الشيعة ومراسم عاشوراء والموقف الشرعي

الشيعة ومراسم عاشوراء والموقف الشرعي
طلب مني بعض المحترمين أن أكتب نقدا لما يمارسه الشيعة من مراسم وطقوس في عاشوراء وما قبلها وما بعدها، وجوابا له أقول: إن الموقف السليم في هذه المسألة هو أن تحلل تلك الممارسات من جهة دوافعها وأهدافها وأساليبها، وبعد ذلك يمكن أن نجد ما يصح أن ننتقده وننكر عليه ونقف ضده، ويمكن أن نجد ما يصح السكوت عنه أو حتى الإشادة به، لأن الانطلاق من النقد لأجل النقد خلاف للمنهج القرآني الذي يدعونا للاعتدال وعدم غمط الناس حقوقهم في نفس الوقت الذي يدعونا إلى النهي عن المنكر وانتقاده والتحذير منه.
أما الدوافع التي يذكرها الشيعة لتلك الممارسات فهي إحياء ما حصل يوم عاشوراء من المجزرة الرهيبة التي استشهد فيها الإمام الحسين والكثير من أهل بيته، والحادثة لا شك ـ عند المنصفين جميعا من المسلمين وغير المسلمين ـ حادثة خطيرة، ومأساة عظيمة، لا لأنها تتعلق فقط بسبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وريحانته وسيد شباب أهل الجنة، وإنما لأن ما حصل فيها نذير شؤم بأن الأمة انحرفت انحرافا كبيرا عن هدي نبيها، فلم تراعه حتى في سبطه وريحانته ومن تعتقد أنه سيد شباب أهل الجنة.
وهذا الدافع دافع شرعي لا حرج فيه، بل يمكن الإشادة به، فذلك اليوم من أيام الله، والله تعالى أمرنا أن نذكر بأيام الله.. ومثله يوجد لدى الطرق الصوفية في المدرسة السنية حيث نجدهم يحيون مولد السيد البدوي وعبد القادر الجيلاني ومحمد بهاء الدين شاه نقشبند وغيرهم، ويقيمون لأجل ذلك المراسم المختلفة التي يحضر فيها خواص الناس وعوامهم، وكما لا يصح الإنكار على أولئك لا يصح الإنكار على الشيعة في هذا، فليس الحسين بأقل شأنا ممن نرى إحياء موالدهم كل حين.
أما الأهداف التي يذكرها الشيعة في هذا، فيختلفون فيها بين الهدف المعتبر المؤثر.. وبين الهدف الشيطاني الأسطوري..
أما الثاني فهو الذي يهدف إلى بث الأحقاد ونشر الفرقة والفتنة في الأمة الواحدة، فيفرق بينها جميعا على أساس إحيائها لهذه المناسبة أو عدم إحيائها.. ولا شك أن هذا هدف شيطاني، فالشيطان هو الذي يدعو إلى الفرقة ونشر الأحقاد والضغائن وما ينتج عنها بعد ذلك من مظالم.
وأما الأول فهو الذي يهدف إلى استثمار تلك المأساة العظيمة في ربط القلوب بمحبة أهل البيت والتعلق بهم، وهو هدف شرعي ورد في السنة النصوص الكثيرة ما يدعو إليه، ولا يصح أن يقتصر هذا على طائفة دون طائفة، فأهل البيت للأمة جميعا، وليس لطائفة بعينها..
ولكن الهدف الأعظم من هذا هو استثمار الحادثة في الدعوة إلى الإصلاح والثورة السلمية ضد الظلم والطغيان، وهذا دافع شرعي، وبسببه استطاع الإسلاميون في إيران أن يسقطوا دولة الشاه، ويقيموا دولة ولاية الفقيه، وقد قال الخميني معبرا عن هذا: [كل ما عندنا من عاشوراء]، فقد كان الخطباء يحولون في هذه المناسبة وغيرها من الشاه الدكتاتور الطاغية يزيدا، ويحولون من الجماهير أنصارا للحسين، وقد استطاعوا بذلك أن يحيوا روح الثورة في الشعب ليسقط الطاغوت.
وقد عجز الإسلاميون في مصر وغيرها ـ رغم طول فترة عملهم ـ من تحقيق مثل ذلك الإنجاز، لأنهم لم يدركوا ـ إدراكا كاملا ـ أن الجماهير لا تحركها الخطابات العقلية بقدر ما تحركها المؤثرات العاطفية، وخاصة تلك التي تعود لأسباب دينية.
بل إننا لو تأملنا في مسيرة أكبر حركة إسلامية وهي حركة الإخوان المسلمين لوجدناهم يعتمدون هذه الطريقة لتوجيه الرأي العام واستثماره، وإن كان استثمارا محدودا وغير دقيق، فقبل فترة كان خطباؤهم يذكرون كل حين، وبطرق مؤثرة قصة استشهاد سيد قطب أو عبد القادر عودة وما جرى لهم في السجون والمعتقلات ليؤثروا في عواطف الناس، وقد حصل بعض ذلك التأثير، وهم الآن يحيون كل سنة ما حصل في رابعة، ويضعون المراسم المختلفة لذلك، ويحاولون استثمار عواطف الجماهير في هذا قدر ما استطاعوا.
ولكن كل ذلك لا يرقى لما يفعله الشيعة في استثمار مأساة كربلاء، لأنها حادثة متفق عليها، فلا أحد من الأمة ينكرها، ولا أحد من الأمة ينكر فضل من استشهدوا فيها، بخلاف الشخصيات التي يستثمرها الإخوان والتي هي محل خلاف حتى فيما بينهم.. ولعل القارئ يعرف ما كتبه الكثير من قيادات الإخوان في اتهام سيد قطب بالتطرف والغلو.
هذا من جهة الأهداف، أما من جهة المراسم، فمن خلال استقراء ما يحدث في البيئة الشيعية سواء من خلال كتبهم ومراجعهم أو من خلال ما نراه في قنواتهم الفضائية يمكن أن نجد نوعين من المراسم:
الأولى: مراسم خرافية أسطورية لا شك في تحريمها، بل اعتبارها من الكبائر، مثل الضرب بالسلاسل الحديدية والسيوف وغيرها من المظاهر المشوهة للأهداف النبيلة والدوافع السامية، ومن باب الموضوعية والشهادة لله، فإني لم أجد عالما معتبرا من علماء الشيعة يجيز مثل هذه التصرفات، بل كلهم ـ إلا من شذ منهم ـ وقف ضدها، واعتبرها بدعا وأنكرها إنكارا شديد، بل إن العقوبات في إيران ـ عاصمة الشيعة، وحيث لا تمارس التقية ـ تسلط على من يقوم بمثل تلك السلوكات.
وعلى من ينكر هذه السلوكات من المنحرفين من عوام الشيعة أن ينكرها كذلك على المنحرفين من الطرق الصوفية حيث نجد فيهم من المنكرات المرتبطة بهذا ما يحتاج هو الآخر إلى الإنكار.
ولكن من الخطأ أن يتهم الصوفية أو الشيعة جميعا بسبب ممارسات خاطئة يقوم بها المنحرفون من عوامهم.. فالشهادة لله تقتضي أن توضع الأمور كلها في نصابها الصحيح.
الثانية: مراسم عادية، لا يمكن أن ننظر إليها نظرة سلبية مثل إقامة المجالس، واسثمارها في التذكير بالحادثة وأخذ العبر منها، بل استثمارها أخلاقيا من حيث إحياء قيم التضحية والإيثار والشجاعة والنبل والرسالية وعدم المهانة والذلة وغيرها، مثل المجالس التي كان يقيمها الشيخ أحمد الوائلي وغيره من الخطباء الكبار، فهذه مما لا شك في شرعيتها، لأنها لا تحوي أي دعوة للتفرقة أو الفتنة.
ومثلها القصائد التي تلقى أو تنشد، والتي تخلو من الدعو ة للفتنة، فهذه أيضا مما لا شك في إباحتها، ولو رأينا الواقع السني لوجدنا فيه نفس هذه الأمور.. فللصوفية قصائدهم وسماعهم.. وللحركات الإسلامية قصائدها وأناشيدها.. بل حتى الجماعات المسلحة تستثمر هذا الجانب في تجنيد أفرادها وشحذ هممهم.
أما اللطم على الصدور، فإن كان مؤذيا للجسد، فلا شك في حرمته، أما إن لم يكن مؤذيا، فلا حرج فيه، فهو كالتصفيق، ولم أر من يحرم التصفيق، إلا إذا اعتبر شخص ما أن ذلك اللطم شعيرة من الشعائر التعبدية، فهذا غير صحيح، فالشعائر التعبدية تحتاج إلى الدليل من الكتاب والسنة، ولا دليل على ذلك من الكتاب والسنة حتى نعتبره شعيرة.
وعلماء الشيعة المعتبرون يقولون ذلك أيضا، فهم يعتبرونه نوعا من التعبير العاطفي، وليس شعيرة ولا عبادة.
هذا هو الموقف الشرعي ـ كما أتصوره ـ وأنا أعلم أن الكثير لا يرتاح لمثل هذا الحديث، لأن لديه حساسية مفرطة من الشيعة، فهو يريد لكل من ذكرهم أن يتخلى عن عقله ومنطقه ليخاطبهم جميعا بلغة اللعن والسب والتكفير.. وأنا لا أحسن هذه اللغة.. ولهذا أرجو المعذرة ممن طلب مني الكتابة في هذا، فقد أجبته بمنهجي، وكل إناء بما فيه ينضح.