المقدمة

المقدمة

يخطئ الكثير من الباحثين في نظرتهم للظاهرة السلفية حين يقصرونها على مجرد سلوكات ومواقف وبعض الأفكار المتطرفة التي قد يتبناها بعض الناس في مرحلة من حياتهم، أو في كل حياتهم نتيجة فهم متشدد للدين.. فهذه نظرة سطحية محدودة لا تمثل الواقع السلفي، ولا تستطيع بهذا التحديد أن تفهمه، ولا أن تعالجه.

لأن الظاهرة السلفية في حقيقتها وجوهرها منهج في التفكير لا يختلف عن المناهج التي اعتمدتها المدارس الفكرية المختلفة كالفلاسفة والمتكلمين والصوفية وغيرهم..

فكما أن الفلاسفة يعتمدون العقل المجرد لدراسة الظواهر المختلفة سواء كانت مجردة أو حسية لفهم الوجود، وكيفية التعامل معه.. وكما أن المتكلمين يحاولون التوفيق بين العقل المجرد والنص المقدس لفهم حقائق الوجود.. وكما أن الصوفية يعتمدون تجريد الباطن ليصبح محلا صالحا لتنزل حقائق الوجود.. فهكذا السلفية لهم منهجهم الذي نحاول في هذا الكتاب أن نتعرف عليه لنفهم بعد ذلك المصدر الذي ينبع منه فكرهم وسلوكهم ومواقفهم.

ذلك أن التفكير هو المصنع الذي ينتج الأفكار.. والأفكار هي المصنع الذي ينتج المواقف والسلوكات.. ولذلك لا يمكن أن نفهم الظاهرة السلفية، ونحن نجهل المنبع الأساسي الذي يصدر منه كل ذلك الفكر والسلوك والمواقف.

ونحب أن نستبق النتائج لنذكر أن العقل السلفي يختلف اختلافا جذريا عن العقل الفلسفي والعقل الكلامي، لأن كليهما يحاول أن يبذل جهدا فكريا للوصول إلى الحقائق سواء باعتماده على العقل المجرد، أو مزجه بين العقل المجرد والوحي الإلهي.. والعقل السلفي لا يطيق مثل هذا الجهد، وليس لديه الآليات التي تسمح له بذلك، ولهذا نراه يعادي كلا العقلين، ويتهمهما بالهرطقة والزندقة.

أما العقل الصوفي، فهو مع اختلافه الشديد عنه، إلا أنه يتفق معه في ناحية التجرد للوصول إلى الحقيقة.. ويختلف عنه في الجهة التي يستقبل منها الحقيقة.. فبينما يرى الصوفية أنها الإلهام والعلم اللدني وتلك الفتوحات الإلهية التي يفيضها الله على قلب الصوفي بعد تحققه بالعبودية والإخلاص والتجرد.. أما السلفي فيرى أنها [السلف]، أي أن السلفي يتجرد من عقله وتفكيره وتأمله ليترك لسلفه الحرية في أن يضع في عقله ما يشاء.. باعتبار السلف كائنا مقدسا، ولا ينطق عن الهوى، ولا تعتريه الأخطاء.. فلذلك كان ـ في تصوره ـ مصدرا صالحا لتلقي الحقائق من دون تلك الرياضات الشديدة التي يمارسها الصوفية، ومن دون ذلك التأمل العميق الذي يمارسه الفلاسقة أو المتكلمون.

ولهذا فإن العقل السلفي أكثر العقول راحة، لأنه لا يحتاج سوى لمعرفة رجال السلف الذين يأخذ عنهم دينه، ثم يسمع ما ذكروا، ويحفظه، ويظل يردده، وبقدر حفظه لمقولات السلف بقدر تمكنه من الدين والعلم.

وهو في استقباله لما قال السلف لا يحتاج إلى عرض ما ذكروا على عقله المجرد الفطري ـ كما يفعل سائر الناس ـ لأن العقل حجاب، وقيد يحول بينه وبين الإيمان الذي يقتضي الاتباع المجرد.

ولهذا فإن العقل السلفي يمزج بشكل عجيب بين المتناقضات.. فهو يمزج بين المقدس والمدنس.. وبين الحقيقة والخرافة.. ولا يشعر بأي تناقض بينها.. لأن دوره هو الحفظ والسماع والرواية، لا التفكير والنقد والدراية.

وهذا الذي ذكرناه وانطلقنا منه لم نقله من عند أنفسنا، بل هو مجرد وصف لما يذكرونه في كل كتبهم.. فالسلفي الخالص عندهم هو الذي لا يفكر أبدا.. حتى أنه لا يتدبر القرآن الكريم ليستنبط منه أنواع العلوم والفوائد.. لأن التدبر حكر على السلف.. أما الخلف فليس له إلا أن يسمع ويطيع لما يقوله جنرالات السلف الصالح.

ولهذا لا يكتفون عند ذكرهم لضرورة الرجوع للكتاب والسنة لاستنباط الحقائق بالكتاب والسنة، بل نراهم يضمون إليهما شرطا أساسيا، وهو [بفهم السلف]، أي أننا لسنا أحرارا في أن نفهم الكتاب والسنة بحسب ما تقتضيه اللغة والعقل ـ كما يقول المتكلمون والفقهاء ـ أو بحسب ما يفتح الله علينا به ـ كما يقول الصوفية ـ وإنما ينبغي ان نفهمهما بحسب ما يرويه لنا السلف، فهم أقدر على فهم الدين منا.

ولأهمية هذه النقطة في فهمنا للعقل السلفي، سأنقل هنا بتصرف حوارا طويلا جرى بين الشيخ الألباني والأستاذ عبدالحليم أبو شقة مؤلف كتاب [تحرير المرأة في عصر الرسالة]، والتي يمارس فيها الألباني دور الموجه.. ويمارس فيها الأستاذ دور المريد أو السلفي البسيط الذي ليس عليه سوى السمع والطاعة، فمن قال لشيخه: لم.. لا يفلح أبدا.

وتبدا المحاورة من سؤال الشيخ الألباني للأستاذ: إن قيل لك ما مذهبك فما أنت قائل؟

قال الأستاذ: مسلم.

قال الألباني: هذا لا يكفي.

قال الأستاذ: لقد سمانا الله المسلمين، قال تعالى: ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الحج 78]

قال الألباني: هذا جواب صحيح لو كنا في العهد الأول قبل انتشار الفرق، فلو سألنا الآن أي مسلم من هذه الفرق التي نختلف معها جذريا في العقيدة لما اختلف جوابه عن هذه الكلمة فكلهم يقول ـ الشيعي – الرافضي – الدرزي – النصيري – العلوي ـ: أنا مسلم إذن هذا لا يكفي في هذه الأيام.

قال الأستاذ: إذن أقول أنا مسلم على الكتاب والسنة.

قال الألباني: أيضاً هذا لا يكفي.

قال الأستاذ: لماذا؟

قال الألباني: هل تجد واحداً من هؤلاء الذين ضربناهم مثلا يقول أنا مسلم لست على الكتاب والسنة، فمن الذي يقول أنا لست علي الكتاب والسنة؟

ثم أخذ الشيخ الألباني يبين له أهمية الضميمة الثالثة [الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح]، وبعد أن اقتنع الأستاذ بذلك قال: إذن أنا مسلم على الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح.

قال الألباني: إذا سألك سائل عن مذهبك فهل تقول له ذلك؟

قال الأستاذ: نعم.

قال الألباني: ما رأيك نختصرها لغة لأن خير الكلام ما قل ودل فنقول: (سلفي)

قال الأستاذ: قد أجامالك وأقول لك نعم، لكن اعتقادي ما سبق، لأن أول ما ينصرف فكر الإنسان عندما يسمع أنك سلفي إلي أشياء كثيرة من ممارسات فيها شدة تصل إلي الغلظة قد تقع من السلفيين.

قال الألباني: هب صحة كلامك فإذا قلت مسلم ألا ينصرف إلي شيعي أو دُرزي أو اسماعيلي؟

قال الأستاذ: من الممكن لكن أكون قد اتبعت الآية الكريمة﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الحج 78]

قال الألباني: لا يا أخي إنك لم تتبع الآية، لأن هذه الآية تعني الإسلام الصحيح، ينبغي أن يخاطب الناس علي قدر عقولهم، فهل يفهم أحد منك أنك مسلم بالمعني المراد في الآية؟ والمحاذير التي ذكرتها آنفا قد تكون صحيحة أو غير ذلك لأن قولك شدة قد يكون هذا في بعض الأفراد وليس كمنهج عقدي علمي، فدعك من الأفراد لأننا نتكلم عن المنهج، لأننا إذا قلنا شيعي أو دُرزي أو خارجي أو صوفي أو معتزلي ترد المحاذير التي ذكرتها، إذن فليس هذا موضوعنا فنحن نبحث عن اسم يدل علي مذهب الإنسان الذي يدين لله به.

ثم قال الألباني: أليس الصحابة كلهم مسلمين؟

قال الأستاذ: طبعاً.

قال الألباني: لكن فيهم من سرق وزنى، وهذا لا يسوغ لأحدهم أن يقول أنا لست مسلماً، بل هو مسلم ومؤمن بالله ورسوله كمنهج، لكنه قد خالف منهجه أحياناً لأنه غير معصوم، ولذلك فنحن ـ بارك الله فيك ـ نتكلم عن كلمة تدل علي عقيدتنا وفكرنا ومنطلقنا في حياتنا فيما يتعلق بشؤون ديننا الذي نعبد الله به، وأما فلان متشدد أو متساهل فأمر آخر.

ثم قال الشيخ الألباني: أريد أن تفكر في هذه الكلمة الموجزة حتي لا تبقي مصراً علي كلمة مسلم وأنت تعلم أنه لا يوجد أحد يفهم منك ما تريده أبداً فإذاً خاطب الناس على قدر عقولهم وبارك الله لك في تلبيتك([1]).

هذه هي المحاورة، ولا نقول المناظرة، لأن أحد الطرفين كان مجرد ملقن، والآخر مستمع، وهي توضح الأسس التي يقوم عليها المنهج السلفي، فهو منهج يعتمد على السلف لا على العقل.. ولا حتى على النقل.. لأن النقل أصبح ملكا للأمة جميعا، وهم يحتاجون أن ينفردوا عنها، وكان الانفراد باتخاذ سلف محدد يتميزون به عن غيرهم.

وما ذكره الألباني هو نفس ما يذكره جميع أعلام السلفية ابتداء من متقدميهم الذين ألفوا الكتب الكثيرة في نصرة علم السلف على علم الخلف..

يقول ابن تيمية: (ولا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزي إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق، فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقا)([2])

وقال المؤرخ السلفي الكبير الحافظ الذهبي في ترجمته للحافظ الدارقطني: (لم يدخل الرجل أبدا في علم الكلام ولا الجدال ولا خاض في ذلك، بل كان سلفيا)([3])

وسُئل الشيخ ابن باز فى محاضرة ألقيت فى الطائف بعنوان (حق المسلم): ما تقول فى من تسمى بالسلفي والأثري هل هى تزكية؟ فأجاب: (إذا كان صادقاً أنه سلفي أو أثري فلا بأس مثلما كان السلف يقولون: فلان أثري وسلفي تزكية لابد منها تزكية واجبة)

وانطلاقا من هذا، فإن حوارات السلفية مع المخالفين لا تنطلق من المناقشات العلمية العقلية الهادئة التي ينتصر كل طرف فيها لحجته، بل إنها تنطلق من ذلك الاستعلاء الذي يتصورونه لأنفسهم.. فهم يرون أن الحق لهم، لأن أقوال السلف معهم.. ويرون أن غيرهم على الباطل، لأنه يعمل عقله، أو يفكر بطريقة تختلف عن تفكير السلف.

ومن الأمثلة على ذلك أن الشيخ صالح الفوزان سئل: (هل من تسمى بالسلفية يعتبر حزبي؟)، فأجاب: (التسمي بالسلفية إذا كان حقيقة لا بأس به أما إذا كان مجرد دعوى، فإنه لا يجوز له أن يتسمى بالسلفية وهو على غير منهج السلف، فالأشاعرة – مثلا – يقولون: نحن أهل السنة والجماعة، وهذا غير صحيح، لأن الذي هم عليه ليس هو منهج أهل السنة والجماعة، كذلك المعتزلة يسمون أنفسهم بالموحدين.. فالذي يزعم أنه على مذهب أهل السنة والجماعة ويترك المخالفين، أما أنه يريد أن يجمع بين الضب، والنون: كما يقولون، أي: يجمع بين دواب الصحراء ودواب البحر، فلا يمكن هذا أو يجمع بين النار والماء في كفة، فلا يجتمع لأهل السنة والجماعة مع مذهب المخالفين لهم كالخوارج، والمعتزلة، والحزبين ممن يسمونهم: المسلم المعاصر، وهو الذي يريد أن يجمع الضلالات أهل العصر مع منهج السلف، فلا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.فحاصل أنه لا بد من تمييز الأمور وتمحيصها)

وسئل في محل آخر: (نسمع بعض الناس يقولون: لا يجوز الانتساب إلى السلف، ويَعد السلفية حزب من الأحزاب القائمة في الوقت الحالي)، فأجاب الشيخ صالح الفوزان: (نعم السلف حزب الله، السلف حزب؛ لكنهم حزب الله، الله -جل وعلا- يقول: ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: 22]، السلف انحازوا إلى الكتاب والسنة وإلى الصحابة فصاروا حزب الله، وأما من خالفهم فهم أحزاب ضالة مخالفة.. الأحزاب تختلف.. هناك حزب الله، وهناك حزب الشيطان، كما في آخر سورة المجادلة، هناك حزب الله،وهناك حزب الشيطان.ز فالأحزاب تختلف. فمن كان على منهج الكتاب والسنة؛ فهو حزب الله. ومن كان على منهج الضلال؛ فهو حزب الشيطان. وأنت تَخيّر، تكون من حزب الله، أو تكون من حزب الشيطان! تَخيّر!!)([4])

انطلاقا من هذه التصريحات، فإن البناء العقلي للسلفية ينطلق من تحديد الرجال الذين يأخذون عنهم فهم القرآن والسنة.. ويأخذون عنهم كل تصوراتهم للكون والإنسان والحياة.. ويأخذون عنهم بعد ذلك مواقفهم من الموافقين أو المخالفين..

يقول الفوزان في الرد على قول البوطي (إن السلفية لا تعني إلا مرحلة زمنية): (ونقول: هذا التفسير للسلفية بأنها مرحلة زمنية وليست جماعة تفسير غريب وباطل، فهل يقال للمرحلة الزمنية بأنها سلفية؟! هذا لم يقل به أحد من البشر، وإنما تطلق السلفية على الجماعة المؤمنة الذين عاشوا في العصر الأول من عصور الإسلام، والتزموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ووصفهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) الحديث، فهذا وصف لجماعة وليس لمرحلة زمنية، ولما ذكر صلى الله عليه وآله وسلم افتراق الأمة فيما بعد قال عن الفرق كلها: (إنها في النار إلا واحدة)، ووصف هذه الواحدة بأنها هي التي تتبع منهج السلف، وتسير عليه، فقال: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فدل على أن هناك جماعة سلفية سابقة، وجماعة متأخرة تتبعها في نهجها، وهناك جماعات مخالفة لها متوعدة بالنار)([5])

وبناء على هذا يشكل الرجال منطق السلفية الحقيقي، فلا يحتاج المتحدث معهم لأن يثبت لهم أي قضية بطريقة منطقية، وإنما يحتاج فقط لينقل لهم من أقوال الرجال ما يؤيد به قوله.

ولهذا نرى معظم المناظرات التي تجري بينهم وبين خصومهم تنتهي بالخصومات، لأن أكثر المناظرين لهم يتحاورون معهم بالحجج العقلية والنقلية.. وهؤلاء لا يعرفون كلا النوعين من الحجج، لأن الحجة عندهم هي ما قال سلفهم..

وذلك أنهم متواضعون جدا، يتهمون عقولهم دائما بأنها أقل من أن تتجرأ فتفهم من النص ما لم يفهمه السلف.. ولذلك إن حصل الصدام بين ما اقتضته عقولهم، وبين ما يقول سلفهم قدموا سلفهم واتهموا عقولهم.

هذا هو المنطلق الذي يبدأ به العقل السلفي في التفكير، وقد حاولنا أن نثبته ونبين الإشكاليات المرتبطة به في الفصل الأول من هذا الكتاب، والذي عنوناه [رجال.. لا حقائق]، ونقصد به تقديم السلفية للرجال على حساب الحقائق، كما روي عن الإمام علي حين أجاب من سأله: أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل؟ فقال: (إنك لمبلوس عليك، إن الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله)([6]).. وهذا النص يدل على أن العقل السلفي كان موجودا في كل الأزمنة ابتداء من ذلك العصر الأول.

أما الفصل الثاني [حشو.. لا تحقيق]، فقد قصدنا منه الحديث عن لبنة أخرى من لبنات منهج التفكير عند السلفية، وهي من مقتضيات اللبنة الأولى، لبنة الرجال، ذلك أنه يرى أنه ما دام الرجال هم الذين يمثلون الدين وكل الحقائق، فمن الضروري جمع كل أقوالهم في كل المسائل، حتى إذا ما احتاج العقل السلفي للإجابة على أي سؤال وجد من سلفه من يغنيه بالإجابة عنه.. ولا يحتاج إلى بذل أي جهد، أو القيام بأي عمل عقلي للبحث عنه.

ولهذا نرى في كلام سلفهم ـ كما سنرى بتفصيل في كتابنا [هذه علوم السلف] ـ الحديث عن كل شيء.. فهم يتحدثون في الفلك والتاريخ والجغرافية وكل العلوم.. بل هم يفسرون كل الظواهر بتفاسيرهم الخاصة التي ينبهر بها السلفية، ويسلمون لأصحابه حتى لو خالف كل علوم الدنيا، وكل علمائها.

ولهذا نرى السلفية في هذا العصر الذي فتحت فيه خزائن الكثير من العلوم متشبثين بعلوم سلفهم، حتى لو خالفت العلوم الحديثة، بل هم يعتبرون العلوم الحديثة بدعة ينبغي التحذير منها، لأنها تحجب عن علوم السلف.

وقد كان هذا الحشو.. أو الجمع لكل شيء مثار نقد لهم من خصومهم من قديم، ولهذا أطلقوا عليهم لقب الحشوية.. كما قال تقي الدين السبكي: (الحشْوِيّة:هم طائفة ضلُّوا عن سواء السبيل،وعُمِّيت أبصارهم، يُجْرُون آيات الصِّفات على ظاهرها ويعتقدون أنها المراد،وسُمُّوا بذلك لأنهم كانوا في حلقة الحسن البصري رحمه الله تعالى فوجدهم يتكلمون كلاما ساقطا، فقال: ردُّوا هؤلاء إلى حشا الحلقة،وقيل سموا بذلك لأن منهم المجسمة أو هم هم والجسم محشو فعلى هذا القياس فيه الحشوية بسكون الشين إذ النسبة إلى الحشو)([7])

والمشكلة الأكبر في هذا الحشو الذي ملأوا بها عقولهم حتى يمنعوها من التفكير هو كونه ركاما كبيرا يختلط فيه الصدق بالكذب، ويختلط فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأخبار القصاصين والمشعوذين والدجالين.. ولهذا فإن العقل السلفي ـ وحتى لا يجهد نفسه بالتمييز بين الخبيب والطيب ـ يتقبل الجميع بسهولة ويسر، ويضع الجميع على كاهل السلف.. فما دام القائلون هم السلف، فيكفي ذلك لقبوله سواء صدق رفعه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لم يصدق.

وقد أشار ابن الوزير إلى هذا المعنى عند ذكره لسر التسمية بالحشوية، فقال: (فإن الحشوية إنما سمُّوا بذلك؛ لأنهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي: يدخلونها فيها وليست منها)([8])

وقال أبو حاتم الرازي: (ومن ألقابهم -أي: أهل الحديث- الحشوية: لقبوا بذلك؛ لاحتمالهم كل حشو روي من الأحاديث المتناقضة حتى قال فيهم بعض الملحدين: يرون أحاديث ثم يروون نقيضها، ولروايتهم أحاديث كثيرة مما أنكر عليهم أصحاب الرأي وغيرهم من الفرق في التشبيه وغير ذلك، فلقبوهم الحشوية بذلك)([9])

أما الفصل الثالث [رواية.. لا دراية]، فقد ذكرنا فيه اللبنة الثالثة التي يتشكل منها العقل السلفي، وهي لبنة الرواية.. فهو عقل يهتم بجمع الروايات وحفظها، فأكثرهم علما أكثرهم حفظا، ولهذا نرى ألقاب العلماء عندهم مرتبطة بقدر المحفوظ.

فالعالم يبدأ عندهم بـ (المسند، وهو الذي يروي الحديث بإسناده، سواء كان عنده علم به أو ليس له إلا مجرد الرواية.. ثم المحدث: وهو من اشتغل بالحديث رواية ودراية، وجمع رواة، واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره، وتميز في ذلك حتى عرف فيه خطه واشتهر فيه ضبطه.. ثم الحافظ: وهو أرفع من المحدث.. وهو من روى ما يصل إليه ووعى ما يحتاج لديه.. ثم الحجة: وهو الحافظ العظيم الإتقان والمدقق فيما يحفظ من الأسانيد والمتون تدقيقا بالغا ليصل حينذاك إلى لقب الحجة. أما المتأخرون من العلماء فقد عرفوه بأنه الذي يحفظ ثلاثمائة ألف حديث مع معرفة أسانيدها ومتونها.. ثم الحاكم: وهو الذي أحاط علما بجميع الأحاديث حتى لا يفوته منها إلا اليسير.. ثم أمير المؤمنين في الحديث: وهو الذي فاق حفظا وإتقانا في علم الأحاديث ومن هؤلاء: سفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم. أما من المتأخرين فمنهم الحافظ بن علي بن حجر العسقلاني)([10])

ومما يذكرونه في مناقب يحي بن معين، والذي يحتل عندهم مكانة رفيعة، ما ذكره ابن المديني حين قال: (لا نعلم أحدا من لدن آدم عليه السلام كتب من الحديث ما كتب يحيى بن معين. قال عباس الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: لو لم نكتب الحديث خمسين مرة ما عرفناه. وعن يحيى بن معين قال: كتبت بيدي ألف ألف حديث)([11])

بل إنهم يذكرون أن الإمام أحمد كان يحفظ ألف ألف حديث.. قال الذهبي في ترجمته: قال عبد الله بن أحمد: قال لي أبو زرعة: أبوك يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب.

وروى عن أبي زرعة قال: (حزرت كتب أحمد يوم مات، فبلغت اثني عشر حملا وعدلا، ما كان على ظهر كتاب منها حديث فلان، ولا في بطنه حدثنا فلان، كل ذلك كان يحفظه)

قال الذهبي ـ معلقا على هذه الروايات ـ: (فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله، وكانوا يعدون في ذلك المكرر، والأثر، وفتوى التابعي، وما فسر، ونحو ذلك، وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك)([12])

وبناء على هذا، فإن العقل السلفي لا يستطيع أن يجد الوقت ليتأمل ويحلل ويفكر، لأن كل جهده قد وضعه لذاكرته.. والحفاظ على ما يضعه فيها.

وقد قام بعضهم بعملية بسيطة حاول فيها أن يبين العدد الذي احتاج فيه الإمام أحمد لحفظ كل تلك الروايات، فوجد أن هذا العدد لو وزعناه على 62 سنة، فإنه يحتاج أن يحفظ كل سنة 16.129 حديثا.. وإذا قسمنا هذا العدد على عدد أيام السنة الهجرية، فسند أنه يحتاج ليستكمل ذلك العدد أن يحفظ كل يوم 46 حديثا بمتنها وسندها.

بالإضافة إلى حاجته إلى أن يراجع كل حين ما سبق له حفظه.. وبذلك فإن العمر كله ينقضي في الحفظ.. ولا يبقى هناك مجال للبحث والتحقيق والتأمل والتدبر.

وسنرى في الفصل المخصص لهذا عجائب أكثر تدلنا على سر اهتمام العقل السلفي بهذا الجانب.

أما الفصل الرابع [التوهم.. لا التعقل]، فقد حاولنا أن نثبت فيه أن العقل السلفي لا يحتاج لكل الأدوات التي يحتاجها المفكرون من الملاحظة والتحليل والسبر والتقسيم والنقد ونحو ذلك.. بل يحتاج فقط إلى تصور ما يقال، وتخيله.. ولهذا فإن البناء العقدي عندهم ـ ابتداء من الإلهيات ـ ينطلق من التصور.. وأول مبحث يبحثونه في الإلهيات ـ كما هو في كتب العقيدة السنية ـ هو صورة الله.. وهم يرون ـ كما ذكرنا في كتاب [السلفية.. والوثنية المقدسة] أن الإله الذي ليس له صورة ولا جسم ولا جهة ولا مكان ليس إلها، بل ليس موجودا أصلا.. فالوجود عندهم قاصر على الصور والأجسام.

ولهذا نرى عداءهم للفلاسفة والمتكلمين وكل المنزهة الذين يبحثون في العقائد من باب التعقل، لا من باب التصور.

أما الفصل الخامس [الحسية.. لا المعنوية]، فقد حاولنا أن نثبت فيه أن العقل السلفي يعتمد [الحس] بدل المعنى، أو [الظاهر] بدل الباطن، أو [الحرفية] بدل المقاصدية، وهو ناشئ ـ كما يذكر المحللون النفسيون القدامى ـ من غلبة الجسد على الروح، والشهوة على العقل، والبهيمية على الإنسانية.. وهو من الخصال التي اكتسبها العقل السلفي من اليهود نتيجة إدمانه على التلمذة على آثارهم وأخلاقهم.

فقد حاولنا أن نثبت فيه أيضا أن العقل السلفي عقل جاف، لأنه لا يعتمد على القناعات العقلية.. بل يعتمد على الراويات.. ولذلك فإنه يجمع المتناقضات في عقيدته وفكره وتصوره للوجود.. ويستحيل على من يجمع المتناقضات أن يتفاعل معها.. ولذلك نظرته للدين نظرة براغماتية.. فهو يعبد الله من منطلق المطامع المادية لا من منطلق الأشواق الروحية.. ولهذا نجد للجنة مكانة عنده تفوق مكانة الله.. ونجد للحور العين عنده مكانة تفوق مكانة رسل الله وأولياء الله.. فهو يرى الدين وسيلة لتحقيق السعادة المادية في الآخرة.. وليس وسيلة ليروي ظمأه لمعرفة حقائق الوجود، والتفاعل معها.

ولهذا نرى بغض السلفية للصوفية وتحذيرهم منهم وتكفيرهم لهم.. بل نرى الجفاف السلفي حتى في اللغة حين ينكرون المجاز.. وحين ينكرون على الشعراء ما يذكرونه من جماليات يقتضيها الشعر.

ونرى الجفاف السلفي في تلك الخشونة التي يتعاملون بها مع المخالفين لهم.. والتي تبدأ بالسباب والتكفير.. وتنتهي بالعنف بجميع أنواعه.

أما الفصل السادس [الشدة.. لا اللين]، أو [القسوة] بدل الرحمة، أو [العنف] بدل الحكمة، وهو ناشئ ـ كما يذكر المحللون النفسيون القدامى ـ من غلبة السبعية على الإنسانية، أو غلبة العدوانية على السلمية.. وكل ذلك يرجع إلى غلبة الطين على الروح، واستحواذ الشيطان على الإنسان في العقل السلفي.

أما الفصل السابع [المدنس.. لا المقدس]، فقد حاولنا أن نثبت فيه أن السلفية بجمعهم للمتناقضات قدموا المدنس من آراء الرجال، أو من الروايات التي يرفعونها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زورا وبهتانا على المقدس الذي هو الحقائق التي دل عليها العقل، ودل عليها النص القطعي المقدس.

ولهذا فإنهم ينسخون بحديث واحد ـ كحديث الجارية مثلا، والذي يثبتون به الجهة لله ـ كل الحقائق المقدسة التي تبين تنزه الله عن الجهة والمكان والحيز والحدود.

وهكذا رأيناهم عند ذكرهم للأنبياء عليهم السلام، ينسخون بما يروونه من روايات كل ما ورد في المقدس حولهم من معان سامية.

والسر الذي جعلهم يقعون في هذا الفخ الشيطاني الخطير هو تقديسهم للرجال، فهم يتصورون أنه من المحال على فلان الحافظ المتقن أن يقول شيئا يخالف به المقدس.. وبذلك كان المقدس عندهم هو الرجال وأقوال الرجال، لا النصوص المقدسة.

وقد حاولنا في هذا الكتاب، ومن خلال مصادرهم أن نبين هذه اللبنات السبع، وأسرارها وأنواع المتناقضات المرتبطة بها، وليس هدفنا من ذلك إلا دعوتهم لمراجعة عقولهم، وتصحيح منهج تفكيرهم، فالله خلق لنا العقول لنفكر بها، لا لنلغيها، ولا لنسلمها لمن يتلاعب بها.


([1])   نقلا عن: لماذا اخترت المنهج السلفي، للشيخ سليم الهلالي، ص36.

([2])   الفتاوى 4 / 149.

([3])   سير أعلام النبلاء 16 / 457.

([4])   الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة ص 16.

([5])   البيان، ص (133)

([6])   ورد بألفاظ متعددة، انظر: التبيان ـ للشيخ الطوسي ـ 1 / 190، مجمع البيان 1 / 188 ـ 189.

([7])   الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 346)

([8])   الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم 1/ 120.

([9])   نظر كتاب: الزينة، ملحق بكتاب: الغلو والفرق الغالية، للدكتور عبد الله سلوم السامرائي ص 267.

([10])   انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 4)

([11])   تذكرة الحفاظ للذهبي (2/ 15)

([12])   سير أعلام النبلاء ط الرسالة (11/ 187)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *