القاتل البريء

القاتل البريء

عندما تحصل الجرائم الكبيرة، ونذهب إلى المحاكم نرى بأعيننا مصداق ما قاله الشاعر:

وقـــاتل النــفــس مأخوذ بفــعلــته   

   وقـــاتل الــروح لا يــدري به أحـــد

لا تستعجلوا في الإنكار علي حتى تعرفوا  القصة من آخرها إلى أولها.. لأني وبحكم الانتكاسة التي نعيشها في واقعنا المرير أرى أننا نحتاج أحيانا لنبدأ من الآخر، ثم ننطلق إلى الأول.. فلا يشرح الآخر مثل الأول.

في تلك المحكمة بدأ القاضي الجلسة، وطلب إحضار  المتهم الذي قتل شيخا من مشايخ الصوفية الذين زاروا تلك البلدة بمناسبة إحياء مولد من الموالد.

كان المتهم رابط الجأش، مع أن كل الأدلة ضده.. وكأنه متيقن بالبراءة، أو ينتظر أن يزف إلى الجنان.

نطق المدعي بدعواه، ولم يحتج إلى أي مشقة في إثباتها، فقد حصل القتل في المسجد، وعلى عين الإمام الذي كان على المنبر، وفي موضع يسمح له برؤية الحادثة بدقة، ولهذا بمجرد أن انتهى من دعواه طلب القاضي الإمام ليقدم شهادته.

كان الإمام فحلا في الخطابة، فلذلك صعد إلى المحل الذي يستجوب فيه الشهود، وراح يقدم خطبة في حرمة القتل، وفي فداعة الجريمة التي قام بها المتهم.. ولم يفته أن يطلب من القاضي أن يقوم بالقصاص العادل منه.. ولم يفته كذلك أن يشكر الشرطة والداخلية والحكومة ورئيس الجمهورية والقاضي.. وغيرهم على الجهود التي يقومون بها من أجل حماية المجتمع من أمثال ذلك المجرم.

كان يتحدث.. وكان الحضور يكبرون أحيانا، وأحيانا يصفقون.. وكان القاضي حييا، فترك له الفرصة ليتحدث..

أما محامي المتهم، فلم يجد إلا أن يطلب التيسير عليه في الحكم باعتباره رب أسرة فقيرة، وكونه متدينا جديدا، وقد تصور أنه يقوم بعمل شرعي..

وعندما قال هذا قام الإمام بدون استئذان، وراح يصيح: ما هذه الجريمة.. كيف يتحول الدين إلى أداة للقتل.. أطالب بتسليط أشد العقوبات عليه.. لأنه استخدم الدين في الإرهاب؟

أوقفه القاضي بعد أن هدده بإيداعه السجن إذا لم يسكت..

كان المتهم يرفع يده كل حين ليطلب الحديث لكن القاضي لم يكن يسمح له.. وكان محامية يقترب منه، ويطلب منه أن يستجدي القاضي.. فلم يجد المسكين إلا أن يكتفي بالاستجداء دون أن يعرض ما يريد أن يقوله بدقة.

لم تطل المحاكمة كثيرا.. وكان الحكم فيها واضحا، وهو إعدام القاتل..

وبمجرد أن نطق القاضي بالحكم صاح الإمام وبطانته مكبرين.. شاكرين للقاضين الحكم العادل الذي نطق به.

بعد تلك الجلسة رحت إلى بيتي، وفتحت هاتفي الذكي الذي كان يسجل صوتا وصورة كل ما حصل في ذلك اليوم المشؤوم..

ظهر الخطيب، وهو في طريقه إلى المنبر يلتفت للصفوف الأولى، وإذا به يرى شيخا من مشايخ الطرق الصوفية يجلس صحبة مريديه الذين تعودوا أن يحضروا لذلك المسجد مع ما يسمعون فيه.. ولكنهم رعاية لوحدة المسلمين ولحرمة الجمعة، كانوا يحضرون ولا يبالون لما يقال لهم، أو ما يقال فيهم.

عندما صعد الخطيب المنبر راح يستجمع كل قواه الغضبية ليكون منها صاروخا نوويا يهجم به على المحيطين به، ليقضي عليهم قضاء نهائيا، وهو ضامن بأنه لا يوجد أحد يجرؤ على مقاطعته.. لأنهم جميعا ملتزمون بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (من قال لصاحبه والامام يخطب انصت فقد لغا ومن لغا لا جمعة له)([1]

بعد انتهاء الآذان قام الخطيب، ورمى بشرارة بصره إلى الحضور الذين كان أكثرهم من العوام البسطاء من أتباع شيخ الطريقة، وكان بينهم زمرة من أصحاب الشيخ وتلاميذه.

قال الشيخ في خطبته([2]) بعد الحمدلة والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بما أنكم عرفتم – في الخطب الماضية -أن كل الشرور الموجودة في الأمة طرأت عليها بسبب انحرافها عن هدي نبيها وسلفها الصالح.. فإن هذا يَجعلنا نحرص ونبحث عن الخلل الذي أدخل هذه الانحرافات في الأمة..

والتساؤل الذي يطرح نفسه بإلحاح، ويحتاج إلى أن نجيب عنه بقوة وجرأة هو من السبب في ذلك؟

من هم المجرمون الذين أوقعوا الأمة فيما نراه من تخلف وضياع وتبعية وجهل وخرافة؟

من يتحمل وزر كل الضياع الذي تقع فيه الأمة؟

البعض يعيد لذلك لأسباب سياسية من ضعف الحكام، أو تسلط الاستعمار.. ونحو ذلك.. وكل ذلك غير صحيح..

السبب أيها المسلمون واضح، وهو بيننا يمشي على قدمين.. وقد نراه في مساجدنا.. بل قد نراه في الصفوف الأولى منها..

إنهم الصوفية المشركون الملحدون الخرافيون القبوريون..

أنه تلك القبور والأضرحة والمقامات التي صارت تعبد من دون الله.. لقد صارت مساجد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها محال يعبد فيها غير الله.. لأنها مبنية على القبور أو القبور تُدخلُ فيها..

هل تدرون لم بُنيت المساجد على القبور، والقِباب المشيدة على القبور؟

الجواب بسيط وواضح.. لقد وضع الزنادقة أحاديث مكذوبة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبين جواز ذلك، بل تستحسنه، ثم جاء فقهاء ومفسرون ومحدثون وأدعياء علم كتبوا في ذلك، ونشروه بين الناس إلى أن صار الناس مشركين.

تركوا الاستعانة بالله، وراحوا يستعينون بأصحاب القبور.. تركوا تمجيد الله، وراحوا يمجدون أصحاب القبور.. نسوا أيام الله التي أمر بتعظيمها، وراحوا يعظمون موالد مشايخ الشرك والضلالة.

لقد كان كفار قريش أبو جهل ومن معه وأبو لهبٍ ومن معه أكثر حرمة وتدينا من كثير ممن يسمون أنفسهم مسلمين([3]).. وممن يتصورون أنهم ينالون أجر الصفوف الأول في المساجد.. ونسوا أنهم مشركون لا يرون الجنة، ولا يشمون ريحها.

لقد كان أبو جهل وأبو لهب والوليد وغيرهم من المشركين إذا اشتد بهم الأمر التجؤوا إلى الله وأخلصوا نداءهم وتعلقهم ودعاءهم لرب العالمين.. تصوروا لقد كانوا، وهم مشركون لا يتعلقون بأصنامهم، لأنهم يعتقدون أنها لا تعطيهم ما يريدون، ولا تدفع عنهم ما يحذرون.

لكن للأسف الشديد صار المسلمون الآن عند الشدائد يتوجهون إلى غير الله رب العالمين.

يوجد عندنا في وفي مسجدنا هذا صنم من الأصنام لا أسميه، فكلكم يعرفه.. يأتي إليه الناس يتمسحون به، أما الله فقد نسوه.. أما الله فقد ضيعوه.. أما الله فقد تركوه، وما وثقوا به، وما أحسنوا الظن به، ولا عبدوه ولا يرجون رحمته ولا يخشون عذابه.

يا سبحان الله كيف ضاعت أمتنا، وكيف تاهت، وكيف انطلى هذا البلاء العظيم على الأمة والتوجه بكل العبادة إلى صاحب القبر، لا يخاف إلا صاحب القبر، لا يرجو إلا صاحب القبر، لا يُعظم إلا صاحب القبر، لا يذبح إلا لصاحب القبر.

تصوروا أن بعض عبدة القبور عندنا إن أراد أن يحج يذهب ويستأذن من صاحب القبر، وإن رجع من الحج مر على صاحب القبر، وقال له : لقد حججنا وما نسيناك.

انظروا إلى هذا الحد يلعبون على عقول المسلمين.. هذا إبطال للدين.. هذا إبطال الشريعة..

وكيف لا يحصل هذا، وقد كان عندنا في مصر شيخ من مشايخ الأزهر.. هو عبد الحليم محمود عندما أراد أن يؤلف كتاباً في مدح أحمد البدوي المقبور في طنطا بأرض مصر ذهب وبقي ليالي عند قبره.. وبعد ذلك ذكر في الكتاب أنه ما كتب هذا الثناء والمدح لأحمد البدوي إلا بعد أن أذن له أحمد البدوي.

لهذا أيها الناس، ولا أقول المسلمين.. احذروا على عقائدكم من هؤلاء المشركين.. إنهم موجودون معنا في كل مكان ابتداء من مسجدنا هذا.

فويل لمن اتبعهم.. وطوبى لمن تبرأ منهم.. والفردوس الأعلى وما فيها من الحور والقصور لمن خلص الأمة من شرورهم.. والحمد لله رب العالمين.

بمجرد أن قال هذا، قام القاتل، وغرز سكينه في قلب شيخ الطريقة.. وانهال الناس عليه.. وسلموه للشرطة.. وحصل بعد ذلك ما حصل.

بعد أن رأيت ما رأيت.. ذهبت إلى محامي المتهم، وقدمت له الشريط، فنظر إلي، وقال: أنصحك بأن تحرقه.. أو ترميه.. فما أسرع ما يجد المحامون الكبار الذين يلتفون حول ذلك الإمام من المخارج ما يضعك في الزنزانة طول حياتك..

قلت: ولكن الدليل معي.

قال: ولكن الإعلام وجمعيات الحقوق الإنسان والأمم المتحدة معه.. إن حلف المستكبرين لا يمكن أن يقضي عليه محام مستضعف مثلي.


([1]) رواه الترمذي والنسائي.

([2])  بعض ما نورده هنا من الخطبة منقول بتصرف من كلام للشيخ محمد بن عبد الله الإمام، من كتاب له بعنوان (شركيات وعقائد الصوفية)، ونفس الكلام يردده أصحاب المنهج السلفي.

([3])  يحرص دائما دعاة الاتجاه السلفي على تفضيل مشركي الجاهلية على المسلمين.. وهناك أدلة مفصلة على هذا في محلها من هذه السلسلة.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *