ثانيا ـ الإسلام

قام الحكيم الثاني بين الصفين، وقال: لقد حدثكم صاحبي عن العبودية، وأنا سأحدثكم عن الإسلام.. فالإسلام هو الطريق إلى الوحدة.. ولن تتوحدوا إلا إذا استشعرتم الإسلام، وغلبتموه على كل المشاعر.
قال بعضهم: كيف تقول ذلك.. ونحن مع كوننا مسلمين، لم يصرفنا ذلك عن قتال بعضنا بعضا.. فكيف يكون الإسلام أصلا من أصول الوحدة؟
قال الحكيم: أجيبوني.. ما التسمية التي ارتضاها الله لكم، وخصكم بها من دون سائر الملل والنحل؟
نهض أحدهم، فقال: لا شك أنها الإسلام، فالله تعالى يقول:{ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (الحج: 78)
قال الحكيم: وهل هذا الاسم الذي ارتضاه الله لكم اسم شريف يستحق أن يفخر به صاحبه المتصف به، أم أنه اسم ينفر منه، وتحن نفسه لأن ينادى بغيره.
قال الرجل: اتق الله يا رجل.. لقد حسبناك حكيما.. كيف تقول هذا؟.. والله لولا أنكم ناشدتمونا الله لفصلت رأسك عن جسدك.
قال الحكيم: ولم؟
قال الرجل: لأن سؤالك يحمل تحقيرا لاسم الإسلام العظيم الذي ارتضاه الله لنا.
قال الحكيم: بورك فيك، وفي إخلاصك وصدقك.. وأنا والله لا أود لرأس يحمل أي احتقار للإسلام أن يبقى على جسدي.. ولكني أسألك: هل هناك من بين الملل من رغبوا عن تسمية الله لهم بالمسلمين، فسموا أنفسهم بما ارتضته لهم أهواؤهم؟
قال الرجل: أجل.. وهم كثير، وقد ضرب الله لنا المثل عنهم بالفريقين من أهل الكتاب من اليهود والنصارى.. فمع أن أصول ملتهم إبراهيمية حنيفية مسلمة إلا أنهم رغبوا عنها كما قال تعالى:{ وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (البقرة:135)
بل إنهم اشتدوا في انصرافهم عن الإسلام الذي ارتضاه الله لهم، فراحوا يزعمون أن الجنة خاصة بمن انتحل نحلتهم، كما قال تعالى:{ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:111)
ولم يكتفوا بذلك.. بل راحوا يزعمون أن إبراهيم u الذي اختار اسم الإسلام وملة الإسلام كان مثلهم يهوديا أو نصرانيا، وقد رد الله عليهم ذلك أبلغ رد، فقال:{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ }(آل عمران:65 ـ 68)
بل لم يكتفوا بإبراهيم u.. فقد راحوا ينسبون كل أنبيائهم إلى اليهودية أو النصرانية، كما قال تعالى:{ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة:140)
وقد أخبر الله تعالى في القرآن الكريم أن أديان كل الأنبياء كانت الإسلام.. وقد ذكر الله وصية يعقوب u لأبنائه، فقال:{ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة:133)
بل أخبر الله عن فرعون أنه عندما أدركه الغرق قال:{ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس:90) وفي هذا دليل على أن موسى u دعاه إلى الإسلام، ولم يدعه إلى دين غيره.
قال الحكيم: بورك فيك.. فقد آتاك الله علما بكتابه.. فأجبني: هل أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه الأمة ستتبع سنن من قبلها.
قال الرجل: أجل.. وقد ورد ذلك في نصوص كثيرة، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الحديث المتفق على صحته:(لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال:(فمن؟)([1])
وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وآله وسلم:(لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع)، قالوا: فارس والروم؟ قال:(فمن الناس إلا أولئك؟)([2])
قال الحكيم: ألم يخبر الله تعالى عن اليهود والنصار أنهم اختلفوا، وعوقبوا باختلافهم، حيث ألقيت بينهم العداوة والبغضاء؟
قال الرجل: أجل.. وقد ورد ذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى في حق النصارى: { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} [المائدة: 14]، ومنها قوله في حق اليهود: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64]
قال الحكيم: وهل أخبر الله تعالى عن سبب ذلك؟
قال الرجل: أجل.. لقد كان سبب ذلك تضييعهم للمواثيق التي عاهدوا الله عليها.
قال الحكيم: فهل نص الله تعالى على تلك المواثيق؟
قال الرجل: أجل.. وذلك في مواضع من القرآن الكريم.. منها قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83]
قال الحكيم: ومن أهم تلك المواثيق ما نص عليه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } [البقرة: 84]
قال الرجل: أجل.. فهذه الآية تنص على بعض تلك المواثيق.
قال الحكيم: فهل أخذ على هذه الأمة من المواثيق ما أخذ على اليهود والنصارى؟
قال الرجل: أجل.. فكل ما ورد في القرآن الكريم من وصايا هي مواثيق الله التي أخذها على هذه الأمة.
قال الحكيم: أليس منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) ([3])؟
قال الرجل: بلى.. ذلك صحيح، فتلك من وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الأمة؟
قال الحكيم: ألا ترون أنكم تخالفون هذه الوصية، وتقعون فيما وقعت فيه الأمم من قبلكم من حرب بعضها لبعض؟
قال الرجل: لكن حروبهم لم تكن مشروعة.. وحربنا مشروعة، لأننا نحارب من ابتدع في الدين، وراح يحرفه.
قال الحكيم: لكني رأيت جميعكم أنتم وهم تصلون وتصومون وتزكون وتحجون.. وجميعكم تشهدون أن لا إله إلا إلله وأن محمدا رسول الله.. وجميعكم تقرون بالقيم العظيمة التي جاء القرآن الكريم بالدعوة إليها.. ألا يكفي هذا كله لوحدتكم؟
قال الرجل: لا.. لا يكفي هذا كله.. فقد وضع سلفنا الصالح الكثير من نواقض الإيمان، والتي قد يقع فيها من ذكرت من الناس.. بل لا يقع فيها في العادة إلا من كثرت عبادته.
قال الحكيم: أترغبون عن نواقض الإيمان التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى نواقض الإيمان التي وضعها مشايخكم؟
قال الرجل: وهل وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نواقض للإيمان؟
قال الحكيم: وهل يمكن أن يكمل دين قبل أن تسيج بالسياج الذي يحميه.
قال الرجل: فهلا ذكرت لي ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الحكيم: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي تصححونه، وتتفقون على تصحيحه: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته) ([4])
وفي حديث آخر أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل نجد، ثائر الرَّأس، يُسمع دويُّ صوتِه، ولا يفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يَسألُ عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (خمسُ صلواتٍ في اليوم واللَّيلة)، فقال هل عليَّ غيرها؟ قال: (لا، إلاَّ أن تَطوَّع)، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وصيام رمضان)، قال هل عليَّ غيرُه؟ قال: (لا، إلاَّ أن تَطوَّع)، قال: وذَكَر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الزكاة، قال هل عليَّ غيرها؟ قال: (لا، إلاَّ أن تَطوَّع)، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أَزيد على هذا ولا أنقص، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أَفْلحَ إنْ صَدَق) ([5])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (خمس صلوات كتبهنَّ الله على العباد، مَن أتى بهنَّ لم يُضيِّع منهنَّ شيئًا استخفافًا بحقهنَّ، كان له عند الله – تبارك وتعالى – عهد أن يُدخلَه الجنة، ومَن لم يأتِ بهن، فليس له عندَ الله عهد، إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له)([6])
قال الرجل: لكن هذا الحديث كما نص مشايخنا مخصص عمومه، ومقيد مطلقه.. ولذلك يمكن أن يقع في الكفر والبدعة والشرك من فعل كل هذه الأمور.. وقد كتب بعض مشايخنا في ذلك رسائل كثيرة تبين أن تلك الطائفة التي نحاربها قد وقعت في الشرك.. ولا ينفع مع الشرك طاعة.
قال الحكيم: لكني سمعتهم يشهدون أن لا إله إلا الله.. فكيف يكون مشركا من يقولها؟
قال الرجل: من وقع في نواقضها وقع في الشرك، وأصبح مرتدا.. وحل دمه بذلك.
قال الحكيم: لكنه إن تأول ذلك.. أو اعتقد أن ما هو فيه ليس شركا.. وكان له برهان على ذلك.. وكان له من العلماء من يسانده.. ألا ينفعه كل ذلك لتعذروه؟
قال الرجل: لا.. لا ينفعه كل ذلك.. بل هو مشرك.. بل هو أشد كفرا من اليهود والنصاري كما نص على ذلك علماؤنا.
قال الحكيم: فهل تعرف حديث الذي طلب من أهله أن يحرقوه إن هو مات؟
قال الرجل: أجل.. وكيف لا أحفظه وهو في صحيح البخاري ومسلم اللذين أجمعت الأمة على صحتهما.. ولا يرد أحاديثهما إلا زنديق.
قال الحكيم: فهلا رويته لي.
قال الرجل: أجل.. ولدي سند طويل به، وأجازني في روايته مشايخي الكبار.. ونصه هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت، قال لبنيه: إذا أنا متّ، فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً. فلما مات فُعِل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم. فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك. فغفر له)([7])
قال الحكيم: بورك فيك وفي حفظك.. أخبرني وكن صادقا.. لو أن هذا الرجل وقع بين أيديكم، فبم تحكمون عليه؟
سكت الرجل، فقال الحكيم: لا شك أنكم ستحكمون عليه بالكفر، لأنه أنكر قدرة الله، أو تصور الله عاجزا عن أن يجمع ذراته.
قال الرجل: أجل.. ولكن لجهله عذره الله سبحانه وتعالى.
قال الحكيم: فلم لا تعذرون خلق الله.. فالله هو الذي يعلمهم وهو الذي يربيهم.. وهو الذي ينقلهم من حال إلى حال إلى أن يرتقوا في سلم الكمال الذي كتبه الله لهم.
قال الرجل: إذا فعلنا ذلك.. فستغرق هذه الأمة في متاهات الضلالة، ولن تبقى فيها أي فرقة ناجية.
قال الحكيم: ألم يعطنا الله تعالى صفات الفرقة الناجية، بل الفالحة، بل الفائزة بعز الأبد؟
سكت الرجل، فقال الحكيم: بلى.. وقد نص على ذلك في مواضع من القرآن الكريم منها قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [المؤمنون: 1 – 11]
انظر كيف أخبر الله تعالى أن أولئك الذين اتصفوا بتلك السعادة لم ينجوا فقط، وإنما نالوا الفردوس الأعلى.
قال الرجل: ذلك صحيح.. والآيات الكريمة صريحة في ذلك.
قال الحكيم: فهل تراكم أنتم وهؤلاء الذين تحاربونهم تختلفون في تلك المعاني التي وردت بها تلك الآيات؟
سكت الرجل، فقال الحكيم: أنا أعرفكم جميعا، وقد خالطتكم جميعا، ولا أحد منكم ولا منهم ينكر معنى من تلك المعاني.. فكلهم يؤمنون بالصلاة والزكاة والأمانة..
رمى رجل من القوم سيفه، وقال: صدقت.. لقد تذكرت الآن الكثير من الأحاديث التي كان يجتهد مشايخ السوء الذين ملأوا قلوبنا بالأحقاد كي ننساها، حيث كانوا يؤولونها تأويلا عجيبا، فلا نخرج منها بشيء..
ومن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله، وصلوا على من قال: لا إله إلا الله) ([8])وأتذكر ذلك اليوم الذي ذهبت فيه لبعض مشايخي، وحدثته بهذا الحديث، وأنا في غاية السرور، لكنه انتهرني.. ثم أخذ يسرد علي فتاوى العلماء التي تحرم الصلاة وراء جميع المخالفين لنا، بل تجعل صلاتنا خلفهم باطلة ([9]).
ومن تلك الفتاوى ما أفتى به بعضهم، قال: (الصلاة خلف المبتدع فيها تفصيل، فإذا كان مبتدعاً بدعة مكفرة كالجهمية؛ فهذا لا يُصلى خلفه، والمعتزلي الذي يؤول صفات الله والخوارج لا يُصلى خلفهم، أمَّا إذا كانت بدعته خفيفة لا تفضي إلى الشرك فالأمر في هذا سهل، ولكن إذا تيسر إزالته والتماس إمام من أهل السنة؛ فهذا أمر واجب، ولكن إذا دعت الضرورة أن يُصلى خلفه، كالتي بدعته لا تكفره كالعاصي فهذا يصلى خلفه ما دام مسلماً)([10])
ثم بين لي أن هذه الفتوى تستدعي ألا أصلي خلف أحد من الناس سوى أصحابنا، لأن الأمة جميعا أصبحت جهمية.. لأنها جميعا لا تقول بإثبات اليدين والعينين والرجلين والحقو والضرس لله..
رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكما.. لقد ذكرتماني بحديث أنستنيه الأيام ومشايخ السوء، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رحم الله من كف لسانه عن أهل القبلة إلا بأحسن ما يقدر عليه)([11])، وفي رواية أخرى: (كفوا عن أهل لا إله إلا الله لا تكفروهم بذنب فمن أكفر أهل لا إله إلا الله فهو إلى الكفر أقرب)([12])
فقد وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضابطا واحدا لإدخال المؤمن في الدين، وحماية عرضه من التكفير، وهو قول لا إله إلا الله.. أو هو التوجه للقبلة في الصلاة.. وهي محل اتفاق بين المسملين جميعا.
رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد ذكرتموني بحديث خطير لكأنه يحكي واقعنا تماما.. كان مشايخ السوء يكتمونه بكل ما أوتوا من صنوف الحيل.. فإذا ما عجزوا راحوا يحرفونه عن معناه.. وهو ما رواه حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن، حتى إذا رؤيت بهجته عليه، وكان رداؤه الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله انسلخ منه ونبذه وراء ظهره وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك)، قال حذيفة: قلت: يا نبي الله أيهما أولى بالشرك المرمي أو الرامي؟، قال: (بل الرامي)([13])
رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد ذكرتموني بأحاديث كثيرة للسلف الذين ندعي انتسابنا إليهم.. منها أن رجلا سأل جابرا: هل كنتم تدعون أحدا من أهل القبلة مشركا؟ قال: معاذ الله، ففزع لذلك، قال: هل كنتم تدعون أحدا منهم كافرا؟ قال: لا([14]).
وعن يزيد الرقاشي أنه قال لأنس بن مالك: يا أبا حمزة ! إن أناسا يشهدون علينا بالكفر والشرك، قال: أولئك شر الخلق والخليقة([15]).
رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد ذكرتموني بعمرو بن مرة الجملي، فقد ذكره مسعر بن كدام، فقال: (ما أدركت من الناس من له عقل كعقل ابن مرة، جاءه رجل فقال: ـ عافاك الله ـ جئت مسترشداً، إنني رجل دخلت في جميع هذه الأهواء فما أدخل في هوى منها إلا القرآن أدخلني فيه ولم أخرج من هوى إلا القرآن أخرجني منه حتى بقيت ليس في يدي شيء، فقال له عمرو بن مرة: الله الذي لا إله إلا هو جئت مسترشداً؟ فقال: والله الذي لا إله إلا هو لقد جئت مسترشداً. قال: نعم أرأيت هل اختلفوا في أن محمداً رسول الله وأن ما أتى به من الله حق؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في القرآن أنه كتاب الله؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في دين الله أنه الإسلام؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الكعبة أنها قبلة؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الصلوات أنها خمس؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في رمضان أنه شهرهم الذي يصومونه؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الحج أنه بيت الله الذي يحجونه؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الزكاة أنها من مائتي درهم خمسة؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الغسل من الجنابة أنه واجب؟ قال: لا. قال مسعر: فذكر هذا وأشباهه، ثم قرأ: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [آل عمران: 7]، فهل تدري ما المحكم؟ قال: لا، قال: فالمحكم ما اجتمعوا عليه والمتشابه ما اختلفوا فيه شد نيتك في المحكم وإياك والخوض في المتشابه. فقال الرجل: الحمد لله الذي أرشدني على يديك فوالله لقد قمت من عندك وإني لحسن الحال. قال: فدعا له وأثنى عليه([16]).
رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد ذكرتموني بفتوى للشوكاني يقول فيها: (اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن (من قال لأخيه: يا كافر. فقد باء بها أحدهما)… ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير)([17])
وبفتوى للباقلاني يقول فيها: (ولا يكفر بقول ولا رأي إلا إذا أجمع المسلمون على أنه لايوجد إلا من كافر، ويقوم دليل على ذلك، فيكفر)([18])
وبفتوى لابن الوزير يقول فيها: (في الحكم بتكفير المختلف في كفرهم مفسدة بينة تخالف الاحتياط.. أن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، نعوذ بالله من الخطأ في الجميع، ونسأله الإصابة والسلامة والتوفيق والهداية)([19])
ويقول: (وكم بين إخراج عوام فرق الإسلام أجمعين، وجماهير العلماء المنتسبين إلى الإسلام من الملة الإسلامية، وتكثير العدد بهم، وبين إدخالهم في الإسلام ونصرته بهم وتكثير أهـله، وتقوية أمره، فلا يحل الجهد في التفرق بتكلف التكفير لهم بالأدلة المعارَضة بما هو أقوى منها أو مثلها مما يجمع الكلمة، ويقوي الإسلام، ويحقن الدماء، ويسكن الدهماء حتى يتضح كفر المبتدع اتضاح الصبح الصادق، وتجتمع عليه الكلمة، وتحقق إليه الضرورة)([20])
رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد ذكرتموني بفتوى للغزالي يقول فيها: (والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأِ في سفك محجمة من دم مسلم)([21])
ويقول: (الوصية: أن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك، ما داموا قائلين: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، غير مناقضين لها… فإن التكفير فيه خطر، والسكوت لا خطر فيه)([22])
رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد ذكرتموني بفتاوى كثيرة لإخواننا من الإمامية يجمعون فيها على عدم تكفير المسلمين، وبيان حرمتهم، وحرمة دمائهم وأعراضهم.
ومنها فتوى السيّد علي الخامنئي التي يقول فيها: (الفرق الإسلامية بأسرها تعتبر جزءاً من الأمة الإسلامية، وتتمتع بالامتيازات الإسلامية، وإيجاد الفرقة في ما بين الطوائف الإسلامية يعد خلافاً لتعاليم القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما يؤدي إلى إضعاف المسلمين وإعطاء الذريعة بأيدي أعداء الإسلام، ولذلك لا يجوز هذا الأمر قط)
ومنها فتوى السيد علي السيستاني التي يقول فيها: (كلّ من يشهد الشهادتين، ولم يظهر منه ما ينافي ذلك، ولم ينصب العداء لأهل البيت، فهو مسلم)
ومنها فتى السيّد محمد سعيد الحكيم التي يقول فيها: (يكفي في انطباق عنوان الإسلام على الإنسان الإقرار بالشهادتين والفرائض الضرورية في الدين، كالصلاة وغيرها، وبذلك تترتب عليه أحكام الإسلام من حرمة المال والدم وغيرها)
ومنها فتوى السيّد حسين إسماعيل الصدر التي يقول فيها: (إنّ المذاهب واقع إسلامي لا بدّ أن ينظر إليها بكل احترام وتقدير، ولا بدّ لأتباعها الاقتداء بها؛ وفقاً لقاعدة الإلزام).
ومنها فتوى الشيخ بشير النجفي التي يقول فيها: (كلّ من يقرّ بالتوحيد، ويعتقد بنبوة محمد بن عبد الله، وأنّ رسالته خاتمة النبوات والرسالات الإلهية، وبالمعاد، ولا يرفض شيئاً مما علم وثبت أنّه من الإسلام، فهو مسلم، تشمله الأحكام الإسلامية، وهو محقون الدم والعرض والمال، ويجب على المسلمين جميعاً الدفاع عنه وعن ماله وعرضه، والله العالم)
وكل هؤلاء مراجع معتبرون عند إخواننا الإمامية.. وكل كتبهم تنص على ذلك، وتدعو إليه.
رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد ذكرتموني بفتاوى المتنورين من علماء الأمة المعاصرين، من أمثال شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت الذي قال في فتوى من فتاواه المهمة التي كان مشايخ السوء يجتهدون في الرد عليها: (إنّ الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتبّاع مذهب معين، بل نقول: إن ّ لكل مسلم الحقّ في أن يقلّد بادئ ذي بدء أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً والمدونّة أحكامها في كتبها الخاصّة، ولمن قلّد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره ـ أيّ مذهب كان ـ، ولا حرج عليه في شيء من ذلك. فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخصلوا من العصبية لمذاهب معيّنة، فما كان دين الله وما كنت شريعته بتابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب، فالكل مجتهدون ومقبولون عند الله تعالى، يجوز لمن هو أهلٌ للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقرّرونه في فقهم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات)
ومنها فتوى الشيخ أحمد كفتارو التي يقول
فيها: (لا يجوز تكفير أحد من أهل القبلة متى نطق بالشهادتين؛ فإنّ ذلك يعصم ماله
ودمه)
([1]) رواه البخاري ومسلم .
([2]) رواه البخاري.
([3]) رواه البخاري ومسلم .
([4]) رواه البخاري ومسلم.
([5]) رواه البخاري.
([6]) رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي.
([7]) رواه البخاري ومسلم.
([8]) تاريخ بغداد: 6/403
([9]) انظر تلك الفتاوى في كتابنا [التراث السلفي تحت المجهر] من هذه السلسلة.
([10]) الفتوى للشيخ ابن باز ، انظر: نور على الدرب 364 ب د25.
([11]) ابن أبي الدنيا في الصمت.
([12]) رواه الطبرانى.
([13]) رواه بن حبان في صحيحه: 1/ 282. ورواه البخاري في التاريخ الكبير (2907) ، والبزار (2793)، قال ابن كثير: إِسْنَادٌ جَيِّدٌ ، وحسنه الألباني في الصحيحة (3201)
([14]) رواه أبو يعلى والطبراني في (الكبير).
([15]) رواه أبو يعلى.
([16]) أحسن التقاسيم ص366.
([17]) السيل الجرار (4/578).
([18]) فتاوى السبكي (2/578).
([19]) إيثار الحق على الخلق (405).
([20]) إيثار الحق على الخلق (402).
([21]) الاقتصاد في الاعتقاد (223-224).
([22]) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة (128).