المقدمة

المقدمة

يذكر السلفية بفخر واعتزاز الكتب الكثيرة التي تركها سلفهم الأول، والتي تشمل أكثر المعارف والعلوم، والتي لم يزاحمهم فيها أحد من المتقدمين أو المتأخرين.

فقد كتب سلفهم في علوم القرآن والحديث والعقيدة والفقه والسيرة والتاريخ والعلوم العقلية والعلوم الكونية الكتب الكثيرة التي لا يمكن عدها ولا إحصاؤها من كثرتها، وتشعب المجالات التي بحثت فيها.

وهم يرددون بفخر بأن كل علم من أعلام سلفهم وخلفهم ترك الكثير من التراث المعرفي في كل المجالات السابقة..

فقد كتب الطبري مثلا في التفسير كتايه المعروف الذي أثنى عليه ابن تيمية كثيرا (جامع البيان في تفسير القرآن) والذي طُبع في ثلاثين جزءًا، ويعتبر من أكبر التفاسير القديمة، بل يذكرون أنه رغب أن يُمليَ على طلابه فيه ثلاثين ألف ورقة، فما قدَرُوا، فلخَّصَه إلى ثلاثة آلاف ليسهل حفظه بنظرته.

وكتب في التاريخ كتابه المعروف (تاريخ الرسل والملوك)، وهو كتاب ضخم أيضا، وبدأ فيه من أخبار آدم عليه السلام إلى عصره.

وكتب في (تهذيب الآثار، وتفصيل معاني الثابت عن رسول الله k من الأخبار)، والذي جمع فيه الكثير من الآثار والأخبار.

وكتب في (اختلاف الفقهاء) كتابه المعروف (اختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام)، والذي ذكر فيه المسائل الخلافية بين المجتهدين؛ كالأئمة الثلاثة: أبي حنيفة ومالك والشافعي، وذكر فيه قول الأوزاعي والليث ونحوهم.

وكتب في الأخلاق كتابه (أدب النفوس الجيدة والأخلاق النفيسة)، والمعنون أيضا بـ (أدب النفس الشريفة والأخلاق الحميدة)

وكتب في (آداب القضاة)، و(آداب المناسك)، و(بسيط القول في أحكام شرائع الإسلام)، و(التبصير في معالم الدين)، و(الخفيف في أحكام شرائع الإسلام)..

وغيرها من الكتب الكثيرة حتى قال فيه الخطيب البغدادي: (وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تارخ الأمم والملوك، وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله، وكتاب سماه (تهذيب الآثار) لم أر سواه في معناه إلا أنه لم يتمه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختيار من أقاويل الفقهاء)([1])

ويحكي عن بعضهم: أن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة.. وعن آخر أنه لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيرا، وعن أبي القاسم بن عقيل الوراق، أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فقال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة. ثم قال: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوا مما ذكره في التفسير فأجابوه بمثل ذلك، فقال: إنا لله ماتت الهمم([2]).

وهكذا يذكرون باعتزاز قول الذهبي في ابن تيمية: (إنه صار من أكابر العلماء في حياة شيوخه… ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعةَ آلاف كُرَّاسٍ وأكثر، وفسَّر كتاب الله -تعالى- مدة سنين من صدره أيامَ الجُمَع، وكان يتوقَّد ذكاءً، وسماعاته من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مائتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظه للحديث ورجاله وصحيحه وسقيمه مما لا يُلحق فيه، وأما نقله للفقه ولمذاهب الصحابة والتابعين، فضلاً عن المذاهب الأربعة، فليس له نظير، وأما معرفتُه بالملل والنِّحَل، والأصول والكلام، فلا أعلم له فيه مثيلاً، ويدري جملةً صالحة من اللغة، وعربيَّتُه قوية جدًّا، وأما معرفته بالتاريخ والسير فعجبٌ عجيب)([3])

ويذكرون قول تلميذه ابن عبدالهادي: (وللشيخ رحمه الله من المصنفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل وغير ذلك من الفوائد ما لا ينضبط، ولا أعلم أحداً من متقدمي الأئمة ولا متأخريها جمع مثل ما جمع، ولا صنّف نحو ما صنّف ولا قريباً من ذلك)([4])

هذه مجرد أمثلة ونماذج عن اجتهاد السلفية سلفهم وخلفهم في التأليف في كل المجالات المعرفية.. وهو مما لا يمكن أن ينازعهم فيه أحد، فالمكتبات مليئة بكتبهم، والمواقع الإلكترونية المختصة بكتب التراث لا تكاد تعرف غير آثارهم، ومثل ذلك الكتب الحديثة، فهي من الكثرة بحيث لا يمكن إحصاؤها أو التقليل من شأنها.

ولكن المشكلة التي نريد طرحها في كتابنا هذه ليست في الكم، وإنما في الكيف.. فهل هذه الكتب أو هذا التراث العريض الذي يفخرون به، والذي يزعمون ارتباطه بالكتب والسنة، بل يزعمون أنه لا يمكن أن يفهم الكتاب والسنة إلا من خلاله، ينتسب حقا للكتاب والسنة، وأنه شرح لهما، وتفصيل لمجملهما، وكشف لغامضمها، أم أنه ليس سوى اجتهادات بشرية أثرت فيها البيئة والثقافة والعادات والتقاليد، وأنه بذلك أصبح خليطا من المقدس والمدنس والهوى والحقيقة؟

والتساؤل الذي يأتي بعد هذا عن علاقة هذا التراث بالعقل، وخاصة العقل الحديث الذي كشفت له الكثير من المعارف والعلوم التي لم يكن يتسنى للسلف الأول الاطلاع عليها، وهل يستطيع التراث السلفي ـ وخاصة وهو يقحم أنفه في كل شيء ـ أن يصمد أمام هذا الواقع العلمي، أم أنه سينهار، كما انهارت نظريات بطليموس أمام علم الفلك الحديث؟

والتساؤل الذي يأتي بعد هذا.. وهو من أهم التساؤلات.. هو عن نوع الشخصية التي يشكلها من يتقوت من هذا التراث.. وهل هي شخصية علمية عقلانية قرآينة ممتلئة بالأدب والتواضع، أم أنها شخصة مشحونة بالأحقاد، تخلط التدين بكل الأمراض النفسية والعقد العصبية، ولا تستطيع أن تنسجم مع واقعها، ولا تستطيع أن تتعايش معه؟

هذه هي التساؤلات الكبرى التي يحاول هذا الكتاب أن يجيب عليها، كما تحاول هذه السلسلة جميعا [الدين.. والدجل] أن تجيب عليها.

وقد قسمنا الكتاب بحسب أقسام التراث السلفي إلى سبعة أقسام، كل قسم يتناول صنفا من أصناف العلوم الكبرى التي اهتم بها السلفية وصنفوا فيها.

ونحب في هذه المقدمة أن نجيب باختصار على شبهة قد تعرض لمن يقرأ هذا الكتاب، وخاصة لمن يطلع على سعة التراث السلفي، فيتعجب عن كيفية عرض هذا التراث ونقده في هذه الصفحات المحدودة.. والجواب على ذلك من وجوه:

أولها: أن التراث السلفي مع كثرته وسعته ممتلئ بالتكرار.. فكل سلفي يكرر سلفه ويعيد إحياءه من جديد، إما بهيئته التي ظهر بها أول مرة، أو ببعض النفخ فيه ليتحول إلى شخص مقدس، بعد أن كان شخصا عاديا.. فابن خزيمة مثلا كان في عصره عالما كسائر العلماء، ومحدثا كسائر المحدثين.. لكن من بعده حوله إلى إمام..ومن بعده حوله إلى إمام الأئمة.. فصار الآن يعرف بإمام الأئمة.

وهكذا ابن تيمية وابن القيم والذهبي.. وغيرهم.. والذين تحولوا جميعا إلى أيقونات مقدسة لا ينقص السلفية سوى أن يصلوا عليهم متى ذكروهم، بل لا ينقصهم سوى أن يضيفوا إليهم ما يضيفونه إلى الله من عزة وتعال وجلال.

ثانيا ـ أننا في هذا الكتاب سنركز على القضايا الكبرى التي تميز بها التراث السلفي، ولا نهتم كثيرا بالتفاصيل.. اللهم إلا إذا احتجنا إليها للدلالة على أمر، أو توضيح قضية.. والهدف منها ليس التفاصيل في حد ذاتها، وإنما القضية التي نريد إثباتها، والتي لم نر وسيلة للدلالة عليها سوى تلك التفاصيل.

ثالثا ـ نحن لا ننكر أن يكون في التراث السلفي بعض المحاسن، أو الكثير من المحاسن.. ولكنها وحدها لا تكفي، فمفسدة واحدة قد تقضي على المحاسن جميعا، والشيطان لا يضع سم مكره إلا في عسل كثير من المحاسن.. ولهذا حاولنا في هذا الكتاب أن نسلط مجهر التحقيق على تلك الفيروسات التي تكمن في التراث السلفي لتنحرف به إلى خدمة المشروع الشيطاني، ومواجهة المشروع الرباني.

وفي ختام هذه المقدمة نذكر أن هذا جهد المقل، وأن مثل هذه الأعمال تحتاج إلى دراسات نقدية كثيرة، مع جرأة كبيرة، لأنه لا يمكن تمييز الدين من الدجل إلا بالبحث الجريء الصادق الذي يعتمد القرآن والعقل وسائل للتصحيح والسير على الصراط المستقيم.


([1])   تاريخ بغداد (2/ 548)

([2])   تاريخ بغداد (2/ 548)

([3])   انظر: الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية ص 26.

([4])   العقود الدرّية في بعض مناقب ابن تيمية، ص37..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *