رابعا ـ التقوى

قام الحكيم الرابع بين الصفين، وقال: لقد حدثكم أصحابي عن العبودية والإسلام والتسليم.. وأنا سأحدثكم عن قيمة من القيم العظيمة التي لا يمكن تذوق الإيمان، ولا تحققه من دونها.. لا شك أنكم تعرفونها.. إنها تلك التي علق الله الانتفاع بالقرآن الكريم، والفوز بهدايته عليها.
قال رجل من القوم: لا شك أنك تقصد التقوى، فهي التي قال الله تعالى في شأنها: { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1]
قال الحكيم: أجل.. وقد ربط الله تعالى معيته بأهلها، فقال: {وَاتَّقُواْ الله وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله مَعَ الْـمُتَّقِينَ } [البقرة:194] وقال: {إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل:128]..
وهي التي أعد الله المكانة الرفيعة لأهلها، فقال: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْـحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [البقرة:212]، قال: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } [آل عمران:15]، وقال: {تِلْكَ الْـجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا } [مريم:63]..
وهي التي وعد الله أهلها بأن يكشف لهم من أنوار الحقائق ما يزيل به عن عيونهم عمش الضلالة، فقال: {وَاتَّقُواْ الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة:282]
قام رجل من القوم، وقال: أراك تريد أن تخطب علينا خطبة عن التقوى.. فوفر عن نفسك عناء ذلك.. فنحن نحفظ كل ما ورد حولها في القرآن الكريم والسنة المطهرة.. ونضم إلى ذلك ما قاله أعلامنا الأعلام ممن لم تسمع به أنت ولا أمثالك.
فنحن نعلم أن الجنة تسعى وتتقرب للمتقين، كما قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْـجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء:90]، وقال: { وَأُزْلِفَتِ الْـجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } [ق:31]
ونعلم أن المتقين لهم في الجنة غرف مبنية من فوقها غرف، يُرى ظاهِرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، كما وعد الله تعالى بذلك، فقال: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَـهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ الله لا يُخْلِفُ الله الْـمِيعَادَ } [الزمر:20] وقال:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْـجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } [العنكبوت:58]
ونعلم أن المتقين لا يمسّهم العذاب، قال تعالى: {وَيُنَجِّي الله الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتـِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [الزمر:61]
ونعلم فوق ذلك كله أن أشرف جائزة ينالها المتقون هي محبة الله لهم، كما قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ الله يُحِبُّ الْـمُتَّقِينَ } [آل عمران:76]
قال الحكيم: بورك فيك.. وفي حفظك للقرآن الكريم، وفهمك له.. فهلم أجبني عن حقيقة التقوى.. وكيف نسير بها في حياتنا لننال كل تلك الأجور المعدة لأهلها؟
قال الرجل: ذلك من أوضح الواضحات.. فقد بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة التقوى، ومنهج التحقق بها، فقال: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينها أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا ولكل ملك حمى، إلا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)([1])
فهذا الحديث الشريف يبين حقيقة التقوى، وهي توقي الحرام والشبهات وكل ما يؤدي إليهما.. ويبين أن التحقق بذلك كله متوقف على صلاح القلب.
قال الحكيم: بورك فيك.. وفي فهمك عن نبيك.. فحدثني عن كيفية تحقيق ذلك في الواقع.. وهل يمكننا أن نقدم على أمر دون أن نعلم حكم الله فيه؟
قال الرجل: تلك هي الضلالة بعينها، فالتقوى تستدعي تقديم الله ورسوله.. وألا نفعل شيئا قبل أن نعلم حكم الله فيه.. كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الحجرات: 1]، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]
قال الحكيم: فهيا بنا نطبق ذلك على ما أنتم فيه.. فهل ترون أن التقوى تدعوكم لقتل بعضكم بعضا؟
قام رجل، وسل سيفه، وهو يقول: أجل.. فلولا التقوى ما خرجنا من ديارنا، فقد سمعنا أن هؤلاء حرفوا ديننا، وابتدعوا فيه بدعا عظيمة.. ونحن ما خرجنا إلا لقتالهم لنقتل معهم بدعهم وضلالاتهم.
قال الحكيم: فهل عرضتم هذا على الله ورسوله قبل أن تقدموا عليه؟
قال الرجل: أجل.. لقد عرضناه.. وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الحكيم: لكن هذا الحديث يتوعد صاحب البدعة بالنار.. ولم يتوعده بالقتل.. فكيف تريد أن تجمع له العقوبتين؟
سكت الرجل، فقال الحكيم: أخبروني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل قتل المبتدعة الذين عاشوا في زمانه.
قال الرجل: لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبتدعة.. ولذلك ترك الحكم في حقهم للاجتهاد.. وقد نص علماؤنا الثقاة على قتل المبتدعة، بل دعونا إلى جز رؤوسهم ورميها في المزابل.
قال الحكيم: ألم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منافقين؟
قال الرجل: بلى.. لقد كان هناك منافقون، وقد حدثنا القرآن الكريم عن أخبارهم.
قال الحكيم: فهل كان هؤلاء المنافقون معروفين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أم كانوا متسترين مجهولين؟
قال الرجل: بل كانوا معروفين.. وكان أكثرهم يجهر بنفاقه، ولا يسر به كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [المنافقون: 5 – 8]
قال الحكيم: فماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع من جهر بهذا، وراح يثير بين المسلمين الفتنة بسببه.. هل استتابهم، أو قتلهم؟
سكت الرجل، فقال الحكيم: ألم تكن أقوالهم تلك أخطر من كل بدعة وضلالة وقع فيها من تحاربونهم؟
قال الرجل: لا.. هؤلاء أشد خطرا.
قال الحكيم: فهم إذن سينزلون يوم القيامة أسفل من درك المنافقين.
قال الرجل: ويلك.. أتريد أن تكذب كتاب الله.. لقد أخبر الله تعالى أن درك المنافقين هو أسفل الدركات.. وليس دونه أي درك آخر.. قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } [النساء: 145]
قال الحكيم: بورك فيك.. لكني تمنيت لو قرأت الآيات التي تليها.. أم أنك لا تحفظها؟
قال الرجل: بلى أحفظها عن ظهر قلب، وبالقراءات العشر.. فقد قال تعالى بعد تلك الآية: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146]
قال الحكيم: فهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن نزلت عليه هذه الآيات يجمعهم ليستتيبهم.. أم يترك ذلك لهم؟
قال الرجل: ما حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه استتاب أحدا من المنافقين..
قال الحكيم: وهل يمكن لشخص أن يتوب تحت الضغط.. إنه سيمارس نفاقا جديدا يغطي به النفاق القديم؟
رمى بعض القوم سيفه، وقال: بورك فيك أيها الحكيم.. لقد تذكرت لتوي ما رواه ابن هشام فى تأريخه لغزوة (أحد)، فقد ذكر أن جيش المسلمين اجتاز حديقة لأحد المنافقين، وكان أعمى، فقام يحثى التراب فى وجوه المسلمين، ويقول للنبى صلى الله عليه وآله وسلم: (إن كنت رسول الله فإنى لا أحل لك أن تدخل حائطى (أى بستانى)، وأخذ حفنة من تراب فى يده، وقال: (والله لو أعلم أنى لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك)، فابتدره القوم، فقال لهم النبى صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقتلوه.. ويشهد الله أن الذين نحاربهم ما قالوا مثل هذا، ولا دونه.. بل إنهم يعظمون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويجلونه ويفدونه بأرواحهم وأنفسهم.. فكيف تجرأنا على سل سيوفنا عليهم، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلمعن سلف السيف على من سبه وآذاه.. أفنحن أتقى لله من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
رمى آخر سيفه، وقال: بورك فيك أيها الحكيم.. لقد تذكرت لتوي كيف تعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع عبد الله بن أبى بن أبى سلول زعيم المنافقين، مع أنه قال تهديدا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أما والله إن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)، وقال غير ذلك كثير.. لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتله.. ولم يعاقبه.. بل كان يقول مخاطبا من يريد قتله: (كيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟)
وفوق ذلك كله، ورغم تاريخه الطويل في النفاق إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يزوره كل حين في مرض موته رجاء أن يسلم.. وقد روي أنه دخل عليه، فقال له: (قَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ حُبِّ يَهُودَ)، فقال عبد الله بن أُبي معاندا إلى آخر لحظة: (قد أبغضهم أسعد بن زرارة، فما نفعه؟)
بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم عندما مات صلى عليه، وكان يصلي على المنافقين حتى نزل قوله تعالى ينهاه عن ذلك: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]
وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لمن طلب منه عدم الصلاة عليه: (إنى قد خُيرت فاخترت، قد قيل لى: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم. فلو أعلم أنى زدت على السبعين غفر له لزدت، ثم صلى عليه النبى ومشى فى جنازته حتى قام على قبره، فنزل قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلّ عَلَىَ أَحَدٍ مّنْهُم مّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ}..فما صلى بعدها على منافق.
رمى آخر سيفه، وقال: بورك فيك أيها الحكيم.. لقد تذكرت لتوي ما رواه ابن هشام من أن بعض المنافقين استهزأ بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم حين خرج بالجيش لمواجهة الروم فى غزوة تبوك وتوقعوا أن يأسر الروم الرسول والمسلمين وعرف النبى صلى الله عليه وآله وسلم بمقالتهم، فجاءوا إليه يعتذرون، ويقولون: يا رسول الله كنا نخوض ونلعب، فنزل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } [التوبة: 65]، ولم يتعرض لهم النبى صلى الله عليه وآله وسلم.
رمى آخر سيفه، وقال: بورك فيك أيها الحكيم.. لقد تذكرت لتوي ما رواه المؤلفون في أسباب النزول من أن نفرا من المنافقين اجتمعوا، وأخذوا يسبون النبى صلى الله عليه وآله وسلم وعندهم غلام من الأنصار اسمه عامر بن قيس، فقالوا: لئن كان ما يقول محمد حقاً لنحن أشر من الحمير، فأتى عامر للنبى صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فاستدعاهم وسألهم فحلفوا له أن عامراً كاذب، وحلف عامر أنهم كاذبون وقال: (اللهم لا تفرق بيننا حتى تبين صدق الصادق من كذب الكاذب)، فنزل قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61]، ومع ذلك.. ومع عظم مقولتهم إلا أنه لم يفعل لهم شيئا.. بل تركهم بين قومهم يسرحون ويمرحون.
رمى آخر سيفه، وقال: بورك فيك أيها الحكيم.. لقد تذكرت لتوي ما روي أنه خرج بعض المنافقين مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى غزوة تبوك فكانوا إذا خلوا إلى بعضهم سبوا الرسول وطعنوا فى الدين، فنقل ما قاله حذيفة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم النبى صلى الله عليه وآله وسلم: ما هذا الذى بلغنى عنكم؟ فحلفوا ما قالوا شيئاً.. فنزل قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } [التوبة: 74]
بل روى النيسابورى في قوله تعالى: {وَهَمّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} أن بعضهم تآمر على قتل النبى صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة.. ومع ذلك كله لم يفعل لهم شيئا.
رمى آخر سيفه، وقال: بورك فيك أيها الحكيم.. لقد تذكرت لتوي ما رواه النيسابورى من روايات فى سبب نزول قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94]، ومنها أنها نزلت فى معركة انهزم فيها المشركون، وهرب منهم رجل فتبعه رجل من المسلمين، فلما غشيه بالسلاح قال الهارب: إنى مسلم إنى مسلم، فكذبه وقتله وأخذ متاعه فقال له النبى صلى الله عليه وآله وسلم: قتلته بعد ما زعم أنه مسلم، فقال: يا رسول الله إنما قالها متعوذاً من القتل، فقال له الرسول: (فهلا شققت عن قلبه، فتنظر أصادق هو أم كاذب؟!)([2])
رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد ذكرتموني بحدث عظيم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا أراه منطبقا على أحد من الناس كانطباقه علينا.. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)([3])
ثم أخذ يبكي بشدة، ويقول: ويلي.. ويل نفسي.. ماذا فعلت بها.. إن كان هذا الرجل الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد شتم شخصا واحدا.. أو أشخاصا معدودين، فأنا شتمت ملايير الأشخاص.. وإن كان قد سفك دم واحد.. فأنا كنت أفتي بسفك دم ملايير البشر.. ويلي ماذا أفعل لهم.. وما هي الحسنات التي تكفيهم إن خاصموني عند ربهم.. وويل لي من سيئاتهم إن صبت علي.
رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد ذكرتموني بحديث خطير لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه مخاطبا أصحابه:: (أتدرون ما الغيبة؟) قالوا: اللّه ورسوله أعلم. قال: (ذكرك أخاك بما يكره) قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته. وإن لم يكن فيه فقد بهتّه)([4])
وأنا وأصحابي لم نقع في الغيبة فقط، بل كنا نمارس البهتان وشهادة الزور بكل ألوانها.. لقد كان مشايخ السوء يلقنوننا كل حين جواز الكذب على المخالفين لتفير الناس عنهم.. وقد قال لنا بعضهم: مما اتفق عليه جميع أعلامنا الكبار، وأصدروا فيه الفتاوى الكثيرة، جواز استعمال جميع ألوان الحيل والخدعة مع المخالفين، ذلك أن الحرب خدعة.. وقد جرى على هذا المنهج كبار علمائنا كشيخ الإسلام ابن تيمية الذي استعمل هذا مع جميع المبتدعة المخالفين، حتى أنه كان يضعف الحديث الصحيح إذا رأى المبتدعة يستعملونه لحرب السنة..
وأذكر أنني كنت ذات يوم مع بعض مشايخنا، وكان اسمه الشيخ على الخضير، وقد سألته هذا السؤال: (هل يجوز لي أن أقول سوءاً عن شخص مما هو وأمثاله فيه وأنا أعرف أنه فاسق أو عدو للدين؟ وهل يجوز لي أن أقول خيراً عن رجل صالح من أهل الدين والتقوى والجهاد لتخليصه من مشكلة تضره بذاته أو بسمعة الصحوة الإسلامية؟)
فأجابني الشيخ بقوله: (المؤمن أخو المؤمن، ولابد أن ينصره حال طلب النجدة أو عند العلم بحاجته، ومن النصرة مؤازرته ودفع الضرر عنه. ومن ذلك الكذب؛ فالكذب يجوز لنصرة المسلم ولدفع الكافر أو العدو. فقد صح فى الحديث جواز الكذب لتحقيق مصلحة ومن المصلحة رفعة المسلم وذلة سواه.. كما تجوز المخادعة للعدو في حال الحرب أو لأجل الحرب فهذا لا خلاف في جوازه، وذلك لحديث الصحيحين، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الحرب خدعة).. ومعنى المخادعة في الحرب إظهار المكيدة، وحسن التدبير والرأي والتعريض ليظهر للعدو خلاف ما يعده له المسلمون من الكمائن والمكائد.. والخداع هو عمدة الحروب وأساسها وعليه يكون مدار الانتصار، وهو أحد الأسباب الشرعية التي ينبغي الأخذ والاعتناء بها.. ومفهوم الحرب في هذه الأحاديث أعم من أن يقصر على نصب القتال والتقاء الصفين وتقابل الزحفين، وإنما يدخل في ذلك أيضا السعي للفتك برأس من رؤوس الكفر والإلحاد والعلمنة والفسق المحادين لله ورسوله.. ومن الحرب حرب الأفكار، وهي أشد من حرب القتال، فيجب استخدام الخدعة ويباح الكذب فيها لإظهار أهل البدع والشركيات وأهل الفرق الباطلة من روافض وزنادق وأهل علمنة وحداثة وقرامطة وغيرهم بمظهرهم المخزي لكي لايغتر بهم عوام المسلمين؛ وإظهار أهل السنة وأصحاب العقيدة السليمة بمظهرهم اللائق بهم.. ولهذا فإنه يجوز لك الكذب والشهادة وتغليظ اليمين لنصرة الدين الإسلامي ونهجه القويم ونصرة أخيك المسلم الصالح ممن يريدون به كيداً؛ وإذلال أهل البدع والضلالات والفرق الفاسدة)([5])
بعد أن سمعت الفتوى، ودهشت لما فيها، قلت: هذه فتوى خطيرة.. فقال لي يطمئنني: هكذا لقننا جميع مشايخنا، وقد كان من مشايخي رجل يقال الفوازان، وقد سألته حينها هذا السؤال: (انتشر اليوم بين الشباب أنه يلزم الموازنة في النقد فيقولون: إذا انتقدت فلانا من الناس في بدعته وبينت أخطاءه يلزمك أن تذكر محاسنه، وهذا من باب الانصاف والموازنة، فهل هذا المنهج في النقد صحيح؟ وهل يلزمني ذكر المحاسن في حالة النقد؟)
فأجابني بقوله: (إذا كان المنتقد من أهل السنة والجماعة وأخطاؤه في الامور التي لاتخل بالعقيدة، فنعم، هذا تذكر ميزاته وحسناته، تُغمر زلاّته في نصرته للسنة. أما إذا كان المنتقد من أهل الضلال ومن أهل الانحراف ومن أهل المبادئ الهدامة والمشبوهة، فهذا لايجوز لنا أن نذكر حسناته – اذا كان له حسنات – لأننا إذا ذكرناها فإن هذا يغرر بالناس فيحسنون الظن بهذا الضال أو هذا المبتدع أو هذا الخرافي أو الحزبي، فيقبلون أفكار هذا الضال أو هذا المبتدع أو ذاك المتحزب. والله جل وعلا ردّ على الكفرة والمجرمين والمنافقين ولم يذكر شيئا من حسناتهم، وكذلك أئمة السلف يردون على الجهمية والمعتزلة وعلى أهل الضلال ولايذكرون شيئا من حسناتهم. لأن حسناتهم مرجوحة بالضلال والكفر والالحاد والنفاق. فلا يناسب انك ترد على ضال، مبتدع، منحرف، وتذكر حسناته وتقول هو رجل طيب عنده حسنات وعنده كذا، لكنه غلط.. نقول لك: ثناؤك عليه أشد من ضلاله، لأن الناس يثقون بثنائك عليه، فإذا روجت لهذا الضال المبتدع ومدحته فقد غررت بالناس وهذا فتح باب لقبول أفكار المضللين)([6])
وانطلاقا من تلك الفتاوى كنت أكذب على
طوائف الأمة خلاف طائفتي وأرميهم بالطامات.. ولم أكن أنال على ذلك الكذب والتزوير
إلا التشريف والقدير.. فمشايخ السوء لا يحبون ولا يقدرون إلا المزورين والكاذبين.
([1]) رواه البخاري ومسلم.
([2]) رواه البخاري ومسلم.
([3]) رواه البخاري ومسلم.
([4]) رواه مسلم.
([5]) نقلا عن مقال بعنوان: متى يخلع شيوخ السعودية سراويلهم الغربية – شبكة المنطقة.
([6]) الأجوبة المفيدة في أسئلة المناهج الجديدة، 1/ 24.