المقدمة

من التهم التي طالت السلفية في عصورها المختلفة من لدن الكثير من العلماء المعتبرين تهمة [التكفير]، ولهذا نجدهم أحرص الناس على رميها عن أنفسهم، والاحتيال لذلك بكل صنوف الحيل والدهاء التي تعلموها من أساتذتهم من السلف الأول والآخر.
وأول تلك الحيل هي الاحتيال على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، وذلك بتأويل كل ما ورد في النصوص من تحذيراته صلى الله عليه وآله وسلم من وجود طائفة من الأمة، تتقن التكفير كما تتقن الرياء والخداع، كما تتقن احتكار الدين ومصادره وتشريعاته، كما تتقن فن الإرهاب والعنف بكل أنواعه([1]).. إلى طائفة قد ذهب بها التاريخ في غابر الزمان، ولم تمكث إلا فترة محدودة جدا لا تكاد تعتبر.. وكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أولى تلك الطائفة كل تلك الأهمية غفل عن طائفة أخطر، وأكثر تضليلا وتكفيرا، وأكثر إرهابا وعنفا، وأطول مدة وزمنا.
وثاني تلك الحيل هو ما تعلموه في فن الجرح والتعديل من الجمع بين توثيق الراوي الواحد وتضعيفه، حتى إذا ما أعجبهم حديثه غلبوا التوثيق على التضعيف، وإذا لم يعجبهم حديثه غلبوا التضعيف على التوثيق.
وهكذا فعلوا مع التكفير.. وهكذوا غرروا بالكثير من الطيبين الذين لا يعرفون حيلهم ومكرهم، فأغروهم ببعض الكلمات المعسولة التي وردت عن سلفهم وخلفهم في أنهم طيبون، وأنهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة، وأن التكفير شأن الخوارج، وأن فلانا من الناس قال كذا يوم كذا.. وهكذا.
فإذا قيل لهم: كيف تقولون هذا، وقد أجمع سلفكم الأولون والآخرون على تكفير كل منكر للجهة، وأن من لم يقل بأن الله في السماء، فهو كافر زنديق، وجهمي معطل.. ولو طبقنا هذه المقولة وحدها على جميع مدارس الأمة وعلمائها من الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة وأتباع المذاهب الفقهية والصوفية والشيعة والزيدية والإباضية وغيرهم، لوجدناها تنطبق عليهم جميعا، لأنهم جميعا لا يقولون بالجهة، وينزهون الله عن المكان.
وهكذا لو طبقنا مقولات السلف الأول والآخر على أن الحروف القرآنية مخلوقة، فإن ذلك سيخرج الأمة جميعا من الملة.
وهكذا لو طبقنا مقولات السلف الأول والآخر على أن رؤية الله تتعلق بالقلب، ولا علاقة لها بالحس، وأن الله لا يرى كما ترى الأشياء، لأنه ليس كالأشياء..
وهكذا لو طبقنا الكثير من مقولاتهم التكفيرية التي تمتلئ بها كتب عقائدهم وفقههم وحديثهم وتفسيرهم.. فكلها مشحونة بأصناف التكفير..
لكنهم، ولدهائهم وحيلتهم بدل أن يتبرؤوا من تلك المقولات، ويستغفروا الله منها، يقومون بأنواع كثيرة من التقية، تجعلهم يحافظون على عصمة سلفهم في نفس الوقت الذي يحافظون فيه على سمعتهم، وأنهم ليسوا تكفيريين كالخوارج.
قد يقول البعض بأن هذه تقية، وأن الذي شرعها ووقع فيها هم الشيعة، وليسوا السلفية.. وهذا أيضا من أنواع الاحتيال التي مارسها السلفية مع خصومهم، فهم يطبقون جيدا تلك المقولة العربية المشهورة [رمتني بدائها وانسلت]، لأنهم يعمدون إلى معنى نبيل قام به قوم مضطهدون على مدار التاريخ، ليحموا أنفسهم من تلك المحاكم التفتيشية التي كانت تعقد لهم كل حين.. إلى تقية أخرى مملوءة بالكذب والدجل على الدين وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الأمة نفسها.
فالسلفية بمدارسهم المختلفة يطبقون ما قاله الشيخ ربيع المدخلي عن مدرسة من مدارس السلفية ينبزونها بـ(الحدادية)، فيذكر من مواصفات أصحابها: (التقية الشديدة، فالرافضي يعترف لك بأنه جعفري، ويعترف ببعض أصوله، وعقائده الفاسدة، وهؤلاء لا يعترفون بأنهم حدادية، ولا يعترفون بشيء من أصولهم، وما ينطوون عليه)([2])
وهكذا نجد الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق يشهد على الشيخ ربيع المدخلي أنه يستعمل التقية إذا ما احتاج إليها، أو كما عبر عن ذلك بقوله: (ولما وقع الشيخ ربيع فيما وقع فيه من وضع هذه الأصول الفاسدة أوقعه هذا في التناقض المشين، فبدأ يكيل بمكيالين! ويقول الشيء ونقيضه، وينقلب من الضد إلى الضد، وينزل أقوال السلف في غير منازلها، بل ويضع القرآن والحديث في غير مواضعه… وأصبح يرى أن العدل مع الدعاة والمصلحين من أصول أهل البدع، وإهدار الحسنات، والمؤاخذة بالزلات من أصول السنة، وأصبح يرى نفسه مضطراً إلى التقية والتدليس)([3])
بل إنه يشهد على أن هذه التقية مسلك سلفي يمارسه الكثير من الدعاة، فيقول: (لقد أوقع هذا المنهج الباطل أتباعه في التناقض والكيل بمكيالين، والحكم في المسألة الواحدة بقولين متناقضين، ولذلك أصبح كثير منهم من أهل التقية والكذب، فلهم أقوال في السر يبدعون بها سادات الناس لا يستطيعون قولها في العلن)([4])
بل إنهم شرعوا ذلك، واعتبروا الكذب فيه وفي غيره جائزا، لأنهم في حرب مع الأمة جميعا، والحرب خدعة، وقد قال الشيخ علي الخضير في بعض فتواه: (وإنما جازت المخادعة في الحرب مع ما فيها من الإيهام وإظهار خلاف الحقيقة لأن كون كل من المسلم والكافر قد نصب الحرب لصاحبه يدل دلالة صريحة على أنه يتربص به ويسعى للفتك به؛ بل يندب إليها كما يدل على ذلك صريح الحديث، واتفاق العلماء؛ ومفهوم الحرب في هذه الأحاديث أعم من أن يقصر على نصب القتال والتقاء الصفين وتقابل الزحفين.. ومن الحرب حرب الأفكار، وهي أشد من حرب القتال، فيجب استخدام الخدعة ويباح الكذب فيها لإظهار أهل البدع والشركيات وأهل الفرق الباطلة من روافض وزنادق وأهل علمنة وحداثة وقرامطة وغيرهم بمظهرهم المخزي لكي لايغتر بهم عوام المسلمين؛ وإظهار أهل السنة وأصحاب العقيدة السليمة بمظهرهم اللائق بهم.. ولهذا فإنه يجوز لك الكذب والشهادة وتغليظ اليمين لنصرة الدين الإسلامي ونهجه القويم ونصرة أخيك المسلم الصالح ممن يريدون به كيداً؛ وإذلال أهل البدع والضلالات والفرق الفاسدة)([5])
وما ذكره الشيخ الخضير هو ما يمارسه السلفية مع خصومهم من الأمة جميعا، فهم يكذبون عليهم، ويقولونهم ما لم يقولوا، ويكفرونهم بكل أنواع التكفير، لكنهم ـ وحرصا على سمعتهم وعلى منهجهم القويم كما يذكر الشيخ الخضير ـ ينكرون كل ذلك إذا ما كان المقام لا يسمح لذلك.
وقد أشار الشيخ الفوازان إلى هذا، فقد سئل هذا السؤال: (انتشر اليوم بين الشباب أنه يلزم الموازنة في النقد فيقولون: إذا انتقدت فلانا من الناس في بدعته وبينت أخطاءه يلزمك أن تذكر محاسنه، وهذا من باب الانصاف والموازنة، فهل هذا المنهج في النقد صحيح؟ وهل يلزمني ذكر المحاسن في حالة النقد؟)
فأجاب: (إذا كان المنتقد من أهل السنة والجماعة وأخطاؤه في الامور التي لاتخل بالعقيدة، فنعم، هذا تذكر ميزاته وحسناته، تُغمر زلاّته في نصرته للسنة. أما إذا كان المنتقد من أهل الضلال ومن أهل الانحراف ومن أهل المبادئ الهدامة والمشبوهة، فهذا لايجوز لنا أن نذكر حسناته – اذا كان له حسنات – لأننا إذا ذكرناها فإن هذا يغرر بالناس فيحسنون الظن بهذا الضال أو هذا المبتدع أو هذا الخرافي أو الحزبي، فيقبلون أفكار هذا الضال أو هذا المبتدع أو ذاك المتحزب. والله جل وعلا ردّ على الكفرة والمجرمين والمنافقين ولم يذكر شيئا من حسناتهم، وكذلك أئمة السلف يردون على الجهمية والمعتزلة وعلى أهل الضلال ولايذكرون شيئا من حسناتهم. لأن حسناتهم مرجوحة بالضلال والكفر والالحاد والنفاق. فلا يناسب انك ترد على ضال، مبتدع، منحرف، وتذكر حسناته وتقول هو رجل طيب عنده حسنات وعنده كذا، لكنه غلط.. نقول لك: ثناؤك عليه أشد من ضلاله، لأن الناس يثقون بثنائك عليه، فإذا روجت لهذا الضال المبتدع ومدحته فقد غررت بالناس وهذا فتح باب لقبول أفكار المضللين)([6])
وهكذا نرى السلفية يمارسون كل أنواع الحيل والأكاذيب والخدع مع خصومهم، ويعتبرون ذلك مشروعا، لأن قيام المنهج السلفي عندهم، وسيطرته على مفاصل الأمة هو الهدف الذي تسترخص في سبيله كل وسيلة.
وهكذا أيضا يخادعون حين يجادلون عن أنفسهم بأنهم لا يكفرون، مع أن كل دواوينهم التي يقدسونها تمتلئ بالتكفير، بل هي أكبر مخزن للتكفير في العالم أجمع.
وكمثال على ذلك الاحتيال والخداع السلفي الموقف من الأشاعرة، والذين يشكلون أكبر طائفة في الأمة على مدار التاريخ، حيث تبنى مذهبهم العقدي أكثر الشافعية والمالكية والحنابلة، فإننا لو طبقنا مقولات سلف السلفية في الرمي بالتجهم والتعطيل كل من أنكر العلو، أو عطل الصفات ـ كما يفهمها السلفية ـ فإن الحكم المرتبط بهم هو التكفير، لكنهم وبحكم كثرة الأشاعرة، وكون السلطة الزمنية كانت للحكام الذين يوالونهم في فترات مختلفة من التاريخ تذبذت مواقف السلفية التصريحية لا الحقيقية، فلهذا إن ووجهوا بأنهم يكفرون الأشاعرة أخرجوا بعض الفتاوى التي تبرئهم من ذلك، من أمثال قول ابن باز: (الأشاعرة من أهل السنة في غالب الأمور، ولكنهم ليسوا منهم في تأويل الصفات، وليسوا بكفار، بل فيهم الأئمة والعلماء والأخيار، ولكنهم غلطوا في تأويل بعض الصفات، فهم خالفوا أهل السنة في مسائل؛ منها تأويل غالب الصفات، وقد أخطأوا في تأويلها، والذي عليه أهل السنة والجماعة إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تشبيه)([7])
لكنهم يخفون فتاوى كثيرة لابن باز نفسه تكفر كل من يقول بقول الأشاعرة في الجهة وغيرها، ومن أمثلة ذلك فتوى اللجنة الدائمة في السعودية برئاسة الشيخ ابن باز نفسه عن سؤال قال صاحبه: (في هذه القرية مسجد مبسط ويجتمع فيه حوالى خمسمائه من المسلمين، ولكن للأسف فإن إمام هذا المسجد يعتقد عقيدة فاسدة وحلولية، يعتقد أن الله في كل مكان. وهناك كثير من الخرافات والبدع تقام بهذا المسجد غلبتني نفسي حتى تناقشت مع إمام هذا المسجد وطرحت عليه الأدلة والبراهين بأن الله في السماء مستو على عرشه وفي هذا إذ لانكيف ولانمثل.. وكذلك ذكرت له ليلة الإسراء والمعراج وذكرت له حديث الجارية، وكذلك {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] ولم يقتنع بل ظل في عتوه وعقيدته هذه وبالعلم أن هناك مسجد آخر في هذه القرية ويحمل نفس الخرافات والبدع، حتى الآن لم أطرح سؤالي، وسؤالي هو، هل يجوز لي أن أصلي خلف هذا الإمام أم لا ومع أني أحب أن أصلي صلاة الجماعة؟)
فمع كون هذه العقيدة هي عقيدة كل المسلمين ـ بمن فيهم الأشاعرة ـ ما عدا السلفية، إلا أن أكبر هيئة سلفية للفتوى، وتحت رئاسة الشيخ ابن باز نفسه، أجابت عن ذلك بقولها: (إنهم كفار، ولا تجوز الصلاة خلفهم ولا تصح)([8])
وهنا نتساءل أيهما نقبل: هل تلك الفتوى الدبلوماسية التي ذكرها ابن باز أو ابن عثيمين أو الفوزان، أو غيرهما، حتى ينفوا عن أنفسهم ما يصفهم به خصومهم من التكفير، أم مثل هذه الفتاوى التي تصرح بتكفيرهم، بل تجعل الصلاة خلفهم باطلة، مع أنهم يجوزون الصلاة خلف كل بر وفاجر.
ومن الحيل التي يستعملها السلفية في هذا الباب ما يسمونه عدم تكفير المعين.. ويقصدون بذلك أنهم لا يطلقون على أحد لقب الكفر، ولكن يصفون أعماله أو مواقفه بالكفر، فيقولون مثلا: نحن لا نكفر الأشاعرة ولا الماتريدية.. ولكن نكفر من ينكر الجهة، أو يقول بأن الحرف والصوت في القرآن الكريم مخلوق، أو يقول بتأويل الصفات.. وهم يعلمون كما يعلم الناس جميعا أن هذه المقولات هي مقولات الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة وغيرهم، بل كل الأمة، وهم يكفرونهم بذلك، لكن مع عدم ذكر الاسم فقط.. وهي لا تغني في منطق العقل شيئا، لأن المهم هو المسمى لا الاسم..
وهكذا نجدهم يذكرون في بعض المحال ما يسمونه العذر بالجهل.. مع أنهم لا يؤمنون بذلك، بل يذكرونه فقط من باب رفع العتب عنهم عندما يوصمون بالتكفير، وهم يرفعون هذا العذر عن كل جهة يريدون إعلان الحرب عليها، والحرب تبدأ عندهم بالتكفير.
ولهذا عندما احتاج الشيخ محمد بن عبد الوهاب وذريته وأتباعه إلى إعلان الحرب على عامة المسلمين، رد على هذه الشبهة، واستعمل التكفير المطلق، وحكم على عامة المسلمين بالشرك، وقد ذكر الشيخ علي بن خضير الخضير في كتابه [المُتَمِمَة لكلام أئمة الدعوة في مسألة الجهل في الشرك الأكبر] الكتابات الكثيرة التي ألفها أئمة الدعوة النجدية في الرد على تلك الشبهة، وإثبات أن كل من وقع ـ في نظرهم ـ في الشرك الأكبر مشرك عاميا كان أو عالما، فقال: (لم تظهر هذه الشبهة قبل عصر ابن تيمية، لأن كل من ادعى العذر فإن أقدم ما يستدل به من الأقوال كلام ابن تيمية أنه يعذر، ثم ظهرت هذه الشبهة في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وظهرت هذه الشبهة في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب على محورين: 1ـ أناس ضلال أثاروها فرد عليهم في مفيد المستفيد، 2ـ أخف لأنها ظهرت في أناس من باب الاشتباه وكانوا يطلبون الحق،أمثال بعض طلابه في الدرعية، وفي الاحساء ثم خمدت فيما بعد، ثم ظهرت في الجيل الثاني في زمن الحفيد عبد الرحمن بن حسن، تبناها داود بن جرجيس وعثمان بن منصور فتصدى لها الشيخ عبد الرحمن وساعده ابنه عبد اللطيف في مصنفات معروفة،وساعدهم أيضا الشيخ ابابطين، ثم ظهرت في الجيل الثالث فتصدى لها الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن والشيخ ابن سحمان في مصنفات وفتاوى وساعد على ذلك أبناء الشيخ عبد اللطيف وهما عبد الله وإبراهيم، ولازالت موجودة وتتجدد كل عصر، وهناك في العصر الحاضر من أظهر أن مسألة العذر بالجهل في الشرك الاكبر فيها خلاف، ثم يحكي الخلاف على قولين، وهذا موجود في بعض الكتب والمذكرات المعاصرة، مع أنه إذا ذكر الخلاف لاينسبه إلى أحد، وإنما ينسبه نسبة مطلقة، ومنشأ هذا الفهم هو ظنهم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب له قولان في المسألة حيث نظروا إلى بعض نصوص الشيخ محمد ففهموا منها العذر بالجهل، وهومبني على توهم وظن وفهم خاطئ، وهذا سوف نتكلم عليه إن شاء الله في فصول لاحقة ونجيب فيها عمن فهم هذه النصوص على غير المراد ونذكر الفهم الصحيح لذلك)([9])
وشبه الشيخ علي بن خضير الخضير هذه المسألة بمسألة تكفير الجهمية. وهم يقصدون به كما ذكرنا في محال مختلفة جميع منزهة الأمة من الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة وغيرهم ـ فقال: (وهذه مثل مسألة من قال إن تكفير الجهمية فيه خلاف على قولين ثم يحكي الخلاف ولا ينسبه إلى أحد إنما هو ظن خاطئ مبني على فهم خاطئ لبعض كلام ابن تيمية.. وهذا القائل لم يفرق بين استخدامات ابن تيمية لمسمى الجهمية، فإنه يختلف حسب السياق، وهذه ظهرت في عصر الشيخ سليمان بن سحمان فرد عليهم أن المسالة وفاقية في تكفير الجهمية وليس فيها خلاف كما في كتابه رفع الالتباس وكتاب كشف الشبهتين)([10])
بناء على هذا نرى السلفية في مواقفهم من غيرهم يستعملون أسلوبين:
الأول: وضع قوانين التكفير، أو ما يسمونه نواقض الإيمان، ويعتبرون كل من اتصف بها كافرا أو مشركا أو مرتدا، ثم يرتبون على ذلك الأحكام العملية المختلفة ابتداء من حرمة الصلاة خلفه إلى قتله، وهذا ما نسميه في كتابنا هذا بـ [التكفير المطلق]، وهم يتفقون في هذا سلفهم وخلفهم، بل يعتبرون منكر التكفير كافرا.
الثاني: تطبيق تلك القوانين والنواقض على آحاد الفرق والمذاهب، أو ما يسمونه [تكفير المعين]، وهنا يقع الخلاف بينهم على مدرستين أو منهجين، منهج يرى وجوب تسمية الأشياء بأسمائها، ومنهج يرى الأخذ بالتقية، مراعاة للأحوال المختلفة، فلذلك يطبق قوانين التكفير في كل مرحلة بحسب ما تدعو إليه الحاجة، حتى لا تجتمع السلفية على حرب الأمة جميعا في وقت واحد، فلهذا يعلنون الحرب مرة على الصوفية، ومرة على الحركات الإسلامية، ومرة على الشيعة وهكذا.
وهم في كل مرة يخرجون من خزائن سلفهم التكفيرية، ما يطبقونه على حسب كل حالة، ولهذا نراهم في الفترة الأخيرة يعلنون حربهم على الشيعة، وفي فترة سابقة أعلنوها على الصوفية.. ولو أن مشكلة حصلت بينهم أو بين أولياء أمورهم، والإباضية، فإنهم سيتوجهون جميعا وبكل قواهم لإعلان الحرب عليهم، واعتبارهم شرا من اليهود والنصارى.
ولأهمية بيان هذه المناهج لفهم الخدع السلفية في هذا الباب، فسنشرح ذلك باختصار، ليتضح ما سنذكره عن كل مدرسة وتكفير السلفية لها:
أولا ـ المنهج التكفيري الصريح:
وهو يعتمد على التصريح المباشر بالتكفير، وعلى تسمة الأشياء بأسمائها، وأول من مثل هذا المنهج سلف السلفية الأوائل، ومن تبعهم من أصحاب المصنفات الأولى، والتي تمثل عند السلفية المصدر الأول لما يسمونه [الإسلام العتيق]، والذي لا يكون سلفيا حقيقيا إلا من سلم له وآمن به، واعتقد بما فيه.. والذي نقله بعد ذلك ابن تيمية في كتبه ونظر له.. ونقله في مرحلة تالية الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه، وعلى أساسه قاموا بحروبهم على الأمة بجميع مذاهبها.
ويمثل هذا المنهج في كل عصر من العصور جماعة متشددة من السلفية تتفق في كل شيء مع الجماعات الأخرى إلا أنها تختلف عنها فقط في عدم مراعاتها للتقية، وهذا ما جعلها تسبب حرجا كبيرا للجماعات السلفية التي تتقن التقية.
ثانيا ـ المنهج التكفيري الخفي:
وهي التي تمارس التكفير على ضوء الحاجة التي يتطلبها الواقع، لا على ما تنص عليه المعتقدات نفسها، فهي تتفق مع المنهج الأول في كل شيء، وتختلف عنه فقط في استعمال التكفير أو الإعلان به..
فلهذا إن بدا لها أن تعلن الحرب على الصوفية أخرجت ميراثها الكثير من فتاوى السلف والخلف في تكفير الصوفية بطرقها جميعا، وتضليلهم واعتبارهم أكفر من اليهود والنصارى.. لكن إن رأت المصلحة أو كان الواقع السياسي لا يسمح بذلك، فإنها تكف عنهم شرها، بل تعتبرهم من أهل السنة قصد المكاثرة على الأعداء.
وكمثال بسيط على ذلك أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي هو مرجع السلفية الحديثة، يصرح في كل كتبه كما يصرح جميع تلاميذه بتكفير الصوفية وعوام المسلمين والحكم بكونهم مشركين شركا جليا، لكنهم في الوقت الحالي، وبسبب انشغالهم بالحرب مع الشيعة، نجدهم يوقفون كل تلك الحملة، التي تفرغ لها سلفهم، وقتلوا بها آلاف الناس، ليعتبروا العدو الأكبر هم الرافضة، وأن قضية الصحابة هي أكبر قضية في الدين.. مع أنهم لم يكونوا يهتمون بذلك كثيرا في الوقت الذي كانت علاقتهم فيه بمن يسمونهم الرافضة علاقة طيبة.
وهكذا نجد أصحاب هذا المنهج يمارسون كل أنواع الحيلة والخداع في إظهار التكفير أو الإسرار به، فإذا ما دعت الحاجة إلى ذلك أخرجوه، وإذا ما دعت إلى ضده كتموه..
ويمثل هذا المنهج ابن تيمية باعتبار الظروف الشديدة التي عاشها، والتي جعلته يضطر لممارسة أنواع من التقية في التكفير، والتي أقر أصحابه أنفسهم أن ابن تيمية لم يمارس ذلك التمييع مع المبتدعة أو الإرجاء إلا بسببها.
ويمثل هذا المنهج خصوصا كل من له علاقة بالدولة كهيئة كبار العلماء، ونحوهم، والتي تصدر البيانات، أو الفتاوى بحسب ما تتطلبه حاجة السلطان، فإن قضى أمر السلطان باعتبار القاعدة خوارج وكلاب أهل النار.. سموهم كذلك.. وأصدروا الفتاوى التحذرية منهم.. وإن رأى الحاكم أن من مصلحتهم استخدام هؤلاء المسلحين، أصدرت تلك الهيئات الفتاوى باعتبارهم مجاهدين، بل دعت إلى النفير العام الذي تزود به تلك الجماعات، لأنها أصلا لم تولد إلا من رحم تلك الفتاوى.
وقد ذكر الشيخ حسن بن فرحان المالكي العوامل السياسية، وتأثيرها في هذا المنهج، فقال: (العلماء من أواخر عهد ابن باز .. بدأت مرحلة جديدة فيه ملامح مذهب جديد في العقيدة، يقوم هذا المذهب على التلفيق بين أمرين.. الأول: العقائد الوهابية والتيمية من جهة الوصية بمصادرها والتشدد من نقدها.. الثاني: التسامح والاعتدال في المسائل السياسية فقط!… كالإمساك عن تكفير الدول الإسلامية وعن تكفير الحاكم بالقوانين الوضعية وفي جواز الصلح مع اليهود… والتنصل من تأييد الحركات الإسلامية المحلية خاصة مع أنها ترجمة للعقائد الوهابية)([11])
بناء على هذا نرى أصحاب المنهج التكفيري الصريح يتشددون على أصحاب هذا المنهج، ويذكرون جهلهم بالمنهج السلفي، وبأقوال السلف، وبممارستهم التقية حفاظا على مصالحهم.
ومن الأمثلة على ذلك قول خالد بن علي المرضي الغامدي في رسالته في تكفير الأشاعرة:(سينكر علينا بعض الجهال بحقيقة الدين ومناطات التكفير من الذين اتبعوا الهوى، فأسلموا عقولهم للتقليد وتقديس الرجال وتقديم أقوالهم على الأدلة تكفيرنا للأشاعرة، وسيظنون أنه اجتهاد منا، مع أن السلف لم يخالف منهم أحد في تكفير منكر العلو بعينه والذي تتبجح به الأشاعرة، ومن زعم وجود خلاف فليأت بنقل واحد من كلام السلف يخالف ما قررناه، وإذا كان السيوطي الذي جمع بين التجهم ونفي علو الله تعالى وبين الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعاء الأموات ونسبة التصرف في الكون للأبدال والأولياء أنكروا علينا تكفيره فلا تعجب يا أخا التوحيد أن ينكروا علينا تكفير الأشعرية فلقد أنكروا علينا قبله تكفير الرافضة)([12])
ثم ذكر بعض هؤلاء، وبين أن عذرهم في ذلك هو عدم قراءتهم للتراث السلفي أو عدم فهمهم له، أو حرصهم على مناصبهم، وعلى عدم اتهامهم بالتكفير، فقال: (وإن من هؤلاء المنكرين عبد العزيز آل عبد اللطيف، وإني لأعجب منه ومن أمثاله الذين اتخذوا التوحيد والدعوة الوهابية ستارا وشعارا، فتراهم يقرؤون في كتب التوحيد لكن دون فهمها والاستفادة منها، وعلمهم بها لا يتعدى حدود أسطر وصفحات الكتب دون الخروج به عملا في واقع حياتهم، فشروط التوحيد والكفر بالطاغوت ونواقض الإسلام قد يحفظونها لكن لا يعملون بمعانيها ومقتضاها ولا يطبقونها في واقع حياتهم خوفا من أن تصيبهم دائرة وطلبا للعزة والشهرة والمال والمنصب والشرف عند أعداء الله، فهذا الرجل ـ أعني ابن عبد اللطيف ـ أخرج كتابا عن دعاوى المناؤين لدعوة التوحيد لكن هو من المناؤين لها في الحقيقة، وكأنه لا يعلم أن من دعا إلى الشرك أنه يكفر كائنا من كان)([13])
بناء على هذا، فسنحاول في كتابنا هذا أن نذكر تكفير السلفية للأمة جميعا، إما تكفيرا مطلقا، أو تكفيرا معينا، وقد قسمنا هذه الدارسة إلى سبعة فصول، هي:
- السلفية .. وتكفير المدارس العقدية
- السلفية .. وتكفير المدارس الفقهية
- السلفية .. وتكفير المدارس الصوفية
- السلفية .. وتكفير المدارس الحركية
- السلفية .. وتكفير المدارس الشيعية
- السلفية .. وتكفير المدرسة الإباضية
- السلفية .. وتكفير المدارس السلفية
ونحب أن ننبه هنا ـ كما نبهنا مرات كثيرة
في هذه السلسلة وغيرها ـ أننا لا نكفر هؤلاء المكفرة، ولا نتعامل معهم بمثل ما
يتعاملون به مع غيرهم، بل نكل أمرهم إلى الله تعالى، فمسؤولية المؤمن هو النصح
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما الحكم على الناس، فهذا لله تعالى أولا
وآخرا، وإن كنا نعلم أن جرائمهم في حق هذه الأمة، بل في حق الإنسانية جميعا أضعاف
جريمة الكفر.. فالكفر والإيمان مسألة شخصية.. لكن تشويه الدين، وتكفير الناس،
وقتلهم جريمة متعدية.
([1]) أشير بذلك إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (سيخرج قوم في آخر الزمان، حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يقرؤون القرآن، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة)، رواه البخاري 9 / 86.
([2]) كشف أكاذيب وتحريفات وخيانات فوزي البحريني،37.
([3]) الرد الوجيز، ص 7.
([4]) الرد الوجيز ، ص: 38.
([5]) نقلا عن مقال بعنوان: متى يخلع شيوخ السعودية سراويلهم الغربية – شبكة المنطقة.
([6]) الأجوبة المفيدة في أسئلة المناهج الجديدة، 1/24.
([7]) مجموع فتاوى ابن باز ، (28 /256)
([8]) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 365)
([9]) المُتَمِمَة لكلام أئمة الدعوة، ص3.
([10]) المُتَمِمَة لكلام أئمة الدعوة، ص4.
([11]) نصيحة لشباب المسلمين في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص33.
([12]) تكفير الأشاعرة، ص12.
([13]) تكفير الأشاعرة، ص12.