المقدمة

المقدمة

من القصص التي لها تأثير عرفاني وسلوكي كبير في القرآن الكريم قصة آدم عليه السلام، ورفض إبليس السجود له، وتوعده بإخراجه من الجنة، وتوعده بإضلال ذريته..

فتلك القصة تعيدنا إلى حقيقتنا، وسر هبوطنا إلى الأرض، وسر العدو الأكبر الذي يتربص بنا، ويريدنا ألا نعود إلى الجنة التي خرجنا منها..

وللأسف فإننا كثيرا ما ننسى هذه القصة رغم ورودها مرارا في القرآن الكريم، وننسى معها إبليس، وننسى معها وعيده، وننسى معها الجنة التي خرجنا منها، ووعدنا الله أن نعود إليها، وتوعدنا إن انضممنا إلى حلف إبليس أن نحشر معه، ونلعن معه.. لأننا وضعنا قصصا أخرى، وأعداء جددا، وأعطينا إبليس الكثير من الحق من حيث لا نشعر حين اعتبرنا السجود ومعه كل سلوك تعظيمي نوجهه لأولياء الله شركا وضلالا وكفرا..

والأخطر من ذلك كله هو أننا نسينا في خضم ذلك الجدل الكبير الذي ملأ حياتنا بالعبث أننا يمكن أن نتحول إلى أبالسة صغارا أو كبارا.. لأن الإبليسية لا تقتصر على فرد من أفراد الجن عارض ذات يومه ربه العظيم.. وإنما الإبليسية سلوك ينبع من أمراض باطنية خطيرة تنطلق من إلغاء الآخر والتكبر عليه وممارسة كل أنواع الأذى له.

فجريمة إبليس الكبرى لا تكمن فقط في ذلك الموقف الذي وقفه يوم طلب الله تعالى منه السجود لآدم، وإنما تكمن في تلك النفسية المستكبرة المستعلية الحاقدة التي فضحها يوم السجود، وأخرج ما في سرائرها من أنواع الحقد والكبر والاستعلاء.

جريمة إبليس الكبرى هي مقولته الخطيرة: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } [الأعراف: 12]، والتي تمثل الاستعلاء في أعلى درجاته.. ذلك أن الذي يحدد الخيرية هو الله.. وليس لأحد من الناس أي كان أن يطغى ويستعلي، ويقول لغيره: أنا خير منك.. وإلا كان مصيره مصيره إبليس.. بل هو في الحقيقة ليس سوى جندي من جنوده، ووارث من ورثته.

فوراثة إبليس هي وراثة ذلك الاستعلاء والكبر الذي ينشأ عنه إلغاء الآخر وتحقيره والتهوين من شأنه.

وقد كان للشيطان في كل ملة من الملل، أو أمة من الأمم ورثة ورثوه في هذا الجانب.. وكان أولئك الورثة هم مشعلو الحروب ومثيروا الفتن..

ولا تختلف هذه الأمم عن تلك الأمم جميعا.. فللشيطان حظه منها.. وله ورثته فيها.. وأول ورثته هم أولئك الذين زعموا لأنفسهم احتكار الدين.. بل احتكار الكتاب والسنة.. بل احتكار الله ورسوله.. وراحوا بكل ما لديهم من أدوات الحقد والكراهية التي ورثوها من إبليس يجلسون على عروشهم الشيطانية يصنفون الناس بحسب أهوائهم وأمزجتهم.. فيكفرون ويبدعون ويضللون.. ثم يفتون الفتاوى الخطيرة التي ملأت أنهار المسلمين دماء.. وحولت حياتهم إلى دمار وخراب.

وبعبارة صريحة لا لبس فيها ولا غش، فإن [السلفية] هي هذه الطائفة التي اختارت لنفسها أن ترث كبرياء إبليس وعتوه طغيانه واحتقاره لغيره..

لأن إبليس وإن قال كلمته الخطيرة: أنا خير منه.. مرة واحدة.. فإن هؤلاء السلفية يرددونها كل يوم وفي كل حين ومع كل الناس.. بل إنهم لا يتعاملون مع العالم إلا من آفاق هذه الخيرية التي يزعمونها لأنفسهم.. فلذا تراهم يعاقبون مخالفيهم بالهجر والاحتقار والتكفير والتقتيل..

انطلاقا من هذا تحاول هذه القصص أن تصور مشاهد لهذا الاستعلاء والتكبر، لتوضح بعض الحقائق التي لم تطق كتبنا الأخرى من هذه السلسلة توضيحها..

فهذا الكتاب هو عبارة عن مشاهد درامية مؤلمة تصور ما ذكرناه في كتابنا [كلكم كفرة] وغيره من الكتب التي ملأناها بالأدلة العلمية الكثيرة على هذا التجبر والطغيان السلفي.

وقد حاولنا في هذه القصص العشرة أن نضع في كل قصة مشهدا من المشاهد المرتبطة بالقضايا المختلفة.. وكلها تتفق على شيء واحد، وهو تصوير الاستعلاء الديني أو الوراثة الإبليسية.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *