السنة النبوية.. والسنة المذهبية

السنة النبوية.. والسنة المذهبية
من الصعب جدا على الإنسان أن يكتشف في عرصات القيامة أنه لم يكن يعبد الله، بل كان يعبد هواه، وأنه لم يكن يتبع نبيه، وإنما كان يتبع أصناما عجنها بشهواته وأهوائه وأعانه الشيطان على تشكيلها، وأنه فوق ذلك كله لم يكن في حياته جميعا من حزب الله، وإنما كان من حزب الشيطان.. وأن تسميته لنفسه بالسني أو السلفي أو غيرها من الألقاب لم تكن إلا خدعة شيطانية ضحك بها الأبالسة عليه ليستضيفوه معهم في دركات جهنم..
هذه ليست أوهاما ولا مخاوف زائفة، بل هي مخاوف حقيقية تراود عقل وقلب كل إنسان اقتنع اقتناعا تاما بأنه قد وضع في هذه الدنيا في وضع امتحان وابتلاء واختبار لتبلى سريرته، ويكشف عن معدنه، ويزف بعد ذلك إلى المقر الذي يتناسب معه إما إلى الجنة، وإما إلى النار.
وهذه الحقيقة لا يدعو إليها التأمل العقلي فقط، بل يدعو إليها قبل ذلك وبعده القرآن الكريم رسالة الله إلى عباده، ففيها من الإنذارات المشددة ما ترتجف له الأفئدة.. فالأمر ليس هزلا، وليس لعبة الأطفال.. والمصير الأبدي الذي ينتظرنا، وينتظر البشرية جميعا بحلوه ومره مرتبط باختياراتنا، والشيطان متربص بنا في كل لحظة.. لا يدع محلا من الخير والشر إلا راودنا فيه لينحرف بنا إلى جهته، وليحقق وعده لربه حين قال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} [الحجر: 39، 40]
وقد رسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صورة توضح دور الشيطان في الانحراف بالإنسان عن سبيل الله، فقد حدث عبد الله بن مسعود قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلميوما خطا، وخط عن يمينه خطا، وخط عن يساره خطا، ثم قال: (هذا سبيل الله)، ثم خط خطوطا فقال: (هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)، وقرأ {أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153]([1])
وبناء على هذا كانت خطورة البحث عن حقيقة انتماءاتنا وتوجهاتنا الفكرية والسلوكية.. فهي ليس مجرد اختيارات عبثية، وإنما هي اختيارات ينبني عليها مصيرنا وحياتنا الحقيقية.
ولهذا، فإن القرآن الكريم يحذرنا من التبعية.. لأن التبعية تجعل صاحبها مغلول العقل، لا يفكر بما أعطاه الله من طاقات ومدارك، وإنما يفكر بعقول غيره، ومدارك غيره، والتي قد يستحوذ عليها الشيطان، فيملؤها ببرامجه المضادة لبرامج الله لعباده.. قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} [البقرة: 166، 167]، والآية جاءت مطلقة هنا، ومن الخطأ الكبير ربطها بأمة دون أمة، أو شعب دون شعب.. فعدالة الله تقتضي سريان سنن الله في جميع الشعوب والأمم.
ومثل هذه الآية الكريمة تلك الآيات الكثيرة التي تتحدث عن الخصومة بين أهل النار، وخاصة بين المستكبرين والمستضعفين.. فالمستكبرون ليسوا فقط رجال السياسة، وإنما يدخل فيهم رجال الدين.. أي دين كان.. والمستعضفون ليسوا فقط الرعية.. بل كل تابع ذليل حتى لو كان عالما علامة بحرا فهامة.. لأنه كان تابعا لأي رجل من رجال الدين تبعية مطلقة، من غير تفكير ولا بحث ولا نظر.
هذه مقدمة ضرورية للحديث عن الفرق بين السنة النبوية والسنة المذهبية.. فالسنة النبوية قيم وحقائق وسلوكات ومواقف تنبع من الصدق في البحث والنظر والتأمل.. بينما السنة المذهبية مجرد تبعية لفريق من الناس تصور البعض أنهم هم السنة، أو أنهم هم النبي نفسه، وأن عليه أن يتبعهم أخطأوا أو أصابوا.. ضلوا أو اهتدوا.. وفي يوم القيامة يكتشف الحقيقة المرة، ويكتشف أنه لم يكن يعبد الله بل كان يعبد هواه.. وأن كل تلك الألقاب التي كان يفرح بها مجرد خدع شيطانية لبس الشيطان بها عليه، ليزحزحه عن الجنة، ويقذفه في جهنم.
وبناء على هذا، فإن الخطوة الأولى التي ينطلق منها من يريد صادقا أن يتحقق بالسنة النبوية بدل السنة الذهبية، أن يعلم أن السنة النبوية حقائق وليست أفرادا.. وقيما وليست جماعات.. ومعان سامية وليست فرقا ومذاهب، كما قال الإمام علي لبعض الذين راحوا يميزون الحق بالرجال: (إنك لمبلوس عليك، إن الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله)
فالحق مقصود لذاته.. وأما الرجال، فيمكن أن يكونوا معه، ويمكن أن يخالفوا طريقه.. ولهذا فإن العاقل لا يكون إمعة فيما يرتبط بمصيره الأزلي، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا)([2])
ومع أن هذا الذي ذكرناه من البديهيات التي كثيرا ما نرددها، بل ترددها كل الطوائف، لكننا في الواقع العملي نتيه عنها بسبب تلك الأصنام التي تعمر قلوبنا، والتي غذتها المناهج التربوية والقنوات الإعلامية والخطب المنبرية والبيئة الاجتماعية التي لا نستطيع التنصل منها ومن الأفكار التي تطرحها.. فهي جميعا تبشرنا بأننا (أهل السنة والجماعة)، وأننا (الفرقة الناجية)، وأننا حتى لو دخلنا النار، فلن نمكث فيها إلا أيام معدودات بخلاف غيرنا من أهل الأهواء والبدع، والذين سيخلدون في النار لا محالة حتى لو كانوا من أهل الصيام والقيام.. وحتى لو فعلوا ما فعلوا من أنواع البر، لأن الجنة مخصصة لنا، ومحرمة عليهم.
ولهذا قد ترى في الشارع بعض عوام الناس ممن لا يصلون، ولا علاقة لهم بالدين، ولكن بسبب الحملات الإعلامية الطائفية التي تقوم بدورها في نشرها الفتن، تجدهم يزعمون لأنفسهم أنهم ـ مع تركهم للصلاة ولكل شعائر الدين ـ من أهل السنة والجماعة، وتجدهم يكفرون غيرهم من أهل الملل والنحل.. بل يقول أحدهم بافتخار: نعم أنا لا أصلي.. ولكني مع ذلك من أهل السنة والجماعة.. وأنا أفضل من كل أولئك الذين يسكنون في تلك البلاد الممتلئة بالشرك والبدع.
وللأسف لا نجد العلماء ينكرون عليهم.. بل نجدهم يؤيدونهم، فهم يقولون كل حين، وعلى جميع وسائل الإعلام: نحن أهل السنة والجماعة نشكل الطائفة الأكبر من الأمة، فنحن أكثر من مليار نسمة، بينما لا يشكل الروافض والخوارج وغيرهم سوى ثلة قليلة قد لا تتجاوز بعض مئات الملايين.
وهم يعلمون جيدا أن في هذا المليار الذي يزعمونه من لا يعرف من الدين لا اسما، ولا رسما، ولا يقيم له وزنا.. ومع ذلك هم يكذبون عليهم، ويمنونهم بالنجاة، وبأن يسقوا من يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شربة هنية لا يظمأون بعدها أبدا، وكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحول إلى سقاء للفسقة والفجرة والمنحرفين..
ومن
كذبني فليذهب لقناة الجزيرة أو قناة العربية أو غيرهما من قنوات الفتنة ليرى
الصحفيات بكامل زينتهن، وهن يزعمن لأنفسهن أنهن من أهل السنة، وأنهن ينتصرن لأهل
السنة، ويبكين على أهل السنة، ويسخرن من الرافضة، ومن صحفيات القنوات الرافضية.
([1]) البزار في مسنده [ رقم 1865.. 5 / 251]
([2]) رواه الترمذي.