المقدمة

المقدمة

هذه مقالات كتبتها في مناسبات مختلفة، لكنها تجتمع لتحقيق هدف واحد هو الدعوة للتقارب بين المذاهب الإسلامية، وخصوصا بين الطائفتين الكبيرتين في الأمة: السنة والشيعة.

وليس قصدي منها أن تنتفي الخلافات بينهما، ولا أن يتحول السنة إلى شيعة، ولا الشيعة إلى سنة.. فذلك لا أهمية له بالنسبة لي، فقد يتحول الشيعي إلى سني متطرف ممتلئ بالأحقاد.. وقد يتحول السني إلى شيعي خرافي غارق في الأساطير والأوهام.. وبذلك يتخلص كل منهما من علة ليقع في علة، أو يتهرب من وضع ليقع في وضع لا يقل خطورة عنه.

وإنما هدفي منها هو ردم بعض الحفر التي حفرها المغرضون بين هاتين الطائفتين الكبيرتين، وتبيين أن نقاط الخلاف محدودة، وأنه يمكن تجاوزها، وأننا يمكن أن نعيش بمشاعر [الأمة الواحدة] في ظل ذلك الاختلاف.

ولتحقيق هذا الغرض عالجت هذه المقالات بطريقة بسيطة بعض القضايا الكبرى التي أوقع الشيطان بسببها الفتنة بين كلتا الطائفتين.. وبينت أن كليهما يحمل صورة خاطئة عن الآخر.. وأن لكليهما جوانب مشرقة.. كما أن لكليهما حظه من الانحراف والبدعة والابتعاد عن الدين الأصيل.

وقد حرصت فيها أن أكون على مسافة واحدة بين الجميع، وما يبدو من الدفاع أحيانا عن جهة من الجهات دون غيرها، فذلك لأني رأيت الحرب معلنة عليها.. والشريعة والأخلاق والقيم النبيلة تدعونا لأن نقف في صف المستضعفين، وألا نخذلهم، ولو بالكلمة والنصيحة.

وأنا أعلم أن الكثير مما كتبته فيها لن يرضي الكثير من الأطراف، ففي السنة متشددون يعتبرون التقارب بين المسلمين بدعة وضلالة، ويسلطون كل سيوف حقدهم على من يدعو إلى ذلك.. ويحتجون له بأن بعض المشايخ كالقرضاوي، بعد أن أمضى سنين من عمره يدعو إلى الوحدة والتقارب ندم على ذلك، وعلم أن إخوانه وزملاءه من السلفيين كانوا على حق..

ولست أدري كيف يرد الفكر المستنير الوحدوي لجيل من أفاضل العلماء كالشيخ شلتوت والمراغي وأبو زهرة والغزالي وغيرهم كثير، بتراجع شخص واحد، لسنا ندري أهدافه ولا دوافعه ولا المتآمرون الذين يقفون خلفه.

ومثل هؤلاء الداعين للفتنة في المعسكر السني نجدهم في المعسكر الشيعي بدعوى حماية المذهب أو رفع التقية.. وهؤلاء الذين تمولهم أمريكا وبريطانيا، ولهم مؤسسات إعلامية في تلك الدول.

وليتهم اكتفوا بمعارضة التقارب.. بل إنهم راحوا إلى مقدسات المسلمين وخصوصا ما يتعلق بعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي اتفقت الأمة على تنزيهه وعصمته، يسيئون إليه، ليتستثيروا غيرة المسلمين، وليملأوا قلوبهم أحقادا وظغائن.

وللأسف.. فإن أولئك الحاقدين من السنيين الذين وقفوا في وجه التقارب لم يخطو خطوة تجاه هذا المعسكر الشيعي المبتدع، ولم يطالبوا بإغلاق قنواته الفضائية المسمومة، وإنما راحوا للقنوات الداعية للتقارب يحرضون عليها، ويطالبون بغلقها، بل يغلقونها بالفعل، ويستغلون أولئك الأغبياء المتآمرين.

وأنا أعلم في الأخير بأن هذا جهد المقل.. ولذلك أتمنى من زملائي الباحثين أن يسعوا لتحقيق هذه الغاية النبيلة، ويحيوا تلك الدار المباركة التي قامت لإحياء سنة التقارب بين المذاهب الإسلامية، والتي يسعى الآن كل المغرضون لهدمها.

وهم يتناسون كل تلك الأوامر القرآنية الناهية عن الشقاق والخلاف بين المسلمين، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159]، فهذه الآية الكريمة تضع معيارا خطيرا للمنحرفين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن دينه الأصيل، وهو تفريق الدين، وتحويله إلى شيع يحارب بعضها بعضها، ويفخر بعضها على بعض.

وقد علمنا الله تعالى الموقف الصحيح الذي نقفه عند وقوع مثل هذا النزاع، فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الحجرات: 9]، فالآية الكريمة لا تشير إلى النزاع المسلح فقط، بل تشير معه إلى النزاع الأخطر وهو نزاع الأفكار المختلطة بالأهواء.

فالواجب الشرعي في كليهما ليس في تحريض طرف على طرف، وإنما في الصلح الذي نص القرآن الكريم على وجوبه في كل حالة، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]

وهكذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن من أفضل الأعمال الصلح بين المسلمين، ففي الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: هي تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)([1])

هذه بشارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ونحن نسعى أن يمن الله علينا بتحقيقها حتى نغطي قصورنا في نوافل الصلاة والصيام والصدقات.. ونسأل الله أن يتقبل منا.


([1])  رواه الترمذي، وأبو داود.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *