رسول الله.. والحكمة

رسول الله.. والحكمة

من أبرز خصائص الرسل عليهم الصلاة والسلام، وكل من يتولى الوساطة بين الله وعباده [الحكمة]، وهي تعني وضع الأمور في مواضعها الصحيحة: إما بإرشاد مباشر من الله تعالى ويسمى ذلك إلهاما ووحيا، وإما لذلك الصفاء والقدسية التي تتسم بها روح المصطفى وقلبه ونفسه وكل لطائفه.

فلذلك تكون قدرات الرسول الإدراكية أكبر بكثير من قدرات غيره من الذين لم يؤتوا مثلما أوتي من الصفاء والقدسية.

ذلك أن الذكاء والذاكرة وحدة الذهن ودقة الملاحظة واستبصار العواقب وغير ذلك مما تحتاج إليه الحكمة لا يكون لامرئ إلا بسبب ما في قابليته من الصفاء والطهارة والهمة.

وانطلاقا من هذا فإن كل ما يناقض هذه الصفات مستحيل على الرسل عليهم الصلاة والسلام.. فيستحيل على الرسول أن يكون أبله أو غبيا أو مغفلا أو غير ذلك من النقائص التي يتبين من خلالها نقص جوهره، وضعف إدراكه.

والاستدلال العقلي على هذا بسيط جدا.. ذلك أن الذي استطاع أن يعاين الملكوت لن يعجز عن معاينة الملك، ومن استطاع أن يتواصل مع عالم الغيب لن يعجز عن التواصل مع عالم شهاده.

أو بعبارة أخرى من استطاع أن تمتد عيناه للأفلاك العليا، فيرى من أسرارها ما لا يراه غيره لن يعجز أن يبصر ما هو أمامه.

أو بتقريب آخر للمعاصرين: من استطاع أن يحل أعقد المسائل الرياضية لن يعجز عن حل مسألة جمع أو طرح أو ضرب.

وما دل عليه العقل في حق هؤلاء الكمل، دل عليه النقل كذلك.

فقد أخبر الله تعالى عن الذكاء الذي آتاه لرسله عليهم الصلاة والسلام:

ومن الأمثلة على ذلك ما قصه علينا من قصة داود وسليمان وحكمهما في الحرث، كما قال تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: 78، 79]

وهكذا أخبر الله تعالى عن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنهم أوتوا علما وحكمة.. لأنه لا يمكن للرسول أن يؤدي وظيفته الخطيرة وهو خال من العلم والحكمة.

بل أخبر الله تعالى أن الحكمة ليست خاصة بالرسل عليهم الصلاة والسلام، حيث ذكر عن لقمان عليه السلام أنه كان حكيما، وأنه بسبب حكمته عرف كيف يوجه ولده، وكيف يربيه، وكيف يعمق فيه المعاني الإيمانية.

وهكذا أخبر أنه ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: 269]

ويستحيل أن يؤتي الله الحكمة لأفراد خلقه ممن لم يكلفوا بمثل تلك الوظيفة العظيمة التي كلف بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يحرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها.

ذلك أن سيادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بني آدم ـ كما ورد في الحديث ـ تقتضي تقدمه عليهم في كل الفضائل.. وأهم تلك الفضائل العلم والحكمة.

وقد أشار إلى الحكمة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ﴾ [الإسراء: 39]

وهذا يدل على أن حكمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليست ذكاء مجردا، ولا عبقرية بشرية محدودة، بل هي حكمة مسددة من الملأ الأعلى متواصلة تواصلا دائما معها.

ولذلك يستحيل على من هذا حاله أن يحتاج إلى غيره في مشورة قبل العمل، ولا في تعقيب عليه وتصحيح له بعد العمل.

وقد أشار إلى هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم عن الشورى: (أما إنَّ الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غيًّا)([1])

وهذا يصدق ما ورد في القرآن الكريم عندما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم باستشارة أصحابه، فقد جعلها من مقتضيات رحمته بهم، وتأليفه لقلوبهم، كما قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159]

ومثل ذلك مثل الأستاذ الذي يتيح لطلبته أن يدلوا بآراهم في مسألة من المسائل، ثم يظهر عجبه من عبقريتهم وذكائهم، وإن كان هو نفسه يعلم بذلك مسبقا.. ولكن رحمته بهم تجعله ينهج ذلك المنهج.

وقد ورد مثل هذا في شمائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد وصفه هند بن أبي هالة بقوله: (يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق)([2])

وقريب منه ما وصف به أنس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قال: (كان إذا لقيه أحد من أصحابه فتناول أذنه، ناوله إياها، ثم لم ينزعها حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها عنه)([3])

وقريب من ذلك أيضا ما ورد النصوص في القرآن الكريم من عتاب الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو عتاب المحب لمحبه، فعندما التأمل في مواردها نجدها جميعا تنبعث من رحمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمن يرى أنه أمر بأن يؤلف قلوبهم.

ولذلك فإن عتاب الله لنبيه في تلك المواضع ليس عتابا حقيقيا، وإنما هو من باب [إياك أعني واسمعي يا جارة]

وكمثال تقريبي له أن يقول الولد لمعلم ابنه: لم لم تعاقبه عندما أخطأ.. ولم لنت له مع أنه كان في إمكانك أن تعاقبه؟ وهو لا يقصد بذلك عتاب المعلم، وإنما يقصد توجيه اللوم لابنه وتربيته من خلال ذلك.

وعلى مثل هذا يفسر قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التحريم: 1]، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يشعر أنه مأمور بأن يحسن لزوجاته، وأن يعطي المثل للمؤمنين في الرفق بهن مهما أسأن التصرف معه، ولذلك كان يسعى في مرضاتهن، لا لأجلهن، وإنما لأجل تحقيق عبودية الله في التعامل معهن، ولهذا نبهه الله، أو نبههن بطريق غير مباشر إلى أن يراعين حسن العشرة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولهذا جاء بعد تلك الآيات ذلك التهديد الشديد لنساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن أسأن العشرة معه، قال تعالى: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)﴾ [التحريم: 4، 5]

ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [التوبة: 43]، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصفاء روحه، ورحمته ورأفته يقبل كل من اعتذر له حتى لو كان يعلم كذبه حرصا عليه ورحمة به، فنبهه الله أو نبههم إلى أن إذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينفع إلا الصادقين.

ومثل هذا أيضا تلك الرحمة التي كان يبديها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع المنافقين، والتي تصور البعض أنه كان مخطئا فيها حتى جاء من جاء ليصحح له خطأه.

ونفس الأمر يقال في كل كل ما ورد في الروايات من استشارته صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه، فلم تكن عن نقص حكمة، ولا عن حاجته لهم، وإنما كان تأليفا لقلوبهم وتربية لهم.

هذا ما يدل عليه العقل والنقل.. لكن السنة المذهبية نظرت إلى ذلك نظرة أخرى جردت فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كل معاني الحكمة والذكاء والبصيرة، وجعلته عاجزا ينتظر ما يقرره أصحابه.. بل أوقفته في بعض الأحيان مواقف ضعف شديد لتبرز من خلال تلك المواقف قدرة الصحابة وذكاءهم وحكمتهم وأن الله اصطفاهم لرسوله وأنه لولاهم لنزل به العذب، ولأخرج من ديوان النبوة.

والأمثلة على ذلك أكثر من أن نحصيها في هذا المحل.. لكنا سنتكفي ببعضها، ونحن نستغفر من تلك الجرأة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأولها ما سبق أن ذكرناه مما يسمونه موافقات عمر، والتي ألفت فيها الكتب التي حاول أصحابها ـ من أجل إعطاء المزيد من القدسية للصحابة ـ أن يعتبروا عمر هو صاحب الفضل في تلك الأحكام الإلهية.. وهو ما يعطي بعد ذلك ذريعة لكل مشكك في أن يعتبر عمر ممن أسسوا هذا الدين، وممن وضعوا بعض الأحكام المرتبطة به..

فمن تلك الموافقات: الصلاة عند مقام إبراهيم، والتي ورد بشأنها قوله تعالى: ﴿وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾(البقرة: 125)

ومنها دعوته للحجاب، والذي نزل في شأنه قوله تعالى:﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ﴾ (الأحزاب: 53)

ومنها قوله لأمهات المؤمنين: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ….﴾ (التحريم: 5)، فنزلت كما قال.

ومنها ما ورد في تحريم الخمر في عدة آيات، كقوله تعالى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ (اليقرة: 219)، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾ (النساء: 43)، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾(المائدة: 90)

ومنها ما ورد في سورة المؤمنون من قوله تعالى: ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾(المؤمنون: 14)

ومنها الصلاة على المنافقين عند موتهم في واقعة موت عبد الله ابن أبي ابن سلول ونزول قول الله تعالى: ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ﴾(التوبة: 84)

ومنها الإستغفار للمنافقين، قال تعالى: ﴿سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾(المنافقون: 6)

ومنها واقعة الإفك في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾(النور: 16)

ومنها مسألة معاشرة الصائم لزوجته، وقول الله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ…. ﴾ (البقرة: 187)

ومنها واقعة اليهود وعداوة جبريل وقول الله تعالى: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾(البقرة: 97)

ومنها واقعة قتل عمر لمن رفض حكم رسول الله حيث قال تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾(النساء: 65)

ومنها واقعة الإستئذان في الدخول وقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾(النور: 27)،

ومنها حكمه في أسارى بدر، فنزلت كما ذكر:﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ… ﴾ (الأنفال: 67)

وفي هذا المقام يذكر الخطباء والوعاظ كثيرا، وببعض التباهي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين نزلت هذه الآية:﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ (الأنفال: 67) قال: (لو نزلت نار من السماء لأحرقتنا إلا عمر)([4])

وكعادة الخطباء فإنهم يمططون هذه القصة، ويضيفون إليها بعض التوابل ليخرج الناس منبهرين بعبقرية عمر وذكائه وحكمته، وينسوا أنهم خرجوا أيضا وقد بنوا كل ذلك البنيان على حساب تقديرهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولكن أصحاب السنة المذهبية لا يهمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقدر ما يهمهم عمر.

ونحن لا يهمنا أن يقدروا عمر أو غيره من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم.. ولكن لا على حساب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فنحن مأمورون بالتأسي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه وتعزيرة وتوقيره.. ولسنا مأمورين بفعل ذلك مع غيره.

ومن الأمثلة على هذا، والمرتبطة كذلك بعمر ما وقع فيما اصطلح عليه المحدثون برزية الخميس، وهي حادثة خطيرة، جعلت ابن عباس ـ كما ورد في الحديث الصحيح ـ كلما ذكرها يشعر بالألم والحزن، ويقول: (يوم الخميس، وما يوم الخميس؟)، ثم يبكى حتى يبل دمعه الحصى([5]).

وسنورد الرواية هنا، ثم نبين مواقف أهل السنة المذهبية منها، والرواية هي ـ حسب ما ورد في صحيح البخاري عن ابن عباس ـ قال: (لما حضر رسول الله، وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده)، فقال عمر: (إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله)، فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو، والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قوموا)، قال عبيد الله: (راوي الحديث عن ابن عباس، وهو ابنه): فكان ابن عباس يقول: (إن الرزية كل الرزية، ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم، ولغطهم)([6])

بعد إيرادنا لهذ الحديث الخطير لا يعنينا هنا البحث عمن رمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالهجر الذي يعني الخرف والهذيان وعدم العقل..

ولا يعنينا كذلك البحث عن الوصية التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يود أن يبلغها أمته، لأن ذلك في كل الأحوال يبقى غيبا مخزونا نتأسف عليه ونحزن حزنا شديدا، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أنهم لو طبقوا ما في ذلك الكتاب لم يضلوا أبدا..

ولا يعنينا تلك المقولة الخطيرة (حسبنا كتاب الله)، والتي تعني الاكتفاء بالكتاب عن السنة، وهو ما أشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (يوشك الرجل متكئا في أريكته، يحدث بحديث من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله)([7])

وإنما الذي يعنينا هنا هو ذلك الموقف المخجل من شراح الحديث، والذين راحوا من أجل تبرئة ساحة من حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين كتابة وصيته الأخيرة، يتهمون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لم يكن أهلا في ذلك الحين لإملاء الوصية.

ومن أمثلة ذلك ما قاله المازري عن هذه الحادثةـ فقد قال: (إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك، لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه أي من كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم، بل على الاختيار، فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك عن غير قصد جازم، وعزمه صلى الله عليه وآله وسلم كان إما بالوحي وإما بالاجتهاد، وكذلك تركه إن كان بالوحي فبالوحي وإلا فبالاجتهاد أيضاً..)([8])

وما قاله عجيب جدا، فكيف يقال لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يكن على سبيل الحتم واللزوم، وقد ورد في القرآن الكريم التشديد على إجابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مطلقا، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24]، بل حذر بعدها من الفتنة التي قد تنجر من عدم إجابته، فقال: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25]

ثم كيف يقال بأن ذلك الأمر لم يكن على سبيل الحتم واللزوم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم مبينا أهميته وخطره: (هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده)، فهل هناك شيء أهم من عدم الضلال.. بل عدم الضلال الأبدي.

لكن غلبة المعايير التي وضعها أهل السنة المذهبية تعمي وتصم، لأنها تجعل صاحبها يؤول كل شيء في سبيل تلك المعايير التي يقدسها أكثر مما يقدس رسوله.

وقريب مما ذكره المازري ما ذكره البيهقي في (دلائل النبوة) عندما قال: (إنما قصد عمر التخفيف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين غلبه الوجع، ولو كان مراده صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره لقوله تعالى ﴿ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: 67] كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه، وكما أمر في ذلك الحال بإخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك مما ذكره في الحديث)([9])

وما ذكره البيهقي لا يقل غرابة عما ذكره المازري، لأنه يتنافى مع ما ورد في الحديث من الاهتمام بالوصية، أما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للكتابة، فليس تقصيرا منه صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما يفسر الأمر فيها كما يفسر سكوته عن تحديد ليلة القدر بعدما حصل التنازع.

ففي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت قال: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليخبرنا ليلة القدر فتلاحى (أي تخاصم وتنازع) رجلان من المسلمين، فقال: (خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرُفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)([10])

وهكذا كان التنازع سببا في الحرمان من تحديد ليلة القدر.. لأنها نعمة كبرى.. فلما لم يقدروها حق قدرها حرموا من ذلك.. وهكذا كان حرمانهم من تلك الوصية العظيمة بسبب التنازع.. لأنه حصل له علم صلى الله عليه وآله وسلم بأن هؤلاء الذين اجترأوا على التنازع بين يديه لن يصعب عليهم أن يمزقوا وصيته أو يؤولوها أو يفعلوا بها أي شيء.

ولا يقل عما ذكره المازري والبيهقي من التأويل ما ذكره القرطبي حين قال: (ائتوني أمر، وكان حق المأمور أن يبادر للامتثال، لكن ظهر لعمر رضي الله عنه مع طائفة أنه ليس على الوجوب، وأنه من باب الإرشاد للأصلح، فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة مع استحضارهم لقوله تعالى ﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء ﴾ وقوله تعالى ﴿ تبياناً لكل شيء ﴾ ولهذا قال عمر: حسبنا كتاب الله، وظهر لطائفة أخرى أن الأولى أن يكتب لما فيه من زيادة الإيضاح، ودل أمره لهم بالقيام على أن أمره الأول كان على الاختيار، ولهذا عاش صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك أياماً ولم يعاود أمرهم بذلك، ولو كان واجباً لم يتركه لاختلافهم، لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف، وقد كان الصحابة يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجزم بالأمر فإذا عزم امتثلوا)([11])

أما النووي فقد نقل إجماع الشراح على أن الحكمة كانت مع عمر وغيره من الصحابة الذين منعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الكتابة، فقال: (أما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره، لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وآله وسلم أموراً ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا محالة للاجتهاد فيها، فقال عمر: حسبنا كتاب الله لقوله تعالى ﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء ﴾ وقوله تعالى ﴿ اليوم أكملت لكم دينكم ﴾ فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأمن الضلالة على الأمة وأراد الترفيه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه)([12])

 أما شيخ الإسلام البشري، وإماما السنة المذهبية ابن تيمية، فقد استطاع بذكائه اللامحدود، وبحكمته اللانهائية أن يكتشف ما في ذلك الكتاب الذي لم يمله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال ـ بكل جرأة ـ: (الذي وقع في مرضه كان من أهون الأشياء وأبينها، وقد ثبت في الصحيح أنّه قال لعائشة في مرضه: (ادعي لي أباك وأخاك حتّى أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه الناس من بعدي)، ثم قال: يأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر، فلمّا كان يوم الخميس همَّ أن يكتب كتاباً فقال عمر: ماله أهجر؟ فشّك عمر هل هذا القول من هجر الحمى؟ أو هو ممّا يقول على عادته؟ فخاف عمر أن يكون من هجر الحمى، فكان هذا ممّا خفى على عمر، كما خفى عليه موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل أنكره، ثمّ قال بعضهم: هاتوا كتاباً، وقال بعضهم: لا تأتوا بكتاب، فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الكتاب في هذا الوقت لم يبق فيه فائدة ؛ لأنّهم يشكون هل أملاه مع تغيره بالمرض أم مع سلامته من ذلك، فلا يرفع النزاع، فتركه، ولم تكن كتابة الكتاب ممّا أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلغه في ذلك الوقت ؛ إذ لو كان كذلك لما ترك صلى الله عليه وآله وسلم ما أمره الله به، لكن ذلك ممّا رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر، ورأى أن الخلاف لا بدّ أن يقع، وقد سأل ربّه لأمّته ثلاثاً فأعطاه اثنتين، ومنعه واحدة، سأله أن لا يهلكهم بسنة عامة، فأعطاه إياها، وسأله أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم، فأعطاه إياها، وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعه إياها، وهذا ثبت في الصحيح) ([13])

ثم قال معقبا على قول ابن ابن عباس: (الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب الكتاب): (فإنّها رزية أي مصيبة في حقّ الذين شكوا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وطعنوا فيها، وابن عباس قال ذلك لمّا ظهر أهل الأهواء من الخوارج والروافض ونحوهم، وإلّا فابن عباس كان يفتي بما في كتاب الله، فإن فلم يجد في كتاب الله فبما في سنّة رسول الله، فإن لم يجد في سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبما أفتى أبو بكر وعمر، ثمّ إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترك كتابة الكتاب باختياره، فلم يكن في ذلك نزاع، ولو استّمر على إرادة الكتاب ما قدر أحد أن يمنعه)([14])

هذا هو موقف أهل السنة المذهبية من كتابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لوصيته في مرض موته، ولكن موقفهم يختلف تماما مع أصحابه الذين أحلوهم من المنزلة ما لم يحلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل أجازوا لهم ما لم يجيزوا له..

ولهذا نرى أهل هذه السنة يذكرون بإعجاب موقف أبي بكر في مرض موته عند وصيته لعمر، ويعتبرون ذلك من حرص أبي بكر على الأمة من بعده، ورحمته بها، مع أن الحالة التي أملى فيها أبو بكر وصيته أخطر من الحالة التي كان فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقد روى الطبري في تاريخه، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وابن سعد في الطبقات، وابن حبّان في الثقات: (دعا أبو بكر عثمان خالياً فقال له: أكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين: أمّا بعد.. قال: ثمّ أغمي عليه، فذهب عنه، فكتب عثمان: أمّا بعد: فإنّي قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، ولم آلكم خيراً منه. ثمّ أفاق أبو بكر فقال: أقرأ عليًَّ. فقرأ عليه، فكبّر أبو بكر وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن أفتتلت نفسي في غشيتي! قال: نعم! قال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله. وأقرها أبو بكر رضي الله عنه من هذا الموضع)([15])

وهكذا نجدهم يروون عن أم المؤمنين عائشة قولها مخاطبه عبدالله بن عمر: (يا بني أبلغ عمر سلامي وقل له: لا تدع أمة محمد بلا راع، استخلف‌ عليهم، ولا تدعهم بعدك هملاً، فإني أخشى عليهم الفتنة)([16])


([1])   رواه ابن عدي والبيهقي في الشعب.

([2])   شمائل الترمذي.

([3])   رواه ابن سعد.

([4])   ذكر القصة الطبري وابن كثير والقرطبي وابن العربي والماوردي وغيرهم.

([5])   رواه البخاري ومسلم.

([6])   رواه البخاري.

([7])   رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة …

([8])   كما نقله الحافظ في الفتح (7/740).

([9])   نقله عنه النووي في شرح مسلم (11/132).

([10])   رواه البخاري.

([11])   نقله ابن حجر في الفتح 1/252).

([12])   النووي في شرح مسلم ( 11/132).

([13])   منهاج السنة (6/315-318).

([14])   منهاج السنة (6/315-318).

([15])   تاريخ الطبري 2: 618. تاريخ مدينة دمشق 3: 411. الطبقات الكبرى 3: 200. الثقات 2: 192..

([16])   الاِمامة والسياسة: 1 | 28..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *