خففوا من غلوكم.. فكلكم شيعة

قد يكون هذا العنوان غريبا عند الكثير من الناس، فكيف يكون الكل شيعة.. والشيعة التي نعرفها ليست سوى أولئك الرافضة الطائفيون الحاقدون المجوس الذين استبدلوا اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باتباع أئمتهم الذين زعموا لهم العصمة.. فهم لذلك يتعصبون لهم، ويبالغون في مودتهم، ويجعلون من حياتهم كلها دعاية لهم؟
وقبل أن أجيب على هذا الإشكال الذي قد يطرحه الكثير؛ أحب أن أحكي قصة واقعية حصلت في بعض المناطق، حيث قام بعض أفراد جمعية لمسجد جديد باقتراح اسم [الإمام الحسين] كاسم للمسجد، وهنا قام أفراد آخرون بغضب في وجه هذا الاقتراح، بدعوى أنه اسم طائفي، وأنه صار علما للشيعة، وأننا بتسميتنا للمسجد بهذا الاسم نكون قد وفرنا للشيعة امتدادا جديدا، وأعطيناهم فرصة للظهور والانتشار والغزو..
وفي الأخير.. وبعد مداولات طويلة قررت جمعية المسجد بإجماع أن تسمي المسجد باسم [شيخ الإسلام ابن تيمية]، وقرروا مع هذا القرار عزل صاحب الاقتراح الأول من الجمعية بدعوى أن فيه ميولا شيعية..
هذه القصة تتكرر كل يوم، وبأساليب مختلفة، حتى أن اسم الحسين أو غيره من آل البيت صار اسما للبدعة والرفض وكل ما يحملانه ـ في عقول أصحاب التهمة ـ من انحرافات في الدين والدنيا.
أما اسم ابن تيمية وابن العثيمين وابن خزيمة وابن حنبل وابن بطة.. فقد صارت أسماء سنية سلفية مباركة، يتسابق الناس عليها لينالوا بفضلها بركات التسنن، ويتقوا نقمات التشيع.
وليس ببعيد علينا ذلك الحشد الهائل من السباب الذي يكال لمن اختاروا لأنفسهم أن يتسموا بكتائب أبي الفضل العباس، أو الزينبيين، أو الفاطميين.. بينما يكال أضعافه من المديح والثناء على من تسموا بأحفاد يزيد، أو نور الدين الزنكي، أو السلطان مراد.
وهذا كله وغيره يدل على ما ذكرنا من أن الكل شيعة.. وهم لا يختلفون فقط إلا في الأئمة الذين يشايعونهم.
وهذه حقيقة سنكتشفها بسهولة عندما نزيح الغشاوة عن عقولنا، ونزيح معها أغلال التقليد التي تقيدنا، ونرى الأمور بشكلها الصحيح.. حينها لن نرى في الواقع الإسلامي جميعا.. بل في واقع الأديان جميعا سوى شيعة يحقر بعضهم بعضا، ويؤذي بعضهم بعضا، ويستكبر بعضهم على بعضهم تحت رايات الأئمة المعصومين الذين يشايعونهم.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة، فقال: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65]
فهذه الآية الكريمة تبين أن الأمة حين تفتقد البوصلة التي تهديها إلى قبلة الحقيقة، سوف تتحول إلى شيع يذيق بعضها بأس بعض، ويلعن بعضها بعضا، ويستكبر بعضها على بعض.
ومثل ذلك وأخطر منه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159]، فقوله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) تحمل دلالات خطيرة أقلها براءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هؤلاء الذين فرقوا دينهم، وحولوه إلى شيع متناحرة.
وأخبر القرآن الكريم في مقابل ذلك أن المستبدين – الذين يمثلون الشيطان – يحولون الناس إلى موالين لهم، وذلك بتحويلهم إلى شيع يتعصب كل فريق منهم لإمام من الأئمة يحارب به غيره، ويعتدي بالولاء له على من عداه، فقال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [القصص: 4]
وأشار القرآن الكريم إلى ذلك الزهو الكاذب الذي يعتري هذه الشيع جميعا، لترى نفسها على الحق المجرد، وترى غيرها على الباطل المجرد، وهو ما تؤيده كل الأدلة الواقعية والتاريخية، قال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32]
بعد هذا التأصيل القرآني لحقيقة التشيع ومآسيه نعود إلى التاريخ والواقع الممتلئ بالشيع التي يوبخ بعضنا بعضا، بل يكفر بعضها بعضا.. وسنرى أن كل التهم التي تكال إلى شيعة آل البيت تنطبق تماما على من شايع غيرهم من أئمة الفقه أو العقيدة أو السلوك أو السياسة أو غيرها من مناحي الدين والدنيا.
وبما أن الأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى أو تعد، أو يكفي هذا المقال القصير للدلالة عليها، فإنا سنكتفي بمثال بسيط يزعم التسنن، ويجعل مشروعه الأكبر محاربة الشيعة والتشيع، وينسى أن الخلاف بينه وبين الشيعة الذين يحاربهم لا يقع سوى على المصاديق، أما المفاهيم فيتفق عليها مع الشيعة اتفاقا تاما.
ففي الوقت الذي يشايع فيه شيعة آل البيت اثني عشر إماما ابتداء من الإمام علي وانتهاء بالإمام المهدي، معتقدين أحقيتهم ببيان أمور الدين، وأنه لا يقدم عليهم أحد في هذا المجال، لخصوصية خصوا بها.. نجد هذا المنطق عند شيعة ابن تيمية.. فهم يعتبرونه شيخ الإسلام، والناطق الرسمي باسم الإسلام، وكل رأي يراه صواب، وكل حديث يصححه صحيح، حتى لو خالفه فيه الأئمة الأفذاذ، وكل حديث يضعفه ضعيف إلى يوم القيامة، حتى لو اكتشف اللاحقون من طرقه ما يصححه..
ولم يكتفوا بهذا، بل أعطوه من الهالة والهيلمان ما لو أعطى الشيعة مثله لأئمتهم لبدعوا بسببه..
وسأذكر هنا بعض الأمثلة على ذلك، وخصوصا ممن نذروا حياتهم في حرب الشيعة، وفي حرب التطرف الشيعي، ومواجهة الغلو الشيعي في الأئمة..
ولنبدأ بمثال نراه على جميع القنوات الفضائية، وكأنه إمام من الأئمة المعصومين، الذين لا يحل نقدهم أو الحديث عنهم إلا بما تتطلبه مكانتهم السامية الرفيعة في سلم الكهنوت الديني.
هذا الإمام المعصوم هو الشيخ عائض القرني، والذي تواضع جدا أمام إمامه الأكبر شيخ الإسلام ابن تيمية، فألف كتابا في فضائله ومناقبه التي لا تعد ولا تحصى، ومع ذلك كله ذكر أنه في حديثه عنه لم يبحر في بحره، وإنما اقتصر على الوقوف على ساحله، ولهذا سمى كتابه (على ساحل ابن تيمية)، وقد أثبت فيه بالأدلة القاطعة أن شيخ الإسلام ابن تيمية هو المربى والمفسر والمحدث والفقيه والمناظر والمجاهد والعابد، وأن مثله كمثل بحر لجى لكنه عذب، محيط هادر لكنه فرات، (وهل يستطيع المرء – ولو أجاد السباحة – أن يغوص فى أعماق البحر، أو أن يهبط إلى قعر المحيط؟ كلا لا يستطيع، ولكنه يستطيع أن يطل إطلالة)([1])
لن أتصرف في ما قال هذا الإمام المعصوم حول إمامه الأكبر ابن تيمية، ولكني فقط أود من القارئ أن يأخذ هذه الكلمات، ثم يلقيها أمامه أو أمام أي متشيع لابن تيمية، ولكن بدل أن يذكر اسم ابن تيمية يذكر الإمام علي، أو غيره من أئمة آل البيت.. وسيرى كيف يواجه بالتطرف والغلو والتشيع والزندقة والمجوسية وغيرها.. وطبعا إن سمح له بإنهاء حديثه قبل قلع لسانه أو قطع حنجرته.
قال القرني في مقدمة كتابه (على ساحل ابن تيمية) هذه القصيدة الرائعة أو اللطمية البديعة في الحنين إلى إمامه:
(من الذي عنده شغف بالمعرفة، وميل على العلم، وحب في الاطلاع، وهو لا يعرف ابن تيمية؟
من الذي لديه همة في المجد، وعزيمة في الخير، ورغبة في الصلاح، ثم لا يعرف ابن تيمية؟
هل الشمس بحاجة إذا توسطت السماء في يوم صحو أن ينبه على مكانتها؟
هل القمر في ليلة اكتماله والسماء صافية بحاجة لمن يشيد بعلوه وسنائه؟
إن ابن تيمية بلغ من الحظوة والرفعة وسمو المنزلة إلى درجة أنه استغنى عن لقب الشيخ، والعالم، والإمام، والمجدد، وصار أحسن اسمائه أنه: ابن تيمية !
عاشت بعض الدول خمسة قرون، ثم اندرست وذهبت فلا اثر ولا عين، ولكن هذا الجهبذ الأعجوبة بقى في ذاكرة الزمان، وقلب الدهر، قصة فريدة محفوظة للأجيال ترددها الألسن، وتترنم بها الشفاء. عاش سلاطين ووزراء، وأغنياء، وشعراء، ثم ماتوا فماتت معهم آثارهم، وعاش ابن تيمية بلا إمارة ولا وزارة ولا تجارة، لكن بقى معنا ومع الأجيال من بعدنا حياَ في الضمائر، ماثلاً في النفوس، حاضراً في الدروس والمنتديات العلمية، ومجامع المعرفة، وصرح الثقافة.
كلما سلكنا سبل العلم، وضربنا في فجاج الفنون، تلقانا ابن تيمية، فهو إمام في التفسير، حجة في الحديث، منظر في المعتقد، مجدد في الملة، مجتهد في الفقه، موسوعة في العلوم، بحر في السير والأخبار، آية في الذكاء، أستاذ في العبقرية وسامحني – أيها القارىء الكريم – إن قلت إنه أصبح اشهر من الدولة التي عاش في عهدها !)([2])
وهو بعد قوله هذا يستشعر أنه وقع في الغلو الذي طالما حذر منه، وعاتب الشيعة وكفرهم بسببه لكنه مع ذلك، ومثل الشيعة المحبين لآل البيت تماما يبرر حبه وجنونه في هذا الإمام العظيم، فيقول: (ولا نشكوا تقصيراً في حبه – رحمه الله -، لكنا نستغفر الله إن غلونا في التعلق به، كيف ننسى أياديه البيضاء وكلما قلبنا سفراً فإذا هو بين صفحاته بعلمه وحكمته وفقهه واستنباطه، وكلما حضرنا حواراً فإذا اسمه تتقاذفه الألسن، يتقاسمه المتحاورون، كل فريق يقول: أنا أولى به؟!.. كيف لا نعيش معه وقد فرض علينا احترامه، وأمتعنا بحضوره، وآنسنا بذكره الطيب؟ كيف لا نحب من احب الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم؟ كيف لا نتولى من تولى ربه؟، كيف لا نقدر من قدر الشرع؟ كيف لا نجل من أجل الوحي؟)([3])
وعندما خشي أن يتطاول أحد من الناس، ويقول له: ما حاجتنا لكتاب في مناقب ابن تيمية.. نحن في حاجة إلى كتب في مناقب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو آل بيته الأطهار الذين أمرت الأمة بالالتزام بهم؟.. يرد على ذلك بقوله: (دوائر المعارف تترجم عن دول بصفحتين وثلاث، ولكنها تتحدث عن ابن تيمية بعشرين صفحة، المجامع العلمية تذكر المصطلحات في سطر، ولكنها تتكلم عن ابن تيمية في ثلاثين سطرا، ولسنا متفضلين على ابن تيمية إذا مدحناه أو ذكرنا مناقبه أو عددنا سجاياه، لكنه متفضل علينا – بعد الله – بفيض علمه، وغيث فهمه، وبركة إنتاجه، ونور آثاره..) ([4])
هذا نص مقتضب من مقدمة القرني لكتابه حول ابن تيمية، فإذا ما دخلنا إلى داخل الكتاب وجدنا العجب العجاب.. فابن تيمية أكبر بكثير من كل التصورات التي نتصوره بها.. إنه عظيم لدرجة أننا مهما تخيلنا قدراته وعبقريته، فإن عقلنا يقصر عن فهم ذلك.
وهي قدرات ليست مرتبطة بالعلم فقط.. بل مرتبطة قبل ذلك بالطهارة.. فآل البيت ليسوا وحدهم المطهرين.. بل ابن تيمية مطهر أيضا.. بل أين طهارة آل البيت أمام طهارة ابن تيمية!؟
يقول القرني تحت عنوان [طهره في شبابه]: (كان ابن تيمية من الصغر في عناية الله عز وجل وفي رعايته، فلا تعلم له صبوة، ولا تحفظ له عثرة، لم تنقل له زلة ؛ لأنه عاش في بيت إمامه وعلم وصيانة وديانة، فقد رباه أبوه المفتي الحافظ عبدا لحليم، وكان أعمامه أيضاً من أهل الولاية لله عز وجل، فنشأ بين بيته الطاهر العفيف، وبيت الله العامر المبارك، وحفظ كتاب من الصغر، وتعلم السنة وأخذ الآداب الإسلامية من أهل العلم، وحفظه الله – الحافظ – عن تهور الشباب، وطيش الفتوة، ونزق الصبا، فعاش عفيفاً ديناً مقتصداً صيناً رزيناً عاقلاً محافظاً على الفرائض، معتنياً بالسنن، كثير الأذكار والأوراد،بعيداً عن اللهو وعن البذخ والسرف واللعب وكل ما يشين الرجال، وكل ما يخدش المروءة، وكل ما يذهب الوقار ؛ فصار محل العناية من الأكابر، حتى كان يعرف إذا مر فيقال هذا ابن تيمية ؛ لاشتهاره بين أقرانه بالجد والمثابرة وحب العلم والبراعة في التحصيل، وسرعة الحفظ والذكاء، وجودة الخاطر وسيلان الذهن وقوة المعرفة) ([5])
أرأيتم هذه الأوصاف العظيمة، فهي لا تقل عن وصف الإمام علي نفسه، والذي عاش في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتربى على يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وابن تيمية لا يقل عنه في ذلك كله إن لم يكن يفوقه فقد عاش في وسط إيمان وتقوى وسنة.. واستمر على ذلك، ولم يغير، ولم يبدل تبديلا؟
أما طاقاته فلا يمكن تصويرها، وقد ذكر القرني بعضها، فقال: (من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط، فخطه أسرع من كلامه إلا أنه معلق أشد التعليق ومغلق، يفكه بعض تلاميذه كابن رشيق وغيره، ولكن الشاهد أنه ربما ألف في ألف الواحد أربع كراريس،وربما ألف الجلسة الواحدة كتاباً (كالتدمرية)، و(الحموية، و(الواسطية)، وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات، وربما كتب كتاباً في عدة أيام، فكان يتناول القلم ثم لا يتوقف، وليس عنده أوراق ولا مراجع ولا كتب قريبة منه ثم لا مصنفات، وإنما يفيض الله سبحانه وتعالى عليه من فتوحاته، ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية، فتنهال عليه وتسخو، وتمطره بشآبيب من المعرفة، وتسح سحاً وتسيل سيلانً، وتتدفق تدفقاً، فيكتب سريعاً مملياً كل ما جاد به خاطره في الموضوع، من شرح لآية، أو بسط لحديث، أو كلام عقلي، أو كلام معرفي، أو كلام لخصومه من الفلاسفة وأهل المنطق وعلماء الكلام والفقهاء والصوفية، ومن سار مسيرهم من كافة الطوائف) ([6])
وفي الوقت الذي يحرم فيه القرني وغيره من شيعة ابن تيمية على شيعة آل البيت الحديث عن المآسي التي حصلت في كربلاء أو غيرها، يتحدث هو بإسهاب وتفصيل شديد على المآسي التي حصلت لإمامه المعصوم شيخ الإسلام ابن تيمية، فيقول: (فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من الأذى والكيد والمكر والمجابهة والمواجهة، بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار، فإنه واجه من الحسد ما الله به عليم حتى من أقرب المقربين إليه ؛ فحسده أرباب المذاهب الإسلامية،وأهل المشارب الفقهية، وحسده علماء الكلام،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة، وآذاه كثير من الولاة والسلاطين، فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل، ألفوا فيه الكتب والرسائل، وأهدروا دمه، وافتوا بقتله وضللوه،ودعوا السلطان إلى سجنه.. وبالفعل سجن خمس مرات، وكادوا، ومنعوا كتبه ومنعوه من التدريس، ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس، وتناولوا عرضه، وشتموه وسبوه، وجلد مرة من المرات، وأخرج من دمشق إلى مصر، كل ذلك والرجل منشرح الصدر، وصابر مصابر محتسب على ما أصابه في سبيل الله مصر على تبليغ فكرته، مستمر عل الدعوة إلى الله عز وجل، لا يزيده الكيد إلا قوة وثباتاً وصبراً واحتساباً، فصار مضرب المثل في ذلك كله، وتعجب أصدقاؤه وخصومه من شجاعته ومن إصراره – رحمه الله -، فما ثناه حبس ولا قيد ولا جلد ردود ولا تهديد ولا وعيد عندما قام له من تجديد أمر الأمة، بل كلما آذوه نشراً لعلمه، وصبراً على خصومه، وحباً لأصحابه ن وثقة في وموعود ربه، وتفويض الأمر إلى خالقه، ورضا بكفايته ووكالته – سبحانه وتعالى -، وتفاؤلاً بالعافية الحسنة، وبذلك صارت له – بفضل الله – العاقبة الحسنة، فانتشرت كتبه وتأليفه، وانتصر على حاسديه، وكبت خصومه وصارت الدولة له والدائرة على أعدائه) ([7])
ليس في إمكاني أن أقيس كل كلمة قالها القرني عن ابن تيمية على مثلها مما يقوله الشيعة في أئمتهم، لأن المقارنة تفضي إلى أن القرني ليس سوى شيعي يقول بعصمة الأئمة، وأنه لا فرق بينه وبينهم سوى في أن إمامهم علي، وإمامه ابن تيمية.
ولو أن المطبعة أخطأت فاستبدلت اسم ابن تيمية باسم الإمام علي أو باسم الإمام الحسين، وقدم له الكتاب، لرمى صاحبه بالكفر والضلالة والغلو.. ولأباح دمه، كما أباح إمامه ابن تيمية دماء الشيعة.
والأمر ليس قاصرا على القرني، فهو مجرد مثال ونموذج بسيط عن شيعة ابن تيمية، أما المغالون في حبه وولايته، فلا عد لهم ولا حصر..
وكمثال آخر على ذلك، وهو علم كبير من أعلام شيعة ابن تيمية المعاصرين، وهو أول من أدخل التشيع لابن تيمية في الكويت عندما وطئت قدماه أرضها في عام 1964 وسعى معلما في مدارسها الحكومية وموجها لمدرسي التربية الاسلامية.. وقد تصدى لكل النواصب الذين ناصبوا ابن تيمية العداء من متصوفه وأشاعرة ورافضة وغيرهم.. ولديه الكثير من المؤلفات والرسائل والردود في هذا المجال، لعل أهمها كتابه [لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية]، والذي حاول فيه كصنوه القرني أن يقتصر على بعض الملامح من حياة ابن تيمية لأنه يصعب على أي موال لابن تيمية أن يحيط بحياته جميعا.
يقول في كتابه هذا بثقة عظيمة، وكأنه اطلع على اللوح المحفوظ: (إن شيخ الإسلام ابن تيمية من النفر القليل الذين كانت حياتهم كلها لله، والذين دعوا إلى الله على بصيرة.. ولقد تعرض شيخ الإسلام في سبيل ذلك إلى تفنيد مزاعم قوى الشر كلها التي انتشرت وسادت المسلمين في عصره في القرن السابع الهجري وأوائل الثامن.. فتصدى بالرد على الفلاسفة وأذنابهم، والرافضة وأكاذيبهم، والباطنية وخبثهم ونفاقهم، والصوفية وعقائدهم الفاسدة وترهاتهم، وللمتكلمين وخلفائهم وتأويلاتهم الباطلة، وللمقلدين وعبادتهم لشيوخهم وتعصبهم لآرائهم المخالفة للكتاب والسنة، والنصارى وضلالهم، واليهود وخبثهم وأفسادهم، وألف في كل ذلك وكتب ودرس وسافر وارتحل وناقش ولم يكتف بهذا أيضاً بل جرد سيفه لقتال التتار فجمع الجموع لملاقاتهم، ووحد صفوف المسلمين لحربهم، وخاض المعارك ونصره الله عليهم.. وعالم هذا شأنه لا شك أن يكثر أعداءه وحساده.. فقد عادى الدنيا كلها في الله وخاصم كل منحرف في ذات الله، ولم يداهن أميراً ولا وزيراً في الحق، بل صدع به حيث كان، ولذلك كثرت ابتلاءاته ومحنه فلا يخلص من محنة إلا ودخل في أخرى، ولا ينتهي من سجن حتى يزج به في سجن آخر، ولا ينصر في محاكمة حتى تعقد له محاكمة جديدة.. وكل ذلك وهو صابر محتسب، بل فرح مستبشر أن أكرمه الله بكل هذه الكرامات وهيأ له كل هذه الأسباب لينشر علمه وتعظم محبة أهل الخير له، فكان قدوة للعالمين من أهل الخير في زمانه، ونموذجاً للعلماء العاملين في وقته، بل كان من تلاميذه جهابذة الأمة في كل فرع من فروع المعرفة الدينية.. ثم أصبحت كتبه من بعده هي الهادي والمرشد لعقيدة أهل السنة والجماعة، بعد أن لبس الملبسون من أهل الكلام والزندقة على الناس، ونشروا عقائدهم الباطلة في الأمة فقام هذا المجدد الفرداني والعالم الرباني فكشف بنور القرآن والسنة أضاليل أهل الكلام والبدعة والزندقة والردة)([8])
وهكذا استمر الشيخ يردد هذا وأمثاله إلى أن نفث في روع الكثيرين من شيعة ابن تيمية أنه لولا ابن تيمية لما بقيت للإسلام قائمة.. وأنه لا يمكن لأحد أن يعرف الدين الصحيح.. ولا أن يطمع في دخول الجنة إن لم يعرف ابن تيمية ويقرأ كتبه ويكتفي بها.
هذان نموذجان عن شيعة ابن تيمية، وغلوهم فيه، وفي إمكان القارئ أن يعود إلى الكتب الكثيرة ليرى كيف ينظر هؤلاء إلى ابن تيمية، ويقارن ذلك ينظرة شيعة آل البيت لمن يشايعونهم.. وسيرى بعينه أن كل طامة اتهم بها شيعة ابن تيمية شيعة علي وقعوا فيها، بل وقعوا فيما هو أخطر منها.
ليس ذلك فقط.. بل إن الثقاة من العلماء من شيعة ابن تيمية يذكرون العجائب والغرائب من بركاته، ومن ذلك ما جاء في كتاب (الرد الوافر على من زعم بأن من سمى ابن تيمة شيخ الاسلام كافر) في الحادثة التي حصلت مع البطائحي المزي، وراوها لابن حجي قال: كنت شابا، وكانت لي بنت حصل لها رمد، وكان لنا اعتقاد في ابن تيمية، وكان صاحب والدي، ويأتي إلينا ويزور والدي، فقلت في نفسي: لآخذن من تراب قبر ابن تيمية فلأكحلها به، فإنه طال رمدها ولم يفد فيها الكحل، فجئت إلى القبر، فوجدت بغداديا قد جمع من التراب صررا، فقلت: ما تصنع بهذا، قال: أخذته لوجع الرمد، أكحل به أولادا لي، فقلت: وهل ينفع ذلك؟ فقال: نعم.. وذكر أنه جربه فازددت يقينا فيما كنت قصدته، فأخذت منه، فكحلتها وهي نائمة، فبرئت، قال: وحكيت ذلك لابن قاضي الجبل أبي عمر المقدسي، وكان يأتي الينا، فأعجبه ذلك، وكان يسألني ذلك بحضرة الناس فأحكيه، ويعجبه ذلك ([9]).
وهكذا صار التراب الذي دفن فيه تيمية شفاء للناس.. فلم العتب يا شيعة ابن تيمية على من يستشفون بتراب الحسين؟
بل صار ابن تيمية قسيما للجنة والنار.. كما ينص على ذلك الشيخ ابن عثيمين حين ذكر أنه يشهد لابن تيمية بالجنة، ويشهد لأعدائه بالنار، فقال في [شرح رياض الصالحين]: (وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أجمع الناس على الثناء عليه إلا من شذ، والشاذ شذ في النار، يشهد له بالجنة على هذا الرأي)([10])
ولذلك من العجب أن يعاتب شيعة ابن
تيمية شيعة علي على وصفهم لإمامهم بكونه قسيم الجنة والنار.. وهم يقولون بنفس
قولهم، ويرددون نفس أحكامهم.
([1]) النص مقتبس من مقدمة كتاب (على ساحل ابن تيمية) لعائض القرني ببعض التصرف الذي يقتضيه المقام، وهكذا بعض النصوص التي نوردها في هذا المقام حتى لا يقال بأننا نقولهم ما لم يقولوا.
([2]) على ساحل ابن تيمية.
([3]) على ساحل ابن تيمية.
([4]) على ساحل ابن تيمية.
([5]) على ساحل ابن تيمية.
([6]) على ساحل ابن تيمية.
([7]) على ساحل ابن تيمية.
([8]) النص مقتبس بتصرف من كتاب الشيخ عبد الرحمن الخالق المعنون بـ (لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية)
([9]) الرد الوافر ، 129-130.
([10]) شرح رياض الصالحين 4/ 570 – 573.