حجارة في أزقة الطائف

حجارة في أزقة الطائف

من لطف الله بعباده أن يعيد لهم التاريخ والابتلاءات المرتبطة به كل حين بثياب جديدة، وبامتحانات جديدة.. ليمحص كل إنسان  التمحيص الذي يبرز سريرته، ويكشف نيته، ويدل على حقيقته التي يخفيها بتكبره وغروره ودعاواه.

كنت أراقب الأحداث، فأرى كل يوم مرحلة من مراحل التاريخ تمر أمامي.. فمرة أرى الحرة، حيث استبيحت المدينة.. ومرة أرى كربلاء حيث حصلت أكبر مأساة في التاريخ.. ومرة أرى المصاحف وهي ترفع لتقوم على أساسها دول اللصوص والانتهازيين والمجرمين..

كنت أرى كل ذلك، وأعتبر به.. لكني لم أكن أتصور أنه سيأتي اليوم الذي أرى فيه بعيني ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم ذهب إلى الطائف.

خطر على بالي هذا عندما ذهبت إليها بعد أداء العمرة، لأرى البلدة التي تشرفت بسير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين جنباتها وأزقتها.. وتشرفت بعد ذلك بأن تشربت تربتها ببعض دماء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

كان أول ما فعلته عندما دخلت إليها هو زيارتي للمسجد الذي أقيم في نفس المكان الذي سار فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. كان الإمام فصيحا بليغا، يملك الكثير من أدوات البيان التي تخول له أن يصور الحقائق، وكأن المستمع يراها رأي عين.. كان يتحدث عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وكان يتحدث عن قدومه صلى الله عليه وآله وسلم للطائف.. وكيف قابله أهل الطائف بذلك العنف وتلك الشدة.. وكيف أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويرمون عراقيبه بالحجارة، حتى دميت عقباه، وتلطخت نعلاه، وسال دمه الطاهر على أرض الطائف.. وما زالوا به حتى ألجأوه إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فعمد إلى ظل شجرة من عنب، فجلس فيه هو وصاحبه زيد، ريثما يستريحا من عنائهما، وما أصابهما.

وفي ذلك الحين بث شكواه لربه بقوله: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرفت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تُنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله)([1])

ثم ذكر كيف لاقاه صلى الله عليه وآله وسلم بعدها بقرن الثعالب جبريل – عليه السلام- فناداه قائلا: (إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم)، وكيف ناداه ، فسلم عليه ثم قال: يا محمد، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشركُ به شيئًا)([2])

كانت كلماته تتحول أمامي إلى مشاهد حية أعيشها، وكأنني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الحين، أرى تلك المعاناة العظيمة التي كان يتكبدها، وهو يبلغ دعوة ربه.

من غير شعور مني، رحت أخاطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأقول: (يا رسول الله.. يا خير خلق الله.. يا أكرم الخلق على الله)

فجأة رأيت الناس يلتفون حولي يضربونني بأقدامهم ونعالهم، ويخرجونني من المسجد، ثم يقولون للإمام: لقد ضبطنا هذا المشرك، وهو يدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، لا يبالي بحرمته، ولا حرمة هذه البلدة المعظمة التي تشرفت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وكأنه يريد أن يعيدها إلى ما كانت عليه قبل شيخنا محمد بن عبد الوهاب.

نظر الإمام إلي، وقال: هل حقا ما يقولون؟

رحت بكل قوتي، والجراح تنزف من جسمي أقول له: لا.. إنهم يكذبون علي.. لم أكن أشرك..كنت فقط أخاطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبثه..

قاطعني الإمام بقوة: وهذا هو الشرك بعينه.. أين أنت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مات.. ولم يبق له وجود على هذه الأرض إلا جثته التي لا تسمن ولا تغني من جوع.. فكيف تتجرأ على دعائه.. ألا تعرف أنه لا يملك لنفسه حولا ولا قوة.. ولا ضرا ولا نفعا.. ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.. حتى شفاعته في الآخرة لا تنفع إلا بإذن الله.. ووجودها كعدمها لولا إذن الله.

قلت: لعلك لم تفهمني – سيدي – فأنا مؤمن بكل ما ذكرت.. فالله هو النافع الضار المحيي المميت، وهو الذي يقبل الشفاعة أو يرفضها.. ولكني فقط تذكرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد خطبتك.. فرحت أناجيه..

 قاطعني بقوة، وهو يقول: وذاك هو الشرك.. المناجاة لا تكون إلا لحي.. ورسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم ميت.. والله تعالى يقول: إنك لا {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } [النمل: 80].. إن ما قمت به شرك يا رجل..

قلت: وكيف يكون شركا، وقد صليت معكم.. وقرأت سورة الفاتحة.. وقرأت فيها قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5]

قاطعني بقوله: وهل كل من فعل ذلك مسلم.. ما أكثر المشركين الذين يحفظون هذه السورة، بل يحفظون القرآن جميعا.. بل إن شرك هؤلاء أكبر بكثير من شرك أبي لهب وأبي جهل وأبي العاص..

أردت أن أتكلم لأدافع عن نفسي، فانبرى جلف غليظ، ركلني على فمي، فسال الدم منه، وراح يقول للإمام: إلى متى نصبر على هؤلاء.. لو تركنا لهم المجال، فسيعيدون الطائف إلى ما قبل الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. وستعبد الأصنام من جديد.. وستصبح هذه البلاد بلاد شرك، لا بلاد توحيد.

قال الإمام: صدقت.. لابد من الحزم.. أنتم تعلمون كيف تعامل سلفنا الصالح من أتباع شيخنا الكبير المجدد ابن عبد الوهاب مع أهل الطائف..

قال ذلك الجلف الغليظ: أجل.. لقد ذكر في (عنوان المجد) تلك الانتصارات العظيمة التي حققتها الفرقة المنصورة الناجية في وجه المشركين.. لقد فرت القبائل المشركة من مساكنها.. وكان أطفال ونساء المشركين يهيمون علي أنفسهم في البرية.. وكان الكثير منهم يلقي حتفه.. وقد ذكر أن بعض نساء المشركين كن من الرعب والهول الذي سلطه الله عليهم يسقطن حملهن أثناء الغزو والمباغتة.

ركلني ثان، وقال: صدقت.. لابد من الحزم مع هؤلاء المشركين.. فقد روى لنا أجدادنا من أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب كيف كانوا يسبين ذراري المشركين لأنهم لا يختلفون عن عبدة الأصنام.

ركلني ثالث، وقال: صدقت.. لقد صرح الصنعاني في (تطهير الاعتقاد) في عدة مواضع ما يدل علي ذلك حيث قال: (ومن فعل ذلك (أي الاستغاثة وما يجري مجراها) لمخلوق فهذا شرك في العبادة، وصار من تفعل له هذه الأمور إلها لعابديه وصار الفاعل عابدا لذلك المخلوق، وإن أقر بالله وعبده، فإن إقرار المشركين بالله وتقربهم إليه لم يخرجهم عن الشرك وعن وجوب سفك دماءهم وسبي ذراريهم ونهب أموالهم)

ركلني رابع، وقال: صدقتم.. فقد قرأت في ذلك الكتاب: (فمن رجع وأقر، حقن عليه دمه وماله وذراريه ومن أصر فقد أباح الله منه ما أباح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين)

ركلني خامس، وقال: صدقتم.. لقد حكي الجبرتي في تاريخه في حوادث (سنة 1217 ه‍). أن أجدادنا من أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب لما دخلوا الطائف قتلوا الرجال وأسروا النساء والأطفال. قال: وهذا دأبهم مع من يحاربهم.

ركلني سادس، وقال: صدقتم.. وهذا هو سر تلك الغنائم الكثيرة التي نالها أجدادنا بسبب دفاعهم عن التوحيد وحربهم للشرك.. لقد أخبرنا أن بعض أمرائنا كان له من المماليك الذكور أكثر من خمسمائة مملوك.. ومن النساء أكثر من سبعمائة جارية.. 

ركلني سابع، وقال: فما تقول يا شيخنا بعد هذا؟.. ما العقوبة التي تراه يستحقها؟

نظر الإمام إلي، وكأن كل تلك الركلات والصفعات والدماء التي تسيل مني لم تكف، فقال: أرى أن نغري به صبياننا حتى يشبوا على كراهية الشرك والمشركين.. لابد أن يصبح الحقد على المشركين هو القيمة العليا في المجتمع.. أرسلوه في أزقة الطائف.. واجمعوا للأطفال ما قدرتم عليه من الحصا.. وأخبروهم أن هذا الدجال مشرك.. وسترون ما يفعلون به.

بعد أن قال الإمام هذا سحبوني بقوة.. ثم تركوني في زقاق من أزقة الطائف.. وجاء الصبيان يهرعون إلي بحجارتهم.. وأنا أفر منهم بكل ما بقي لدي من قوة إلى أن وجدت بستانا.. وهناك اختبأت تحت بعض أشجاره، ورحت أردد ما ردده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الطائف.


([1])  رواه ابن إسحق في السيرة.

([2]) رواه البخاري.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *