المقدمة

المقدمة

نستطيع من خلال التأمل في أسباب التيه الذي حصل للبشرية من لدن آدم عليه السلام إلى اليوم، وإلى آخر التاريخ، أن نجد سببا واحدا تختصر عنده الأسباب، وتجتمع عنده العلل.. وهذا السبب هو الإعراض عن النبوة، باعتبارها الحبل الممدود من الله إلى عباده، أو الواسطة التي يتصل الله من خلالها بعباده.

ذلك أنه عند الإعراض عن النبوة يدخل الهوى، ويدخل الشيطان، وتدخل أنانية الإنسان التي تصور له أنه يستطيع ـ وبمعزل عن خالقه ـ أن يدبر وجوده، ويقرر مصيره.. بل فوق ذلك تجعله يتصور أنه يستطيع أن يضع خارطة للوجود والقوانين التي تحكمه.

وللإعراض صور كثيرة.. أبرزها ما كان يفعله الملأ مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من تكذيبهم وإيذائهم والكيد لهم والتنفير منهم.

ومنها تلك الخشونة، وذلك الجفاء الذي تعامل به أصحاب القلوب المريضة معهم، حتى لو لم ينكروا نبوتهم.

ومنها ـ وهو أخطرها ـ ذلك التشويه للنبوة، والتدنيس لقداستها، ليتحول النبي بموجب ذلك إلى إنسان عادي لا يختلف عن أي إنسان آخر.. وتصبح تلك الجوهرة المقدسة التي استطاع النبي من خلالها أن يكون أهلا لتواصل الله معه.. بل لجعله سفيرا من سفرائه.. جوهرة لا تختلف عن كل ما حولها من تراب وحجارة.. وتصبح تلك الشمس الممتلئة بالدفء والنور كوكبا خامدا لا حياة فيه، ولا شعاع يصدر منه.

وعندما نتأمل أكثر.. ونستعين في تأملنا بالقرآن الكريم.. يتوضح لنا أسباب كل هذه الإعراضات عن النبوة الظاهرة والباطنة.. أو ما اكتسى منها حلة المواجهة الصلبة، أو ما اكتسى منها حلة المواجهة الناعمة.

والسبب ـ كما يذكر القرآن الكريم ـ هو الإعراض عن السجود.. فإبليس أعرض عن السجود لآدم.. وهو يريد من ذرية آدم أن يعرضوا عن السجود للأنبياء.. حتى لا يبقى إبليس واحدا في إعراضه.

والسجود بالمفهوم القرآني لا يعني تلك الحركات التي نقوم بها في الصلاة.. وإنما يعني قبل ذلك الخضوع المطلق لله، ولمراد الله، ولاختيار الله.. فلا نتصرف مع الله.. ولا نقترح على الله.

وإبليس تجرأ، فاقترح على الله.. وراح يتهم آدم عليه السلام بأنه ليس أهلا للسجود.. أو راح ـ على الحقيقة ـ يتهم الله بأنه لم يحسن اختيار الخليفة.

ومن هنا بدأ الإعراض عن النبوة.. وكان إبليس أول المعرضين.. وكان أيضا هو أول من عاهد الله على أن يضم إلى صفه أكبر عدد من أولاد هذا الخليفة الذي ابتلي به.

وهكذا كان في كل أمة من الأمة جميع أصناف المعرضين، الذين استنوا بسنة إبليس في عدم الخضوع لاختيار الله.. أو اتهام الله في اختياره.

وبما أن الشيطان لم ييأس من هذه الأمة كما لم ييأس من غيرها من الأمم.. وكما أنه أوجد في اليهودية والمسيحية وكل الديانات من يشوه تلك الجواهر المقدسة.. فقد أوجد في هذه الأمة هذا الصنف الخطير من الناس.

وليس من الصعب أن نكتشفه.. فكل شيء يدل عليه.

ومن باب تسمية الحقائق بأسمائها ـ بعيدا عن كل تزلف ودبلوماسية ـ فإن [السلفية]، أو من يسمون أنفسهم [أهل الحديث]، و[الفرقة الناجية] هم من مثل بجدارة دور هذا النوع من الإعراض عن النبوة.. وهو دور تهميشها وتدنيسها وتشويهها والحط منها.

وهذا الكتاب محاولة للبرهنة على ذلك.. وقد اعتمدنا فيه على المصادر التي يعتبرها السلفية، ويثنون عليها، ويدعون الأمة إلى الأخذ منها.. كما اعتمدنا فيه على التصريحات التي يصرح بها أعلام هذه المدرسة قديمهم وحديثهم.

ولم نكن بحاجة لكل ذلك، لأن خطابهم وحده كاف للدلالة على ذلك.. فهم وحدهم في هذه الأمة من يحتقر كل مظاهر التقديس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه وتبجيله ومحاولة الوفاء ببعض جميله..

فهم ينكرون الاحتفال بميلاده، وكل مناسبة مرتبطة به.. وهم ينكرون زيارة قبره الشريف، بل يعتبرون نفس نية الزيارة شركا بالله.. وهم ينكرون على كل شاعر جادت قريحته بحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويعتبرونه مشركا وكافرا وضالا.. بينما لا يقولون شيئا فيمن مدح الملوك والأمراء.. فهم لا يعتبرونه لا مشركا ولا ضالا.

وهكذا لو تأملنا مواقفهم المختلفة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نجدهم يقفون دائما على خط مختلف لخط سائر الأمة..

وهذا الموقف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو نفس الموقف الذي يقفونه من سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.. ولهذا ملأوا دواوينهم التي يسمونها كتب العقيدة السنية بمثالب الأنبياء ومعاصيهم.. بل وكفرهم.. لأنهم يخشون أن يتعلق الناس بالأنبياء تعلقا زائدا يجرهم إلى الشرك.. أو يجعلهم يقومون بالسجود لذلك الكمال الذي وهبه الله لهم.

ولم يقتصر أمر السلفية والمنابع التي يستمدون منها على سفراء الله في الأرض من الأنبياء والرسل.. وإنما تعداه إلى سفرائه من الملائكة، وقد ذكرنا بتفصيل في كتابنا [السلفية.. والوثنية المقدسة] تلك الصور المشوهة التي يحملونها عن الملائكة عليهم السلام، واعتبار كبارهم ومقربيهم على هيئة أوعال وأسود وديوك، مع أن الله تعالى قال ـ على لسان نسوة مصر ـ: {حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]، بل قال مقررا هذه الحقيقة العظيمة عند ذكره لجبريل عليه السلام: { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم: 5، 6]

لكن السلفية لا يأبهون بما يقول القرآن الكريم.. فهم يحجرون التدبر في القرآن إلا على السلف.. أو بالأحرى على تلاميذ كعب الأحبار من السلف.

ولهذا نراهم يخالفون القرآن الكريم في صفات الأنبياء وخصائصهم وكمالاتهم وكون الله اختارهم، وهو أعلم باختياره، و{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]

وبناء على هذا نراهم يدافعون عما يسمونه معاصي الأنبياء، ويستدلون لذلك بما ورثوه من سلفهم من روايات وأخبار تطعن فيهم وفي كمالاتهم.. كما قال ابن تيمية ـ أثناء رده على القائلين بالعصمة المطلقة للأنبياء ـ: (تبعهم في هذا الباب، بل كتب التفسير والحديث والآثار والزهد وأخبار السلف مشحونة عن الصحابة والتابعين بمثل ما دل عليه القرآن، وليس فيهم من حرف الآيات كتحريف هؤلاء، ولا من كذب بما في الأحاديث كتكذيب هؤلاء، ولا من قال هذا يمنع الوثوق، أو يوجب التنفير ونحو ذلك كما قال هؤلاء، بل أقوال هؤلاء الذين غلوا بجهل من الأقوال المبتدعة في الإسلام.. وهم قصدوا تعظيم الأنبياء بجهل كما قصدت النصارى تعظيم المسيح وأحبارهم ورهبانهم بجهل، فأشركوا بهم واتخذوهم أربابا من دون الله وأعرضوا عن اتباعهم فيما أمروهم به ونهوهم عنه)([1])

بل إن ابن تيمية وغيره من أبناء المدرسة السلفية يثنون الثناء العطر على كل الكتب التي تمتلئ بالقصص والأساطير، والتي تشوه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وترميهم بالعظائم، بل هم فوق ذلك يعتبرونها من كتب السنة، وأنها في هذا الموضوع بالذات أعرف بالأنبياء من كتب المنزهة، يقول ابن تيمية: (.. من أئمة أهل التفسير، الذين ينقلونها بالأسانيد المعروفة، كتفسير ابن جريج، وسعيد بن أبي عروبة، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأحمد، وإسحاق وتفسير بقي بن مخلد وابن جرير الطبري، ومحمد بن أسلم الطوسي، وابن أبي حاتم، وأبي بكر بن المنذر، وغيرهم من العلماء الأكابر، الذين لهم في الإسلام لسان صدق، وتفاسيرهم متضمنة للمنقولات التي يعتمد عليها في التفسير)([2])

وقال مدافعا عن الإسرائيليات الكثيرة الواردة في تلك الكتب، والتي شوهت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أيما تشويه: (ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وغيرهم من أئمة المسلمين متفقين على ما دل عليه الكتاب والسنة من أحوال الأنبياء، لا يعرف عن أحد منهم القول بما أحدثته المعتزلة والرافضة ومن تبعهم في هذا الباب، بل كتب التفسير والحديث والآثار والزهد وأخبار السلف مشحونة عن الصحابة والتابعين بمثل ما دل عليه القرآن، وليس فيهم من حرف الآيات كتحريف هؤلاء، ولا من كذب بما في الأحاديث كتكذيب هؤلاء، ولا من قال هذا يمنع الوثوق، أو يوجب التنفير ونحو ذلك كما قال هؤلاء، بل أقوال هؤلاء الذين غلوا بجهل من الأقوال المبتدعة في الإسلام)([3])

وهكذا نرى ابن تيمية يعتبر الروايات المشوهة لجمال وعصمة الأنبياء سنة، في نفس الوقت الذي يعتبر فيه تنزيه الأنبياء والقول بطهارتهم تحريفا وبدعة.

ولهذا، فإنا كما قسمنا الأمة في كتاب [السلفية والوثنية المقدسة] إلى صنفين: المنزهة والمجسمة، فكذلك يمكن تصنيف الأمة في هذا المجال إلى صنفين: المصوبة والمخطئة.. أو القائلون بالعصمة المطلقة.. والقائلون بالتخطئة المطلقة.

وقد اعتمدنا في الأدلة التي نسوقها على التصريحات الكثيرة التي وردت من أعلام السلفية في القديم والحديث، بالإضافة للروايات التي يروونها، والتي يمكن تقسيمها إلى نوعين:

النوع الأول من الروايات:

وهي الروايات التي يصححونها، بل ينقلونها في كتبهم كحقائق مطلقة يبدعون جاحدها، ويتهمونه بالهرطة والزندقة.. وهي التي نبدأ بها عادة عند مناقشاتنا معهم.

وحجتهم في هذه الروايات أنها وردت في الصحيحين أو في أحدهما أو في كتب السنن الأخرى.. أو أن فلانا من الناس صححها.

وهم يقصرون نظرهم على تلك التصحيحات، وينسون المخاطر التي تحملها، والتي سننبه عليها في هذا الكتاب.

والطريقة التي يتعامل بها السلفية مع المخالف لهذا النوع من الروايات هو تلك الطريقة التي استعملوها مع المنزهة من رميهم بالتجهم.. وهنا يرمونه بالعقلانية والبدعة والزندقة..

ومن الأمثلة على ذلك موقف السلفية من الشيخ محمد الغزالي لرفضه حديث لطم موسى عليه السلام لملك الموت، والذي رواه أبوه هريرة، ونصه: (إن ملك الموت كان يأتي الناس عيانا فأتى موسى فلطمه ففقأة عينه، فعرج ملك الموت فقال: يا رب! إن عبدك موسى فعل بي كذا وكذا ولولا كرامته عليك لشققت عليه فقال الله: ايت عبدي موسى فخيره بين أن يضع يده على متن ثور – فله بكل شعرة وارتها كفه سنة – وبين أن يموت الآن، فخيره فقال موسى: فما بعد ذلك؟ قال: الموت، قال: فالآن فشمه شمة فقبض روحه ورد الله عليه عينه، فكان بعد يأتي الناس في خفية)([4])

ولغرابة هذا الحديث، وتشويهه لصورة النبي موسى عليه السلام، وتشويهه كذلك لصورة ملك الموت، بل تشويهه فوق ذلك للألوهية، وما يحمله من الدلالة على التجسيم، فقد وقف الشيخ محمد الغزالي موقف المنكر للحديث مثله مثل كل المنزهة والقائلين بعصمة الأنبياء، لكن هذا لم يعجب السلفية الذين أنكروا عليه إنكارا شديدا.

وقبل أن نذكر موقفهم منه نذكر موقف الشيخ محمد الغزالي من الحديث، فقد قال: (وقع لي وأنا بالجزائر أن طالباً سألني: أصحيح أن موسى عليه السلام، فقأ عين ملك الموت عندما جاء لقبض روحه بعدما استوفى أجله؟ فقلت للطالب وأنا ضائق الصدر: وماذا يفيد هذا الحديث؟ إنه لا يتصل بعقيدة، ولا يرتبط به عمل، والأمة الإسلامية اليوم تدور عليها الرحى وخصومها طامعون في إخماد أنفاسها! اشتغل بما هو أهم وأجدى! قال الطالب: أحببت أن أعرف هل الحديث صحيح أم لا؟ فقلت له متبرماً: الحديث مروي عن أبي هريرة وقد جادل البعض في صحته. وعدت لنفسي أفكر إن الحديث صحيح السند، ولكن متنه يثير الريبة إذ يفيد أن موسى يكره الموت ولا يحب لقاء الله بعدما انتهى أجله. وهذا المعنى مرفوض بالنسبة إلى الصالحين من عباد الله كما جاء في الحديث الآخر (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) فكيف بأنبياء الله؟ كيف بواحد من أولي العزم؟ إن كراهيته للموت بعدما جاءه ملكه مستغرب ثم هل الملائكة تعرض لها العاهات التي تعرض للبشر من عمى أو عور؟ ذاك بعيد.. قلت: لعل متن الحديث معلول، وأيا ما كان الأمر، فليس لدي ما يدفعني إلى إطالة الفكر فيه.. فلما رجعت إلى الحديث في أحد مصادره ساءني أن الشارح جعل رد الحديث إلحاداً وشرع يفند الشبهات الموجهة إليه فلم يزدها إلا قوة..)([5])

ثم ذكر قول المازري: (وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث وأنكر تصوره، قالوا: كيف يجوز على موسى فقء عين ملك الموت؟)، ودفاعه عن الحديث، ثم رد عليها بقوله: (نقول نحن: هذا الدفاع كله خفيف الوزن وهو دفاع تافه لا يساغ، ومن وصم منكر الحديث بالإلحاد فهو يستطيل في أعراض المسلمين والحق أن في متنه علة قادحة تنزل به عن مرتبة الصحة ورفضه أو قبوله خلاف فكري، وليس خلافاً عقائدياً والعلة في المتن يبصرها المحققون، وتخفى على أصحاب الفكر السطحي، وقد رفض الأئمة أحاديث صح سندها واعتل متنها فلم تستكمل بهذا الخلل شروط الصحة) ([6])

هذا هو موقف الشيخ محمد الغزالي، وهو موقف كل عاقل حكيم يرى تلك التشويهات التي يحملها الحديث حول كبرى القضايا العقدية.

لكن هذا الموقف لم يعجب السلفية الذين صوبوا سهامهم من كل صوب نحوه، يتهمونه بإنكار السنة، وبالجرأة على السنة.. وكأن السنة حكر عليهم.

ومن تلك المواقف موقف الألباني الذي قال تعليقا على ما ذكره الغزالي: (هذا الحديث- أي حديث موسى المتقدم- من الأحاديث الصحيحة المشهورة التي أخرجها الشيخان من طرق عن أبي هريرة- رضي الله عنه-، وتلقته الأمة بالقبول، وقد جمعت ألفاظها والزيادات التي وقعت فيها، وسقتها لك سياقاً واحداً كما ترى؛ لتأخذ القصة كاملة بجميع فوائدها المتفرقة في بطون مصادرها، الأمر الذي يساعدك على فهمها فهماً صحيحاً، لا إشكال فيه ولا شبهة، فتسلِّم لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً)([7])

ثم ساق طرق الحديث، والتي يوجد في أكثرها رجال من اليهود الذين أسلموا، وصاروا مباشرة بعد إسلامهم من الثقاة المعتبرين، ثم قال تعليقا على الغزالي: (واعلم أن هذا الحديث الصحيح جدّاً مما أنكره بعض ذوي القلوب المريضة من المبتدعة- فضلاً عن الزنادقة- قديماً وحديثاً، وقد رد عليهم العلماء- على مر العصور- بما يشفي ويكفي من كان راغباً السلامة في دينه وعقيدته؛ كابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي، والبغوي، والنووي، والعسقلاني، وغيرهم.. وممن أنكره من المعاصرين الشيخ الغزالي في كتابه (السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث) المذكور في الحديث الذي قبله، بل وطعن في الذين دافعوا عن الحديث، فقال: (وهو دفاع تافه لا يساغ)، وهكذا؛ فالرجل ماضٍ في غيّه، والطعن في السنة والذابين عنها بمجرد عقله (الكبير!). ولست أدري- والله- كيف يعقل هذا الرجل- إذا افترضنا فيه الإيمان والعقل-! كيف يدخل في عقله أن يكون هؤلاء الأئمة الأجلة من محدِّثين وفقهاء من الإمام البخاري إلى الإمام العسقلاني على خطأ في تصحيحهم هذا الحديث، ويكون هو وحده- صاحب العقل الكبير! – مصيباً في تضعيفه إياه ورده عليهم؟!)([8])

ولا يكتفي الألباني بهذا، بل يشنع عليه ـ كعادة السلفية في انتقادهم لخصومهم ـ أنه يوافق في هذا الموقف المبتدعة من القائلين بالعصمة المطلقة للأنبياء، فيقول: (هل الخلاف الذي توهمه خلاف محترم أم هو خلاف ساقط الاعتبار، لأن المخالف ليس من العلماء المحترمين، ولذلك لم تتجرأ على تسميته، ولعله من الخوارج أو الشيعة الذين يطعنون في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبخاصة راوي هذا الحديث (أبي هريرة) – رضي الله عنه-. وثانياً: يحتمل أن يكون المجادِل الذي أشرتَ إليه هو أنت، وحينئذٍ فبالأولى، أن يكون خلافك ساقط الاعتبار، كما هو ظاهر كالشمس في رائعة النهار!) ([9])

وهكذا يستمر الألباني ـ بلغته السلفية ـ يرد على الغزالي، ويدافع عن الحديث، ويقول له كل حين: (يا له من مغرور أهلكه العجب! لقد جعل نفسه من المحققين، وعلماء الأمة من أصحاب الفكر السطحي، والحقيقة أنه هو العلة؛ لجهله وقلة فهمه) ([10])

ويقول له: (بمثل هذا الفهم المنكوس يرد هذا الرجل أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يكتفي بذلك، بل ويرد على العلماء كافة الذين فهموه وشرحوه شرحاً صحيحاً، وردوا على أمثاله من أهل الأهواء الذين يسيئون فهم الأحاديث ثم يردونها، وإنما هم في الواقع يردون جهلهم، وهي سالمة منه والحمد لله) ([11])

وقد اقتصرنا هنا على موقف الألباني باعتبار كبر سنه، ومكانته، وإلا فإننا لو نزلنا إلى غيره من أعلام السلفية لوجدنا قواميس من الشتائم تكال للغزالي بسبب موقفه العقلاني من الحديث.

النوع الثاني من الروايات:

وهي الروايات التي وردت في كتبهم التي يعتبرونها كتب سنة، وينصحون العامة بقراءتها، والاستفادة منها، وهي كثيرة جدا، وخطيرة جدا، ومع ذلك لا نجدهم ينفرون العوام منها، والحيلة التي يستعملونها مع هذا النوع من الروايات مع المخالفين أو المنتقدين هي أن يذكروا أن الحديث الفلاني ضعفه الألباني، أو لم يحتج به الأرناؤوط، لأن مثل ذلك مثل شركات السجائر التي تغرق السوق بالسجائر، وهي تعلم خطرها، ولترفع العتب عنها تكتب على الغلاف [مضر بالصحة]

وهكذا يفعل السلفيون الذين نشروا مئات الأحاديث التي تشوه الأنبياء، وتدنس معهم النبوة، ثم تنصح الأمة بالاستفادة من ذلك التراث المملوء بتلك التشويهات.. وتذكر لهم أن من أخذ به كان سنيا وسلفيا وناجيا.. ثم بعد أن تمتلئ عقول الناس وقلوبهم بكل تلك التشويهات يأتي رجل في آخر الزمان، ويقول لهم: الحديث الفلاني فيه نكارة.. والآخر فيه علة.. وهو مع قوله ذلك لا يزال ينصح بقراءة تلك الكتاب التي تحوي تلك النكارات، وتنشر تلك العلل.. ولا يزال يصر على أن أصحاب تلك الكتب سنة وسلفيون.

وكمثال على ذلك كتاب تفسير الطبري الذي يعتبر أكبر مصدر لتدنيس النبوة والأنبياء، ومع ذلك نجد ثناء أعلام السلفية عليه قديما وحديثا.

يقول الخطيب البغدادي (المتوفى: 463هـ) ـ وهو من أعلام السلفية المتقدمين ـ في ترجمته لمحمد بن جرير الطبري صاحب التفسير: (استوطن الطبري بغداد وأقام بِهَا إِلَى حين وفاته، وكَانَ أحد أئمة العلماء: يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله. وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات، بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في «تاريخ الأمم والملوك»، وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله)([12])

 وحكى الخطيب هذه الرواية التي يهتم بها السلفية عند ذكرهم لهمم السلف، وهي الطبري قَالَ لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن. قالوا: كم يكون قدره؟ فقال ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة. ثم قَالَ: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فذكر نحوا مما ذكره في التفسير فأجابوه بمثل ذلك.. فقال: إنا لله، ماتت الهمم ([13]).

وهذه الرواية توضح لنا سر لقب الحشوية الذي أطلق على السلفية.. فهم يبحثون عن الكم لا عن النوع.. وعن التفاصيل لا عن الحقائق..

وهكذا نجد الذهبي المعروف بتشدده في الرجال يثني عليه وعلى تفسيره، فيقول: (كان ثقة، صادقًا، حافظًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماع والاختلاف، علاَّمةً في التاريخ وأيام الناس، عارفًا بالقراءات وباللغة، وغير ذلك)([14])

 أما ابن تيمية، فلم يكن يدع مناسبة إلا ويثني عليه وعلى تفسيره، بل يعتبره من أمهات كتب السنة.

ومن أمثلة ذلك قوله عنه: (تفسير محمد بن جرير الطبري، وهو من أجلِّ التفاسير المأثورة، وأعظمها قدرًا)([15])

وقال ـ مجيبًا عن أحسن التفاسير ـ: (أما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين، كمقاتل بن بكير، والكلبي)([16])

فهذه التزكية من ابن تيمية تدل على مدى أهمية الكتاب عنده وعند السلفية، ولذلك اعتبرناه من مصادرنا التي اعتمدنا عليها في هذه الدراسة، ولولا أن ابن تيمية قال عنه هذا لما اعتبرناه كذلك، لأنا شرطنا على أنفسنا أن لا نقول السلفية ـ كما لا نقول غيرهم ـ ما لم يقولوا.

ومن الكتب التي اعتمدناها في هذا النوع من الروايات تفسير ابن أبي حاتم المتوفى سنة (327) صاحب «الجرح والتعديل»، والمعاصر لابن جرير الطبري، وهو من رجال السلفية المعتمدين، وقد أثنى عليه ابن تيمية كثيرا، حيث عده في (مجموع الفتاوى) من أهل العلم والسنة ([17]).. وعده في (منهاج السنة) من أئمة التفسير.. ومن أهل العلم الكبار([18])

وفوق ذلك كله أثنى على تفسيره، حيث اعتبره من أئمة التفسير الذين ينقلونها بالأسانيد المعروفة ([19]).

بل شهد له بالصحة، فقال في (مجموع الفتاوى): (وابن أبي حاتم قد ذكر في أول كتابه في التفسير أنه طلب منه إخراج تفسير القرآن مختصرًا بأصح الأسانيد، وأنه تحرى إخراجه بأصح الأخبار إسنادًا، وأشبعها متنًا، وذكر إسناده عن كل من نقل عنه شيئًا)([20])

ومن الكتب التي اعتمدناها في هذا النوع من الروايات تفسير ابن عطية ( المتوفى سنة 542)الذي أشاد به تيمية، فقال: (وتفسير ابن عطية وأمثاله: أتبع للسنة والجماعة، وأسلم من البدعة من تفسير الزمخشري، ولو ذكر كلام السلف الموجود في التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل، فإنه كثيرًا ما ينقل تفسير محمد بن جرير الطبري، وهو من أجل التفاسير المأثورة، وأعظمها قدرًا. ثم إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السلف، لا يحكيه بحال، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين، وإنما يعني بهم طائفة، من أهل الكلام، الذين قرروا أصولهم، وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة، لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه، ويعرف أن هذا من جملة التفسير على المذهب. فإن الصحابة، والتابعين، والأئمة إذا كان لهم في تفسير الآية قول، وجاء قوم فسروا الآية بشكل آخر لأجل مذهب اعتقدوه، وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة، والتابعين لهم بإحسان صاروا مشاركين للمعتزلة، وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا)([21])

هذا قول ابن تيمية فيه، ونقده له ليس لإيراده الإسرائيليات، وإنما لتأويله بعض النصوص التي يستند إليها السلفية في التجسيم.. وهو بذلك ينتقد حسناته لا سيئاته.

ولهذا يقول عنه في موضع آخر: (وتفسير بن عطية خير من تفسير الزمخشري وأبعد عن البدع، وإن اشتمل على بعضها، بل هو خير منه بكثير، بل لعله أرجح هذه التفاسير، لكن تفسير ابن جرير أصح من هذه كلها)([22])

ومن الكتب التي اعتمدناها في هذا النوع من الروايات تفسير البغوي (توفي سنة 510)، الذي سُئل عنه ابن تيمية هذا السؤال: (أي التفاسير أقرب إلى الكتاب والسنة الزمخشري، أم القرطبي، أم البغوي، أم غير هؤلاء؟)، فقال: (أما التفاسير الثلاثة المسئول عنها فأسلمها من البدعة، والأحاديث الضعيفة البغوي، لكنه مختصر من تفسير الثعلبي، وحذف منه الأحاديث الموضوعة، والبدع التي فيه، وحذف أشياء غير ذلك)([23])

وقال عنه في مقدمة أصول التفسير في «مجموع الفتاوى»: (والبغوي تفسيره مختصر من الثعلبي لكن صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة، والآراء المبتدعة)([24])

هذه بعض مصادرنا الكبرى التي اعتمدنا عليها في النوع الثاني من الروايات، وقد ذكرناها وذكرنا موقف ابن تيمية منها حتى لا يقول أحد من الناس: إننا ندعي على السلفية، أو نقولهم ما لم يقولوا.

فهم الذين يقرون باعتبار هذه المصادر مصادرهم.. وأن كتبتها من أهل سنتهم، بل من سلفهم الصالح.. أما إنكارهم لبعض ما فيها، فهو أنكار باهت ضعيف بجنت الجرائم الكبيرة التي تفوح بها الروايات الواردة في تلك المصادر.

وأما اعتمادنا على شهادات ابن تيمية، فلمكانته المعروفة بينهم في كل شيء، وقد قال بعضهم معاتبا من انتقد ابن تيمية في بعض الأحاديث: (كلام شيخ الإسلام في هذا التفسير كان كلام خبير، ومطلع على ما فيه من حسن وقبح، وليس هو بالظن والتخمين كما يظنه الباحث؛ لأن مثل هذا الكلام لا يستطيع أن يقوله أحد في أي كتاب مستقل، أو تلخيص إلا بعد قراءة متأنية، وكلام شيخ الإسلام حول هذا التفسير في أماكن متعددة يفيدنا بأن هذا التفسير اختصار من تفسير الثعلبي والواحدي، وأنه حذف منه الأحاديث الضعيفة والموضوعة، والآراء المبتدعة، كما حذف أشياء أخرى، وسبب حذف هذه الأشياء ثقافته الواسعة في الدين، والعقيدة، والحديث، والفقه. وأما ما اعتمد فيه على الثعلبي هو أقوال المفسرين، والنحاة، وقصص الأنبياء، فهذه الأمور نقلها منه)([25])

ونحب أن نذكر أن ابن تيمية الذي راح يدعو إلى قراءة تلك الكتب المشحونة بتشويه الأنبياء لم يكتف بذلك، بل راح يحذر من الكتب الممتلئة بالروحانيات العميقة كتفاسير الصوفية، فقد قال في تفسير السلمي (توفي في 410)، وهو من التفاسير الصوفية المعتدلة: (وأما الذين يخطئون في الدليل لا في المدلول فمثل كثير من الصوفية، والوعاظ، والفقهاء، وغيرهم يفسرون القرآن بمعانٍ صحيحة، لكن القرآن لا يدل عليها، مثل كثير مما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي في «حقائق التفسير»، وإن كان فيما ذكروه ما هو معان باطلة، فإن ذلك يدخل في القسم الأول، وهو الخطأ في الدليل والمدلول جميعًا، حيث يكون المعنى الذي قصدوه فاسدًا)([26])

وهكذا موقفه من التفاسير التي حاولت أن تقرأ القرآن الكريم قراءة عقلانية على مقتضى اللغة كتفسير الزمخشري (توفي 538)، والمسمى (الكشاف عن حقائق التنزيل)، فقد قال فيه محذرا منه: (وأما الزمخشري فتفسيره محشو بالبدعة، وعلى طريقة المعتزلة من إنكار الصفات، والرؤية والقول بخلق القرآن، وأنكر أن الله مريد للكائنات، وخالق لأفعال العباد، وغير ذلك من أصول المعتزلة)([27])

وهكذا لا يجد القارئ السلفي مصدرا يتلقى منه فهم القرآن إلا تلك الكتب المشحونة بالإسرائيليات.. والتي يمكن تعريفها بأنها [التفسير الإسرائيلي للقرآن الكريم]

بالإضافة إلى هذا، وإلى ما ذكرنا من أنواع الروايات فإن الشبهة العظمى التي يستند إليها السلفية في تسويق بضاعتهم المدنسة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام هو دعوى رجوعهم للسلف..

وعندما نبحث عن سلفهم في تلك الروايات لا نجد كبار الصحابة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.. فلا نجد بلالا ولا عمارا ولا أبا ذر ولا غيرهم من الصحابة الذين ضحوا بدمائهم في سبيل نصرة الإسلام.

ولا نجد كذلك أصحاب بدر وأحد وغيرها من الغزوات..

ولا نجد الكثير من الأنصار الذين {تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]

وإنما نجد فقط أولئك الذين حذر منهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من اليهود، أو الذين خالفوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تحذيره من الاستفادة منهم، كما ورد في الحديث الصحيح الذي وضع فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحصن الذي يتحصن به دين الأمة من أن يختلط بغيره من الأديان، فيتسرب إليه المشروع الشيطاني، ليحرفه كما حرف سائر الأديان.

والحديث معروف، وكررناه كثيرا.. ولا نزال نكرره.. لأنه لا يمكن للأمة أن تفهم دينها، وهي تخلطه بالتراث الإسرائيلي.

ونص الحديث هو أن عمر أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فغضب، وقال: (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟! والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى – صلى الله عليه وآله وسلم – كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)([28])

وقد نسخ السلفية هذا الحديث ـ كما ذكرنا مرات كثيرة ـ بحديث وضعوه بدلا منه، وهو: (لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن، فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه.. وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)([29])

وهذا من العجائب.. فكيف ينهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كتابة حديثه، وفي نفس الوقت يجيز الحديث عن بني إسرائيل.. وهو الذي غضب تلك الغضبة الشديدة، وأخبر أن دينه أبيض نقي.. وأن خلطهم له بغيره من الأديان سيشوهه، ويدنسه، بل يحوله إلى دين بشري، بدلا أن يكون دينا إلهيا.

ولهذا نجد السلفية يحاولون ـ للبرهنة على جواز الاستفادة من كتب أهل الكتب في هذا المجال كما أجازوه في سائر المجالات ـ إرجاع جواز ذلك إلى السلف الأول، وخصوصا عمر بن الخطاب الذي اعتبروه أول من قرب كعب الأحبار، وأنه هو الذي سمح له بالحديث عن قصص الأنبياء كما هي في كتب أهل الكتاب.. ولسنا ندري مدى دقة ذلك، وكيف لم يخف عمر أن يختلط هذا الدين باليهودية، كما خاف أن تختلط أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن الكريم، فنهى عن كتابتها.

قال ابن كثير ـ مبينا موقف السلفية من هذا ـ: (… فإن كعب الأحبار لما أسلم في زمن عمر كان يتحدث بين يدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأشياء من علوم أهل الكتاب، فيستمع له عمر تأليفا له وتعجبا مما عنده مما يوافق كثير منه الحق الذي ورد به الشرع المطهر، فاستجاز كثير من الناس نقل ما يورده كعب الأحبار لهذا المعنى، ولما جاء من الإذن في التحديث عن بني إسرائيل)([30])

بل إننا من خلال الروايات التي ينقلونها عن العلاقة بين كعب الأحبار وعمر نكاد نصدق أنه تحول إلى مستشاره الديني الخاص، ومن تلك الرويات ما أورده ابن تيمية في قوله: (لما دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه البيت المقدس وأراد أن يبني مصلى للمسلمين: قال لكعب؟ أين أبنيه؟ قال ابنه خلف الصخرة. قال: خالطتك يهودية يا ابن اليهودية ؛ بل أبنيه أمامها [وذلك لأن اليهود تعظم تلك الصخرة]، ولهذا كان عبد الله بن عمر إذا دخل بيت المقدس صلى في قبليه ولم يذهب إلى الصخرة. وكانوا يكذبون ما ينقله كعب: أن الله قال لها: أنت عرشي الأدنى ويقولون: من وسع كرسيه السموات والأرض كيف تكون الصخرة عرشه الأدنى؟)([31])

ومن تلك الروايات ما رووه أن عمر أنه قال لكعب: (أنشدك الله يا كعب أتجدني خليفة أم ملكا؟ قال: بل خليفة فاستحلفه، فقال كعب: خليفة والله من خير الخلفاء وزمانك خير زمان)([32])

بل إنهم جعلوه مستشارا لعائشة أيضا، فقد رووا عن عبد الله بن الحارث قال: كنت عند عائشة وعندها كعب الحبر، فذكر إسرافيل، فقالت عائشة: يا كعب أخبرني عن إسرافيل، فقال كعب: عندكم العلم، فقالت: أجل فأخبرني، قال: له أربعة أجنحة جناحان في الهواء وجناح قد تسربل به وجناح على كاهله والعرش على كاهله والقلم على أذنه فإذا نزل الوحي كتب القلم ثم درست الملائكة وملك الصور جاث على إحدى ركبتيه وقد نصبت الأخرى فالتقم الصور محني ظهره شاخص بصره إلى إسرافيل وقد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضم جناحه أن ينفخ في الصور فقالت عائشة: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول)([33])

والمشكلة أن القاعدة التي طبقت على سائر الرواة من أنه من عرف الكذب عنه، ولو مرة واحدة يطرد من قائمة الرواة الموثوقين.. لكن السلفية لم يطبقوا هذا مع كعب الأحبار وغيره من اليهود، بل جعلوهم من المستثنين، بل دافعوا عنهم دفاعا شديدا..

وحجتهم الوحيدة في ذلك أنهم كانوا مقربين من الصحابة.. وقد كتب بعضهم رسالة في الدفاع عن كعب الأحبار سماها [كعب الأحبار المفترى عليه]([34])، قال في مقدمتها: (فهذا بحث أدفع فيه بعض الافتراءات على كعب الأحبار، التي ذكرها أبورية في كتابه ( أضواء على السنة المحمدية )، وقلده بعد ذلك كثيرون، وهو في الأساس أخذ عن محمد رشيد رضا وبعض المستشرقين، وهؤلاء إنما أرادوا الطعن في السنة، وذلك لأن جمعاً من الصحابة رووا عن كعب الأحبار واحترموه، فأراد هؤلاء إظهار الصحابة في صورة السذج الذين خدعهم كعب)

ثم نقل النصوص الكثيرة عن أئمة السلف التي تمجده، وتجعله قطبا من أقطاب الدين، خاصة في تفسير القصص القرآني.

ومن النصوص التي نقلها ما نقله عن المعلمي من قوله: (لكعب ترجمة في تهذيب التهذيب، وليس فيها عن أحد من المتقدمين توثيقه، إنما فيها ثناء بعض الصحابة عليه بالعلم.. فأما ما كان يحكيه عن الكتب القديمة فليس بحجة عند أحد من المسلمين، وإن حكاه بعض السلف لمناسبته عنده لما ذكر في القرآن)([35])

ومن الروايات التي يستندون إليها في توثيق كعب ما يروونه عن عبد الله بن الزبير أنه قال: (ما أصبت فى سلطانى شيئاً إلا قد أخبرنى به كعب قبل أن يقع)، ويروون عن معاوية قوله: (ألا إنَّ أبا الدرداء أحد الحكماء، ألا إنَّ عمرو بن العاص أحد الحكماء، ألا إنَّ كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده علم كالثمار وإن كنا المفرطين)([36])

وهم يدافعون عن مقولة من معاوية تتهم كعب الأحبار بالكذب، وهي قوله: (إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا – مع ذلك – لنبلو عليه الكذب)([37])بنقل ما ذكروه عن سلفهم من المحدثين من تأويل هذه المقولة، واعتبار اتهام معاوية نوعا من الشدة لم يردها.

ومن ذلك ما نقلوه عن ابن حجر أنه قال: (وقوله (عليه الكذب) أي: يقع بعض ما يخبرنا عنه بخلاف ما يخبرنا به، قال ابن التين: وهذا نحو قول ابن عباس في حق كعب المذكور: (بدل من قبله فوقع في الكذب)، قال: والمراد بالمحدثين في قوله: (إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب) أنداد كعب ممن كان من أهل الكتاب وأسلم، فكان يحدث عنهم، وكذا من نظر في كتبهم فحدث عما فيها، قال: ولعلهم كانوا مثل كعب، إلا أن كعبا كان أشد منهم بصيرة، وأعرف بما يتوقاه)

وقال ابن حبان في كتاب الثقات: (أراد معاوية أنه يخطئ أحيانا فيما يخبر به، ولم يرد أنه كان كذابا، وقال غيره: الضمير في قوله: (لنبلو عليه) للكتاب لا لكعب، وإنما يقع في كتابهم الكذب لكونهم بدلوه وحرفوه)

وقال ابن الجوزي: (المعنى: أن بعض الذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبا لا أنه يتعمد الكذب، وإلا فقد كان كعب من أخيار الأحبار)([38])

وبناء على هذا الموقف من كعب، والذي اعتبر بموجبه ثقة، بل إماما من الأئمة، رفع الحجر عن كل من يخلط الإسلام بكتب اليهود خصوصا، وخصوصا فيما يتعلق بالمسائل العقدية من الحديث عن الله أو رسله أو كتبه أو الملائكة أو غيرها.

ولهذا صرنا نجد في تفاسيرنا الكثير من نصوص الكتب السابقة تفسر القرآن، وتبين أغراضه.

بل يورد السلفية ما هو أخطر من ذلك حين يحدثون عن فضائل عبد الله بن عمرو بن العاص، فيذكرون منها قوله: (رأيت فيما يرى النائم لكأن في إحدى أصبعي سمنا وفي الأخرى عسلا فأنا ألعقهما، فلما أصبحت ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (تقرأ الكتابين التوراة والفرقان، فكان يقرؤهما)([39])

وهكذا أصبح كمال المؤمن ليس في أخذه من القرآن الكريم، واقتصاره عليه، وذوبانه في معانية.. بل الكمال في أن يأكل السمن مع العسل.. أو ينهل من القرآن ومن كتب أهل الكتاب.


([1]) منهاج السنة النبوية (2/ 435)

([2]) منهاج السنة النبوية (7/ 179)

([3]) منهاج السنة النبوية (2/ 434)

([4]) أحمد (2/351، رقم 8601)، والبخارى (1/449، رقم 1274)، ومسلم (4/1843، رقم 2372) النسائى (4/118، رقم 2089)، وابن حبان (14/113، رقم 6223)، والحاكم (2/632، رقم 4107)

([5]) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث (ص:26 – 29)

([6]) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث (ص:26 – 29)

([7]) السلسلة الصحيحة (7/من 826 إلى 835)

([8]) المرجع السابق.

([9]) المرجع السابق.

([10]) المرجع السابق.

([11]) المرجع السابق.

([12]) تاريخ بغداد وذيوله (2/ 161)

([13]) تاريخ بغداد وذيوله (2/ 161)

([14]) سير أعلام النبلاء (14/ 270)

([15]) مجموع الفتاوى (13/361)

([16]) مجموع الفتاوى (13/385)

([17]) مجموع الفتاوى (3/382)

([18]) منهاج السنة (7/212)

([19]) منهاج السنة (7/178)

([20]) مجموع الفتاوى (15/201)

([21]) مجموع الفتاوى (13/361)

([22]) مجموع الفتاوى (13/385)

([23]) مجموع الفتاوى (13/386)

([24]) أصول التفسير في مجموع الفتاوى (13/354)

([25]) عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي في كتابه (شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه)

([26]) مجموع الفتاوى (13/362)

([27]) مجموع الفتاوى (13/386)

([28]) مسند أحمد: 3/387 ح(15195)

([29]) البخاري (6 / 496 رقم 3461) والترمذي (7 / 431 – 432 رقم 2806)

([30]) البداية والنهاية (1/34-35)

([31]) مجموع الفتاوى (15/153)

([32]) رواه نعيم بن حماد في الفتن، ص 241.

([33]) قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 331): رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده حسن

([34]) هو لعبد بن فهد الخليفي.

([35]) الأنوار الكاشفة، ص105.

([36]) الإصابة في تمييز الصحابة، (5 /650)

([37]) صحيح البخاري (13/345)، رقم (7361)

([38]) فتح الباري (13/346)

([39]) أحمد 2/222 (7067)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *