الفكرة والعقيدة

الفكرة والعقيدة

من المسائل المهمة التي نحتاج إلى التعرف عليها لارتباطها بحياتنا بجميع مجالاتها ومساراتها التمييز بين ما نفكر فيه، وبين ما نعتقده، فليس كل ما نفكر فيه عقيدة.. وليس كل عقيدة نؤمن بها قد تكون منطلقة من فكر وبحث وتأمل.

وربما يشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات: 14]، فالآية الكريمة تشير إلى مرحلة من مراحل الإسلام، وهي الإذعان الفكري للقضايا للعقدية، وهو ما سماه القرآن الكريم في هذا المحل إسلاما، وفوقه درجة أعلى هي الإيمان، وهي الدرجة التي اصطلح الكثير ـ وخصوصا من المعاصرين ـ على تسميتها عقيدة، باعتبارها تنعقد في القلب وترسخ فيه رسوخا شديدا تجعله يعتبرها في سلوكه وجميع مواقفه.

وربما يشير إلى هذا المعنى أيضا قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات: 7]، فمن أهم خصائص العقيدة الانفعال العاطفي لها، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بالحب.. ويتبعه ويسبقه التزيين.. لأن الفطرة لا تحب إلا للجميل، ويشير إلى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ذاق طعم الإيمان، من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا)([1])

وأشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى التأثير السلوكي للعقيدة في شخصية صاحبها، فقال: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه)([2])  

بناء على هذه المعاني البديهية والمتفق عليها بين العقلاء، أحب أن أجيب عن بعض الإشكالات التي طرحها بعض الفضلاء حول هذا الموضوع عند حديثي عن الفرق بين الفكرة الحية والفكرة الميتة، وعند حديثي عن مهدي السنة ومهدي الشيعة، وحتى يكون الكلام منتظما فسأقسمه إلى المحاور التالية:

الأول: أن مصطلحي [الفكرة، والعقيدة] لا يحملان في دلالتهما العامة أي مدح أو ذم، أو قبول أو رفض.. وهما بذلك يشبهان مصطلح [الخلق] الذي يصدق على الخلق الطيب، كما يصدق على الخلق الخبيث.. ولذلك فإننا عند حديثنا عن الفكرة الحية أو الميتة.. أو عن المهدي.. أو عن غيرها من القضايا لم نقصد بذلك تأييد ذلك المعتقد أو رفضه، وإنما قصدنا تبيين الفوارق العملية بين الفكرة الحية المؤثرة، والفكرة الميتة السلبية.. وقد دعونا إلى النظر في هذا من هذه الزاوية، أما الأدلة المثبتة أو النافية، فلها محلها الخاص في كتب العقائد، أو في كتب الملل والنحل.. وهي ليست مقصودنا بالدرجة الأولى.

الثاني: أن لاعتقاد الحياة بأي معنى من المعاني في القضية المطروحة تأثيره النفسي الكبير في تحويل الفكرة من مجرد كونها فكرة لا تحتل سوى محلا بسيطا من الذهن إلى عقيدة لها تأثيرها الكبير والفاعل في الحياة..

وقد رأيت هذا من خلال صحبتي للطرق الصوفية، والتي يعتقد أصحابها اعتقادا راسخا في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكون الحياة لا تخلو منه.. ولذلك نراهم يستشعرون وجوده وحضوره التام.. وهم لأجل ذلك يتوسلون به، ويخاطبونه نثرا وشعرا، ويتغنون بجماله وجلاله.. ويرونه كثيرا في الرؤى.. وبعضهم يذكر ـ لشدة محبته وشوقه ـ أنه يراه في اليقظة.

وذلك غير مستغرب لمن يفهم الفرق بين الفكرة والعقيدة.. فصاحب العقيدة يعيش العجائب، ويرى العجائب، وقد قال أبو حامد الغزالي لبعض تلاميذه الذين تعجبوا من بعض ما ذكره في كتبه: (بالله إن تسر ترى العجائب)

فسلطان العقيدة لا يكتفي بالذهن المجرد، بل يتحول إلى كل الكيان، فيملأه ثقة وحضورا وأشواقا مع القضية العقدية، ولهذا ورد في الحديث الذي اتفقت على روايته الأمة بفرقها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقي رجلاً يقال له حارثة في بعض سكك المدينة فقال‏:‏ (‏كيف أصبحت يا حارثة‏؟)،‏ قال‏:‏ أصبحت مؤمناً حقاً، قال‏:‏ (‏إن لكل إيمان حقيقة فما حقيقة إيمانك‏؟)‏ قال‏:‏ عزفت نفسي عن الدنيا فأظمأت نهاري وأسهرت ليلي وكأني بعرش ربي بارزاً وكأني بأهل الجنة في الجنة يتنعمون فيها وكأني بأهل النار في النار يعذبون‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ (‏أصبت فالزم مؤمن نور الله قلبه‏)([3])

ومثله حديث حنظلة الذي جاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال له: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وما ذاك؟)، قال: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده؛ إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)([4])

فالحديث يشير إلى هذا البعد الذي ينكره الكثير على الصوفية، ويسخرون منهم بسببه، والمشكلة أن الذي يعتقد هذا، ويقر به، بل يقر بما هو أكثر منه رجل فيلسوف متكلم اتفق الكل على مدى قوة عقله ورجاحته، أقصد أبا حامد الغزالي الذي قال بعد صحبته للصوفية: ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات، حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة، وأرواح الأنبياء ويسمعون أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد. ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال، إلى درجات يضيق عنها النطق)([5])

ونفس الشيء يقال في تأثير اعتقاد الشيعة بحياة المهدي، فإن هذا الاعتقاد أكسبهم علاقة تفوق بكثير علاقة السنة بالمهدي، وهي علاقة تبدأ من التواصل الروحي معه، والاستفادة من ذلك في التربية والسلوك والترقي، وتنتهي بالتواصل الاجتماعي والسياسي، والذي أكسب المشروع السياسي الشيعي من القوة ما يفتقده المشروع السياسي السني، ذلك أن للأول عقيدته الحية الكبرى المؤثرة، وأما الثاني فليس له مثل تلك العقيدة.

وقد لقي الشيعة مثلما لقي إخوانهم من الصوفية الكثير من التهكم والسخرية، ولكنهم لم يتأثروا، ولم ينفعلوا، ولا أحدث فيهم ذلك أي نفور من عقيدتهم، مثل إخوانهم من الصوفية تماما، والذين يقولون كل حين مخاطبين المنكرين عليهم:

نحن قوم لانبالي بالملام ‍
لاتلمني ياعذولي إنّني ‍
لا تلم عبد الهوى فيما جرى ‍
كم محبّ زاده العذل فــــــما
 إن كتمنا الحبّ أبداه الغرام
 عبد رقّ بين سادات كرام
 في إهتزاز واضطراب واصطلام
 أبعد السّلوان عن أهل الغــــرام

وقد كان في إمكان المتهكمين لو كانوا صادقين مع أنفسهم ومع الحقيقة ومع الأدب مع الله أن يلتمسوا آلاف الأعذار لكل هذا، ولعل أدناها أن يتدبروا في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]

وقد ورد في الحديث ما يفسر هذا المعنى، وما يؤكد أن كل البشر أحياء من خرج منهم إلى الأرض، ومن لم يخرج، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم، عليه السلام، بنعمان ـ يعني عرفة ـ فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، ثم كلمهم قبلا قال: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، وغيرها من الأحاديث، والتي لو طبقناها في هذا المجال لكان في ذلك عذرا لمن أراد الاعتذار.

بل أخبر صلى الله عليه وآله وسلمأن نبوته كانت متحققة قبل ولادته بأزمان طويلة جدا، ففي الحديث الصحيح: (إني عند الله مكتوب: خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري: دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني، وقد خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام)([6])، وفي رواية: (متى كتبت نبيا؟) فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (وآدم بين الروح والجسد)

ولهذا ورد في الروايات الكثيرة الواردة لدى الأمة بمختلف طوائفها أن الأنبياء كانوا يتوسولون به صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكونوا ليتوسولوا بمعدوم.

ولهذا، فإن في إمكان السنة ـ إن أرادوا تحويل عقيدتهم في المهدي إلى عقيدة فاعلة ـ أن يستشعروا هذا المعنى، ويعيشوه، وسيرون تأثيرهم في حياتهم بمختلف جوانبهم.

وطبعا لا أقول هذا الكلام لأوليك المتدينين تدينا ماديا، والذين لا يكادون يؤمنون بالغيب، وإنما أقوله للذين قال الله تعالى فيهم: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 2، 3]، والذين لا يختلف الغيب عندهم عن الشهادة، ولا الملك عن الملكوت، فهم يعيشون في بحار الأنوار، ويغترفون من شرابها العذب ما يضيف لحياهم قوة وجمالا لا تضاهيه حياة المتدينين تدينا ماديا علمانيا لائكيا.

الثالث: أنه من خلال التجربة والواقع فإن إحياء المناسبات المختلفة، والمرتبطة بالفكرة تأثير كبير في تحويلها إلى عقيدة راسخة، ولهذا نرى الشعوب بمختلف توجهاتها الدينية تتذكر تاريخها وتحيي المناسبا المختلفة المرتبطة به، وذلك لترسخ الاعتقاد بالوطنية في نفوس أفرادها.

وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5]، ففي الآية الكريمة إشارة إلى ما يحدثه التذكير بأيام الله في النفوس من الصبر والشكر، والصبر هو تحمل الفكرة وعدم الضجر منها، والشكر هو تحويل الفكرة إلى مادة فاعلة مؤثر في الحياة بمختلف مجالاتها.

ولأجل هذا نرى اهتمام الصوفية بميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والذي يبدأ إحياءهم له من أول ربيع الأول، بل يحضرون له قبل ذلك بفترة طويلة.. ولهذا نرى في المجتمعات الصوفية الصادقة تأثير تلك المناسبات في ربط القلوب برسول الله عاطفيا ووجدانيا.

ونفس الشيء يقال عن اهتمام الشيعة بموالد الأئمة من آل البيت، والمآسي التي حصلت لهم.. فقد دمجت حياة الشيعي بسبب ذلك بالأئمة والأولياء والصالحين، فهو في كل حين يسمع أخبارهم، ويعيش أفراحهم وأحزانهم، ويتأثر لكل ذلك، وذلك ما يحول علاقته بآل البيت من علاقة ميتة إلى علاقة حية مؤثرة.

الرابع: أن من الأدب الذي علمنا إياه القرآن الكريم، والذي يشير إليه قوله تعالى: { قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25]، أن صاحب العقيدة في تعامله مع المخالف، أو في حواره معه، لا يطرح عقيدته كعقيدة، ويتعصب لها، وإنما يطرحها كفكرة يمكن أن تناقش، فلهذا تأثيره الكبير في الطرح العلمي والموضوعي للقضية والانتصار لها، بخلاف الذي يطرح أفكاره، ومعها روائح التعصب لها، فالبشر في العادة ينفرون من التعصب، وينفرون ممن يريد أن يكرههم على شيء من غير المنهج الصحيح.

وهذا المعنى هو الذي ييشير إليه قوله تعالى في بيان منهج الدعوة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [النحل: 125]

وهو الذي يشير إليه سلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمفي دعوته لهذه الأمة، والذي أثنى عليه قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]

فليس من السهل لشخص ممتلئ بالمادية أن تقنعه بحياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو بحياة غيره.. فلذلك تحتاج الى طرح القضية له كفكرة، وليس كعقيدة.

ومن هذا الباب كان عتابي لبعض إخواني من الصوفية أو من الشيعة على تلك الطروحات التي لا تراعي قدرات الناس، ولا المراحل الفكرية التي يمرون بها.. ولو أنهم طرحوا أفكارهم بهدوء ورحمة وموضوعية لكانت أكثر قبولا، وأبعد عن اللجاج والخصومة.. فلا خير في اللجاج والخصومة.


([1]) رواه مسلم.

([2]) رواه البخاري.

([3]) رواه البزار.

([4]) رواه مسلم.

([5]) المنقذ من الضلال (ص: 178)

([6]) رواه أحمد، وقال: صحيح الإسناد، وصححه الألباني في شرح السنة -مشكاة المصابيح – (3 /251، 5759)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *