسْأل شيئا إلا أعطاه)([16]).

ومما وصف به هند بن أبي هالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء)([17])

وكلنا يعرف قصته صلى الله عليه وآله وسلم مع البردة، والتي رواها سهل بن سعد أنَّ امرأة جاءت بُبِرْدَةٍ منسوجة، فيها حاشيتُها، قال سهل: أتدرون ما البُردةُ؟ قالوا: الشَّمْلةُ؟ قال: نعم، قالت: نَسَجتُها بيدي، فجئتُ لأكْسُوكَها، فأخذها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم محتاجاً إليها، فخرج إلينا وإنها لإزاره، فحسَّنها رجل، فقال: اكسُنِيها يا رسولَ الله، ما أحسنَها! فقال القوم: ما أحسنتَ، لَبِسها النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم محتاجاً إليها، ثم سألتَها، وعلمتَ أنه لا يردُّ سائلاً، قال: إني والله ما سألته لألْبَسها، إنما سأَلته لِتكون كَفني، قال سهل: فكانت كَفَنَهُ)([18])

وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي تصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحقيقي.. رسول الله الذي حاولت السنة المذهبية أن تصوره لنا بصورة أولئك الأجلاف الغلاظ المتوحشين ليتحول المتدين إلى جلف غليظ كمن نراهم من أصحاب السنة المذهبية الذين لم يكتفوا بتشويه أنفسهم، بل شوهوا دين الله، وشوهوا معه رسول الله.


([1])   رواه ابن ماجه.

([2])   رواه البخاري.

([3])   رواه البخاري.

([4])   رواه الترمذي وصححه الحاكم.

([5])   ابن ماجة.

([6])   رواه مسلم.

([7])   ومنها ما روي عن محمد بن عبد الله بن جحش أن النبي a مر على معمر بفناء المسجد محتبيا كاشفا عن طرف فخذه فقال له النبي a: (خمر فخذك يا معمر فإن الفخذ عورة)، رواه أحمد ورواه الطبراني في الكبير، ورجال أحمد ثقات.

([8])   رواه الترمذي.

([9])   مساوئ الأخلاق للخرائطي (ص: 199).

([10])   رواه مسلم.

([11])   رواه الدارامي (2/196) و البيهقي في الشعب (4/367)

([12])   رواه مسلم.

([13])  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 203)

([14])  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 203)

([15])   رواه البخاري و مسلم.

([16])   رواه أبو داود.

([17])   رواه الترمذي في الشمائل.

([18])   رواه البخاري.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *