الشيعة.. وإجماع العلماء

من عجائب التناقضات التي وقعت فيها هذه الأمة، ووقع فيها خصوصا فقهاؤها، وخصوصا الكثير من المعاصرين منهم تلك العنجهية التي يواجهون بها طائفة محترمة من الدين، ومذهبا له جذوره التاريخية التي تمتد إلى العصر الأول، ومدرسة لها علماؤها وفقهاؤها الكبار الذين لا يقلون فقها وعلما ودراية عن غيرهم من علماء المدارس الإسلامية، في نفس الوقت الذين يقبلون أقوالا فقهية ضعيفة، بل شاذة، ويقبلون أعلاما نطقوا بطامات لا تتعلق بالموقف من الصحابة فقط، بل بالموقف من الله تعالى، والموقف من رسله والقطعيات من دينه.. وهذا عجب عجاب.
فعكرمة مثلا، نجد كل الفقهاء بمن فيهم المعاصرون منهم، يثنون عليه، ويقبلون حديثه، ويقبلون أقواله في تفسير القرآن، ويقبلون آراءه الفقهية، ويضعونه ضمن المعتبرين في الإجماع، مع ما اتهم به من الكذب، فقد روي عن ابن عمر أنه قال لنافع لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عباس.. وذكر عن جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد، قال: دخلت على علي بن عبد الله بن عباس وعكرمة مقيد، فقلت: ما لهذا؟ قال: إنه يكذب على أبي ([1]).
وليس ذلك فقط، بل كان ـ كما يذكر الكثير من المؤرخين ـ يرى رأي المتشددين من الخوراج، والذين يحكم عليهم هؤلاء العلماء بأنهم كلاب أهل النار.. فقد قال ابن حجر في (مقدمة فتح الباري): (وفد عكرمة على نجدة الحروري فأقام عنده تسعة أشهر ثم رجع إلى ابن عباس فسلم عليه، فقال: قد جاء الخبيث قال: فكان يحدث برأي نجدة، وكان يعني نجدة أول من أحدث رأي الصفرية وقال الجوزجاني قلت لأحمد بن حنبل أكان عكرمة إباضيا فقال: يقال: إنه كان صفرياً، وقال أبو طالب عن أحمد كان يرى رأي الخوارج الصفرية، وقال يحيى بن معين كان ينتحل مذهب الصفرية ولأجل هذا تركه مالك، وقال مصعب الزبيري كان يرى رأي الخوارج)([2])
ومع كل هذه التهم نجد لعكرمة حضورا قويا في أهم المصادر المرتبطة بالكتاب والسنة والفقه والعقيدة.. فهو مفسر وراوية وفقيه.. وله السند السلفي والخلفي الذي يحميه ويصد كل التهم التي ووجه بها.
ومثله، أو قد يفوقه مقاتل بن سليمان البلخي الذي كان له هو الآخر حضورة القوي في جميع مصادر الدين وخصوصا التفسير؛ حتى روي عن ابن المبارك أنه قال: (ما أحسن تفسير مقاتل لو كان ثقة)([3])
ومع هذا القول فهم يتعاملون معه كثقة، فإذا حكوا خلافا في تفسير لفظة أو آية قرآنية، ذكروا من القائلين به (مقاتل بن سليمان) وفي إمكان القارئ الرجوع لأي تفسير ليرى ذلك..
ولو رجعنا إلى الكتب المؤرخة للملل والنحل نجد من أقواله العجب العجاب، فقد قال الأشعري ـ والذي يرجع إليه ابن تيمية وغيره كثيرا عند إيراد أقوال أصحاب الفرق المختلفة ـ: (حكي عن أصحاب مقاتل أن الله جسم، وأن له جثةً، وأنه على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم وجوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس وعينين مصمت، وهو مع ذلك لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره)([4])
وحكى عنه الشهرستاني ـ وهو الآخر من المصادر المعتبرة التي يرجع إليها هؤلاء العلماء عند حديثهم عن الشيعة ـ أنه قال: (قد ورد في الخبر أن الله خلق آدم على صورة الرحمن، فلا بد من تصديقه)([5])
ومن مرويات مقاتل في التجسيم ما أخرجه الذهبي بسنده عن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال: (إذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين حبيب الله؟ فيتخطى صفوف الملائكة حتى يصير إلى العرش حتى يجلسه معه على العرش حتى يمس ركبته)([6])
وقال ابن حبان: (كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان مشبهاً يشبه الرب بالمخلوقين وكان يكذب مع ذلك في الحديث)([7])
وقال الذهبي: (ظهر بخراسان الجهم بن صفوان ودعا إلى تعطيل صفات الله عز وجل.. وظهر في خراسان في قبالته مقاتل بن سليمان المفسر وبالغ في إثبات الصفات حتى جسم وقام على هؤلاء علماء التابعين وأئمة السلف وحذروا من بدعهم)([8])
بعد كل هذا وغيره نرى ابن تيمية يقبله، بل يثني على علمه بالتفسير مع كون التفسير أخطر العلوم، وأحوجها إلى الثقاة، فالتفسير هو بيان مراد الله من النص، ولذلك يرقى لأعلى مقام في المصادر الشرعية.
يقول ابن تيمية عنه: (وأما مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله والأشعري ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة وفيهم انحراف عن مقاتل بن سليمان فلعلهم زادوا في النقل عنه أو نقلوا عن غير ثقة وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد.. ومقاتل بن سليمان وإن لم يكن يحتج به في الحديث لكن لا ريب في علمه بالتفسير وغيره)([9])
وليت ابن تيمية ومن تبعه من العلماء استعملوا هذا الورع في تعاملهم مع الفرق المختلفة.. لكن المكاييل المزدوجة هي المسيطرة على أمثال هذه العقول، فهي تميل لكل مجسم مشبه ينقل من تراث الأمم المختلفة.. وهي أبعد عن كل منزه موحد يحرم الأخذ بغير ما ورد في النصوص المعصومة.
هذان موقفان من رجلين لا شك في كون بدعتهما عظيمة وخطيرة على الدين، وقد أضافا إليها الكذب، ومع ذلك نجد ذلك التسامح واللين والرحمة في قبول أقوالهما في مصادر الدين الكبرى، وقد عومل مثلهما ومن لا يقل عنهما ككعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما كثير بنفس تلك المعاملة الممتلئة بالتسامح واللطف واللين..
ولهذا نجد للكثير من أمثال هؤلاء حضورا قويا عند تعداد الأقوال في التفسير والحديث والفقه والتوحيد وغيرها من العلوم الشرعية، حتى أصبحت أسماؤهم مألوفة لا ينفر منها القارئ، بل لعله يتبرك بها.
لكن هذه الرحمة، وذلك التسامح يتحول إلى ضده إذا ذكر الرأي الشيعي، حتى لو كان القائل به إماما كبيرا كجعفر الصادق، أو محمد الباقر، بل حتى لو كان القائل به الإمام علي بن أبي طالب نفسه.. فإذا قيل في مسألة من المسائل: إن للشيعة رأي مخالف فيها.. تجهمت الوجوه، وعبست، وقطبت جبينها، وكأنه لم تذكر طائفة من المسلمين، وإنما ذكر الشيطان نفسه.. وهذا ظلم عجيب.
وقد أشار إلى هذا الظلم، وإلى هذه المكاييل المزدوجة الفقيه الكبير الشريف المرتضى، والذي على أساسه ألف كتابه العظيم (الانتصار)، والذي قال في مقدمته عند بيان هدفه من تأليفه: (إن الشناعة إنما تجب في المذهب الذي لا دليل عليه يعضده، ولا حجة لقائله فيه، فإن الباطل هو العاري من الحجج والبينات، البرى من الدلالات، فأما ما عليه دليل يعضده وحجة تعمده فهو الحق اليقين، ولا يضره الخلاف فيه وقلة عدد القائل به، كما لا ينفع في الاول الاتفاق عليه وكثرة عدد الذاهب إليه، وإنما يسأل الذاهب إلى مذهب عن دلالته على صحته وحجته القائدة له إليه لا عمن يوافقه فيه أو يخالفه)([10])
وهي كلمة مهمة جدا أشار بها الشريف المرتضى إلى ذلك الصمم الذي يصيب أولئك العلماء عندما تقول لهم: لا بأس دعنا من القائل.. ولنسمع للقول وحجته.. فعسى أن يكون فيه وجه صحة.. وعسى أن نرى فيه من الرؤى ما يحتمل قبوله..
لكن هؤلاء العلماء ـ ولست أدري لم ـ يصمون آذانهم، فيرفضون سماع الحجج حتى لو كانت آيات قرآنية واضحة، أو أحاديث نبوية صريحة..
ثم يعقب الشريف المرتضى على ذلك بقوله بنبرة ممتلئة بالألم والحزن على تلك المكاييل المزدوجة: (على أنه لا أحد من فقهاء الأمصار إلا وهو ذاهب إلى مذاهب تفرد بها مخالفوه كلهم على خلافها، فكيف جازت الشناعة على الشيعة بالمذاهب التي تفردوا بها، ولم يشنع على كل فقيه كأبي حنيفة والشافعي ومالك ومن تأخر عن زمانهم بالمذاهب التي تفردوا بها، وكل الفقهاء على خلافه فيها، وما الفرق بينما انفردت به الشيعة من المذاهب التي لا موافق لهم فيها، وبين ما انفرد به أبوحنيفة أو الشافعي من المذاهب التي لا موافق له فيها؟)([11])
وهذا قول صحيح، وتدل عليه كل المصادر.. بل نرى أن أقوالا عجيبة لأصحاب تلك المذاهب يخرق بها الإجماع، مع شذوذها، وغرابتها، ومن أمثلتها تفريق المالكية بين الشريفة والدنية في أحكام كثيرة، وقول الشافعية بجواز زواج الرجل من ابنته من الزنا حتى وإن كان يعلم أنها ابنته..
لكنا للأسف نجد أن هؤلاء العلماء يغضون الطرف عن تلك الأقوال، بل يدافعون عن القائلين بها، بل يوصون بكتمان ما ورد من أمثالها حرصا على ما يطلقون عليه [أهل السنة] ومقصودهم السنة المذهبية، لا السنة النبوية.
وقد ذكر ابن تيمية مقولة الشافعي في جواز زواج الرجل من ابنته من الزنا، فقال: (ومثل هذه المسألة الضعيفة ليس لأحد أن يحكيها عن إمام من أئمة المسلمين لا على وجه القدح فيه ولا على وجه المتابعة له فيها، فإن ذلك ضربا من الطعن في الأئمة وأتباع الأقوال الضعيفة، وبمثل ذلك صار وزير التتر يلقى الفتنة بين مذاهب أهل السنة حتى يدعوهم إلى الخروج عن السنة والجماعة، ويوقعهم في مذاهب الرافضة وأهل الإلحاد)([12])
وهذا من ابن تيمية غريب جدا، فهو في كتبه يحكي أقوالا غريبة شاذة يتهم بها الشيعة مع أنهم هم أنفسهم ينفرون منها، ويكذبونها، ويعلنون البراءة منها، ومع ذلك لا يزال أتباعه يشيعونها عن الشيعة من غير رجوع منهم لمصادرهم التي تمثلهم.
بينما إذا تعلق الأمر بالشافعي أو مالك أو غيره من المذاهب، فإنه يوصي بكتمان أقوالهم الغريبة الشاذة.. وهذا من التطفيف الذي نهينا عنه.
بعد ذلك يذكر الشريف المرتضى وجها من وجوه الاستدلال التي يستند إليها التيار السلفي خصوصا، وهي أن لأقوال أئمة المذاهب جذورها في القرون الأولى، أو في السلف الأول، وهي لذلك معتبرة، فيقول ـ مطالبا لهم بالمعاملة بالمثل مع المدرسة الشيعية ـ: (فإن قالوا: إن الفرق بين الأمرين ان كل مذهب تفرد به أبوحنيفة فله موافق من فقهاء أهل الكوفة فيه، أو من السلف المتقدم، وكذلك ما تفرد به الشافعي له فيه موافق من أهل الحجاز أو من السلف، وليس كذلك الشيعه. قلنا: ليس كل مذهب تفرد به أبوحنيفه أو الشافعى يعلم أن أهل الكوفه وأهل الحجاز أو السلف قائلون به،وإن ادعى ذلك دون ما هو معلوم مسلم غير منازع فيه، فالشيعة أيضا تدعي وتروي أن مذاهبها التي انفردت بها هي مذاهب جعفر بن محمد الصادق ومحمد بن علي الباقر وعلي بن الحسين زين العابدين عليهم السلام، بل تروي هذه المذاهب عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وتسندها إليه، فاجعلوا لهم من ذلك ما جعلتموه لأبي حنيفة وللشافعي وفلان وفلان، أو انزلوهم على أقل الأحوال منزلة ابن حنبل وداود ومحمد بن جرير الطبري فيما انفردوا به، فإنكم تعذرونهم خلافا فيما انفردوا به، ولا تعذرون الشيعة خلافا فيما انفردوا به، وهذا ظلم لهم وحيف عليهم)([13])
ويذكر الشريف المرتضى بألم وحرقة كيف يعتد في الإجماع بآراء أبي حنيفة التي تستند للقياس مع كون ذلك مما (لا يمكنه أن يدعي أن له في القول بها سلفا من الصحابة ولا التابعين.. فكيف لم يشنعوا عليه بأنه ذهب إلى ما لم يذهب إليه أحد قبله وشنعتم على الشيعة بمثل ذلك؟)([14])
وبمناسبة ذكر الشريف المرتضى لأبي حنيفة، فإن هذا يدلنا على مكيال آخر من المكاييل المزدوجة التي يتعامل بها هذا الصنف من العلماء مع الشيعة، ذلك أنهم يستندون في عدم اعتبار الشيعة عند ذكرهم للإجماع لما قال علماء السلف الذين يعتبرونهم في الجرح والتعديل، والقبول والرفض.. مع أن نفس أولئك العلماء تكلموا في أبي حنيفة كلاما شديدا ربما يكون كلامهم في الشيعة أدنى منه.
فقد ساق عبد الله بن أحمد في كتابه (السنة) مجموعة كبيرة من الاتهامات والشتائم التي وجهها من يسمونهم أئمة السلف لأبي حنيفة من أمثال: (كافر، زنديق، مات جهمياً، ينقض الإسلام عروة عروة، ما ولد في الإسلام أشأم ولا أضر على الأمة منه، وأنه أبو الخطايا، وأنه يكيد الدين، وأن الخمارين خير من أتباع أبي حنيفة، وأن الحنفية أشد على المسلمين من اللصوص)([15])
ثم ذكر الشريف المرتضى تلك التهمة الغريبة التي خص الشيعة بالاتهام بها دون من سواهم، وهي أن جميع أصحاب الصادق والباقر وغيرهما من آل بيت النبوة كذبة، ولا يصح النقل عنهم في ذلك، بخلاف سائر الفقهاء الذين لا يصحبهم إلا الصادقون.
يقول الشريف المرتضى معبرا بألم عن هذه التهمة التي لا نزال نسمعها كل حين: (فإن قالوا: لو كان ما تدعيه الشيعة في مذاهب الصادق والباقر حقا لوجب أن نعلمه كما علموه، ويزول الخلاف فيه منا كما علمت الشيعة بمذاهب سلفنا من أبي حنيفة والشافعي وغيرهما ممن تقدمهما، قلنا: ليس يجب أن يعلم الأجانب والأباعد من مذاهب العالم ما يعلمه أصحابه وخلصاؤه وملازموه ومؤانسوه، ولهذا لا نعلم كثيرا من مذاهب أبي حنيفة مما يعلمه أصحابه والمنتمون إليه فمن هو أخص بالباقر والصادق عليه السلام من أصحابهما وشيعتهما أعلم بمذاهبهما ممن ليست له هذه الصفة معهما عليهما السلام على أنا لا نعلم كثيرا من المذاهب التي يدعيها مخالفونا مذهبا لأمير المؤمنين صلوات الله عليه وتروى عنه، وتحكي خلاف ما يروون وضد ما يحكمون، فعذرهم في أنا لا نعلم ذلك هو عذرنا في أن لم يعلموا المذاهب التي تدعيها ونحكيها عن أمير المؤمنين وعلماء أبنائه صلوات الله عليهم، فليعتذروا بما شاؤا ثم نقول لهم: كيف علمنا صحة ما يحكونه مذهبا لأبي حنيفة وللشافعي ولم نعلم ذلك في كل ما يدعونه مذهبا لامير المؤمنين صلوات الله عليه ففرقكم بين الأمرين هو فرقنا بين العلم العام بمذاهب أبي حنيفة وأمثاله، ووقوع الاشتباه في كثير من مذاهب أئمتنا عليهم السلام، وبعد فليس يجري مذاهب من قوله حجة في العلم بها مجرى مذاهب من ليس قوله بحجة، ولهذا لانعرف بمذاهب النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته في كثير من أحكام الشريعة كما نعلم مذاهب كثير من أصحابه فيها، وكما نعلم مذاهب أبي حنيفة والشافعي في تلك المسائل، والعلة في ذلك ما أشرنا إليه)([16])
انطلاقا من هذا فإن الفقه المقاصدي لا يمكنه أن يؤدي غرضه في البحث عن الحلول للمشكلات المختلفة التي تعترض حياتنا الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وهو يعزل هذا المكون الكبير من مكونات الأمة.
وقد أقر بهذا كبار العلماء المحققين من المعاصرين، والذين اضطروا لأن يأخذوا بأقوال الشيعة في مسائل مهمة لها صلتها الكبرى بتحقيق مقاصد الشريعة.
ومن الأمثلة على ذلك ما أفتى به الكثير من المعاصرين ـ لتضييق دائرة الطلاق، والحفاظ على الأسرة ـ من اشتراط الإشهاد لوقوع الطلاق.
وقد ذكر محمد عبده هذا، وبين مصدره الشيعي محترما له، فقال: (فلم لا يجوز ومع ظهور الفساد في الأخلاق والضعف في العقول وعدم المبالاة بالمقاصد، أن يؤخذ بقول بعض الأئمة من أن الاستشهاد شرط في صحة الطلاق كما هو شرط صحة الزواج، كما ذكره الطبرسي، وكما تشير الآية في سورة الطلاق حيث جاء في آخرها: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]؟. أليس هذا أمرا صريحا بالاستشهاد يشمل كل ما أتى قبله من طلاق ورجعة وإمساك وفراق؟ لم لا نقرر أن وجود الشهود وقت الطلاق ركن بدونه لا يكون الطلاق صحيحا، فيمتنع بهذه الطريقة هذا النوع الكثير الوقوع من الطلاق الذي يقع الآن بكلمة خرجت على غير قصد ولا روية في وقت غضب؟.. نظن أن في الأخذ بهذا الحكم موافقة لآية من كتاب الله ورعاية لمصالح الناس، وما يدرينا أن الله سبحانه وتعالى قد اطلع على ما تصل إليه الأمة في زمان كزماننا هذا، فأنزل تلك الآية الكريمة لتكون نظاما نرجع إليها عند مسيس الحاجة كما هو شأننا اليوم)([17])
ومثله الكثير من الأعلام الكبار في العصر الحديث، وخاصة من رواد التقريب بين المذاهب الإسلامية، فقد أخذ الشيخ محمد الغزالي بهذا القول، ودعا من خلاله إلى الاستفادة من الآراء الموجودة في جميع المدارس الإسلامية، فقال: (وأستطيع أن أضم إلى ذلك رفض الطلاق الذي ليس عليه إشهاد، فالشاهدان لابد منهما لقبول العقد والرجعة والطلاق على سواء وخير لنا نحن المسلمين أن تقتبس من تراثنا ما يصون مجتمعنا ويحميه من نزوات الأفراد. أما الزهد في هذا التراث كله فهو الذي فتح الطريق لمحاولات تنصير قوانين الأسرة)([18])
وقد قال في موضع آخر: (ولقد رأيت أن أقوم بعمل إيجابي حاسم سدا لهذه الفجوة التي صنعتها الأوهام، فرأيت أن تتولى وزارة الأوقاف ضم المذهب الفقهي للشيعة الإمامية إلى فقه المذاهب الأربعة، وستتولى إدارة الثقافة تقديم أبواب العبادات والمعاملات فى هذا الفقه الإسلامي لمجتهدين من إخواننا الشيعة، وسيرى أولو الألباب عند مطالعة هذه الجهود العلمية أن الشبه قريب بين ما ألفنا من قراءات فقهية، وبين ما باعدتنا عنه الأحداث السيئة)([19])
ومنهم داعية الوحدة الكبير الشيخ (محمد أبو زهرة)، والذي يعد من أكبر علماء الشريعة الإسلامية في عصرنا الحديث، فقد وقف نفس الموقف، وكانت له آراؤه الكثيرة التي اعتد فيها بالخلاف الشيعي، بل اعتبره، بل رجحه على ما خالفه.
ومنهم الشيخ السيد سابق الذي ذكر في كتابه (فقه السنة) الكثير من الأدلة على هذا، ونقل نقولا كثيرة من كتب الشيعة تؤيد هذا الرأي وتقويه.
هذه مجرد نماذج عن تعامل المحققين
من العلماء مع المدرسة الشيعية، ومثله يقال مع سائر المدارس الإسلامية، لأنه لا
يمكن أن نؤسس للوحدة الإسلامية، ونحن نتنابز بالألقاب، ويكفر بعضنا بعضا، كما قال
تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ
فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا
يَفْعَلُونَ } [الأنعام: 159]
([1]) انظر: وفيات الأعيان 1: 320، وتهذيب التهذيب 7: 238 وسير أعلام النبلاء للذهبي 5: 22.
([2]) مقدمة فتح الباري 425.
([3]) ميزان الاعتدال للذهبي 4/173..
([4]) مقالات الإسلاميين 152و209..
([5]) الملل والنحل178.
([6]) ميزان الاعتدال 4/174.
([7]) الضعفاء لابن الجوزي 1/136.
([8]) طبقات الحفاظ 1/159.
([9]) منهاج السنة 2/618.
([10]) الانتصار (3/ 1)
([11]) الانتصار (3/ 1)
([12]) كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه: 32/137.
([13]) الا نتصار (3/ 3)
([14]) الا نتصار (3/ 3)
([15]) السنة، لعبد الله بن أحمد، من ص 180 -ص120.
([16]) الا نتصار (3/ 6)
([17]) محمد عبده الأعمال الكاملة المجلد الثاني ص 122 – 123.
([18]) قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة، ص 184..
([19]) كيف نفهم الإسلام، محمد الغزالي.