الشدة.. لا اللين

الشدة.. لا اللين

الركن السادس الذي يتكون منه بنيان العقل السلفي هو [الشدة] بدل اللين، أو [القسوة] بدل الرحمة، أو [العنف] بدل الحكمة، وهو ناشئ ـ كما يذكر المحللون النفسيون القدامى ـ من غلبة السبعية على الإنسانية، أو غلبة العدوانية على السلمية.. وكل ذلك يرجع إلى غلبة الطين على الروح، واستحواذ الشيطان على الإنسان.

وليس من الصعب إثبات ذلك.. فلا يوجد أحد في العالم أجمع، بل ربما في التاريخ جميعا مارس العنف بجميع أشكاله وباسم الدين مثلما فعله السلفية.. فجميع الحركات المسلحة تنطلق من فكرهم، وتنشأ من تربيتهم، وتتغذى من عقائدهم.

والعنف السلفي ليس مقصورا على تلك الحركات المسلحة.. فما تلك الحركات سوى مظاهر لغدة سرطانية خبيثة يمدها جميع علماء السلفية، وجميع تراثهم.. فكله تراث مشحون بالأحقاد والتكفير والتبديع والعنف.. ويستحيل على من يتتلمذ على ذلك التراث أن يكون إنسانا مسالما أو إنسانا طبيعيا.

وكل ذلك سببه تتلمذ أعلام السلفية على اليهود وتلاميذ اليهود.. فاليهود ـ كما يذكر القرآن الكريم ـ كانوا أكثر الناس عنفا حتى مع أنبيائهم ومع دعاة العدل منهم، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [آل عمران: 21]، وقال: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 112]

وكل ذلك ـ أيضا ـ سببه استحواذ الشيطان عليهم.. فالشيطان هو المدبر الأكبر لكل الانحرافات التي تحصل في دين الله، ليحوله إلى دين بشر.. ومن أهم خصائص دين البشر النارية الشيطانية التي تتمثل في الأحقاد والضغائن.

ولذلك فإن أهم ما يميز دين الله عن دين البشر هو السلام والمحبة والطمأنينة، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، فقد وصف الله تعالى المؤمنين بالطمأنية، ووصف ذكرهم لله بكونه سببا للطمأنينة..

لكن الشيطان استطاع بفضل أدواته أن يحول من ذكر الله أداة لكل أساليب العنف والهمجية، حتى صرنا نرى في وسائل الإعلام كيف يختلط التكبير مع التذبيح، وكيف يختلط اسم الله المقدس مع كل جريمة من الجرائم.

انطلاقا من هذا سنحاول في هذا الفصل، وعبر الأمثلة والنماذج أن نبين مدى تشرب العقل السلفي بالعنف.. وكيف تجلى ذلك العنف من خلال مواقفه النظرية والعملية، وقد رأينا أن العنف الذي مارسته السلفية عبر تاريخها الأسود الطويل([1]) اكتسى مجموعة أشكال، يمكن تنصيفها إلى أربعة أصناف:

  1. الكذب والتناقض.
  2. الخداع والاحتيال.
  3. التضليل والتكفير.
  4. العنف والقتل.

وسنتحدث عن كل واحد من هذه المظاهر الأربعة من خلال المباحث التالية.

أولا ـ الكذب والتناقض

من أخطر مظاهر العنف التي مارسها السلفية مع مخالفيهم الكذب عليهم، وانتقاء ما يريدون ليشوهوهم، وقد مارسوا هذا النوع الخطير من العنف مع كل المسلمين بمذاهبهم المختلفة.

وقد اكتسبوا هذه الصفة من أسلافهم من اليهود الذين وصف الله كذبهم عليه، فقال: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64]، وقال: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [آل عمران: 181]، وقال: ﴿ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: 183]، وغيرها من الآيات الكريمة التي تبين كذبهم ودجلهم على الله.

وهو نفس ما فعله تلاميذهم من السلفية الذين تقولوا على الله بغير علم، وانحرفوا بالتنزيه الذي جاء به القرآن الكريم إلى التجسيم والتشبيه الذي اقتبسوه من اليهود.

ولذلك فإن السمة البارزة في التراث السلفي هي الكذب على المخالفين.. والأمثلة على ذلك من كتبهم ومن أعلامهم الكبار أكبر من أن تحصر.. ولذلك سنكتفي بالإشارة إلى بعض ما كذب به علمهم الأكبر الذي يسمونه شيخ الإسلام.

وأول مظاهر كذبه هو تلك الإجماعات الكثيرة التي يحكيها عن المسلمين وغيرهم من الطوائف من غير بينة ولا تحقيق، مع العلم أن حكاية الإجماع تقتضي اطلاعا واسعا على كل ما ألف، وقد قال ابن حزم مبينا كذب من يدعي الإجماع بعد عصر الصحابة: (وأيضاً فانه لا يجوز لأحد القطع على صحة إجماع أهل عصر ما بعد الصحابة رضي الله عنهم على ما لم يجمع عليه الصحابة، بل يكون من قطع بذلك كاذباً بلا شك، لأن الأعصار بعد الصحابة رضي الله عنهم من التابعين فمن بعدهم لا يمكن ضبط أقوال جميعهم ولا حصرها، لأنهم ملأوا الدنيا، ولله الحمد من أقصى السند وخراسان وأرمينية وأذربيجان والجزيرة والشام ومصر وافريقية والأندلس وبلاد البربر واليمن وجزيرة العرب والعراق والأهواز وفارس وكرمان ومكران وسجستان وأردبيل وما بين هذه البلاد ومن الممتنع أن يحيط أحد بقول كل انسان في هذه البلاد)([2])

وقد روي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: (سمعت أبي يقول: ما يدّعي فيه الرجل الاجماع فهو كذب , من ادّعى الاجماع فهو كاذب , لعلّ الناس اختلفوا ما يدريه)([3])

بناء على اعتبار من يعتبره ابن تيمية إماما للسلفية والسنة مدعي الإجماع كاذبا، فإن تطبيق هذا على ابن تيمية يجعله ليس كاذبا فقط، بل كاذبا بامتياز، ذلك لم يحك أحد إجماع الناس بل إجماع جميع الطوائف كما حكاه ابن تيمية.

وقد أحصى بعضهم عدد المرات التي حكى فيها الإجماع من خلال مصدر من مصادره وهو (مجموع الفتاوى)، وخرج بالإحصاءات التالية ([4]): (قال كلمة..(باتفاق المسلمين)..(303) مرة.. وكلمة..(باتفاق العلماء)..(195) مرة.. وكلمة..(بإجماع المسلمين)..(102) مرة.. (اتفق المسلمون)..(61) مرة.. وكلمة..(اتفق العلماء)..(51) مرة.. وكلمة..(أجمع المسلمون)..(38) مرة.. وكلمة..(اتفق الصحابة)..(14) مرة.. وكلمة..(باتفاق الفقهاء)..(13) مرة.. وكلمة..(اتفق السلف)..(11) مرة.. وكلمة..(اتفق الفقهاء)..(10) مرات.. وكلمة…(اتفق أهل السنة)..(7) مرات.. وكلمة..(باتفاق الصحابة)..(6) مرات.. وكلمة..(أجمع أهل العلم)..(6) مرات.. وكلمة..(بإجماع العلماء)..(5) مرات.. وكلمة..(بإجماع السلف)..(4) مرات.. وكلمة..(أجمع العلماء)..(4) مرات.. وهكذا

وعندما نذهب لنحقق فيما حكاه من إجماعات نجد الخلاف شديدا واسعا واضحا لا يمكن لأحد عاقل أو مثقف أن يجهله.

بل إن ابن تيمية لا يكتفي بالكذب على المذاهب والطوائف، بل يضم إليها الكذب على رسول الله k نفسه، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، وقد تناولنا بعضها في كتاب [شيخ الإسلام في قفص الاتهام]، وسنذكر هنا بعض الأمثلة عنها.

فمنها قوله في (الفتاوى الكبرى): (وقد ثبت بالنقل المتواتر الصحيح عن النبي k أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر)، روي ذلك عنه من ثمانين وجها)([5])، وقد علق على هذا القول الشيخ حسن بن فرحان المالكي بقوله: (انتهت الكذبة الصحيحة المتواترة!.. فلم يرو هذا عن النبي k بأي سند!.. فهذا حديث موضوع مكذوب على رسول الله k، وأول من وضعه وآخرهم هو ابن تيمية فقط! لم يقل أحد من قبله ولا من بعده أنه حديث! وهو من اخترع نسبته، فأين النقل والصحة والتواتر والثمانين وجها؟! كل هذه أكاذيب كبار وعلى رسول الله في سطر واحد! وغاية ما في الأثر أن يكون منسوبا لعلي.. وجواب الغلاه أن السنة بين عيني ابن تيمية، ياخذ ما يشاء ويدع ما يشاء، وأنه دقيق جدا في نسبة الاحادية وتصحيها وطرقها.. سيخرجونكم الآن إلى جدليات التفضيل وينسون الموضوع الأصلي وهو أن هذا الحديث الصحيح! المتواتر! المنقول من ثمانين وجها! لا وجود له! وهم لن يقروا بكذب ابن تيمية فيه – رغم أنه من الكذب على رسول الله بدرجة لا تساوي الخطأ في نقل مصدر حديث أو إهمال لفظ! كلا الموضوع أعظم! حاولوا عشر سنوات أن تقنعوا (عبدة ابن تيمية) بأنه كذب على رسول الله عامدا أو مخطئا! لن يعترفوا أنه أخطأ لن يعترفوا! سيجادلون ويكذبون!) ([6])

هذا مثال ذكره الشيخ حسن بن فرحان المالكي، ومن الأمثلة التي ذكرها غيره، وخاصة في تكذيبه لما ورد في حق الإمام علي أو أهل بيت النبوة كثير جدا، سنسوق هنا بعض ما ذكره الدكتور المحدِّث العلامة محمود سعيد محمد ممدوح في كتابه [ابن تيمية وأحاديث فضائل أهل البيت من خلال كتابه منهاج السنة] لتكون دليلا لك على غيرها.

فمنها (حديث الموالاة)، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)، فقد قال ابن تيمية في كتابه عنه: (وأما من كنت مولاه فعلي مولاه فلا يصح من طرق الثقات أصلا)([7])، وقال: (وأما الزيادة وهي قوله: ـ اللهم وال من والاه وعاد من عاداه….الخ – فلا ريب أنها كذب) ([8])

مع أن الشطر الأول من الحديث: متواتر، نص على تواتره عدد من الحفاظ، ورواه أكثر من خمسة وعشرين صحابيا.. وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه): فهي زيادة غاية في الصحة، وقد وردت عن عدد من الصحابة، وصححها عدد من الأئمة الحفاظ من حديث أنس بن مالك، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن أرقم، وسعد بن أبي وقاص، واستوعب طرق حديث الموالاة الحافظ ابن عقدة في مصنف مستقل، والسيد أحمد بن الصديق الغماري في (الإعلام بطرق المتواتر من حديثه عليه السلام)

وذكر أحمد في (الفضائل)، والنسائي في (الخصائص)، وابن الجزري في (المناقب)، والهيثمي في (المجمع): جملة صالحة منه، والمعرَّف لا يعرَّف.

ومن الأدلة على كذب ابن تيمية في هذا أن ناصر الدين الألباني، ورغم كونه تلميذا لابن تيميه إلا أنه تكلم فيه واستنكر من ابن تيمية إنكاره له، وقد قال في ذلك: (من العجيب حقاً أن يتجرأ شيخ الإسلام ابن تيمية على إنكار هذا الحديث وتكذيبه في منهاج السنة كما فعل بالحديث المتقدم هناك، مع تقريره رحمه الله أحسن تقرير أن الموالاة هنا ضد المعاداة وهو حكم ثابت لكل مؤمن وعليّ رضي الله عنه من كبـارهم يتولاهم ويتولونه، ففيه رد على الخـوارج والنواصب)([9])

وقال مبينا سبب إطالته في بيان صحة الحديث: (فقد كان الدافع لتحرير الكلام على الحديث وبيان صحته أنني رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية، قد ضعّف الشطر الأول من الحديث، وأما الشطر الآخر فزعم أنه كذب ! وهذا من مبالغاته الناتجة في تقديري من تسرعه في تضعيف الأحاديث قبل أن يجمع طرقها ويدقق النظر فيها، والله المستعان)([10])

ومن الأمثلة على ذلك تكذيبه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت وليّ في كل مؤمن بعدي)، فقد قال ابن تيمية: (كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([11])، مع أنه صحيح على شرط مسلم، فقد أخرجه الطيالسي (829)، وابن أبي شيبة (12/79). وأحمد في المسند (4/437)، وفي الفضائل (1035)،والترمذي (5/269)، والنسائي في الخصائص (88)، وابن حبان (6929)، والحاكم (3/110) جميعهم من حديث عمران بن الحصين، وفيه: (فأقبل إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والغضب يُعرَفُ في وجهه فقال: (ما تريدون من علي؟ إن عليا مني، وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي)، وقد حسَّنه الترمذي، وصحَّحه ابن حبان، والحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

ومن الأمثلة على ذلك تكذيبه لقول ابن عمر: (ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ببغضهم عليا ً)، فقد قال ابن تيمية فيه: (هذا الحديث لا يستريب أهل المعرفة بالحديث أنه حديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم)([12])

مع أنه لا يستريب أهل المعرفة بالحديث أن متنــَــه غاية في الصحَّــة، فقد أخرج مسلم في صحيحه (78)، والترمذي (5/306) وقال حسن صحيح، وابن ماجه (114) والنسائي (8/117) وفي خصائص علي (100-102)، وعبد الله بن أحمد في زياداته على الفضائل (1102) وأبو نعيم في الحلية (4/185) وصحَّحه، وغيرهم من حديث علي قوله: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم ألا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق)، وقال أبو نعيم: هذا حديث صحيح متفق عليه.

وأخرج البزار (كشف الأستار 3/169)، وعبد الله في زيادات الفضائل (1086) من حديث عبيد الله بن موسى، أن محمد بن علي السلمي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله قال: (ما كنا نعرف منافقينا معشر الأنصار إلا ببغضهم لعلي) وهذا إسناده حسن.

وأحسن منه ما أخرجه أحمد في الفضائل بإسناد على شرط البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: (إنما كنا نعرف منافقي الأنصار ببغضهم عليا)

ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في الحديث أن رجلا قال لسلمان: ما أشد حبك لعلي، فقال: سمعت نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من أحبه فقد أحبني)، فقد قال ابن تيمية عنه: كذب([13]).

مع أنه صحيح، فقد أخرجه الحاكم في المستدرك (3/130) عن أبي عثمان النهدي، قال: قال رجل لسلمان: ما أشد حبك لعلي؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من أحب عليا ً فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله عز وجل، ومن أبغض عليا ً فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله عز وجل) قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وسلــَّمه الذهبي.

وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير(23/380/901) عن أم سلمة، وقال الهيثمي في المجمع (9/132): (وإسناده حسن).. فهذا طريقان للحديث كلاهما حسن لذاته، فالحديث: صحيح بهما.

ومن الأمثلة على ذلك تكذيبه لحديث الطير، ونصه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بطائر فقال: (اللهم ائتني بأحب الخلق إليك يأكل معي من هذا الطائر فجاء علي)، فقد قال ابن تيمية فيه: (حديث الطائر من المكذوبات الموضوعة عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل)([14])

مع أن الحديث صحيح، فقد رواه من الصحابة: أنس بن مالك، وعلي، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبي رافع، ويعلى بن مرة، وسفينة. وهو متواتر عن أنس، وصرَّح ابن كثير في البداية والنهاية (4/416): أنّ الحافظ الذهبي ألف جزءا في طرق الحديث، فبلغ عدد من رواه عن أنس: بضعة وتسعين نفسا ً، وقال: أقرب هذه الطرق غرائب ضعيفة، وهذا العدد يستحيل اجتماعهم على الكذب، فيجب عدم النظر في أحوالهم على ما هو مقرَّر في علوم الحديث.

وقد قال الذهبي في تذكرة الحفاظ (3/1043): (له طرق كثيرة جدا قد أفردتــُها بمصنــَّف، ومجموعها يوجب أن يكون الحديث له أصل)، وأكثر من هذا قول الذهبي في تاريخ الإسلام (2/179): حديث الطير وله طرق كثيرة عن أنس متكلم فيها، وبعضها على شرط السنن)، واعترض الحافظ صلاح الدين العلائي في (النقد الصحيح) (ص 75) على من حكم بوضعه.

وقد ذكر الحافظ العلائي طريقين له في (النقد الصحيح) (ص75-77) يكفيان للحكم على الحديث بالحسن بالنظر لهما فقط.

والخلاصة: أن الحكم على الحديث بالوضع مع وجود هذه الطرق تقصير في البحث وتغافل في النظر، وتشديد لا يلائم أصول الحديث الشريف وقواعد الصناعة.

هذه مجرد أمثلة على جرأة ابن تيمية على تكذيب الأحاديث التي لا تتوافق مع مزاجه في نفس الوقت الذي يذكر فيه أحاديث غريبة يثبتها وكأنها أحاديث صحيحة، وأخطرها ذلك الذي يتهم فيه عصمة رسول الله k وهو أن وفد عبد القيس لما قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان فيهم غلام ظاهر الوضاءة أجلسه خلف ظهره؛ وقال: إنما كانت خطيئة داود – عليه السلام – النظر)([15])

ثم علق عليه ابن تيمية بقوله: (هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مزوج بتسع نسوة؛ والوفد قوم صالحون، ولم تكن الفاحشة معروفة في العرب؟)([16])

فقد رواه وكأنه حديث صحيح لا مجال لرفضه مع أن الحديث مكذوب موضوع.. فقد حكم الألباني بالوضع، مع أنه تلميذ من تلاميذ ابن تيمية، ومع ذلك رفض الحديث جملة وتفصيلا، وقد عقب عليه في سلسلته الضعيفة بقوله: (موضوع)([17])، ثم نقل عن ابن الصلاح قوله في (مشكل الوسيط): لا أصل لهذا الحديث، وقول الزركشي في (تخريج أحاديث الشرح): هذا حديث منكر.

ثم قال: (وللحديث طريق أخرى رواه أبو نعيم في (نسخة أحمد بن نبيط) وهي موضوعة كما سيأتي (برقم 562)، ولعل الحديث أصله من الإسرائيليات التي كان يرويها بعض أهل الكتاب، تلقاها عنه بعض المسلمين، فوهم بعض الرواة فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وقصة افتتان داود عليه السلام بنظره إلى امرأة الجندي أوريا مشهورة مبثوثة في كتب قصص الأنبياء وبعض كتب التفسير، ولا يشك مسلم عاقل في بطلانها لما فيها من نسبة ما لا يليق بمقام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل محاولته تعريض زوجها للقتل، ليتزوجها من بعده ! وقد رويت هذه القصة مختصرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجب ذكرها والتحذير منها وبيان بطلانها)([18])

وهكذا نجده يقبل أحاديث التجسيم، ويدافع عنها دفاعا شديدا مستعملا كل الأدوات التي وفرها سلفه له من علم مصطلح الحديث، ومن الأمثلة على ذلك روايته لما رواه سلفه عن العباس قال: (كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمرت بهم سحابة، فنظر إليها فقال: ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب.قال: والمزن، قالوا: والمزن، قال: والعنان، قالوا: والعنان، قال: هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض؟ قالوا: لا ندري.قال: إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء فوقها كذلك – حتى عد سبع سموات – ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال – أي تيوس جبلية-، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش، ما بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك)([19])

فمع أن الذهبي قال في هذا الحديث: (تفرد به سماك عن عبد الله، وعبد الله فيه جهالة)([20])، وقال فيه الألباني في السلسلة الضعيفة: (والذي يترجح – والله أعلم – هو ضعف الحديث، فإن تفرد سماك بن حرب بمثل هذا الحديث المتعلق بالغيبيات تفرد غير مقبول، وجهالة عبد الله بن عميرة تضر في مثل هذا الموضع أيضا، ثم ثمة انقطاع بينه وبين الأحنف بن قيس)([21])

لكن مع ذلك نرى ابن تيمية يستميت في الدفاع عنه، ومحاولة تصحيحه، وقد ذكر المناظرة التي جرت بينه وبين خصومه حول العقيدة الواسطية وكان من جملة ما اعترضوا عليه القول بأسطورة الأوعال، يقول متحدثا عما جرى له معهم: (وطلب بعضهم إعادة قراءة الأحاديث المذكورة في العقيدة ليطعن في بعضها، فعرفت مقصوده.فقلت: كأنك قد استعددت للطعن في حديث الأوعـال.. وكانوا قد تعنتوا حتى ظفروا بما تكلم به زكي الدين عبد العظيم من قول البخاري في تأريخه: عبد الله بن عميرة لا يعرف له سماع من الأحنف.فقلت: هذا الحديث مع أنه رواه أهل السنن كأبي داود، وابن ماجة، والترمذي، وغيرهم، فهو مروي من طريقين مشهورين فالقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر، فقال: أليس مداره على ابن عميرة وقد قال البخاري: لا يعرف له سماع من الأحنف؟.فقلت: قد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل موصولا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلت: والإثبات مقدم على النفي، والبخاري إنما نفى معرفة سماعه من الأحنف لم ينف معرفة الناس بهذا فإذا عرف غيره – كإمام الأئمة ابن خزيمة – ما ثبت به الإسناد: كانت معرفته وإثباته مقدما على نفي غيره وعدم معرفته. ووافق الجماعة على ذلك وأخذ بعض الجماعة يذكر من المدح ما لا يليق أن أحكيه)([22])

وهكذا من خلال هذا النموذج السلفي نرى الكذب والانتقائية والتناقض في أجل صوره..

هذا مع رسول الله k أما مع الأمة.. فحدث ولا حرج.. وقد ذكرنا الأمثلة الكثيرة على ذلك في كتاب [السلفية والتاريخ الأسود]، وكتاب [شيخ الإسلام في قفص الاتهام]

وما ذكرناه عن ابن تيمية هو مجرد نموذج عن المدرسة السلفية، وإلا فإن الكذب والتناقض من السمات الراسخة فيها، وقد ذكر الشيخ حسن بن فرحان المالكي الأمثلة الكثيرة على التناقضات الموجودة في هذه المدرسة، فقال: (التناقض سمة رئيسة من سمات كتب العقائد فتجد الشيء وضده، فتجدهم يأمرون بالاهتمام بالقرآن والسنة ووجوب اتباع الأثر ثم يتركون الآيات الصريحة والأحاديث المتفق عليها إلى موضوعات وأكاذيب وإسرائيليات لا تصح لا سنداً ولا متناً.. وتجدهم يحذرون من الغلو مع غلوهم في التكفير وغلوهم في الثناء على علمائهم.. وتجد هذه الفرق والطوائف عند سيطرتها وكثرة أتباعها تأمر أتباعها باتباع السواد الأعظم وعدم مخالفة الأمة فإذا انتصر خصومهم وأصبحوا (سواداً أعظم) يأتي العقائديون ويقولون: (طوبى للغرباء)! الذين يصلحون إذا فسد الناس! فالجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك.. وتراهم يأمرون بالوقوف عند حدود النصوص الشرعية وعدم الزيادة عليها بينما هم يزيدون كثيراً من العقائد التي ليست في الكتاب ولا السنة.. وتراهم يعظمون تكفير المسلم وأنه من عقائد الخوارج وأنه لا يجوز وهذا الورع عن التكفير إنما هو عند ضعفهم!! فإذا قووا لا يرقبون في مسلم إلاً ولا ذمة.. وتراهم ينهون عن الاشتغال بأمر لم يشتغل به النبي k وأصحابه، فإذا سنحت لهم الفرصة أمروا الناس بمضايق من الاعتقادات لم تخطر على بال صحابي ولا تابعي مع مسميات وألقاب سموها هم وآباؤهم ما أنـزل الله بها من سلطان.. وتراهم يتشددون في نقد وتضعيف الرجال الذين لا يوافقونهم في شواذ العقائد حتى وصل ذمهم للبخاري ومسلمٍ ويحيى بن معين وعلي ابن المديني وحسين الكرابيسي وابن الجعد الجوهري وأبي حنيفة والحنفية فضلاً عن تضعيف سائر الشيعة أيضا متمسكين بعبارة نقلوها عن الشافعي في تكذيب الخطابية (فرقة من غلاة الشيعة يستحلون الكذب) فجعلها هؤلاء في كل الشيعة ثقاتهم وضعفائهم!! بينما يبالغون في توثيق أتباعهم ولو كانوا ضعفاء أو خفيفي الضبط كما فعلوا في توثيق ابن بطة مثلاً.. وتراهم يذمون السلطان إذا آذى أحد أتباعهم وأن هذا سلطان سوء وينسون كل فضائله كما فعلوا بالمأمون وكان على ظلمه للحنابلة من أعدل ملوك بني العباس وأكثرهم علماً فإذا جاء سلطان آخر أظهر نصرتهم يمدحونه بمبالغة ولو كان مبتدعاً ظالماً كالمتوكل، بل ويبدعون ويضللون من يخالفه ويرددون قواعد طاعة ولاة الأمور وأن من لم يدع للإمام فهو صاحب بدعة!!.. وتراهم يحتجون بالإجماع ويدعونه في أمور ليس فيها إجماع فإذا احتججت عليهم بالإجماع في أمر أظهر منه يرددون عبارة أحمد بن حنبل: من ادعى الإجماع فقد كذب وما أدراك لعلهم اختلفوا؟!.. وتراهم يتناقضون في الصحابة ووجوب تقديرهم فيذمون الشيعة لأنهم ينتقصون أصحاب النبي k بينما لا يذمون النواصب ولا يذكرونهم بسوء!! مع أنهم كانوا يلعنون علي بن أبي طالب ويذمونه ويرمونه بكل طامة سواءً كان ذلك من قبل حكامهم من بني أمية أو علمائهم كحريز بن عثمان وثور بن يزيد ونحوهم، بل يقومون بالفعل نفسه عندما يعدون عمار وأبا ذر وابن عديس وابن الحمق وغيرهم يعدونهم في اتباع عبد الله بن سبأ مع أنهم من كبار الصحابة، وابن سبأ أقرب للأسطورة منه للحقيقة.. بالإضافة إلى أنهم عندما ينتقدون من يسب الصحابة لا يريدون ـ في الأغلب العام ـ الدفاع عن أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزبير وإنما جل اهتمامهم في الدفاع عن الطلقاء وخاصة معاوية، فسب معاوية عندهم أعظم من سب علي بن أبي طالب!! ولذلك تراهم يتشددون على من ينقد معاوية مثل تشددهم على ابن عبد البر والنسائي والحاكم بينما يمدحون من في كلامه انتقاص من قدر علي بن أبي طالب كابن تيمية وأبي بكر بن أبي داود والبربهاري.. وتراهم ينتقدون الآخرين ويستدلون على صحة نقدهم لهم بأمور مشتبهة من كلامهم ولو بطرف عبارة بينما يبالغون في الاعتذار لعبارات صريحة صدرت من أئمتهم كما يفعلون في الاعتذار عما كتبه عبد الله بن أحمد أو الأهوازي أو الهروي في التجسيم أو ما كتبه البربهاري في التكفير أو ما كتبه ابن تيمية في انتقاص علي بن أبي طالب ورد كثير من فضائله.. وتراهم يذمون رجلاً مثل أبي حنيفة لزعمهم أنه لم يؤت الرفق في دينه ثم يكفرونه وهذا أبلغ في البعد عن الرفق، وتراهم يذمون المنطق وينكرون المجاز مع وجود هذا وهذا في كلامهم وحججهم.. وتراهم يذمون الخوارج لأنهم يقتلون المسلمين ويكفرونهم بينما هم يفتون بقتل خصومهم وتكفيرهم كالخوارج تماماً)([23])

ثانيا ـ الخدع والاحتيال:

وهي من أبرز سمات المنهج النقدي عند العقل السلفي، فهو لا يبتغي من وراء النقد البحث عن الحقيقة، أو تصحيحها، وإنما يبتغي الانتصار على الخصم حتى لو كان ذلك باستعمال كل أساليب الخداع والحيلة.

ولاشك أنهم استفادوا هذه القدرة من تتلمذهم على اليهود وتلاميذ اليهود، والذين وصفهم الله تعالى بالحيلة والمكر والخداع، كما قال تعالى: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 85]، وقال ‏: ﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 46]، وغيرها من الآيات الكريمة.

وصفة الخداع والمكر والحيلة في العقل السلفي ليست استنتاجا استنتجته فقط من خلال مطالعة كتب هذه المدرسة، وإنما هي حقيقة يقرون بها، بل يمدحون شيخهم شيخ الإسلام بسببها.

وسأنقل هنا كلام بعض الباحثين المعاصرين منهم، وهو يثني على ذكاء ابن تيمية وقدرته الاحتيالية، وذلك في مقال له بعنوان [منهج شيخ الإسلام في دفع شبهات الروافض]([24])، والذي صدر مقاله التبرير لاحتيالات ابن تيمية بقوله: (علمنا أن شيخ الإسلام يواجه كتاباً قد ألفه رجل من طائفة جاهلة ظالمة قد عرف أفرادها بالكذب المختلق لا يفوقهم فيه أحد، فهذا الرافضي قد حشد أكاذيبه في هذا الكتاب من جهتين: من جهة الغلو في علي بشتى الأكاذيب والموضوعات، ومن جهة الطعن في الصحابة الآخرين فصاحب هذا الكتاب مندفع بحماسة إلى تقرير مذهبه الباطل بأي وسيلة، ولو كانت الافتراءات والأكاذيب، وشيخ الإسلام أمام سيل جارف من الغلو المكذوب في علي وأمام حمم متدفقة من الأكاذيب في سبيل الطعن في الصحابة فماذا يصنع؟)([25])

وهكذا يصور هذا العلم السلفي ـ وهو الشيخ سليمان الخراشي ـ ابن تيمية وكأنه في حرب، وليس في نقاش علمي، وبما أن الحرب خدعة، فعلى ابن تيمية ـ كما يصور هذا العلم السلفي ـ أن يضع الخطة المناسبة التي يتمكن بها من الانتصار على هذا العدو الرافضي اللدود.

وقد رأى أنه كان لابن تيمية خيارين فقط، لا ثالث لهما:

أما الخيار الأول: (وهو المشهور عند العلماء وأصحاب التآليف، وهو أن يقوم شيخ الإسلام بدفع الطعون عن الصحابة ببيان كذبها وأنها مختلقة، فكلما رمى الرافضي بشبهة أو طعن على صحابي قام شيخ الإسلام بردها أو برده بكل اقتدار لينفيه عن هذا الصحابي)

وهذا الخيار ـ كما يرى الخراشي ـ هو الذي نصح الحافظ ابن حجر ابن تيمية بانتهاجه عندما اعتبره مغاليا في تعامله مع الرافضي، كما ذكر ذلك الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني، في (الدرر الكامنة)، فقد قال: (ثم نسب أصحابه إلى الغلو فيه واقتضى لـه ذلك العُجب بنفسه حتى زهى على أبناء جنسه واستشعر أنه مجتهد، فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم قديمهم وحديثهم.. ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم ولقوله أنه كان مخذولاً حيث ما توجه وأنه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها وإنما قاتل للرياسة لا للديانة ولقوله أنه كان يحب الرياسة.. فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ولا يبغضك إلا منافق)(1)

وقد انتقد الخراشي هذا الخيار، فقال: (وهو خيار جيد ومقبول لو كان الخصم غير الرافضي، أي لو كان الخصم ممن يحتكمون في خلافاتهم إلى النقل الصحيح أو العقل الصريح، أما مع الرافضي فإن هذا الأسلوب لا يجدي، ولن يكف بأسه عن أعراض الصحابة، فإنك مهما أجدت في رد الشبهة أو الطعن فإنه لن يقتنع بذلك أبداً – كما علم من طريقة القوم – ومهما أفنيت عقلك وجهدك في دفع أكاذيبه فإنه لن يألو جهداً في اختلاف غيرها من الأكاذيب. إذاً فهذا الخيار الأول لن يثني الرافضي عن هدفه من النيل من الصحابة.. نعم هو سينفع أهل السنة، ولكنه لن يضر الروافض ولن يسكتهم) ([26])

وما دام هذا الخيار العلمي لم يجد، فإن الخيار الوحيد الذي بقي لابن تيمية هو الخيار الثاني، وهو ـ كما يذكر الخراشي ـ (الذي اختاره شيخ الإسلام لأنه يراه ذا مفعول فعال في مواجهة أكاذيب الروافض وغلوهم المستطير، وهذا الخيار يرى أن أجدى طريقة لكف بأس الروافض هو مقابلة شبهاتهم بشبهات خصومهم من الخوارج والنواصب، أي مقابلة هذا الطرف بذاك الطرف المقابل له، ليخرج من بينهما الرأي الصحيح الوسط. فكلما قال الرافضي شبهة أو طعناً في أحد الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان قابلها شيخ الإسلام بشبهة مشابهة للنواصب والخوارج في علي.. وهو لا يقصد بهذا تنقص على والعياذ بالله، وإنما يقصد إحراج الروافض، وكفهم عن الاستمرار في تهجمهم على الصحابة، لأنه ما من شئ من الطعون والتهم سيثبتونه على واحد من الصحابة إلا وسيثبت الخوارج والنواصب مماثلاً له في علي) ([27])

وهكذا شرع الخراشي للحيلة والخداع، لأن هذا ـ كما يرى ـ (مما يخرس ألسنة الروافض، لأنهم في النهاية سيضطرون إلي أن تضع حربهم على الصحابة أوزارها عندما يرون شبههم وأكاذيبهم تقابل بما يناقضها في على فعندها سيبادرون إلى أن يختاروا السلم وعدم ترديد الشبهات حفاظاً على مكانة علي أن يمسها أحد بسوء) ([28])

ثم علق على هذه الحيلة بقوله: (فهذه حيلة ذكية من شيخ الإسلام ضرب بها النواصب بالروافض ليسلم من شرهم جميعاً، وهذا ما لم يفهمه أو تجاهل عنه من بادر باتهامه بتلك التهمة الظالمة، وشيخ الإسلام – أيضاً – يعلم أن الروافض والنواصب جميعاً أصحاب كذب وغلو، ولكنه يقابل غلو هؤلاء وكذبهم بغلو أولئك وكذبهم، ليسكت الجميع ويدفعهم عن الخوض في أعراض الصحابة)([29])

ثم ذكر أن هذا هو منهج ابن تيمية مع جميع الطوائف، فقال: (فطريقة شيخ الإسلام أنه رأى قوماً يغلون في شخص من الأشخاص، ويتنقصون من يكون مثله أو أفضل منه، أن يقابل هؤلاء بمن يناقضهم في القول لكي يدفع الغلو عن الشخصين الفاضلين جميعاً)([30])

بل إنه يرى أن هذا المنهج منهج معتمد عند سلفه ممن يسميهم أهل السنة، فيقول: (وهذا مما قد تقرر عند علماء السنة ولم يستنكروه، وأما أهل الباطل من الغلاة فإنهم يتهمون كل من لم يكن على مثل غلوهم بأنه عدو لذاك الفاضل) ([31])

ويرى أن ابن تيمية كان من أكثر الناس استعمالا لهذا المنهج، فيقول: (وكان كثيراً ما يجري المقارنات بين الأشخاص الذين غلا فيهم قوم، وجفا عنهم آخرون، فيصد غلو هؤلاء بجفاء أولئك، ويخرج من بينهما الرأي الصحيح في ذا ك الشخص الفاضل، فهذه الطريقة تميز بها شيخ الإسلام، ولم يستخدمها مع على والخلفاء الثلاثة كما يعتقد أعداؤه، وإنما هي طريقة مطردة له رحمه الله في كل موقف مشابه) ([32])

وما ذكره الخراشي من منهج ابن تيمية هو نفسه ما أقر به في تعامله مع الخصوم والمخالفين من ضرب بعضهم ببعض، لا بالبحث عن الحقيقة، والتحري عنها بحسب ما تقتضيه الموضوعية العلمية.

يقول ابن تيمية في تبريره لهذا المنهج التضليلي: (أهل السنة مع الرافضة كالمسلمين مع النصارى، فإن المسلمين يؤمنون بأن المسيح عبد الله ورسوله، ولا يغلون فيه غلو النصارى، ولا يجفون جفاء اليهود. والنصارى تدعى فيه الإلهية وتريد أن تفضله على محمد وابراهيم وموسى بل تفضل الحواريين على هؤلاء الرسل، كما تريد الروافض أن تفضل من قاتل مع على كمحمد بن أبي بكر، والأشتر النخعي على أبي بكر وعمر وعثمان وجمهور الصحابة من المهاجرين والأنصار، فالمسلم إذا ناظر النصراني لا يمكنه أن يقول في عيسى إلا الحق، لكن إذا أردت أن تعرف جهل النصراني وأنه لا حجة له، فقدر المناظرة بينه وبين اليهودي، فإن النصراني لا يمكنه أن يجيب عن شبهة اليهودي إلا بما يجيب به المسلم، فإن لم يدخل في دين الإسلام وإلا كان منقطعاً مع اليهودي، فإنه إذا أمر بالإيمان بمحمد k، فإن قدح في نبوته بشئ من الأشياء، لم يمكنه أن يقول شيئاً إلا قال له اليهودي في للمسيح ما هو أعظم من ذلك، فإن البينات لمحمد أعظم من البينات للمسيح، وبعد أمر محمد عن الشبهة أعظم من بعد المسيح عن الشبهة، فإن جاز القدح فيما دليله أعظم وشبهته أبعد عن الحق فالقدح فيما دونه أولى، وإن كان القدح في المسيح باطلاً فالقدح في محمد أولى بالبطلان، فإنه إذا بطلت الشبهة القوية فالضعيفة أولى بالبطلان، وإذا ثبتت الحجة التي غيرها أقوى منها فالقوية أولى بالثبات.. وهذا حال النصارى واليهود مع المسلمين وهو حال أهل البدع مع أهل السنة لا سيما الرافضة. وهكذا أمر أهل السنة مع الرافضة في أبي بكر وعلي، فإن الرافضي لا يمكنه أن يثبت إيمان على وعدالته وأنه من أهل الجنة – فضلاً عن إمامته – إن لم يثبت ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان، وإلا فمتى أراد إثبات ذلك لعلي وحده لم تساعده الأدلة، كما أن النصراني إذا أراد إثبات نبوة المسيح دون محمد لم تساعده الأدلة، فإذا قالت له الخوارج الذين يكفرون علياً أو النواصب الذين يفسقونه: إنه كان ظالماً طالباً للدنيا، وإنه طلب الخلافة لنفسه وقاتل عليها بالسيف، وقتل على ذلك ألوفاً من المسلمين حتى عجز عن انفراده بالأمر، وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقاتلوه، فهذا الكلام إن كان فاسداً ففساد كلام الرافضي في أبي بكر وعمر أعظم، وإن كان ما قاله في أبي بكر وعمر متوجهاً مقبولاً فهذا أولى بالتوجه والقبول)([33])

ومن خلال هذا المنهج راح ابن تيمية يسب عليا والعترة الطاهرة بكل صنوف السب، فإذا ما اتهم بالنصب انبرى أصحابه من السلفية يدافعون عنه، ويقولون: إن ابن تيمية لم يحك قوله، وإنما حكى قول النواصب.

وهذا يقال أيضا في التجسيم، فابن تيمية يذكر قول الدارمي عن الله تعالى مقرا له: (ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به)([34])، فإذا ما نوقش السلفية في ذلك، قيل إن هذا القول قول الدارمي.

وهكذا نجد صنوف التلاعب والحيل، لأن الغرض ليس الوصول إلى الحقيقة، وإنما الانتصار على الخصم، لأن العقل السلفي لا يمارس البحث العلمي، وإنما يمارس الصراع العلمي، فالنفس السبعة لا يمكنها أن تشم رائحة العلم، ولا رائحة البحث العلمي.

ومن الأمثلة على ذلك تلك السخرية التي تمتلئ بها كتب السلفية ومواقعهم ومجالسهم عما يسمونه [حمار الشيعة]، والذي كتب عنه بعضهم مقالا مطولا بعنوان [القول الوافي في حمار الكافي]([35])، وهي قصة وردت في [الكافي] بدون سند، بل ذكرها الكليني بصيغة التمريض (روي عن علي)، والشيعة يضعفونها، كما يضعفون الكثير من أحاديث الكافي.. ولكن مع ذلك كله لم يشفع لهم عند السلفية الذين ملأوا المجالس سخرية منها، حتى صار جميع الناس يعرفون هذه القصة.

مع أننا لو تأملنا فيها لم نجد فيها وقارناها بذلك الغثاء الذي يروى في كتب السلفية مسندا، بل يصححه أعلامهم الكبار كابن تيمية لرأينا الفرق كبيرا.

وسأعرض هنا القصة كما وردت في الكافي، وسأعرض نموذجا عن الغثاء الذي يصححه السلفية لنرى الفرق الكبير بين القصتين.. وهل يصح لمن بيته من زجاج أن يرمي الناس بالحجارة؟

أما رواية الكليني في (الكافي)، فقد قال: (وروي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إن ذلك الحمار كلم رسول الله k فقال: بأبي أنت وأمي إن أبي حدثني عن أبيه عن جده عن أبيه أنه كان مع نوح في السفينة فقام إليه نوح فمسح على كفله ثم قال: يخرج من صلب هذا الحمار حمار يركبه سيد النبيين وخاتمهم فالحمد لله الذي جعلني ذلك الحمار)([36])

فهذه القصة حتى لو صححها الشيعة، فليس فيها شيء كبير.. وهي في أسوأ أحوالها خرافة أو أسطوة أو دجل.. وهي فوق ذلك لا علاقة لها بأي قضية من القضايا العقدية، بل هي تبين أن هذا الحمار نال شرف ركوب رسول الله k.. وليس في ذلك أي مضرة على أي مسألة من مسائل العقيدة.

لكن عندما نقارن هذه القصة بما يرويه السلفية ويصححه أعلامهم الكبار نرى الفارق الكبير الخطير.. فقد أورد ابن تيمية من غرائب حديث النزول هذه الرواية التي تطفح بالتجسيم والتشبيه: (ثم تبعث الصيحة فلَعَمْر إلهك ما تدعُ على ظهرها من شيء إلا مات والملائكة الذين مع ربك عز وجل فأصبح ربك يطوف في الأرض وخلت عليه البلاد فأرسل ربك عز وجل السماء.. قلت يا رسول الله فما يعمل بنا ربنا جل وعز إذا لقيناه؟ قال تعرضون عليه بادية له صفحاتكم لا تخفى عليه منكم خافية فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء فينضح قِبَلكم بها فلعمر إلهك ما يخطىء وجه أحدكم منها قطرة)([37])

فأيهما أخطر على العقيدة هل رواية الحمار الذي فرح لركوب رسول الله k له، أم هذه الرواية التي تجعل الله العلي العظيم يطوف في الأرض، ثم يأخذ بيده غرفة من الماء فينضح بها..

ثم فوق ذلك كله لم يذكر السلفية، ليردوا عليها، وإنما ذكروها ليستدلوا بها على العقيدة وعلى أهم شيء في العقيدة، وهو معرفة الله، وقد قال ابن القيم تلميذ ابن تيمية النجيب بعد إيراده الرواية: (هذا حديث كبير جليل تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة لا يعرف إلا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني رواه عنه إبراهيم بن حمزة الزبيري، وهما من كبار علماء المدينة ثقتان محتج بهما في الصحيح، احتج بهما إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري. ورواه أئمة أهل السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد ولم يطعن أحد منهم فيه ولا في أحد من رواته. فممن رواه الإمام ابن الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في مسند أبيه وفي كتاب السنة.. ومنهم الحافظ الجليل أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتاب السنة له، ومنهم الحافظ أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان العسال في كتاب المعرفة، ومنهم الحافظ أبو محمد عبدالله بن محمد بن حيان أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب السنة، ومنهم الحافظ أبو عبدالله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة حافظ أصبهان،..وجماعة من الحفاظ سواهم يطول ذكرهم)([38])

بل إنه يرتب على منكر هذا حكما خطيرا، فينقل عن سلفه أبي عبد الله بن مندة مقرا له: (ولا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة)([39])

ثم لا يكتفي بذلك.. بل يذهب يفسر الحديث حرفا حرفا يستنبط منه كل صنوف التجسيم والتشبيه، فيقول: (وقوله فيظل يضحك هو من صفات أفعاله سبحانه وتعالى التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته كصفات ذاته، وقد وردت هذه الصفة في أحاديث كثيرة لا سبيل إلى ردها كما لا سبيل إلى تشبيهها وتحريفها.. وكذلك فأصبح ربك يطوف في الأرض هو من صفات فعله..والكلام في الجميع صراط واحد مستقيم إثبات بلا تمثيل بلا تحريف ولا تعطيل.. وقوله: فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم فيه إثبات صفة اليد له سبحانه بقوله وإثبات الفعل الذي هو النضح)([40])

فهل يمكن لعاقل يروي مثل هذه الأحاديث أن يتجرأ، فيتحدث عن الحمار يعفور رضي الله عنه وأرضاه..

وهل يمكن لمن يرسم الملائكة عليهم السلام بصورة وحوش وطيور أن يضحك ويسخر من غيره.

بل إننا لو بحثنا في مصادر السلفية أنفسهم لوجدنا الحمار يعفور جاثما في بعض زرائبها، فقد رووا عن أبي منظور: لما فتح اللهُ على نبيهِ k خيبرَ؛ أصابهُ من سهمهِ أربعةُ أزواج نعال، وأربعةُ أزاوج خفاف، وعشرُ أواقي ذهبٍ وفضةٍ، وحمارٌ أسودٌ.قال: فكلم النبي k الحمارَ، فقال له: ما اسمُك؟ قال: يزيدُ بنُ شهابٍ، أخرج اللهُ من نسلِ جدي ستينَ حماراً، كلهم لم يركبهم إلا نبي، ولم يبق من نسلِ جدي غيري، ولا من الأنبياءِ غيرُك، أتوقعك أن تركبني، وكنتُ قبلك لرجلٍ من اليهودِ، وكنتُ أعثرُ به عمداً، وكان يجيعُ بطني ويضربُ ظهري، فقال له النبي k: قد سميتك يعفوراً، يا يعفورُ قال: لبيك.قال: أتشتهي الإناث؟ قال: لا، وكان النبي k يركبه في حاجته ؛ فإذا نزل عنه بعث به إلى بابِ الرجلِ، فيأتي البابَ فيقرعُهُ برأسهِ، فإذا خرج إليه صاحبُ الدارِ ؛ أومأ إليه أن أجب رسولَ اللهِ k قال: فلما قبض النبي k؛ جاء إلى بئرٍ كانت لأبي الهيثمِ بنِ التيهان ؛ فتردى فيها، فصارت قبرهُ ؛ جزعاً منه على رسولِ اللهِ)([41])

فإن قالوا: إن هذا الحديث أورده ابنُ حبان في (المجروحين)، وقال فيه: (لا أصل لهذا الحديثِ، وإسنادهُ ليس بشيءٍ.ولا يجوزُ الاحتجاجُ بمحمدِ بنِ مَزْيَد) ([42])

كما رواه ابنُ الجوزي في الموضوعات، وبوب عليه بقوله: (بابُ تكليم حمارهِ يعفور)، وقال فيه: (هذا حديثٌ موضوعٌ فلعن اللهُ واضعهُ، فإنه لم يقصد إلا القدحَ في الإسلامِ، والاستهزاءَ به) ([43])

قيل لهم، فقد كذب الشيعة كذلك هذا الحديث، فقد قال محقق كتاب (مرآة العقول) ـ وهو من أعلام محدثي الشيعة ومحققيهم ـ في هامش تعليقه على هذه الرواية: (ولا يتعقل معنى صحيح لهذه المرسلة تحمل عليه ولعلها مما وضعه الزنادقة استهزاءاً بالمحدثين السذج كما أنهم وضعوا كثيراً من الاحاديث لتشويه الدين)([44])

فلم لا تتعاملون مع محدثي الشيعة كما تتعاملون مع محدثيكم.. ولم تشترطون أقوال محققيكم عند إيراد الحديث، ولا تشترطون أقوال محققيهم.

هذا مجرد نموذج عن الخداع والحيل التي يمارسها السلفية لإسقاط خصومهم، ويبنوا عليها بعد ذلك جدرا من الأوهام والأكاذيب.

ثالثا ـ التضليل والتكفير

لعل أحسن ما يعبر عن المدى الذي وصل إليه تضليل وتكفير السلفية لغيرهم من المسلمين ما ورد في الأثر: (الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم)([45])

فهكذا يقول السلفية بلسان حالهم ومقالهم.. فكل المسلمين عندهم هلكى إلا السلفيون من أصحابهم، وهم أيضا محل نظر.. بل محل تكفير فيما بينهم.

وكمثال بسيط على ذلك الاعتقاد بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4]، وهو أن الله تعالى ليس في جهة ولا مكان.. فإن هذا الاعتقاد، وهو اعتقاد جميع المذاهب المسلمين يعتبر تجهما وكفرا عند جميع علماء السلفية سلفهم وخلفهم.

وهم بهذا القول يكفرون جميع المعتزلة والأشاعرة والماتريدية والإمامية والزيدية والإباضية وغيرهم من فرق المسلمين، كما قال ابن بطة العكبري (304-387 هـ) في كتابه المشهور [الإبانة عن شريعة الفرقة والناجية]: (باب الإيمان بأن الله على عرشه بائن من خلقه وعلمه محيط بخلقه: أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين وجميع أهل العلم من المؤمنين أن الله تبارك وتعالى على عرشه فوق سمواته بائن من خلقه وعلمه محيط بجميع خلقه، ولا يأبى ذلك ولا ينكره إلا من انتحل مذاهب الحلولية وهم قوم زاغت قلوبهم واستهوتهم الشياطين فمرقوا من الدين وقالوا: إن الله ذاته لا يخلو منه مكان)([46])

وحكايته الإجماع في هذه المسألة الخلافية عمن يعبر عنهم بأهل العلم من المؤمنين تدل على أنه لا يرى المؤمنين، ولا أهل العلم غيرهم.

هذا مثال واحد على مسألة عقدية واحدة.. وهكذا نجد الأمر في جميع المسائل التي قلما ينجو منها أحد من الناس.

أما المسائل الفرعية فأبسطها هو زيارة الأضرحة والقبور، وهي مما جرى عليه العمل عند كثير من المسلمين عوامهم وخواصهم، بل حتى عند المتقدمين من السلفية أنفسهم، ولو طبقنا عليهم مقاييس الشيخ محمد بن عبد الوهاب والسلفية المعاصرين، فسيعتبرون جميعا كفارا.

فقد عقد الخطيب البغدادى ـ وهو من أعلامهم الكبار ـ فى كتابه (تاريخ بغداد) بابا عنونه بـ [ما ذكر في مقابر بغداد المخصوصة بالعلماء والزُهاد]

روى فيه عن أبي عَلِيّ الخلال ـ وهو من أعلامهم أيضا ـ قال: (ما همني أمر فقصدت قبر مُوسَى بْن جعفر، فتوسلت به إلا سهل الله تعالى لي ما أحب)([47])

وروى فيه عن أبي طاهر بْن أَبِي بكر، قَالَ: حكى لي والدي عَنْ رجل كان يختلف إِلَى أَبِي بكر بْن مالك أنه قيل له: أين تحب أن تدفن إذا مت؟ فقال: بالقطيعة، وإن عَبْد الله بْن أَحْمَد بْن حَنْبَل مدفون بالقطيعة، وقيل له، يَعْنِي لعبد الله، في ذلك، قَالَ: وأظنه كان أوصى بأن يدفن هناك، فقَالَ: قد صح عندي أن بالقطيعة نبيا مدفونا، ولأن أكون في جوار نبي أحب إلي من أكون في جوار أَبِي ([48]).

وروى فيه عن أبي الفضل عبيد الله بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد الزهري، قَالَ: سمعت أَبِي يقول: (قبر معروف الكرخي مجرب لقضاء الحوائج)، ويقال: (إنه من قرأ عنده مائة مرة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وسأل الله تعالى ما يريد قضى الله له حاجته)([49])

وروى فيه عن أبي عَبْد الله ابْن المحاملي، أنه قال: (أعرف قبر معروف الكرخي منذ سبعين سنة ما قصده مهموم إلا فرج الله همه)([50])

وروى فيه عن الشافعي قوله: (إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إِلَى قبره في كل يوم، يَعْنِي زائرا، فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين، وجئت إِلَى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد عني حتى تقضى) ([51])

وهكذا نجد أبي حاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمى البستى (المتوفى 394هـ) صاحب كتاب صحيح ابن حِبان، وغيره، وهو من المحترمين كثيرا عند السلفية، فقد قال فى كتابه [الثقات] عند ترجمته للإمام على بن موسى الرضا: (وقبره بسنا باذ خارج النوقان مشهور يزار بجنب قبر الرشيد قد زرته مرارا كثيرة وما حلت بي شدة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات الله على جده وعليه ودعوت الله إزالتها عنى إلا أستجيب لي وزالت عنى تلك الشدة وهذا شيء جربته مرارا فوجدته كذلك أماتنا الله على محبة المصطفي وأهل بيته صلى الله عليه وسلم الله عليه وعليهم أجمعين)([52])

وهكذا نجد ابن خزيمة أبا بكر السلمي النيسابوري، صاحب كتاب التوحيد الذي يهتم به السلفية كثيرا، وخصوصا ابن تيمية، يقول عنه الحافظ أبن حجر العسقلانى فى كتابه (تهذيب التهذيب) عند ترجمته لعلي بن موسى الرضا، قال: (قال الحاكم وسمعت أبا بكر محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى يقول خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشائخنا وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضى بطوس قال فرأيت من تعظيمه يعنى إبن خزيمة لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرعه عندها ما تحيّرنا منه)([53])

وهكذا روي عن كثير من أئمة الحديث الذين يعتمد عليهم السلفية في الرواية وفي العقائد وغيرها، والذين ذكرنا سبقا تشددهم مع المخالفين لهم.. فلو طبقنا على هؤلاء ما يقوله الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكل السلفية المعاصرين لحكمنا بكفرهم.

فقد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالة له في (معنى لا إله إلا الله): (إن الكفار الذين قاتلهم رسول الله k كانوا يتصدقون ويحجون ويعتمرون ويتعبدون ويتركون أشياء من المحرمات خوفا من الله عز وجل، ولكنهم لم يشهدوا لله بتوحيد الألوهية، وذلك أن المشركين كانوا يدعون الصالحين مثل الملائكة وعيسى وعزير وغيرهم من الأولياء، فكفروا بهذا مع اقرارهم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر، واذا عرفت هذا عرفت معنى (لا اله الا الله)، وعرفت أن من دعا نبيا أو ملكا أو ندبه او استغاث به، فقد خرج من الإسلام)([54])

ورد في (الدرر السنية) التي تعتبر المصدر الأكبر للفكر الوهابي في (رسالة الأمير عبد العزيز بن سعود إلى أهل المخلاف السليماني يعرفهم بدين الإسلام):(إن الله تبارك وتعالى، أرسل محمدا k إلينا على حين فترة من الرسل، فهدى الله به إلى الدين الكامل، والشرع التام؛ وأعظم ذلك وأكبره، وزبدته، هو: إخلاص الدين، لله، بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك؛ وهو: أن لا يدعى أحد من دونه، من الملائكة، والنبيين، فضلا عن غيرهم; فمن ذلك: أن لا يسجد إلا لله، ولا يركع إلا له; ولا يدعى لكشف الضر إلا هو، ولا لجلب الخير إلا هو، ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به، ولا يذبح إلا له؛ وجميع العبادة لا تصلح إلا له وحده لا شريك له؛ وهذا معنى قول لا إله إلا الله ; فإن المألوه هو: المقصود، المعتمد عليه; وهذا أمر هين عند من لا يعرفه، كبير عظيم عند من عرفه. فمن عرف هذه المسألة، عرف أن أكثر الخلق قد لعب بهم الشيطان، وزين لهم الشرك بالله، وأخرجه في قالب حب الصالحين وتعظيمهم)([55])

بل إنه يرى أن المسلمين في زمانه – بسبب تلك السلوكات – أكثر شركا من المشركين الذين أرسل إليهم رسول الله k، يقول في ذلك: (المشركون في زماننا أضل من الكفار الذين في زمن رسول الله k من وجهين: أحدهما: أن الكفار إنما يدعون الأنبياء والملائكة في الرخاء; وأما في الشدائد، فيخلصون لله الدين، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾ الآية [سورة الإسراء آية: 67].والثاني: أن مشركي زماننا، يدعون أناسا لا يوازنون عيسى والملائكة)([56])

ولم تكن أحكام محمد بن عبد الوهاب على الأمة بالشرك الأكبر قاصرة على ما ألفه من كتب ورسائل، بل كان يشيع ذلك في البلاد، ويصرح به في كل محل، وقد شهد أعلام عصره عليه بحكمه عليهم بالشرك.

وأول من شهد عليه بذلك وعاتبه عليه عتابا شديد، أخوه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب الذي كان يشغل منصب القضاء في (حريملاء)، والذي ألف رسالة في نقد أخيه سماها (الصواعق الإلهيّة في الرّد على الوهابيّة)([57])، ومما جاء فيها قوله: (ابتلى الناس بمن ينتسب الى الكتاب والسنة ويستنبط من علومهما، ولا يبالي من خالفه، واذا طلبت منه ان يعرض كلامه على أهل العلم لم يفعل، بل يوجب على الناس الأخذ بقوله ويمفهومه، ومن خالفه فهو عنده كافر، هذا وهو لم يكن فيه خصلة واحدة من خصال اهل الاجتهاد، ولا والله عشر واحدة ومع هذا، فراج كلامه على كثير من الجهال فإنا لله وانا اليه راجعون، الأمة كلها تصيح بلسان واحد، ومع هذا لا يرد لهم في كلمة، بل كلهم كفار أو جهال (اللهم) اهدالضال ورده الى الحق)([58])

وهم – كما يذكر سليمان بن عبد الوهاب – لم يكتفوا بالحكم عليهم بالكفر فقط، بل حكموا على البلاد التي يسكنونها بأنها بلاد حرب، فيقول: (تكفرون عوام المسلمين وتستبيحون دماءهم وأموالهم، وتجعلون بلادهم بلاد حرب، ولم يوجد منهم عشر معشار ما وجد من هولاء، وإن وجد منهم شئ من أنواع الشرك سواء شرك أصغر أو أكبر فهم جهال، لم تقم عليهم الحجة الذي يكفر تاركها)([59])

ونجد من خلال رسالته حرقة كبيرة تدل على مدى الألم الذي أصاب الناس بسبب أخيه، فهو يقول: (ياعباد الله تنبهوا وارجعو الى الحق وامشوا حيث مشى السلف الصالح وقفوا حيث وقفوا، ولا يستغركم الشيطان ويزين لكم تكفير أهل الإسلام، وتجعلون ميزان كفر الناس مخالفتكم وميزان الاسلام موافقتكم)([60])

ويقول: (يا عباد الله.. اتقوا الله خافوا ذا البطش الشديد لقد آذيتم المؤمنين والمؤمنات ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾([61]) والله ما لعباد الله عند الله ذنب إلا أنهم لم يتبعوكم على تكفير من شهدت النصوص الصحيحة بإسلامه وأجمع المسلمون على إسلامه فإن اتبعوكم أغضبوا الله تعالى ورسوله k وإن عصوا آراءكم حكمتم بكفرهم وردتهم)([62])

ويقول: (فأنتم الآن تكفرون بأقل القليل من الكفر، بل تكفرون بما تظنون أنتم أنه كفر، بل تكفرون بصريح الإسلام، فإن عندكم أن من توقف عن تكفير من كفرتموه خائفاً من الله تعالى في تكفير من رأى عليه علامات الإسلام فهو عندكم كافر)([63])

وهكذا نجد السلفية بعد ابن عبد الوهاب كلهم لا زالوا يتبنون هذا الموقف التكفيري لعموم المسلمين([64])، يقول محمد حامد الفقي – وهو علم من كبار أعلام السلفية في مصر-: (كما جرى لأهل مصر وغيرهم؛ فإن أعظم آلهتهم أحمد البدوي، وهو لا يعرف له أصل ولا فضل ولا علم ولا عبادة. ومع هذا فصار أعظم آلهتهم.. وكان أهل العراق ومن حولهم كأهل عمان يعتقدون في عبد القادر الجيلاني; كما يعتقد أهل مصر في البدوي. وعبد القادر من متأخري الحنابلة.. كما جرى من الرافضة مع أهل البيت.. وهكذا حال أهل الشرك مع من فتنوا به، وأعظم من هذا عبادة أهل الشام لابن عربي، وهو إمام أهل الوحدة الذين هم أكفر أهل الأرض وأكثر من يعتقد فيه هؤلاء لا فضل له ولا دين كأناس بمصر وغيره، وجرى في نجد قبل هذه الدعوة مثل هذا.. وفي الحجاز واليمن وغيرها من عبادة الطواغيت والأشجار والأحجار والقبور ما عمت به البلوى، كعبادتهم للجن وطلبهم للشفاعة منهم)([65])

وبذلك لم يبق أحد من المسلمين – في نظر هؤلاء – إلا وهو كافر أو مشرك، ولم يسلم من هذا التكفير إلا الدولة السعودية – في شقها الوهابي([66]) – والتي اعتبرها علم كبير كأبي بكر جابر الجزائري الدولة الوحيدة الممثلة للإسلام، يقول: (هذه الدّولة الّتي كانت معجزة القرن الرّابع عشر، هذه الدّولة التي لا يواليها إلاّ مؤمن ولا يعاديها إلاّ منافق كافر مادامت قائمة بأمر الله)([67])

ويقول: (إنّه لا يوجد مسلم صحيح الإسلام، ولا مؤمن صادق الإيمان وفي أي بلد إسلامي، كان، إلاّ ويتمنّى بكلّ قلبه أن يحكمه ابن السعود وإنّه لو يدعى إلى مبايعته مَلِكاً أو خليفةً للمسلمين لما تردد طرفة عين، كان ذلك من أجل أنّ هذه الدّولة تمثّل الإسلام وتقوم به وتدعو إليه…)([68])

ويقول عن دورها في تهديم الآثار والأضرحة: (وهيهات هيهات أن يتنكر آل سعود لمبدأ الحق الذي أقاموا ملكهم عليه، ووقفوا حياتهم على حمايته ونصرته ونصرة الدّاعين إليه!! والهادين إلى مثله!! إنه لو لم يبق إلاّ عجوزٌ واحدة من آل سعود لم يكن لها أن تتنازل عن مبدأ الحقّ)([69])

وهكذا عندما نطالع فتاوى أول مفت رسمي للمملكة العربية السعودية، والذي تولى الكثير من المناصب، حيث كان بيده الإفتاء الرسمي، وتولى رئاسة المعاهد العلمية والكليات الشرعية، وهيئة الأمر بالمعروف، والجامعة الإسلامية، ورابطة العالم الإسلامي، وهيئة كبار العلماء، ومكاتب الدعوة في الخارج، وهو الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (1311- 1389هـ)، فإننا نجدها مصدرا من أكبر مصادر التكفير للأمة جميعا، وبأوهى الأسباب.

ومن الأمثلة على ذلك قوله في تكفير جميع الأمة: (إسلام الأَكثر إسلام إسمي، فإن أَكثر المنتسبين إليه في هذا الوقت يقال لهم المسلمون إسمًا ضد اليهود والنصارى. من وجد منه ما ينقضه فإنه إسلام الإسم ولا حب ولا كرامة، أَفيظن أَن من رضوا بالأَوثان وعبدوها وحاموا دونها وجبوا بها الجبايات وحكموا القوانين، أَفبعد هذا إسلام؟ هل هذا إلا الكفر الذي بعث k بهدمه؟! وأَصغركم يعرف أَن كل من دخل في الإسلام يبقى عليه بكل حال، بل إذا نقضه خرج. وباب حكم المرتد معروف ومبين من هو بإجماع بين أَهل العلم أَن الردة ردتان)([70])

وسئل عن جزار ينتسب إلى الإسلام، يقال له فاضل الدين هل تحل ذبيحته؟ فأَجاب: (يشترط في القصاب فاضل الدين أَن يكون مسلمًا، صحيح المعتقد ينكر الخرافات كعبادة القبور وغيرها مما يعبد من دون الله، وينكر جميع المعتقدات والبدع الكفرية: كمعتقد القاديانية، والرافضة الوثنية، وغيرها. ولا يكتفى في حل ذبيحته بمجرد الانتساب إلى الإسلام والنطق بالشهادتين وفعل الصلاة وغيرها من أَركان الإسلام مع عدم الشروط التي ذكرناها، فإن كثيرًا من الناس ينتسبون إلى الإسلام وينطقون بالشهادتين ويؤدون أَركان الإسلام الظاهرة ولا يكتفى بذلك في الحكم بإسلامهم ولا تحل ذكاتهم لشركهم بالله في العبادة بدعاء الأَنبياء والصالحين والاستغاثة بهم وغير ذلك من أَسباب الردة عن الإسلام. وهذا التفريق بين المنتسبين إلى الإسلام أَمر معلوم بالأَدلة من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأَئمتها، ثم ما ذكرنا من الأمور المطلوبة في هذا القصاب يعتبر في ثبوتها نقل عدل ثقة يعلم حقيقة ذلك من هذا الرجل، وينقله الثقة عن هذا العدل حتى يصل إلى من يثبت لديه ذلك حكمًا ممن يعتمد على ثبوته عنده شرعًا)([71])

بل إنه يذهب إلى اعتبار علماء المسلمين الكبار أجهل من أبي جهل، فقد قال في بعض تقاريره: (في هذه الأَزمان وقبلها بأَزمان يدعي العلم ضخام العمائم الذين يدعون أَنهم حفاظ الدين على الأمة وأَنهم وأَنهم، أَبو جهل أَعلم منهم، فإنه يعلم معنى لا إله إلا الله وهم لا يعرفونه. والجهل درجات فيه تعرف قدر الذين أَبو جهل أَعلم منهم)([72])

رابعا ـ العنف والقتل

يتميز الاتجاه السلفي من لدن نشأته الأولى باستخدام العنف بمختلف وسائله مع المخالف، سواء كان ذلك المخالف عالما أو حاكما أو عاميا بسيطا، بل حتى لو كان ذلك المخالف من أوصانا رسول الله k بهم، وبمودتهم والتمسك بحبلهم، فحملة الكراهية والانتقام والتشفي من هؤلاء جميعا لا تكاد تنتهي، وهي لذلك أصبحت عند خلفهم من الإرهابيين دينا يتعبدون الله به.

وسنذكر هنا باختصار نماذج عن ذلك من مصادرهم التي يعتمدون عليها ويحترمونها، بل ويجعلونها من مراجعهم التي يزكونها ويوصون أتباعهم بقراءتها، وقد صنفناها إلى صنفين: عنف معنوي، وعنف حسي.

1 ـ العنف المعنوي:

ونقصد به الممارسات غير المادية للعنف، كالاحتقار والشتم والهجر وغيرها، وتأثيرها النفسي لا يقل عن تأثير العنف الحسي، بل هي في أحيان كثيرة وسيلة وتمهيد للعنف الحسي، فغرس الكراهية بين الناس لجهة من الجهات مقدمة لممارسة العنف الحسي ضدها.

منع الحوار:

وهو نوع من التعبير عن إلغاء المخالف وعدم اعتباره، وذلك نتيجة لعدم اعتراف التيار السلفي به، وهو نوع من أنواع العقوبة التي يسلطونها على المبتدعة في تصورهم.

وقد نص على هذا جميع أئمتهم من السلف والخلف، ومن ذلك ما ذكره أبو القاسم اللالكائي (المتوفى: 418هـ) في كتابه (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)، فقد قال: (فما جني على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة، ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمدا ودردا، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلا، حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقا، وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلا، حتى كثرت بينهم المشاجرة، وظهرت دعوتهم بالمناظرة، وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة، حتى تقابلت الشبه في الحجج، وبلغوا من التدقيق في اللجج، فصاروا أقرانا وأخدانا، وعلى المداهنة خلانا وإخوانا، بعد أن كانوا في الله أعداء وأضدادا، وفي الهجرة في الله أعوانا، يكفرونهم في وجوههم عيانا، ويلعنونهم جهارا، وشتان ما بين المنزلتين، وهيهات ما بين المقامين)([73])

وكمثال واقعي على ذلك أنه عندما طلبت الطرق الصوفية في الجزائر من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين – وهي كما هو معلوم جمعية سلفية وهابية بامتياز – المناظرة والحوار، رفضت ذلك، وقد برر الإبراهيمي (المتوفى: 1385هـ) ذلك بقوله: فأجابهم بقوله: (إن المناظرة في الشيء تستدعي نظيرين، أي مثيلين في المعنى الذي يتناظران فيه، والمناظرة المطلوبة هنا في مسائل علمية دينية لَابَسَها تاريخ المسلمين الطويل، وداخلتها عوائدهم واجتماعياتهم وأثر فيها هذا وذاك.. وإذا كنا نحن الطرف الأول في هذه القضية، ونحن علماء نقول في الدين بِدَلِيلهِ المعتبر، ونتكلم في التاريخ بعلله وأسبابه، ونقول في العادات بمناشئها وآثارها، ونرجع كل شيء إلى أصله، ونرد كل حادثة إلى سببها، ونربط بين الدليل ومدلوله والعلة ومعلولها، فإن الطرقيين بالطبع هم الطرف الثاني، وهل بلغ الطرقيون أن يكونوا نظراءنا بالعلم والدين والتاريخ والاجتماع؟)([74])

ثم وضح السر الذي جعله لا يعتبر هؤلاء، فقال: (نحن نعرفهم حق المعرفة، ونعرف أنهم جهلاء ويفخرون بالجهل، وأنصاف أميين ويتباهون بالأمية، إذ ليس العلم ولا القراءة شرطًا في طرقهم ولا في مشيختهم، ونعرف أنهم لا يملكون من أسلحة هذا الميدان إلا العناد والإصرار على الباطل.. ولو كانوا علماء لما بلغ النزاع بيننا وبينهم إلى هذا الحد، ولرَجَوْنا- إن لم يزَعْهم الدين- أن يزَعَهم العلم)([75])

بل إنه يجاوز الحد في التعالي عليهم عندما يخاطبهم قائلا: (ولا يبلغ بهم الغرور أن يناظروا علماء من الطراز الذي تحتوي عليه جمعية العلماء، وإنما يعتمدون في هذه المناظرة على موجودات آلية يسمونها علماء عوَّدوها أن تنطق باسمهم وتسبح بحمدهم وتحامي عنهم بالباطل.. ونحن لا نعترف بالعلم لهذا الصنف المتهافت على أبواب الزوايا المتعيش من فضلاتها، ويأبى لنا شرف العلم أن يكون هؤلاء المسلوبو الإرادة الفاقدو الاستقلال في العلم نظراءنا في المناظرة، لأننا بلَوْنَاهم في العمل فوجَدناهم جبناء، وبلَوْنَاهُم في العلم فوجَدناهم يحكمون الهوى ولا يحكّمون الدليل، وبلَوْناهم في الكتابة فوجَدْنا أَمْثَلَهم يسمي البدع المنكرة عوائد دينية.. أَمَعَ هؤلاء تكون المناظرة؟ لا، وشرف العلم)([76])

ثم اسقط هذه المناظرة بسبب عدم كفاءة من يناظره، فقال: (فقد تحقق أن هذه المناظرة التي دعوا إليها ساقطة سقوط شرطها الأساسي مِن قِبَلهم وهو النظير)([77])

بل إن الشيخ الإبراهيمي يتعمق إلى أعماق نياتهم حين يذكر الدافع الحقيقي لهم من وراء المناظرة: (أَلا إنهم من إِفْكِهم ليتداهون ويختلون بهذه الدعوة إلى المناظرة، لنُجِيبَهم فنعترف لهم بالكفاءة، أو نسكت عنهم فيقولوا عنا: أَحْجَموا وخافوا، أو نُجيبَهم بالحقيقة (كما فعلنا) فيقولوا: إن جمعية العلماء تحتقر العلماء ويتباكون ويشنعون)([78])

وهذا الاستعلاء في التعامل مع المخالف، وعدم قبول الحوار معه، أو الحوار معه باستعلاء هو ما تمارسه السلفية في حوارها مع المخالف، وخصوصا مع الشيعة، فهي تملأ حواراتها ضجيجا وفوضى، لأن هدفها ليس البحث العلمي، وإنما إثارة الفوضى، ونشر الفتنة.

الهجر:

ويريدون بذلك قطع أي صلة مع من يرونه مبتدعا، وقد اعتبروا ذلك من السنن التي تميز السلفيين السنيين على غيرهم، ولهذا نجد الحديث عن هر المبتدع في كل كتبهم الواصفة لعقيدة السلف، ومن ذلك ما ورد في كتاب (قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر) لأبي الطيب محمد صديق خان (المتوفى: 1307هـ) تحت عنوان (فصل من السنة هجر أهل البدع] جاء فيه: (ومن السنة هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين والسنة، وكل محدثة في الدين بدعة، وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم، في أصول الدين وفروعه، كالرافضة والخوارج والجهمية والقدرية والمرجئة والكرامية والمعتزلة فهذه فرق الضلالة وطرائق البدع([79]).

وقد كتب بعض السلفيين المعاصرين رسالة سماها (نصيحة العلماء في وجوب البراءة من أهل الأهواء) شحنها بما ذكره أهل الحديث والسلف من المعاملة القاسية للمبتدع، وذكر أن سبب تأليفه لها هو قيام بعض السلفيين بزيارة بعض العلماء الكبار المبتدعة معزيا له في وفاة والدته، فقال: (أما بعد، فلا يخفى على فضيلتكم أن قضية الولاء والبراء من أعظم قضايا الإيمان وأجلها، وأنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم، بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده، ونصوص القرآن الحكيم مشحونة بذكر البراءة من العصاة المخالفين لحكم الله والمعاندين لأمره، ولا ريب أن دعاة البدع والأهواء هم من أعظم العصاة المخالفين، وخطرهم على الإسلام وأهله أعظم من خطر غيرهم، فكانت البراءة منهم أوجب ومعاداتهم ومهاجرتهم أولى، وبعد، فقد نشرت الصحف المحلية (عكاظ) و(الندوة) و(المدينة) خبر ذهابكم إلى بيت المبتدع الضال محمد بن علوي المالكي وتعزيته في وفاة والدته، وهو مما أفرح أهل الأهواء وأحزن أهل السنة، وأثار الفتنة والبلبلة لدى العامة وحديثي العهد بالهداية، إذ عدوا ذلك منكم رجوعاً عن موقفكم من هذا الرجل ومن بدعه وضلالاته، ولا يخفى عليكم أن هذا العلوي من دعاة الشرك والوثنية ومن أقطاب التصوف والفرق الباطنية وكتبه ومؤلفاته ودروسه شاهدة على ذلك)([80])

مع العلم أن العالم المشار إليه من كبار العلماء في السعودية، وكان مدرسا في الحرم، ومع ذلك لم ينج من سيف بطشهم.

وهم في هذا يرجعون إلى ما ينقلونه عن سلفهم في هجر المبتدع، والمبتدع عندهم هم كل المسلمين كما عرفنا ذلك سابقا.

السب والشتم:

وهو ما يميز التيار السلفي، فهو لا يكتفي بالفتاوى والبيانات التي يصدرها، بل يضم إلى ذلك لغته المملوءة بأنواع البذاءة والسب واللعن والشتم، حتى أن الحسن بن علي السقاف كتب كتابا كاملا في شتائم الألباني التي كان يقذف بها على خصومه، سماه (قاموس شتائم الألباني وألفاظه المنكرة في حق علماء الأمة وفضلائها وغيرهم)، وقد ذكر في مقدمته أن الشيخ المحدث زاهد الكوثري – وهو حنفي ماتريد – قد لاحظ نفس الملاحظة على سلفية زمانه، فقال في تعليقه على كتاب (الاختلاف في اللفظ) لابن قتيبة: (ومما يؤسف له جد الأسف صدور مثل ذلك في هذا العهد وبعد هذا العهد ممن يعد نفسه من المنتمين إلى الحديث مع أن أول ما يجب أن يستفيد حامل الحديث من الحديث هو كرم الطبع ولين الجانب والتلطف بالمسلمين والابتعاد عن هجر القول والعجرفة بعدم الخوض فيما لا يعنيه كأنه عاش مع النبي k وعاشره وتربى بسيرته في إرشاد الامة، ومن أوغل في الباطل بفظاظة وغلظة وبذاءة فهو من أجهل خلق الله بسنة نبي الهدى k وسيرته وأبعدهم من صدق الانتماء إليه)([81])

ولهذا نجد هذا التيار للأسف يجتهد في تحريف الأسماء، ليحاول أن يغيرها بتغيير الحقائق، فتراهم يطلقون على الشيعة لقب (المجوس) مع أنه لا يوجد مذهب ولا دين على وجه الأرض أكثر تنزيها وتوحيدا وتقديسا لله من المدرسة الشيعية([82]).

وما فعلوه هو ما فعلف سلفهم ابن تيمية، فقد كان يلقب (مؤمن الطاق) بشيطان الطاق، و(ابن المطهر) بابن المنجس، وأحفاده اليوم يطلقون على (حزب الله) لقب (حزب الشيطان)، وعلى (نصر الله) لقب (نصر الشيطان)، فيستبدلون اسم الله من دون استحياء باسم الشيطان، وللأسف فقد سمعت القرضاوي مع كبر سنه، يردد مثل هذا دون حياء.

2 ـ العنف الحسي:

لم يكتف التيار السلفي بممارسة العنف المعنوي بجميع أنواعه على المخالفين، بل ضم إليه العنف الحسي يجمبع أنواعه أيضا، فتاريخهم مملوء بالقتل والتدمير، وسنذكر هنا – باختصار – بعض الأمثلة على ذلك.

وقبل ذلك نتحدث عن تصريحاتهم بحلية دماء من يخالفونهم، فقد صرح ابن عبد الوهاب في رسالة أرسها إلى شريف مكة، مجيبا له عن سؤاله عن سبب قتاله للناس، فأجاب: (أركان الإسلام الخمسة، أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة، فالأربعة إذا أقر بها، وتركها تهاونا، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفره بتركها.. وأيضا: نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر.. [وأيضا] من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله، الذي أظهرناه للناس، وأقر أيضا أن هذه الاعتقادات في الحجر، والشجر، والبشر، الذي هو دين غالب الناس، أنه الشرك بالله، الذي بعث الله رسوله k ينهى عنه، ويقاتل أهله، ليكون الدين كله لله، ومع ذلك لم يلتفت إلى التوحيد، ولا تعلمه، ولا دخل فيه، ولا ترك الشرك، فهو كافر، نقاتله بكفره؛ لأنه عرف دين الرسول فلم يتبعه، وعرف الشرك فلم يتركه، مع أنه لا يبغض دين الرسول، ولا من دخل فيه، ولا يمدح الشرك، ولا يزينه للناس.. [وأيضا] من عرف ذلك، ولكنه تبين في سب دين الرسول، مع ادعائه أنه عامل به، وتبين في مدح من عبد يوسف، والأشقر، ومن عبد أبا علي، والخضر، من أهل الكويت، وفضلهم على من وحد الله، وترك الشرك، فهذا أعظم من الأول.. [وأيضا] من عرف التوحيد، وأحبه، واتبعه، وعرف الشرك، وتركه، ولكن يكره من دخل في التوحيد، ويحب من بقي على الشرك، فهذا أيضا: كافر.. [وأيضا] من سلم من هذا كله، ولكن أهل بلده يصرحون بعداوة أهل التوحيد، واتباع أهل الشرك، وساعين في قتالهم، ويتعذر أن ترك وطنه يشق عليه، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده، ويجاهد بماله، ونفسه، فهذا أيضا كافر; فإنهم لو يأمرونه بترك صوم رمضان، ولا يمكنه الصيام إلا بفراقهم، فعل ; ولو يأمرونه بتزوج امرأة أبيه، ولا يمكنه ذلك إلا بفراقهم، فعل، وموافقتهم على الجهاد معهم)([83])

وهكذا صرح ابنه عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، فقال: (لا نكفر إلا من بلغته دعوتنا للحق، ووضحت له المحجة، وقامت عليه الحجة، وأصر مستكبرا معاندا، كغالب من نقاتلهم اليوم، يصرون على ذلك الإشراك، ويمتنعون من فعل الواجبات، ويتظاهرون بأفعال الكبائر والمحرمات ; وغير الغالب إنما نقاتله لمناصرته من هذه حاله، ورضاه به، ولتكثير سواد من ذكر، والتأليب معه، فله حينئذ حكمه في قتاله، ونعتذر عمن مضى بأنهم مخطئون معذورون، لعدم عصمتهم من الخطأ، والإجماع في ذلك ممنوع قطعا، ومن شن الغارة فقط غلط، ولا بدع أن يغلط، فقد غلط من هو خير منه)([84])

وهذان النصان وحدهما كافيان في الرد على الذين يدعون أن الوهابية طائفة مسالمة، وأنها لا تنتهج العنف، مع أن فتاواها تلك، وهي غيض من فيض لم تترك أحدا إلا وأباحت دمه.

وبناء على هذه الفتاوى سار الوهابيون في الأرض يسفكون الدماء، ويخربون كل ما يمرون به من آثار حفظت لأجيال كثيرة.

يقول عثمان بن بشر، وهو من مؤرخي الوهابية المعتبرين يصف هزيمة أهل الرياض سنة 1187 ه: (فَرَّ اهل الرياض، الرجال والنساء والاطفال لا يلوي أحد على أحد هربوا على وجوههم الى البرية في السهال قاصدين الخرج، وذلك في فصل الصيف، فهلك منهم خلق كثير جوعاً وعطشا… وتركوها خاوية على عروشها، الطعام واللحم في قدوره والسواني واقفة في المناحي، وأبواب المنازل لم تغلق، وفي البلد من الاموال ما لا يحصر، فلما دخل عبد العزيز الرياض وجدها خالية من أهلها الاّ قليلاً فساروا في اثرهم يقتلون ويغنمون)([85])

ويتحدث ابن غنام عن استحلال الوهابية لأموال من يقاتلونهم، فقال: (استولى ابن سعود على جميع ما في الرياض من أموال ونخيل فيئا من الله لأنه لم يوجف عليها خيل ولا ركاب)([86])

وهكذا فعل سنة 1206 و1207 حيث (هجم سعود على القطيف والأحساء، وقتل وأباد نحو ألف وخمسمائة رجل، واقام مجازر رهيبة بحق السكان)([87])

  وقد وصف عثمان بن بشر، وهو مؤرخ وهابي، (وقعة الرقيّقة) التي حدثت عام 1210، فقال: (ثور المسلمون بنادقهم دفعة واحدة، فأرجفت الأرض، وأظلمت السماء، وثار عج الدخان في الجو، وأسقطت كثير من الحوامل في الأحساء، ثم نزل سعود في (الرقيقة) المذكورة.وأقام مدة أشهر يقتل من أراد قتله، ويجلي من أراد جلاءه، ويحبس من أراد حبسه، ويأخذ من الاموال، ويهدم من المحال، ويبني ثغورا ويهدم دورا، وضرب عليهم ألوفاً من الدراهم وقبضها منهم، وأكثر فيهم سعود القتل… فهذا مقتول في البلد، وهذا يخرجونه الى الخيام ويضرب عنقه عند خيمة سعود، حتى أفناهم الاّ قليلاً، وحاز سعود من الاموال في تلك الغزوة ما لايعد ولا يحصى) ويقول ابن بشر: ان ابن سعود قتل من أهل قرية واحدة هي (الفضول) ثلاثمائة رجل، حتى صارت تلك القرية مضرب الأمثال)([88])

ولم يكتف الوهابيون بموطنهم نجد أو ما يحيط به من أرض الجزيرة، بل قصدوا كربلاء المقدسة غير مراعين لحرمتها، فقد شن سعود بن عبد العزيز صحبة الوهابيين هجوما مباغتاً على كربلاء المقدسة، فأقاموا مجزرة رهيبة فيها، في شهر ذي القعدة من سنة 1216 هـ (المصادف 20 نيسان 1802م)

وقد وصفها المؤرخ الوهابي عثمان ابن بشر في كتابه (عنوان المجد)، فقال: (إن سعود سار بالجيوش المنصورة والخيل العتاق المشهورة، من جميع حاضر نجد وباديها، والجنوب والحجاز وتهامة وغير ذلك، وقصدوا أرض كربلاء ونازل أهل بلد الحسين، فحشد عليها المسلمون وتسوروا جدرانها ودخلوها عنوة، وقتلوا غالب أهلها في الأسواق والبيوت، وهدموا القبة الموضوعة بزعم من اعتقد فيها على قبر الحسين، وأخذوا ما في القبة وما حولها، وأخذوا النصيبة التي وضعوها على القبر وكانت مرصوفة بالزمرد والياقوت والجواهر، وأخذوا جميع ما وجدوا في البلد من الاموال والسلاح واللباس والفرش والذهب والفضة والمصاحف الثمينة وغير ذلك مما يعجز عنه الحصر، ولم يلبثوا فيها إلا ضحوة وخرجوا منها قرب الظهر بجميع تلك الاموال، وقتل من أهلها قريب الفي رجل، ثم ان سعودا ارتحل منها فجمع الغنائم وعزل أخماسها، وقسم باقيها على المسلمين غنيمة للرجل سهم وللفارس سهمان)([89])

وكان يمكن أن يكون هذا المصير هو نفسه مصير مكة المكرمة لولا أن أهلها استجابوا لرسالته، والتي جاء فيها: (أما بعد، فأنتم جيران الله وسكان حرمه آمنون بأمنه. إنما ندعوكم لدين الله ورسوله (قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ان لا نعبد الاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فان تولوا فقولوا: اشهدوا باننا مسلمون ” فأنتم في أمان الله ثم في أمان أمير المسلمين سعود بن عبد العزيز وأميركم عبد المعين بن مساعد، فاسمعوا له وأطيعوا ما أطاع الله والسلام)([90])

وعندما دخل مكة المكرمة في اليوم الثامن من محرم 1218هـ خطب في أهلها قائلا: (احمدوا الله الذي هداكم للاسلام وأنقذكم من الشرك. أطلب منكم أن تبايعوني على دين الله ورسوله وتوالوا من والاه وتعادوا من عاده في السراء والضراء والسمع والطاعة)([91])

ثم بادر الوهابيون لهدم القباب التي كانت على محل مولد النبي k ومولد الإمام علي ع والسيدة خديجة ع، فهدموها، وهدموا الكثير من الآثار الإسلامية([92]).

ثم قصدوا العلماء والوجهاء من علماء الحرمين ومن الشريف فطلبوا منه التوقيع على بيان بالاعتراف بالدين الجديد والتبرؤ من دينهم السابق والإفتاء بكفر عامة المسلمين، فأصدر علماء مكة المكرمة هذا البيان: (نحن علماء مكة الواضعون خطوطنا في هذا الرقيم: ان هذا الدين الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ودعا اليه إمام المسلمين سعود بن عبد العزيز، من توحيد الله ونفي الشرك الذي ذكره في هذا الكتاب، أنه هو الحق الذي لا شك فيه. ولا ريب وأن ما وقع في مكة والمدينة سابقا ومصر والشام وغيرهما من البلدان، الى الآن، من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب، أنه: الكفر المبيح للدم والمال، والموجب للخلود في النار. ومن لم يدخل في هذا الدين ويعمل به ويوالي أهله ويعادي أعداءه فهو عندنا كافر بالله واليوم الآخر. وواجب على إمام المسلمين، والمسلمين، جهاده وقتاله حتى يتوب الى الله مما هو عليه، ويعمل بهذا الدين)([93])

وهكذا فعل في المدينة المنورة حين دخلها([94]).


([1])   خصصنا كتابا مفصلا عن التاريخ الأسود للسلفية من هذه السلسلة، ولذلك اكتفينا في هذا الفصل بعرض بعض الأمثلة والنماذج.

([2])   النبذة الكافية  (ص 20)

([3])   اعلام الموقعين (1\30)

([4])   ابن تيمية أكثر شيوخ المسلمين كذباً في التاريخ، سامح عسكر، في الأربعاء 12 فبراير 2014، على موقع أهل القرآن، على الرابط التالي: http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=11732.

([5])   الفتاوى الكبرى ( 3/ 487.

([6])  هذا الكلام مقتبس من كلام للشيخ حسن بن فرحان في بعض تغريداته.

([7])   منهاج السنة (4/86)

([8])   منهاج السنة (7/319)، وهو ما ذهب اليه في الفتاوي (4/417-418)

([9])  سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (5/ 264)

([10])  سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (4/ 344)

([11])   منهاج السنة  ( 4/104)

([12])   منهاج السنة  (3/228)

([13])   منهاج السنة  (3/9)

([14])   منهاج السنة  (4/99)

([15])  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 203)

([16])  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 203)

([17])  سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (1/ 484)

([18])  سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (1/ 484)

([19])  سنن أبي داود 4/319 – 320.

([20])  في العلو (1/60)

([21])  السلسلة الضعيفة (1247)

([22])  مجموع الفتاوى (3/191)

([23])   قراءة في كتب العقائد، ص166.

([24])   المقال موجود بمواقعهم الكثيرة، وهو في موسوعة شبه الرافضة والرد عليها (3/ 22)، وهو للشيخ سليمان الخراشي

([25])   موسوعة شبه الرافضة والرد عليها (3/ 22)

(1) الدرر الكامنة، مصدر سابق  ،ج1 ص 153 وما بعدها.

([26])   موسوعة شبه الرافضة والرد عليها (3/ 22)

([27])   موسوعة شبه الرافضة والرد عليها (3/ 22)

([28])   موسوعة شبه الرافضة والرد عليها (3/ 22)

([29])   موسوعة شبه الرافضة والرد عليها (3/ 22)

([30])   موسوعة شبه الرافضة والرد عليها (3/ 22)

([31])   موسوعة شبه الرافضة والرد عليها (3/ 22)

([32])   موسوعة شبه الرافضة والرد عليها (3/ 22)

([33])   منهاج السنة النبوية (2/ 55)

([34])  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (3/ 242)

([35])   انظر: ملتقى اهل الحديث على الرابط التالي: http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=100441.

([36])   (الكافي 1/237)

([37])  مجموع الفتاوى (4/ 184)

([38]) زاد المعاد 3/677-682 .

([39]) زاد المعاد 3/677-682 .

([40]) زاد المعاد 3/677-682 .

([41])   ابنُ حبان في  المجروحين  (2/328)

([42])   ابنُ حبان في  المجروحين  (2/328)

([43])   الموضوعات (555)

([44])   راجع مرآة العقول: 3/ 53.

([45])   كشف الخفاء2/312.

([46])     الإبانة 3/ 136.

([47])   تاريخ بغداد (1/ 442)

([48])   تاريخ بغداد (1/ 443)

([49])   تاريخ بغداد (1/ 445)

([50])   تاريخ بغداد (1/ 445)

([51])   تاريخ بغداد (1/ 445)

([52])  الثقات لابن حبان (8/ 457)

([53])   تهذيب التهذيب (7/ 388)

([54]) نقلا عن: عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي، صالح بن عبد الله العبود، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الثانية، 1424هـ/2004م.

([55]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 265)

([56]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/ 41)

([57]) ويسمى أيضا (فصل الخطاب في الرد على محمد بن عبد الوهاب)، وذكر بعضهم أنه عنوان لكتاب آخر.

([58])  الصواعق الإلهيّة في الرّد على الوهابيّة، الشيخ سليمان بن عبد الوهاب النجدي، مطبعة نخبه الاخيار، 1306ه، ص4.

([59]) المرجع السابق، ص28.

([60]) المرجع السابق، ص24.

([61]) سورة الأحزاب: 58.

([62]) لمرجع السابق، ص27..

([63]) المرجع السابق، ص29.

([64]) لا نحتاج إلى استدلال على هذا الكلام، لأن الذي يزعم أنه سلفي أو وهابي ثم لا يقف هذا الموقف من المسلمين لا يعتبر سلفيا ولا وهابيا، لأن النصوص الواردة عنهم تقيد السلفي والوهابي بهذا القيد، فيما يسمى عندهم بالولاء والبراء.

([65]) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص220.

([66]) لأن هؤلاء يكفرون شيعة السعودية ومن فيها من الصوفية.

([67]) وجاءوا يركضون مهلاً يا دعاة الضلالة، أبو بكر جابر الجزائري، دار الحرمين، 1413، ص17.

([68]) الإعلام بأن العزف والغناء حرام. أبوبكر جابر الجزائري، مكتبة دار الوفاء للنشر،  1407 ه، ص 57.

([69]) وجاءوا يركضون، ص17.

([70])   فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (1/ 77)

([71])   فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (1/ 77)

([72])   فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (1/ 84)

([73]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ج1، ص19.

([74])  آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 301)

([75])  آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 301)

([76])  آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 302)

([77])  آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 302)

([78])  آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 302)

([79])   قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، أبو الطيب محمد صديق خان، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد – المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1421هـ، ص144.

([80]) نصيحة العلماء في وجوب البراءة من أهل الأهواء، سمير بن خليل المالكي، ص5.

([81]) انظر: تعليق زاهد الكوثري على كتاب (الاختلاف في اللفظ) لابن قتيبة ص (12)، نقلا عن: قاموس شتائم الالباني،

حسن بن علي السقاف، ص6.

([82]) وقد ذكر بعض الباحثين تلك الهستريا التي يقع فيها خصوم الشيعة، والذين يبتدعون كل يوم ألقابا جديدة، لتشفي الحقد الذي يملأ قلوبهم، لا بأس أن ننقل مقدمته هنا كنموذج عن هذا المرض السلفي، قال يحكي مقالة خصوم الشيعة في الشيعة: (إنهم أحفاد السبئي اليهودي..لا، بل إنهم أحفاد بن العلقمي..لا، بل إنهم أحفاد الغادر الخواجة نصير الدين الطوسي..لا، بل إنهم أحفاد العبيديين ..لا، بل إنهم أحفاد القرامطة..لا، بل إنهم أحفاد الصفويين..لا، بل إنهم المجوس..لا، بل إنهم شر من في الأرض جميعا..(لا، بل).(لا، بل). بل .. بل .. فبلبل كيف قدر!)

ثم عقب على ذلك بقوله: (نحن إذن أمام هستيريا خطاب فقد كل معقوليته.. معذور في هذا الصياح، لأنه بات يجد نفسه يخرج من حظ عاثر إلى آخر، كلما انفضحت فيه هذه التهمة أو تلك.. ألم يقولوا يوما للناس إن الشيعة لهم أذناب بقر حتى صدق كل عوامهم بذلك مثل البهاليل وكرسوا فيهم هذه القناعة إلى اليوم. حينما قالوا ذلك وصدّقهم عوامهم، هذا يعني أن العقل المهيمن على المخاطب والمتلقي هو العقل الخرافي. كل اتهاماتهم هي من ذاك الطراز. هستيريا خطاب ونوبة طويلة لم يفيقوا منها في زمن كشف التحريف وإبطال الزيف وفضح المستور وفن وأخلاق الحوار. إنها تهم رخيصة لا تنتهي.لأنها لا ترتكز إلا على إرادة التشويه والإساءة والتزييف. وهي تقنية أسرف فيها خصوم الشيعة بصورة تبعث على الغثيان) (انظر: أسطوانة مشروخة، إدريس هاني، نشر في هسبريس يوم 05 – 08 – 2009، على الرابط التالي: http://www.maghress.com/hespress/14478)

([83]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 102)

([84]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 235)

([85]) عنوان المجد في تاريخ نجد، عثمان بن عبدالله بن بشر النجدي الحنبلي، ص 120.

([86]) تاريخ نجد المسمى (روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام)، الحسين بن غنام، المحقق: ناصر الدين الأسد، ص 138.

([87]) تاريخ نجد، ص 182- 183.

([88]) عنوان المجد، ص 216.

([89]) عنوان المجد، ص 257 – 258

([90]) عنوان المجد، ص 261

([91]) سراة الليل هتف الصباح، عبد العزيز التويجري، ص 49.

([92]) المرجع السابق، ص 46

([93]) الدرر السنية والأجوبة النجدية، ج1 ص 314

([94]) الدرر السنية والأجوبة النجدية، ج1 ص 317

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *