السلفية.. وتكفير المدارس الفقهية

السلفية.. وتكفير المدارس الفقهية

قد يعتقد الكثير أن التكفير السلفي يتوقف على المدارس العقدية، باعتبارها تبحث في المسائل العقدية.. وهذه المسائل تتعلق بأصل أصول الدين، ولذلك فإن التعامل معها يحتاج إلى الشدة والحزم، لتحفظ حقائق الدين من التحريف والتأويل والتعطيل.

لكن ذلك غير صحيح.. فطوفان التكفير السلفي الذي شمل الأمة جميعا، لم يتوقف عند متكلمي المعتزلة والأشاعرة والجهمية، بل راح يغرق كل فقهاء الأمة وتلاميذهم وأتباعهم على مدار التاريخ الإسلامي، ولم يستثن من ذلك إلا ثلة محدودة، قد لا تعدو أصحاب المذاهب وتلاميذهم الأوئل، بل إن منهم من تكلم فيه السلف وكفره وكفر كل من تبعه، وكفر كل من لم يكفره.

أما أسباب تكفير هؤلاء، فكثيرة جدا، لكنا سنقتصر في هذا الفصل على نوعين كبيرين منها، لنبين انطباقهما على جميع علماء الأمة ما عدا تلك الثلة القليلة التي نجت من سيف التكفير السلفي.

أما النوع الأول، فهو التكفير بسبب الوقوع في أخطاء أو انحرافات عقدية، مثل نفي الجهة عن الله تعالى، أو القول بخلق القرآن، أو ما يسميه السلفية تعطيل الصفات.. وجماهير علماء الأمة من المذاهب الأربعة وغيرها يقولون بهذا، ومنهم الفقهاء والمحدثون والمفسرون وغيرهم.. وسنرى النماذج الكثيرة عنهم، وعن تكفير السلفية لهم.

أما النوع الثاني، فهو التكفير بسبب الوقوع في بعض الأخطاء الفقهية، والتي يوليها السلفية شأنا كبيرا، بل يعتبرونها من مسائل العقائد، بل يعتبرونها من أهم ركن فيه عندهم، وهو توحيد الألوهية، وهذه المسائل كثيرة تشمل التوسل وزيارة قبور الصالحين والتبرك بها ونحو ذلك.. والسلفية يعتبرون كل هذا شركا جليا يكفر فاعله، سواء كان عالما أو عاميا، ويتأكد التكفير إن كان عالما.

ولهذا نرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب يطلق الفتاوى الكثيرة على كفر علماء عصره من المذاهب الأربعة، ولا يكتفي بالتكفير المطلق، بل يضم إليه التكفير العيني، فيسمي الكثير من العلماء، ويعتبرهم كفرة.

وقد سار على دربه كل مشايخ السلفية المتأخرين، اللهم إلا تلك الثلة القليلة التي تستعمل التقية، فتصرح بالتكفير المطلق، وتصرح باحترامها لتكفير سلفها للعلماء، بل تعتبرهم مجددين، وأنه لولاهم لما حفظ الدين.. لكنها وحرصا على ألا توصم بالتكفير تغيره إلى ألفاظ قريبة لا تفيد عندهم إلا التكفير من أمثال [قبوريين]، وهي قد تتظاهر بالورع فتتوقف عن تكفير الأعيان، وإن كان واقعها لا يقول بذلك، ذلك أن من كفر واحدا من الناس لسبب من الأسباب، فقد شمل بتكفيره كل من وقع في ذلك السبب، لأنه لا محاباة في أمثال هذه المسائل.

ولذلك فإننا سننطلق من تلك المواقف التكفيرية الصريحة التي قام بها السلفية متقدموهم ومتأخروهم، ونبين انطباقها على سائر علماء الأمة.

وقد كان في إمكاننا في هذا الفصل أن نقتصر على مكفر واحد، كنفي الجهة، ونذكر النماذج عن كل العلماء الذين قالوا به، وكان ذلك وحده كافيا لتكفيرهم، لكنا لم نشأ ذلك، بل آثرنا أن نذكر النواقض المختلفة، حتى إذا جادلوا في أي ناقض منها، وجدوا أمامهم غيره، كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ } [البقرة: 258]

أولا ـ  التكفير المطلق

يضع السلفية الكثير من القوانين التي على أساسها يكون التكفير، ويسمونها [نواقض الإيمان]، ويعتبرون كل من وقع فيها، أو في أي واحد منها كافرا أو مشركا شركا جليا حتى لو صام وصلى وتحلى بكل ما يتطلب الدين من قيم.

ولهذا نرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يطلقون التكفير على سائر الأمة، لاعتقادهم أنهم وحدهم أهل التوحيد، وأن من عداهم قد وقع إما في براثن المتكلمين، فصار ينفي الجهة ويعطل الصفات، أو وقع في براثن الصوفية فصار يتوسل ويتبرك.. وكل ذلك عندهم كفر وضلالة.

بناء على هذا، سنتحدث في هذا المبحث عن أهم سببين من أسباب التكفير، يمكن تطبيقهما على الأمة جميعا، ما عدا السلفية وإن كان لا ينجو جميعهم منها.. أولهما الوقوع في النواقض العقدية، كنفي الجهة والتعطيل والقول بخلق القرآن وهي جميعا مما اهتم به سلفهم الأول، وكفروا الأمة على أساسه.. وثانيهما الوقوع فيما يسمونه الشرك الجلي نتيجة القول بالتوسل أو الاستغاثة أو التبرك ونحوها، وهي مما وضع أسسه المتأخرون كابن تيمية، وطبقها من بعده محمد بن عبد الوهاب ومدرسته، وهي جميعا مسائل عملية فقهية أعطاها السلفية بعدا عقديا لإرضاء شهوة العدوانية والتكفير التي تربوا عليها من لدن سلفهم الصالح.

1 ـ التكفير بسبب الوقوع في نواقض الإيمان العقدية

ذكرنا في الفصل السابق النواقض العقدية الكثيرة التي اختص بها السلفية دون غيرهم من الفرق والمذاهب، والتي على أساسها شمل تكفيرهم كل المدارس العقدية من الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة بالإضافة للصوفية والإمامية والزيدية والإباضية، فكل هؤلاء جميعا ينزهون الله عن الجهة والمكان والتركيب والأعضاء ونحوها..

وبما أن المدارس الفقهية ارتبطت بالمدارس العقدية التي كفرها السلفية، فإن التكفير صار يشملها أيضا، فلم يستثن من ذلك إلا المتقدمون من أصحاب المذاهب الذين وقع الخلاف في بعضهم.

يقول الحافظ تاج الدين السبكي في كتابه [معيد النعم ومبيد النقم] عن علاقة أكثر المذاهب الفقهية بالمدرسة الأشعرية: (وهؤلاء الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة، ولله الحمد في العقائد يد واحدة، كلهم على رأي أهل السنة والجماعة، يدينون الله تعالى بطريق شيخ السنة والجماعة أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى، لا يحيد عنها إلا رعاع من الحنفية والشافعية لحقوا بأهل الإعتزال ورعاع من الحنابلة لحقوا بأهل التجسيم، وبرّأ الله المالكية فلم نر مالكيا إلا أشعري عقيدة، وبالجملة عقيدة الأشعرية هي ما تضمّنته عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها علماء المذاهب بالقبول ورضوها عقيدة)([1])

وكل مقولات هؤلاء ترجع للتنزيه المحض الذي يسميه السلفية تجهما وتعطيلا، كما قال ابن عساكر معبرا عنهم: (فإنهم – يعني الأشاعرة – بحمد الله ليسوا معتزلة، ولا نفاة لصفات الله معطلة، لكنهم يثبتون له سبحانه ما أثبته لنفسه من الصفات، ويصفونه بما اتصف به في محكم الآيات، وبما وصفه به نبيّه ‘ في صحيح الروايات وينزهونه عن سمات النقص والآفات، فإذا وجدوا من يقول بالتجسيم أو التكييف من المجسمة والمشبهة، ولقوا من يصفه بصفات المحدثات من القائلين بالحدود والجهة فحينئذ يسلكون طريق التأويل، ويثبتون تنزيهه تعالى بأوضح الدليل، ويبالغون في إثبات التقديس له والتنزيه خوفاً من وقوع من لا يعلم في ظُلم التشبيه، فإذا أمنوا من ذلك رأوا أن السكوت أسلم، وترك الخوض في التأويل إلا عند الحاجة أحزم، وما مثالهم في ذلك إلا مثل الطبيب الحاذق الذي يداوي كلّ داء من الأدواء بالدواء الموافق، فإذا تحقق غلبة البرودة على المريض داواه بالأدوية الحارّة، ويعالجه بالأدوية الباردة عند تيقنه منه بغلبة الحرارة.. وما مثال المتأوّل بالدليل الواضح إلا مثال الرجل السابح، فإنه لا يحتاج إلى السباحة ما دام في البر، فإن اتفق له في بعض الأحايين ركوب البحر، وعاين هوله عند ارتجاجه وشاهد منه تلاطم أمواجه، وعصفت به الريح حتى انكسر الفُلك، وأحاط به إن لم يستعمل السباحة الهُلك، فحينئذ يسبح بجهده طلباً للنجاة، ولا يلحقه فيها تقصير حبّاً للحياة، فكذلك الموحّد ما دام سالكاً محجّة التنزيه، آمناً في عقده من ركوب لجّة التشبيه، فهو غير محتاج إلى الخوض في التأويل لسلامة عقيدته من التشبيه والأباطيل، فأما إذا تكدّر صفاء عقده بكدورة التكييف والتمثيل، فلا بدّ من تصفية قلبه من الكدر بمصفاة التأويل، وترويق ذهنه براووق الدليل، لتسلم عقيدته من التشبيه والتعطيل)([2])  

وكلا المنهجين ـ كما رأينا في الفصل السابق مرفوض لدى السلفية ـ بل يكفر القائل به، وسأسوق هنا بعض أقوال أئمتهم التي يرجعون إليها من مصدر مصادرهم المعتبرة، وهو كتاب السنة لعبد الله بن أحمد، لنطبق من خلاله تكفيرات السلفية على أعلام الأمة ومدارسها المختلفة.

فمن تلك النصوص الواضحة في التكفير، والتي لا تحتاج إلى أي شغب أو جدل، ما رواه عبد الله بن أحمد عن خارجة أنه قال: (الجهمية كفار بلغوا نساءهم أنهن طوالق، وأنهن لا يحللن لأزواجهن لا تعودوا مرضاهم ولا تشهدوا جنائزهم، ثم تلا: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 1 – 5] وهل يكون الاستواء إلا بجلوس)([3])

وهذا النص واضج جدا في تكفير كل المدارس الفقهية، لأنها جميعا تقف من الاستواء موقف التأويل أو التفويض.. وكلها تتفق على تنزيه الله عن الجلوس والمكان والحيز.

وروى عن علي بن الحسن بن شقيق، قال: سألت عبد الله بن المبارك كيف ينبغي لنا أن نعرف، ربنا عز وجل؟ قال: على السماء السابعة على عرشه، ولا نقول كما تقول الجهمية إنه هاهنا في الأرض)([4])

وهذا الكلام واضح في تكفير كل المدارس، لأنها جميعا تتفق على تنزيه الله عن المكان.

أما الإمام أحمد، فقد روى عنه ابنه عبد الله الكثير من النصوص التي لو طبقت على جميع المذاهب الإسلامية لحكم عليها بالكفر، ومنها قوله: (من قال: القرآن مخلوق فهو عندنا كافر، لأن القرآن من علم الله عز وجل وفيه أسماء الله عز وجل)([5])، وكل المذاهب الإسلامية ـ ما عدا السلفية ـ تقول بخلق القرآن كما سبق وأن ذكرنا ذلك في الفصل السابق.

وروى عبد الله عن أبيه: (من قال ذلك القول لا يصلى خلفه الجمعة ولا غيرها: إلا أنا لا ندع إتيانها فإن صلى رجل أعاد الصلاة، يعني خلف من قال: القرآن مخلوق)، وروى عنه: (إذا كان القاضي جهميا فلا تشهد عنده)([6])

وروى عن سفيان بن عيينة ـ أحد سلفهم المعتبرين ـ قوله: (القرآن كلام الله عز وجل، من قال: مخلوق، فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر)([7])، وقوله: (من قال القرآن مخلوق كان محتاجا أن يصلب على ذباب يعني جبلا)([8])

وروى عن بعضهم أنه قال: (كنت عند عبد الله بن إدريس [وهو من أئمة السلفية المعتبرين]، فسأله بعض أصحاب الحديث ممن كان معنا فقال: ما تقول في الجهمية يصلى خلفهم؟ قال الفضل ثم اشتغلت أكلم إنسانا بشيء فلم أفهم ما رد عليه ابن إدريس فقلت للذي سأله: ما قال لك؟ فقال: قال لي: (أمسلمون هؤلاء لا، ولا كرامة، لا يصلى خلفهم)([9])

وروى عن آخر قال: حضرت عبد الله بن إدريس فقال له رجل: يا أبا محمد، إن قبلنا ناسا يقولون: إن القرآن مخلوق، فقال: (من اليهود؟) قال: لا، قال: (فمن النصارى؟) قال: لا، قال: (فمن المجوس؟) قال: لا، قال: (فممن؟) قال: من الموحدين، قال: (كذبوا ليس هؤلاء بموحدين هؤلاء زنادقة، من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله عز وجل مخلوق، ومن زعم أن الله تعالى مخلوق فقد كفر، هؤلاء زنادقة هؤلاء زنادقة)([10])

وروى عن وكيع بن الجراح قوله: (أما الجهمي فإني أستتيبه فإن تاب وإلا قتلته)([11])، وقوله: (من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أنه محدث ومن زعم أنه محدث فقد كفر)([12])، وقوله: (من زعم أن القرآن، مخلوق فقد زعم أنه محدث يستتاب فإن تاب وإلا ضربت رقبته)([13]) وروى أنه سئل عن ذبائح الجهمية، فقال: (لا تؤكل هم مرتدون)([14])

وروى عن بعضهم قال: سألت معتمر بن سليمان، فقلت: يا أبا محمد: إمام لقوم يقول: القرآن مخلوق أصلي خلفه؟ فقال: (ينبغي أن تضرب عنقه)، قال فطر: وسألت حماد بن زيد فقلت: يا أبا إسماعيل لنا إمام يقول: القرآن مخلوق أصلي خلفه؟ قال: (صل خلف مسلم أحب إلي) وسألت يزيد بن زريع فقلت: يا أبا معاوية: إمام لقوم يقول: القرآن مخلوق أصلي خلفه؟ قال: (لا ولا كرامة)([15])

وروى عن عبد الرحمن بن مهدي قوله: (من زعم أن الله تعالى لم يكلم موسى صلوات الله عليه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه)([16])، وقوله: (لو كان لي من الأمر شيء لقمت على الجسر فلا يمر بي أحد من الجهمية إلا سألته عن القرآن فإن قال: إنه مخلوق ضربت رأسه ورميت به في الماء)([17])، وقوله: (الجهمية يستتابون فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم)([18])

وهكذا روى عن يزيد بن هارون قوله ـ وقد ذكرت الجهمية عنده ـ: (هم والله زنادقة عليهم لعنة الله)([19])، وقوله: (والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم من قال: القرآن مخلوق فهو زنديق)([20])، وقوله: (من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي)([21])

بل إن عبد الله بن أحمد يروي عن أبيه وغيره شمولية هذه الأحكام حتى لمن يقول بأن القرآن كلام الله، ولكن التلاوة والألفاظ مخلوقة، وهو قول أكثر الأمة بناء على تبعيتها للمدرسة الأشعرية، فقد روى عنه أنه سأله: ما تقول في رجل قال: التلاوة مخلوقة وألفاظنا بالقرآن مخلوقة والقرآن كلام الله عز وجل وليس بمخلوق؟ وما ترى في مجانبته؟ وهل يسمى مبتدعا؟ فقال: (هذا يجانب وهو قول المبتدع، وهذا كلام الجهمية ليس القرآن بمخلوق)([22])

وروى عنه قوله: (من قال شيء من الله عز وجل مخلوق علمه أو كلامه فهو زنديق كافر لا يصلى عليه، ولا يصلى خلفه ويجعل ماله كمال المرتد ويذهب في مال المرتد إلى مذهب أهل المدينة أنه في بيت المال)

وقال: سألت أبي رحمه الله قلت: إن قوما يقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق، فقال: (هم جهمية وهم أشر ممن يقف، هذا قول جهم، وعظم الأمر عنده في هذا، وقال: هذا كلام جهم)، وسألته عمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: قال الله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } [التوبة: 6])([23])

بل إن هذه الأحكام المتشددة الممتلئة بالعنف لم تشمل المتكلمين في تلك العقائد فقط، بل شملت أيضا أولئك البسطاء الورعين الذين توقفوا أو فوضوا أو اعتبروا البحث في أمثال هذه المسائل نوعا من الترف الذي لم نطالب به، وقد روى عبد الله بن أحمد في هذا عن أبيه قال: (من كان من أصحاب الحديث أو من أصحاب الكلام فأمسك عن أن يقول: القرآن ليس بمخلوق فهو جهمي)([24])

وقال: سمعت أبي رحمه الله مرة أخرى وسئل عن اللفظية، والواقفة فقال: (من كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي، وقال مرة أخرى هم شر من الجهمية)([25])

وروى أنه ذكر ليحيى بن أيوب الشكاك الذين يقولون لا نقول القرآن مخلوق ولا غير مخلوق فقال: كنت قلت لأبي شداد صديق لي: (من قال هذا فهو جهمي صغير)، قال يحيى: (وهو اليوم جهمي كبير)([26])

هذه أمثلة عن بعض أعلام السلف، ومواقفهم من بعض الفروع التنزيهية البسيطة التي أصبح القول بها بديهيا عند جميع المدارس الإسلامية.

ولو أن السلفية تابوا من هذه المقولات، وخطأوا سلفهم فيها، وتراجعوا عنها، وذكروا أن الخلاف فيها وفي أمثالها فرعي، لما وصمناهم بالتكفير.. ولكنهم لا يزالون يصرون عليها، بل يذكرونها كل حين، ويؤيدونها، ويطبعون الكتب التي تنشر مثل هذا الفكر التكفيري الخطير، فكيف لا نعتبرهم مكفرة بعد هذا كله؟

بل إنهم يعتبرون مجرد النقد لمثل هذه الطروحات الإرهابية الخطيرة الممتلئة بالعنف والعدوانية طعنا في السلف والأئمة.. ومن طعن في السلف والأئمة طعن في الدين نفسه.

بناء على هذا، سنذكر نموذجين هنا للتكفير السلفي لإمامين كبيرين من أئمة الدين، هما أبو حنيفة وابن حجر.. وسنذكر التطبيقات المفصلة على أعيان المذاهب في المبحث الثاني الخاص بالتكفير المعين.

النموذج الأول: الموقف من أبي حنيفة

بناء على تلك الأقوال السابقة التي اعتبرها السلفية معايير في الحكم على الأمة وأعلامها الكبار، نحب أن نذكر هنا نموذجا بسيطا للموقف الذي اتخذه سلف السلفية من أبي حنيفة (المتوفى: 150هـ) صاحب المذهب المعروف، والمنتشر في كثير من بلاد العالم الإسلامي في القديم والحديث.

وسنعتمد في ذلك على المرجع السابق، باعتباره يمثل وجهة نظر كبار أعلام السلف الأوائل من أحمد بن حنبل وغيره من أصحابه وممن سبقه أو لحقه، وقد عنون عبد الله بن أحمد لهذا التكفير والتطاول على أبي حنيفة بهذا العنوان [ما حفظت عن أبي وغيره من المشايخ في أبي حنيفة]

ومن تلك الروايات التي أوردها ما رواه عن إسحاق بن منصور الكوسج، قال: قلت لأحمد بن حنبل: يؤجر الرجل على بغض أبي حنيفة وأصحابه؟ قال: إي والله([27]).

وروى عن سعيد بن سلم، قال سألت أبا يوسف وهو بجرجان عن أبي حنيفة، فقال: (وما تصنع به مات جهميا)([28])، وقال: قلت لأبي يوسف أكان أبو حنيفة يقول بقول جهم؟ فقال: (نعم)([29])

وروى عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، يقول: (هو دينه ودين آبائه يعني القرآن مخلوق)([30])

وروى عن أبي يوسف، قال: (أول من قال: القرآن مخلوق أبو حنيفة)([31])

وروى عن حازم الطفاوي قال: وكان من أصحاب الحديث: (أبو حنيفة إنما كان يعمل بكتب جهم تأتيه من خراسان)([32])

وروى عن عمر بن حماد بن أبي حنيفة، قال: أخبرني أبي حماد بن أبي حنيفة، قال: أرسل ابن أبي ليلى إلى أبي فقال له: تب مما تقول في القرآن أنه مخلوق وإلا أقدمت عليك بما تكره، قال: فتابعه قلت: يا أبه كيف فعلت ذا؟ قال: (يا بني خفت أن يقدم علي فأعطيت تقية)([33])

وروى عن سفيان الثوري قوله: قال لي حماد بن أبي سليمان: (اذهب إلى الكافر يعني أبا حنيفة فقل له: إن كنت تقول: إن القرآن مخلوق فلا تقربنا)([34])

وروى عن سفيان الثوري، قال: سمعت حمادا، يقول: (ألا تعجب من أبي حنيفة يقول: القرآن مخلوق، قل: له يا كافر يا زنديق)([35])

وروى عن عبدة بن عبد الرحيم، قال دخلنا على عبد العزيز بن أبي رزمة نعوده أنا وأحمد بن شبويه وعلي بن يونس فقال لي عبد العزيز: يا أبا سعيد، عندي سر كنت أطويه عنكم فأخبركم، وأخرج بيده عن فراشه فقال سمعت ابن المبارك يقول: سمعت الأوزاعي يقول: (احتملنا عن أبي حنيفة كذا وعقد بأصبعه، واحتملنا عنه كذا وعقد بأصبعه الثانية، واحتملنا عنه كذا وعقد بأصبعه الثالثة العيوب حتى جاء السيف على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلما جاء السيف على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم نقدر أن نحتمله)([36])

وروى عن الأوزاعي، أنه ذكر أبا حنيفة فقال لا أعلمه إلا قال ينقض عرى الإسلام([37])

وروى عنه أيضا قوله: (أبو حنيفة ضيع الأصول وأقبل على القياس)([38])، وقوله: (ما ولد في الإسلام مولد أشر من أبي حنيفة وأبي مسلم وما أحب أنه وقع في نفسي أني خير من أحد منهما وأن لي الدنيا وما فيها)([39])، وقوله: (لو كان هذا الخطأ في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأوسعهم خطأ، ثم قال: ما ولد في الإسلام مولد أشأم عليهم من أبي حنيفة)([40])

وروى عن سلام بن أبي مطيع قوله: (كنت مع أيوب السختياني في المسجد الحرام فرآه أبو حنيفة فأقبل نحوه، فلما رآه أيوب قال لأصحابه: قوموا لا يعدنا بجربه، قوموا لا يعدنا بجربه)([41])

وروى عن أيوب قوله: (لقد ترك أبو حنيفة هذا الدين وهو أرق من ثوب سابري)([42])

وروى عن ابن عون قوله: (ما ولد في الإسلام مولود أشأم على أهل الإسلام من أبي حنيفة)([43])

وروى عن معرف قال: دخل أبو حنيفة على الأعمش يعوده فقال: يا أبا محمد لولا أن يثقل، عليك مجيئي لعدتك في كل يوم، فقال الأعمش: من هذا؟ قالوا: أبو حنيفة، فقال: (يا ابن النعمان أنت والله ثقيل في منزلك فكيف إذا جئتني)([44])

وروى عن سفيان بن سعيد قوله: (ما ابن يحطب بسيفه أقطع لعرى الإسلام من هذا برأيه يعني أبا حنيفة)([45])

وروى عن مالك أنه ذكر أبا حنيفة فذكره بكلام سوء وقال: (كاد الدين، وقال: من كاد الدين فليس من الدين)([46])، وقوله: (أيذكر أبو حنيفة ببلدكم؟) قلت: نعم، قال: (ما ينبغي لبلدكم أن يسكن)([47])، وقوله: (أبو حنيفة من الداء العضال.. أبو حنيفة ينقض السنن)([48])، وقوله: (ما ولد في الإسلام مولود أضر على أهل الإسلام من أبي حنيفة)([49])

وروى عن شريك بن عبد الله قوله: (لأن يكون في كل ربع من أرباع الكوفة خمار يبيع الخمر خير من أن يكون فيه من يقول بقول أبي حنيفة)([50])، وقوله: (أصحاب أبي حنيفة أشد على المسلمين من عدتهم من لصوص تاجر قمي)([51])

وروى عن أسود بن سالم قوله: (إذا جاء الأثر ألقينا رأي أبي حنيفة وأصحابه في الحش)، ثم قال لي أسود: (عليك بالأثر فالزمه أدركت أهل العلم يكرهون رأي أبي حنيفة ويعيبونه)([52])

وروى عن محمد بن جابر قوله: سمعت أبا حنيفة، يقول: (أخطأ عمر بن الخطاب، فأخذت كفا من حصى فضربت به وجهه)([53])

هذه مجرد نماذج عن مواقف سلف السلفية الأوائل من أبي حنيفة، وأحقادهم عليه، وهي تبين لنا بعض أسرار تلك العدوانية الموجودة في السلفية، وكيف لا يكونون كذلك، وهم يقدسون رجالا هذا شأنهم، وهذا أدبهم، وهذا تعاملهم مع قرين من أقرانهم، وزميل من زملائهم في العلم.

والسلفية الذين يمارسون التقية يغضون الطرف عن أمثال هذه النصوص، ويكتمونها، ولا يتجرؤون أبدا على الإنكار عليها، لأنهم لو فعلوا فسيعتبرون من الطاعنين في أهل الحديث.. ولا يطعن فيهم إلا زنديق.

وقد ذكرنا هذا النموذج لنطبقه بعد ذلك على جميع أعلام الأمة من أصحاب المدارس المختلفة الذين يتفقون مع أبي حنيفة في كل ما طرحه من آراء ابتداء من القول بخلق القرآن.

النموذج الثاني: الموقف من ابن حجر

وهو من النماذج التي أوقعت السلفيين في حيرة كبيرة، بل جعلتهم يكفر بعضهم بعضا بسببه، لأن ابن حجر يقول بما تقوله الأشاعرة، بل الجهمية، فيؤول كل ما اعتبروا تأويله، ولا يثبت الجهة لله، ولا يثبت المكان، ويعطل كل الصفات التي يتعلق بها السلفية في تكفير الجهمية والمدارس الكلامية.

وهو فوق ذلك من العلماء الذين لا يعذرون بجهلهم، بل هو مطلع على ما كتبه ابن تيمية، بل هو فوق ذلك يتعرض له، وينتقده بشدة..

ولكنه مع ذلك علم من الأعلام الذين لا يستطيعون الاستغناء عنهم، فهم يلجؤون إلى تحقيقاته كل حين، ويستفيدون منها، ويستدلون بها على خصومهم، وتكفيرهم له يشكل حرجا كبيرا بالنسبة لهم، وفرصة سانحة لأعدائهم.

لذلك وقفوا كله وقفوا منه موقفين متناقضين:

الموقف الأول: الموقف السلفي الصريح:

وهو يعتمد على ما ذكره السلف الأول، ومن بعدهم من ابن تيمية وغيره.. بل ما ذكره شيخهم ومجددهم الكبير في هذا العصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه.

وهو يستند إلى النصوص التي ذكرها ابن حجر في كتبه، وخاصة [فتح الباري]، ويرى أنه يطبق عليها كل ما طبقه سلف السلفية الأوائل على الجهمية والمدارس الكلامية.

ومن أمثلة هذا الموقف ما ذكره الشيخ إبراهيم بن رجا الشمري في كتابه [من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف] الذي ينتقد فيه بشدة المنهج السلفي الخفي، أو التمييعي كما يسميه، ومن تلك الانتقادات الموقف من ابن حجر، والكيل معه بمكاييل مختلفة عن المكاييل التي يكيلون بها لسائر الناس.

وقد قال في ذلك ـ بعد أن أورد نصوصا للسلف في تكفير منكر العلو ـ: (فقارن –يا طالب الحق- بين أقوال أهل العلم في منكري العلو وبين صنيع ابن باز لما علق على قول ابن حجر في فتحه: (فيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته) فقال: ليس في الحديث المذكور رد على من أثبت استواء الرب على عرشه بذاته.. وكذلك لما وقف ابن باز على قول ابن حجر (لا يتوجه عليه –سبحانه- في وجوده أين وحيث) علق قائلا: (الصواب عند أهل السنة وصف لله بأنه في جهة العلو)،  ولما بلغه تأويل ابن حجر لصفة اليد قال في مجموعه: (اطلعت على ما ذكرتم في الرسالة المرفقة من جهة كلام الحافظ ابن حجر على قول عبد الله بن مسعود؛ والذي نفسي بيده.. إلخ؛ وأن المراد باليد القدرة وفهمته. ولا شك أنه كلام ناقص مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة. والصواب: أن ما ورد في هذا من الأحاديث والآثار يراد به إثبات اليد والقدرة جميعا..)، ولا يخفى على ابن باز أيضا أن تأويل صفة اليد ونحوها من الصفات أنه من مسالك أهل البدع والزيغ فقد قال كما في مجموعه: (لا يجوز تأويل الصفات، ولا صرفها عن ظاهرها اللائق بالله، ولا تفويضها، بل هذا كله من اعتقاد أهل البدع..)، وقال أيضا: (إنما المؤولون هم الجهمية والمعتزلة، والأشاعرة في بعض الصفات، وأما أهل السنة والجماعة المعروفون بعقيدتهم النقية فإنهم لا يؤولون..)، وكذلك لما وقف على قول ابن حجر (لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب)، قال: (ليس الأمر كذلك بل إطلاق الصوت على كلام الله سبحانه قد ثبت..)، والحق أن من لم يثبت الصوت للباري فهو جهمي، كما قال عبد الرحمن بن حسن:قال الخلال: وحدثنا أبو بكر المروذي قال: سمعت أبا عبد الله، وقيل له: إن عبد الوهاب قد تكلم، وقال: (من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت، فهو جهمي، عدو لله، وعدو للإسلام) فتبسم أبو عبد الله، وقال: (ما أحسن ما قال! عافاه الله)([54])

وهكذا أخذ ينكر عليه، ويدله على ما كتبه في كتبه أو كتبه سلفه في تكفير من وقع في نفس ما وقع فيه ابن حجر، ويدعوه إلى رعاية العدل، وعدم الشفقة على أهل البدع، قال: (ولا يخفى على ابن باز أيضا حكم من لم يثبت الصوت للباري وقال بالكلام النفسي، فقد أحال في رسالته (العقيدة الصحيحة وما يضادها) إلى السنة لللالكائي، وقد تقدم قول اللالكائي –رحمه الله تعالى- فيمن قال بالحكاية، وابن باز قد اطلع أيضا على شرح ابن حجر الذي قال فيه:(قوله {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] هو من المتشابه الذي يفوض علمه إلى الله تعالى)، وقد قال عبد الرحمن بن حسن عمن ينكر حقيقة الاستواء: (قوله: (فليس فوقك شيء) نص في أنه تعالى فوق جميع المخلوقات؛ وهو الذي ورد عن الصحابة، والتابعين من المفسرين وغيرهم، في معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه: 5] إن معنى استوى: استقر، وارتفع، وعلا، وكلها بمعنى واحد؛ لا ينكر هذا إلا جهمي زنديق، يحكم على الله وعلى أسمائه وصفاته بالتعطيل..)([55])

وقال: (وابن باز لا يخفى عليه حكم السلف في المفوضة، فقد قال في مجموعه: المفوضة قال أحمد فيهم: إنهم شر من الجهمية، والتفويض أن يقول القائل: الله أعلم بمعناها فقط وهذا لا يجوز؛ لأن معانيها معلومة عند العلماء. قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم والكيف مجهول)([56])

وقال: (ثم إن ابن باز لا يخفى عليه أن أهل السنة مجمعون على البراءة والتحذير من المؤولة، فقد قال في مجموعه: أما التأويل للصفات وصرفها عن ظاهرها فهو مذهب أهل البدع  من الجهمية والمعتزلة، ومن سار في ركابهم، وهو مذهب باطل أنكره أهل السنة والجماعة، وتبرؤوا منه، وحذروا من أهله)([57])

وقال ملخصا تناقضات ابن باز في تعامله مع ابن حجر: (والمقصود أنه مع علم ابن باز: بنفي ابن حجر العسقلاني لعلو الباري سبحانه.. وتأويله لصفة اليد..وتوقفه عن إثبات الصوت.. واطلاعه على قول ابن حجر بالتفويض..  ومعرفته بانتصار ابن حجر لقول أهل الإرجاء في الإيمان.. ومعرفته ببدع ابن حجر القبورية كقوله بالتبرك فقد رد عليه ذلك في تعقباته.. ومعرفته لميل ابن حجر لتحريف صفة المحبة والنزول فقد رد عليه ذلك أيضا في تعقباته.. ومعرفته تحريف ابن حجر لصفة الحياء فقد رد عليه ذلك في تعقباته.. مع هذا كله فقد قال هو ومن معه من أعضاء اللجنة: (موقفنا من أبي بكر الباقلاني والبيهقي وأبي الفرج بن الجوزي وأبي زكريا النووي وابن حجر وأمثالهم ممن تأول بعض صفات الله تعالى أو فوضوا في أصل معناها: أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم فرحمهم الله رحمة واسعة وجزاهم عنا خير الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة رضي الله عنهم وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخير وأنهم أخطؤوا فيما تأولوه من نصوص الصفات وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السنة رحمهم الله تعالى سواء تأولوا الصفات الذاتية وصفات الأفعال أم بعض ذلك وبالله التوفيق)، فانظر –عافاك الله من البلاء- إلى قولهم عن نفاة العلو للعلي القهار: (من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم فرحمهم الله رحمة واسعة)، واستحضر معه قول ابن سحمان في كشف الشبهتين: (فهذا التلطف والشفقة والرحمة لا يجوز أن يعامل بها من ينكر علو الله على خلقه، ويعطل أسماءه وصفاته، بل يعامل بالغلظة والشدة والمعاداة الظاهرة)، وبإسناده عن بعض السلف قال: (من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام).. أما الجهمية.. فالرفق بهم، والشفقة عليهم، والإحسان، والتلطف، والصبر، والرحمة، والتبشير لهم، مما ينافي الإيمان، ويوقع في سخط الرحمن، لأن الحجة بلغتهم منذ أزمان.. أما جحد علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه بذاته المقدسة على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه مباين لمخلوقاته، وكذلك نفي صفات كماله، ونعوت جلاله فهذا لا يشك مسلم في كفر من نفى ذلك، لأنه من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، ومما فطر الله عليه جميع خلقه إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته)([58])

وهكذا أخذ يذكره بأقوال سلفه من العلماء المحافظين من أمثال حمود التويجري الذي قال في (ذيل الصواعق): (لا ينبغي تسمية أعداء الله باسم العلماء لأن هذه التسمية لا تليق بهم ولا تطابق حالهم.. ومن المعلوم أن اسم العالم والعلماء من أعلى صفات المدح والتعظيم، وعلى هذا فلا ينبغي مدح أعداء الله ولا تسميتهم بأسماء المدح والتعظيم؛ لأن ذلك مما يغضب الرب تبارك وتعالى ويهتز له العرش)([59])

بل إنه أخذ يذكره بأقواله التي يكفر فيها من وقع في نفس ما وقع فيه ابن حجر، فقال: (واعلم يا من تريد معرفة الحق أن ابن باز لا يخفى عليه أن نفي العلو كفر وردة، فقد قال في شرحه للحموية: (من أنكر أن الله في السماء أو أن الله فوق العرش فقد كفر..هذا إجماع أهل السنة والجماعة).. وقال في شرحه لكشف الشبهات: (الحاصل أن الإنسان إذا أتى بكفر قولي أو فعلي أو قلبي من شك ونحوه كفر حتى لو قال أنا أشهد أن لا إله إلا الله لكن عندي شك هل الجنة حق.. أو شك في أن الله في السماء أو فوق العرش أو ما هو فوق العرش يكفر لأنه مكذب لله ولرسوله)، وقال أيضا في فتوى صوتية له لما سئل عن: حكم من خدم السنة وشرح كتب السنة، لكنه أنكر صفة من صفات الله كالعلو؟ فقال ابن باز: هذا مكذب بالقرآن! من يقل إن الله في كل مكان فهو يكذب بالقرآن، الله تعالى يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه: 5] هذا مكذب بالقرآن. ثم سئل: هل يكفر بعينه؟ فقال: ما فيه شك! بعينه)([60])

وهكذا أخذ يذكره بما يقتضيه الولاء والبراء من مواقف، فقال: (وابن باز لا يخفى عليه أن الرجل لا يصير سنيا حتى يعتقد السنة ويتبرأ ممن خالفها من الفرق، فقد قال كما في فتوى له ولمن معه في اللجنة: (من كان يدعو إلى كتاب الله تعالى وإلى ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأحاديث ويعمل بذلك في نفسه، وينكر ما خالف ذلك ويجتهد في إزالة ما أحدث من البدع، ويتعاون مع أهل السنة ويواليهم ويعادي أهل البدع وينكر عليهم ما ابتدعوه في الإسلام على بينة وبصيرة – فهو من أهل السنة والجماعة)، ومع هذا كله فابن حجر عنده وعند أصحابه (من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم فرحمهم الله رحمة واسعة)([61])

ثم ختم حديثه في الرد على موقف ابن باز من ابن حجر بقوله: (ومن نظر إلى الفتوى السابقة بعين الإنصاف مع علمه بما كان عليه السلف الصالح عرف مباينة القوم لطريقة الأولين وسلوكهم لمنهج محدث جديد في الحكم على أصحاب البدع الكبرى المخالفين بين السلف والخلف)([62])

الموقف الثاني: الموقف السلفي الخفي:

وهو ـ كما رأينا في الموقف السابق ـ موقف متناقض مع نفسه، ومع ما يصرح به في كتبه، بل مع نسبته السلفية نفسها، ذلك أنه بينما يصرح ـ مثلما رأينا من ابن باز ـ بالكفر العيني لكل من ينكر الجهة، أو يؤول الاستواء، أو يؤول ما يسميه الصفات ويعطلها، ومع ذلك، ومع كون ابن حجر فعل ذلك مثله مثل أكثر شراح الحديث إلا أنهم لم يستطيعوا أن يصرحوا بتكفيره، خشية من أن يتهموا بأنهم يرجعون إلى كفرة لا يؤمنون بإسلامهم، وخشية على سمعتهم من أن تدنس بتهمة التكفير.

وهذا عجيب جدا، ويدل على المكاييل المزدوجة للعقل السلفي، وإلا فكيف يمكن أن نصف قانونا من القوانين بالعدالة، وهو يضع العقوبات لجرائم واحدة، ثم يطبقها على قوم، ويستثني منها قوما، بل يكرمهم، ويثني عليهم، ولا يجيز الحديث فيهم.

إن هذا يصدق عليه بجدارة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)([63])

ولذلك فإن هذا النوع من السلفيين مطالب بأحد أمرين:

أولهما، وهو الأحسن والمستحب، بل الواجب، وهو إزالة تلك القوانين التي على أساسها كفروا الأمة، والتراجع عنها، وتخطئة سلفهم، وأولهم ابن تيمية، في اعتمادها، ليصبحوا كسائر المسلمين، لهم أن يعتقدو ما يشاءون، ويتركون الحرية لغيرهم ليعتقد ما يشاء.

والثاني، أن يضموا ابن حجر والنووي وغيرهما إلى سائر من كفروهم من الجهمية والمعطلة، لأن سنة الله تعالى في عباده واحدة، ولا يصح أن يطبقوها على قوم ويتركوا غيرهم، خاصة وأنهم يذكرون أنهم يعتقدون بالولاء والبراء، وأن من لم يكفر الكافر كافر.

خاصة وأن ابن حجر لا يكتفي بتلك العقائد التي يسمونها عقائد الجهمية، بل يضم إليها موقفا سلبيا متشددا من ابن تيمية، ومن بعض أهل الحديث الذين يقدسونهم، فقد قال في ابن تيمية: (ثم نسب أصحابه إلى الغلو فيه واقتضى لـه ذلك العُجب بنفسه حتى زهى على أبناء جنسه واستشعر أنه مجتهد، فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم قديمهم وحديثهم، حتى انتهى إلى عُمر فخطّأه في شيء، فبلغ ذلك الشيخ إبراهيم الرقى فأنكر عليه فذهب إليه واعتذر واستغفر، وقال في حق عليّ أخطأ في سبعة عشر شيئاً.. وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة حتى أنه سب الغزالي فقام عليه قوم كادوا يقتلونه.. وافترق الناس فيه شيعاً فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك كقوله أن اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله وأنه مستو على العرش بذاته فقيل له يلزم من ذلك التحيز والانقسام فقال أنا لا أسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام فألزم بأنه يقول بتحيز في ذات الله، ومنهم من ينسبه إلى الزندقة لقوله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يستغاث به وأن في ذلك تنقيصاً ومنعاً من تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم ولقوله أنه كان مخذولاً حيث ما توجه وأنه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها وإنما قاتل للرياسة لا للديانة ولقوله أنه كان يحب الرياسة.. فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ولا يبغضك إلا منافق)..  ونسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى فإنه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه فكان ذلك مؤكـداً لطول سجنه وله وقائع شهيرة وكان إذا حوقق وألزم يقول لم أر هـذا إنما أردت كذا فيذكر احتمالاً بعيـداً قال وكان من أذكيـاء العالم وله في ذلك أمـور عظيمة..) ([64])

كما أنه يمكن اعتباره ـ بحسب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه ـ قبوريا، فقد ردّ بشدة على ابن تيمية في مسألة زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه (الإنارة بطرق حديث الزيارة)، وانتصر للقبور التي يعتبرها السلفية أوثانا.

بالإضافة إلى ذلك انهيار عقيدة الولاء والبراء عنده ـ بحسب المنهج السلفي ـ ففي الوقت الذي يؤنب فيه ابن تيمية ويقرعه ويكتب عليه نرى فيه ميولا إلى الشخصيات الشيعية التي واجهها ابن تيمية، وهي شخصية ابن مطهر الحلي، فقد قال في [لسان الميزان] عن ابن تيمية: (وجدته كثير التحامل إلى الغاية في رد الأحاديث التي يوردها ابن المطهر وإن كان معظم ذلك من الموضوعات والواهيات، لكنه رد –في ردّه– كثيراً من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر حالة التصنيف ‏مظانها، لأنه كان لاتساعه في الحفظ يتكل على ما في صدره. والإنسان عامد للنسيان. وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي، أدّته أحياناً إلى تنقيص علي)([65])

ويقول في ترجمة ابن مطهر مثنيا عليه: (الحسين بن يوسف بن المطهر الحلي: عالم الشيعة وإمامهم ومصنفهم. وكان آية في الذكاء شرح مختصر بن ‏الحاجب شرحاَ جيّداً سهل المآخذ، غايةً في الإيضاح. واشتهرت تصانيفه في حياته. وهو الذي رد عليه الشيخ تقي الدين بن تيمية في كتابه المعروف بالرد على ‏الرافضي [مع أن اسم الكتاب هو منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية، ومع ذلك لم يسمه بهذا الاسم تنقيصا له]، وكان ابن المطهر، مشتهر الذكر وحسن الأخلاق، ولما بلغه بعض كتاب ‏ابن تيمية قال: (لو كان يفهم ما أقول، أجبته) ([66])

لكن هذا النوع من السلفية مع ذلك لم يسكت عليه، بل كتب الكتب في بيان مخالفاته للعقيدة التي يعتقدونها، وردوا عليها ردودا هادئة جدا، مع كونهم تعاملوا مع من هو دونها بشدة وعنف.

ومن تلك الكتب التي لقيت قبولا كبيرا، ونحاول أن نعرض هنا بعض مواقفها ليكون نموذجا لغيرها كتاب [التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري] من تأليف علي بن عبد العزيز بن علي الشبل، وقد قرظه مشايخ السلفية الكبار من أمثال عبد العزيز بن باز وصالح الفوزان وعبد الله بن عقيل وعبد الله بن منيع، وغيرهم، وهو في أصله إكمال لما بدأه الشيخ عبد العزيز بن باز على فتح الباري بإشارته ومتابعته ومراجعته وقراءته.

ونحب قبل أن نورد ما أورده صاحب الكتاب من تعليقات على ابن حجر، ومواقفه منه، أن نستعرض ما ذكره بعض المشايخ المقرظين حول قيمة ابن حجر عندهم، وهي ما جعلتهم يحسبون ألف حساب للحكم بتكفيره كما حكموا على أمثاله، فقد قال الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان في تقريظه للكتاب: (.. إن من أصح الكتب المصنفة في الإسلام وأجمعها وأحسنها تبويباً واستنتاجاً كتاب الإمام البخاري، وقد عرف بشدة تمسكه بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وترسمه طريقة الصحابة وأتباعهم، فلم يضع في كتابه ما يخالف نهجهم. وقد اعتنى العلماء بشرح كتابه وتقريبه وبيان ما اشتمل عليه من العلم والفوائد، وأعظم شروحه وأكثرها فوائد شرح الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمه الله، وهذا معلوم لدى أهل العلم، غير أنه أدخل فيه من مسائل المتكلمين وتأويلاتهم لصفات رب العالمين ما شان كتابه)([67])

وهكذا أصبحت تلك التأويلات والتعطيلات التي أقام عليها السلفية الدنيا ولم يقعدوها هينة لينة سهلة يترحم على صاحبها للمصلحة المرتبطة به في نفس الوقت الذي تقام المحاكم من أجل مخالفات مثلها أو أقل منها.. وهذا من تناقض العقل السلفي ومزاجيته التي تجلت في كل مواقفه ابتداء من التصحيح المزاجي للأحاديث وتضعيفها، وانتهاء بالحكم بالإيمان أو الكفر على من شاء ومتى شاء وكيف شاء.

ومن الأمثلة على تلك النصوص التي قالها ابن حجر، ولم يكفر بها، مع تكفيرهم لغيره فيها مواقفه من الاستواء، كقوله في [هدي الساري ]، (قوله (استوى على العرش) هو من المتشابه الذي يفوض علمه إلى الله تعالى، ووقع تفسيره في الأصل)([68])

وقد علق عليه الشبل بقوله: (هذا ليس صحيحاً؛ إذ نصوص الصفات ومنها آيات الاستواء من النصوص المحكمة المعلومة المعنى والمعقولة المراد، وإنما يُفوض إلى الله تعالى كيفياتها وحقائقها التي هي عليه، كما هو مذهب سلف الأمة.. هذا وليس المتشابه من القرآن ما لا يعلم معناه إلا الله، كما يقوله أهل التفويض من النفاة، وجرى عليه الحافظ ابن حجر هنا)([69])

وقال ابن حجر فيما يسمونه صفة اليد، والتي اعتبروا معطلها جهميا: (وقع ذكر اليد في القرآن والحديث مضافاً إلى الله تعالى، واتفق أهل السنة والجماعة على أنه ليس المراد باليد الجارحة التي هي من صفات المحدثات. وأثبتوا ما جاء من ذلك وآمنوا به؛ فمنهم من وقف ولم يتأول، ومنهم من حمل كل لفظ منها على المعنى الذي ظهر له، وهكذا عملوا في جميع ما جاء من أمثال ذلك)([70])

وقد علق عليه الشبل بقوله: (الواجب إثبات اليدين حقيقة على الوجه اللائق بالله عز وجل حقيقة من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وعلى هذا اتفق أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح، أما التوقف عن الإثبات والتأويل بالتفويض، أو الجنوح للتأويل فمسلكا المؤولة والمفوضة من الأشاعرة والماتريدية في باب الصفات، وأهل السنة والجماعة منه براء)([71])

وقال تعليقا على ما قال ابن حجر: (والمراد باليد هنا القدرة)([72]):(هذا تأويل غير صحيح؛ بل اليد ثابتة لله عز وجل على حقيقتها، وهي صفة ذاتية من صفاته تعالى، فالواجب إثبات هذه الصفة على حقيقتها كما يليق بجلال الله وعظمته من غير تحريف ولا تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل كسائر الصفات. فكما أن لله قدرة لا تشبهها قدرة المخلوقين، فكذلك له يد لا تشبه أيدي المخلوقين، وله صفات لا تشبه صفاتهم، وإلا كان ذلك تفريقاً بين المتماثلات)([73])

وهذا الحديث الهادئ المؤدب مع خطورة المسألة خاص بابن حجر، فلو أن الذي قال بهذا غيره، لنقل له كل ما ذكره أئمة الحديث من كلامهم في معطل هذه الصفة، فقد قال ابن خزيمة إمام أئمتهم: (باب ذكر قصة ثابتة في إثبات يد الله جل ثناؤه بسنة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيانا أن الله خط التوراة بيده لكليمه موسى، وإن رغمت أنوف الجهمية)([74])، ثم ساق النصوص التي تدل على هذه الصفة، واعتبر منكرها جهميا معطلا كافرا.

وقال ابن حجر في تعطيل ما يسمونه صفة الحياء: (قوله: (فاستحيا الله منه) أي رحمه ولم يعاقبه، قوله: (فأعرض الله عنه) أي سخط عليه، وهو محمول على من ذهب معرضاً لا لعذر، هذا إن كان مسلماً ويحتمل أن يكون منافقاً)([75])

وقد علق عليه الشبل بهدوء بقوله: (يوصف ربنا سبحانه وتعالى بالاستحياء والإعراض كما في النصوص الشرعية على وجه لا نقص فيه؛ بل على الوجه اللائق من غير تكييف ولا تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل. ولا يجوز تأويلهما بغير معناهما الظاهر من لوازمها وغير ذلك، بل الواجب إثباتهما لله عز وجل على الوجه اللائق بجلاله وكماله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل)([76])

وقال ابن حجر في نفي الرؤية الحسية لله تعالى، وهي مما يشنعون به كثيرا على المخالفين، ويكفرونهم على أساسه: (لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلاً عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب)([77])

ومع خطورة المسألة من الناحية العقدية السلفية إلا أنه من باب المصلحة لم يشنع عليه، بل قال له بهدوء: (بل رؤية الباري سبحانه في الدار الآخرة حقيقة بمقابلة ولقاء ورؤية وهو في علوه سبحانه وتعالى كما قال: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ}، مع قطع الاستشراف عن كيفية تلك الرؤية، أو تشبيه المرئي بالمخلوق. ونفي المقابلة والقرب بلا دليل صحيح – ما فيه من الإجمال – خطأ وباطل)([78])

هكذا بكل بساطة.. مجرد خطأ وباطل.. ولكن لو كان غيره لقال: كفر وضلال ومعارضة للقرآن الكريم.. وأتي له بكل ما قال سلفهم من شتائم وسباب.

وهكذا قال تعليقا على ما قال ابن حجر: (ومعاذ الله أن يكون لله جارحة..)([79]): (نفي الجارحة عن الله من النفي المجمل الذي لم يرد به دليل شرعي، والاستفصال فيه أن يُقال: إن كان المراد بالجارحة، كما للمخلوق من أعضاء؛ فالنفي حق ويُعبَّر عنه بما في القرآن {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.. وإن كان المراد بنفي الجارحة نفي اليد عن الله أو نفي الصفات، فالنفي والحالة هذه باطل، ولابد. ففي باب النفي لابد من التوقيف فلا تنفي عن الله إلا ما نفاه عن نفسه أو نفاه عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كما في باب الإثبات)([80])

وقال تعليقا على ما قال ابن حجر: (ومن بعد ذلك لزيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم والصلاة في مسجده والتبرك بمشاهدة آثاره وآثار أصحابه)([81]): (زيارة القبر إذا احتاجت إلى سفر مشروعة تبعاً لا استقلالاً، فلا يجوز السَّفر لقصد زيارة القبر، وإنما تشد الرحال لزيارة المساجد الثلاثة فقط. والتبرك بالمشاهد والآثار بدعة منكرة، ووسيلة إلى الشرك)([82])

ولو أن الذي قال هذا كان غير ابن حجر لاعتبر قبوريا مشركا شركا جليا.. ولكن الله رحم ابن حجر بكتابه فتح الباري، ولولاه لكان الآن في جهنم السلفيين، وفي سجلات تكفيرهم.

وقال ردا على ما ذكره ابن حجر: (اختلف في كون الخلوف أطيب عند الله من ريح المسك مع أنه سبحانه وتعالى منزه عن استطابة الروائح، إذ ذاك من صفات الحيوان، ومع أنه يعلم الشيء على ما هو عليه)([83]): (هذا وما قبله تأويلات متكلفة لا مبرر لها، وخروج باللفظ عن حقيقته. والاستطابة لرائحة خلوف فم الصائم من جنس سائر الصفات العلى يجب الإيمان بها مع عدم مماثلة صفات المخلوقين، ومع عدم التكلف بتأويلها بآراء العقول ومستبعدات النقول، والذي يفضي بها إلى تعطيلها عن الله)([84])

وقال ردا على قول ابن حجر بخلق القرآن على حسب الرؤية الأشعرية: (قوله (أحدث الأخبار بالله) أي أقربها نزولاً إليكم من عند الله عز وجل، فالحديث بالنسبة إلى المنزول إليهم، وهو في نفسه قديم)([85]): (هذا الموضع فيه إيهام يتعلق بصفة الكلام لله عز وجل، ويحتاج إلى تفصيل: فإن كان المراد أنه معنى قديم نفسي، فهذا قول الأشاعرة بأن القرآن معنى نفسي قائم بالله.. وإن كان جبريل لم يسمعه من الله وإنما تلقاه من غيره: من اللوح أو الهواء أو اللطيفة فهو باطل أيضاً. وهو قول الأشاعرة والمتكلمين لينفوا أن يكون الكلام مسموعاً. وهو راجع إلى الاحتمال الأول: بأن الكلام معنىً قديمٌ نفسيٌّ.. وإن أراد أنه قديم بمعنى أن الله كتبه في اللوح المحفوظ وسبق به علمه سبحانه ثم أنزله منجماً حسب الحوادث، وسمعه جبريل من الله. فهذا حق وصواب)([86])

هكذا بكل هدوء حاول أن يجد المبررات لكلامه مع علمه بكون ابن حجر أشعريا، ومع وضوح كلامه، لكن لو كان غيره هو الذي قال هذا الكلام لنقل له كل ما ذكرناه من تكفيرات ابن حنبل وابن الجراح وابن عينية.. ولطالب باستتابته وقتله.

وقال تعليقا على نفي ابن حجر للعلو الذي على أساسه كفروا الجهمية([87]): (هذا جنوح إلى القول بعلو القهر وعلو الشرف. وهو الوصف بالعلو من جهة المعنى، دون علو الذات الذي أحاله الحافظ حساً، والحق أن لله العلو التام ذاتاً وقدراً وقهراً، وهو ما تواترت به نصوص الشريعة تواتراً قطعياً من وجوه كثيرة جداً تفوق الحصر)([88])

مع العلم أن هذه المسألة من المكفرات التي لم يتنازل السلفية عنها، وعلى أساسها كفروا تكفيرا عينيا كل من أنكرها، فقد قال ابن خزيمة: (من لم يقل بأن الله فوق سمواته، وأنه على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة)، وقال: (من لم يقر بأن الله على عرشه قد استوى، فوق سبع سمواته فهو كافر حلال الدم، وكان ماله فيئا)([89])

وقد نقل ابن تيمية الإجماع على ما قاله ابن خزيمة، حيث قال في (درء تعارض العقل والنقل): (وجواب هذا أن يقال القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.. ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك، لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين)([90])

بل إن اللجنة الدائمة للفتوى نفسها، وبرئاسة ابن باز أفتت بهذا في مواضع كثيرة منها أنها أجابت عن سؤال يقول صاحبه: (في هذه القرية مسجد.. ولكن للأسف فإن إمام هذا المسجد يعتقد عقيدة فاسدة وحلولية، يعتقد أن الله في كل مكان.. غلبتني نفسي حتى تناقشت مع إمام هذا المسجد وطرحت عليه الأدلة والبراهين بأن الله في السماء مستو على عرشه وفي هذا إذ لانكيف ولانمثل.. وكذلك ذكرت له ليلة الإسراء والمعراج وذكرت له حديث الجارية، ولم يقتنع بل ظل في عتوه وعقيدته هذه)، فأجابت أكبر هيئة سلفية للفتوى بقولها: (إنهم كفار، ولا تجوز الصلاة خلفهم ولا تصح)([91])  

وقال الشبل تعليقا على تأويل ابن حجر نسبة الصورة لله([92]): (الصواب عود الضمير على الرحمن كما جاء مصرحاً به في روايات صحيحة، والمقصود إثبات الصورة لله ولآدم كلٌ على ما يليق به. وقد بسط الكلام على المسألة وبيان عود الضمير على الله أبو العباس ابن تيمية في بيات تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية بسطاً شافياً)([93])

ولو أن الذي قال هذا غيره لنقل له ما قال الشيخ حمود بن عبدالله بن حمود التويجري في الصورة، وفي تكفير كل من أنكرها،   في كتابه العظيم [عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن]، ومن ذلك قوله ـ عند ذكره دوافع تأليف كتابه ـ: (ولا يزال القول بمذهب الجهمية مستمرا إلى زماننا. وقد رأيت ذلك في بعض مؤلفات المعاصرين وتعليقاتهم الخاطئة. وذكر لي عن بعض المنتسبين إلى العلم أنه ألقى ذلك على الطلبة في بعض المعاهد الكبار في مدينة الرياض. ولما ذكر له بعض الطلبة قول أهل السنة أعرض عنه وأصر على قول الجهمية. عافانا الله وسائر المسلمين مما ابتلاه به)([94])

لكن بما أن ابن حجر هو الذي قال هذا، فقد عفي عنه، وتساهلوا معه.. ولست أدري كيف، ولا بأي نص، ولا بأي عذر.

وقال الشبل ردا على تأويل ابن حجر للخلة ([95]): (إطلاق الخلة وهي أعلى درجات المحبة على الله صحيح وعلى الحقيقة اللائقة بالله، كما في صريح القرآن والسنة. وهي صفة ثابتة لائقة بالله لا تستلزم تشبيهاً ولا تمثيلاً، بل لله خلة لائقة به كما أن له سمعاً وبصراً وحياة تليق به. ونفي الخلة عن الله هو قول الجهمية عن الجعد، كما قال ابن القيم:

ولأجل ذا ضحى بجعد خالدُ  إذا قال إبراهيمُ ليس خليله

شكر الضحية كلُّ صاحب سنة… قسريُّ يوم ذبائح القربان

كلا ولا موسى الكليم الداني لله درك من أخي قربان)([96])

وإيراد الشبل لهذه الأبيات هنا من عجائب التناقضات، فكيف يستحلون دم امرئ مسلم من أجل مقولة يقبلونها من غيره، بل يثنون عليه، ويثقون فيه.. وللأسف فإن الجعد بن درهم لم يؤلف كتاب فتح الباري، وإلا فإنه لو كان ألفه لكان الذم متوجها إلى خالد القسري لا إليه..

هذه نماذج عن الكيل بالمكاييل المزدوجة في التكفير، وقد رأينا في محال مختلفة أنهم يستعملون لكل شيء موازينه الخاصة.. ولهذا فإن الاضطراب والتشتت واللاعقلانية أكبر ما يميز العقل السلفي والتراث السلفي والإنسان السلفي.

2ـ التكفير بسبب الوقوع في نواقض الإيمان فقهية:

ذكرنا في كتاب [التراث السلفي تحت المجهر] أن التراث السلفي لم يكتف بوضع المسائل النظرية فقط في الجانب العقدي، وإنما أضاف إليها الكثير من المسائل العملية، والتي ترتبط بالفقه، كمسح الخفين، وغيرها.

ومن تلك المسائل التي أولاها السلفية ـ وخاصة أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ اهتماما كبيرا، وكفروا الأمة على أساسها، ما يرتبط بتعظم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصالحين والتوسل والتبرك بآثارهم وزيارة قبورهم ونحو ذلك.

والتي حولها السلفية من قضايا فرعية فقهية ـ مختلف فيها في أحسن الأحوال ـ إلى قضايا أصلية عقدية يعتبر مشركا شركا جليا كل من أقر ذلك أو فعله أو سكت عمن فعله.

وقد سئلت اللجنة الدائمة للفتوى برئاسة ابن باز هذا السؤال: (يقول بعض العلماء (إن التوسل قضية فقهية لا قضية عقيدة) كيف ذلك؟)، فأجابت: (التوسل إلى الله في الدعاء بجاه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو ذاته أو منزلته غير مشروع؛ لأنه ذريعة إلى الشرك، فكان البحث فيه لبيان ما هو الحق من مباحث العقيدة، وأما التوسل إلى الله بأسمائه جل شأنه وبصفاته وباتباع رسوله والعمل بما جاء به من عقيدة وأحكام فهذا مشروع)([97])

بناء على هذا سنسوق هنا بعض النصوص الواضحة في تكفير الشيخ محمد بن عبد الوهاب للأمة جميعا فيما يتعلق بهذا النوع من المسائل، ذلك أن البعض ممن لا يقرؤون، أو لا يستعملون عقولهم عند القراءة يجادلون في ذلك ويشنعون على من يقول به.

فقد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في [كشف الشبهات]: (بيان أن توحيد العبادة هو معنى لا إله إلا الله وأن الكفار في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم كانوا أعرف بمعناها من بعض من يدعي الإسلام وهذا التوحيد هو معنى قولك (لا إله إلا الله) فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكا، أو نبيا، أو وليًّا، أو شجرة، أو قبرا، أو جنيا لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك. وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ (السيد) فأتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي (لا إله إلا الله) والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها. والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – بهذه الكلمة هو (إفراد الله تعالى) بالتعلق و(الكفر) بما يعبد من دونه والبراءة منه، فإنه لما قال صلى الله عليه وآله وسلم قولوا (لا إله إلا الله) قالوا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفرة، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني. والحاذق منهم يظن أن معناه لا يخلق ولا يرزق إلا الله ولا يدبر الأمر إلا الله، فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى (لا إله إلا الله)([98])

فهذه الكلمات الخطيرة تحوي تصريحات بكفر كل الأمة ما عداهم، ذلك أنه يعتبر أن كل متوسل أو متبرك بالقبور والأشجار ونحوها مشركا شركا جليا، بل هو يتهم العلماء بذلك الشرك الجلي.

بل هو يعتبرهم أعداء يدعو لحربهم بكل الوسائل، فيقول: (وجوب التسلح بالكتاب والسنة لدحض شبهات الأعداء إذا عرفت ذلك وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج. فالواجب عليك أن تعلم من دين الله ما يصير سلاحا لك تقاتل به هؤلاء الشياطين.. ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت إلى حجج الله والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء هؤلاء المشركين كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173] فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان)([99])

وهو يشير بقوله هذا، وبكل صراحة لكل علماء عصره ومن سبقهم ممن يقولون بالتوسل والتبرك..  يقول الشيخ حسن بن فرحان المالكي معلقا على النص السابق: (هذا تكفير واضح لعدد كبير من العلماء ويستحيل في العادة أن يوجد مثل هذا العدد الكبير (ألف) من العلماء الكفار في بلد واحد؛ فاعرف هذا فإنه مهم وهو من أدلة من يتهم الشيخ بتكفير من لم يتبعه!! والشيخ وأتباعه يقولون: معاذ الله أن نكفر المسلمين لكن هذا المسلم عند الشيخ له شروط طويلة يختلف فيها مع العلماء قبل العوام ولا تكاد تنطبق إلا على من يقلده ويتبعه)([100])

وبناء على هذا التكفير المطلق نرى ابن عبد الوهاب وأتباع مسيرته التكفيرية يقتدون به في ذلك، فيعممون التكفير على كل بلاد المسلمين ما عدا بلادهم التي يسكنون فيها والتي يسمونها [بلاد التوحيد]

يقول الشيخ حسن بن فرحان المالكي مبينا تاريخ الوهابية بعد ابن عبد الوهاب: (جاء تلاميذ الشيخ ومقلدوه رحمهم الله وسامحهم ليواصلوا التكفير فقالوا بتكفير من وافق أهل بلده في الظاهر وإن كان يرى خطأهم ومحب الشيخ في الباطن، وتكفير قبائل  قحطان والعجمان، وتكفير أهل حايل، وتكفير من خرج إلى البلدان خارج بلدان الدعوة إذا كان يرى إسلام أهل تلك البلدان.. وتكفير أهل مكة والمدينة، وتكفير الدولة العثمانية، بل وتكفير من لا يكفرها! وتكفير الإباضية..)([101])     

ونحب أن ننقل هنا تأكيدا لكلام المالكي من [الدرر السنية في الأجوبة النجدية]، وهو من مصادر السلفية المعتبرة لتضمنه لرسائل الشيخ ابن عبد الوهاب وأبنائه وتلاميذه، ما يدل على تكفيرهم لجميع بلاد العالم الإسلامي ما عدا بلادهم التي يقيمون فيها.

ونبدأ ذلك بتكفيرهم لأهل الحرمين الشريفين مكة والمدينة، فقد ورد في الدرر السنية هذا النص الخطير: (وما ذكرت من جهة الحرمين الشريفين، الحمد لله على فضله وكرمه، حمدا كثيرا كما ينبغي أن يحمد، وعز جلاله، لما كان أهل الحرمين آبين عن الإسلام، وممتنعين عن الانقياد لأمر الله ورسوله، ومقيمين على مثل ما أنت عليه اليوم من الشرك والضلال والفساد، وجب علينا الجهاد بحمد الله فيما يزيل ذلك عن حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من غير استحلال لحرمتهما)([102])

وهكذا نراهم يكفرون الدولة العثمانية، ويكفرون من توقف في تكفيرها، ويكفرون كل من أعانها ووقف معها، ففي [الدرر السنية في الأجوبة النجدية] سئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، عمن لم يكفر الدولة [يقصد الدولة العثمانية في ذلك الحين]، ومن جرهم على المسلمين، واختار ولايتهم وأنه يلزمهم الجهاد معه؛ والآخر لا يرى ذلك كله، بل الدولة ومن جرهم بغاة، ولا يحل منهم إلا ما يحل من البغاة، وأن ما يغنم من الأعراب حرام؟)، فأجاب بقوله: (من لم يعرف كفر الدولة، ولم يفرق بينهم وبين البغاة من المسلمين، لم يعرف معنى لا إله إلا الله،؛ فإن اعتقد مع ذلك: أن الدولة مسلمون، فهو أشد وأعظم، وهذا هو الشك في كفر من كفر بالله، وأشرك به؛ ومن جرهم وأعانهم على المسلمين، بأي إعانة، فهي ردة صريحة. ومن لم ير الجهاد مع أئمة المسلمين، سواء كانوا أبرارا أو فجارا، فهو لم يعرف العقائد الإسلامية، إذا استقام الجهاد مع ذوي الإسلام، فلا يبطله عدل عادل ولا جور جائر؛ والمتكلم في هذه المباحث، إما جاهل فيجب تعليمه، أو خبيث اعتقاد، فتجب منافرته ومباعدته)([103])

ومثله هذا النص الخطير الذين يوزع التكفير على الأمة جميعا: (فلا يعصم دم العبد وماله، حتى يأتي بهذين الأمرين: الأول: قوله: لا إله إلا الله، والمراد معناها لا مجرد لفظها، ومعناها هو توحيد الله بجميع أنواع العبادة.. الأمر الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، والمراد بذلك تكفير المشركين، والبراءة منهم، ومما يعبدون مع الله. فمن لم يكفر المشركين من الدولة التركية، وعباد القبور، كأهل مكة وغيرهم، ممن عبد الصالحين، وعدل عن توحيد الله إلى الشرك، وبدّل سنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالبدع، فهو كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم، ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين؛ فإن الذي لا يكفر المشركين، غير مصدق بالقرآن، فإن القرآن قد كفر المشركين، وأمر بتكفيرهم، وعداوتهم وقتالهم قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله في نواقض الإسلام (من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (من دعا علي بن أبي طالب، فقد كفر، ومن شك في كفره، فقد كفر.. الأمر الثالث: مما يوجب الجهاد لمن اتصف به: ظاهرة المشركين، وإعانتهم على المسلمين، بيد أو بلسان أو بقلب أو بمال، فهذا كفر مخرج من الإسلام، فمن أعان المشركين على المسلمين، وأمد المشركين من ماله، بما يستعينون به على حرب المسلمين اختيارا منه، فقد كفر)([104])

بل إن أتباع ابن عبد الوهاب لم يرحموا حتى أولئك الذين يحبونهم ويوالونهم من أهل الحجاز أواليمن أوالشام أو غيرها ما دام حبهم لم يخرج إلى الخارج، ولم يظهر في الواقع، فقد ورد في الدرر السنية هذه الرسالة من الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: (اعلم، رحمك الله: أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم، خوفاً منهم ومداراة لهم، ومداهنة لدفع شرهم، فإنه كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين؛ هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك، فكيف إذا كان في دار منعة واستدعى بهم، ودخل في طاعتهم وأظهر الموافقة على دينهم الباطل، وأعانهم عليه بالنصرة والمال ووالاهم، وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين، وصار من جنود القباب والشرك وأهلها، بعد ما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله؟ فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر، من أشد الناس عداوة لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ولا يستثنى من ذلك إلا المكره، وهو الذي يستولي عليه المشركون، فيقولون له: اكفر، أو افعل كذا وإلا فعلنا بك وقتلناك، أو يأخذونه فيعذبونه حتى يوافقهم، فيجوز له الموافقة باللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان. وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلاً: أنه يكفر، فكيف بمن أظهر الكفر خوفاً وطمعاً في الدنيا)([105])

بل لم يرحم السلفية وأتباع ابن عبد الوهاب وتلاميذه حتى أولئك الذين يقيمون معهم، ويعتقدون بمعتقداتهم، ولكنهم يجمعون معها اعتقادهم بإسلام غيرهم من المسلمين، ففي الدرر السنية: (.. من يسافر إلى بلاد المشركين للتجارة، ويرجع إلى بلده في المسلمين، فهؤلاء قسمان أيضا: قسم ينزه دينه عن الصلاة وراء أئمتهم، ولا يأكل ذبحهم، ولا يركن إليهم بالمودة ولين الكلام، ويكفرهم، ولا يسلم عليهم، فهذا لا يعادى ولا يهجر، لأن بعض الصحابة سافر، ودخل بلاد الشرك للتجارة. والقسم الثاني: من يسافر إليهم، ويعتقد إسلامهم، وربما فضلهم على المسلمين، فهذا له حكم هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [النساء: 51-52]. وهذا يوجد من كثير، يفضل أهل الشرك، ويجادل عنهم، فهذا تجب عداوته وهجره. وما أكثر هذا الضرب في الناس! فإنه يعاقب بالطبع على قلبه، حتى لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، بل تراه كالمنافقين الذين قال الله فيهم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67]. ومن تدبر الكتاب والسنة، عرف ذلك. وأكثر الناس يتعصب لأهل الباطل، إما لأجل دنيا أو رياسة أو قرابة.. والفقيه الذي ينزل نصوص الكتاب والسنة على الواقع، فينفذ الحكم فيهم على وفق النص، ولا يقدم عادة الناس أو حظوظ نفسه، أو الخوف من أذاهم، فيداهن في دين الله فيهلك مع الهالكين)([106])

وبناء على هذا نرى الكتب والرسائل التي تؤرخ للوهابية تعتبر كل من خالف ابن عبد الوهاب مرتدا، فقد ورد في الدرر السنية: (وسئل أيضا: شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، لما ارتد طائفة من أهل العيينة، ولما ارتد أهل حريملاء أن يكتب كلاما ينفع الله به.فأجاب..)([107])،  وما أجاب به طبع في رسالة تلقى أهمية كبيرة لدى السلفية اسمها [مفيد المستفيد في حكم تارك التوحيد]

وهكا يذكر ابن غنام في [تاريخ نجدلابن غنام]، وهو الكتاب الذي أرخ للدعوة الوهابية: (وفي شوال من هذه السنة 1165هـ ارتد أهل حريملاء.. وفي أواخر هذه السنة 1166هـ ارتد أهل منفوحة)([108])

ولم يكتف السلفية من أتباع ابن عبد الوهاب بتكفير عامة الناس من أهل البلاد المختلفة، بل راحوا يكفرون علماء الأمة الكبار الذين عاصروهم، واعتبروهم علماء شرك، وقدوتهم في ذلك شيخهم النجدي محمد بن عبد الوهاب الذي صرح في مواضع كثيرة من رسائله وكتبه بتكفير علماء عصره، ومن ذلك قوله: (فاعلم: أن الكلام في هذه المسألة سهل على من يسره الله عليه، بسبب أن علماء المشركين اليوم، يقرون أنه الشرك الأكبر، ولا ينكرونه..وجواب هؤلاء كثير، في الكتاب والسنة، والإجماع؛ ومن أصرح ما يجابون به: إقرارهم في غالب الأوقات أن هذا هو الشرك الأكبر؛ وأيضا: إقرار غيرهم من علماء الأقطار، من أن أكثرهم قد دخل في الشرك، وجاهد أهل التوحيد)([109])

ومثله قوله في كشف الشبهات: (الرد على أهل الباطل إجمالا وتفصيلا، وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جوابا لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا)([110])

وهو يقصد بالمشركين الذين احتجوا عليه علماء الأمة من جميع المذاهب الفقهية، والذين اجتمعوا على الرد على تلك الأحكام المتشددة التي وقفها هو وسنده من آل سعود، وألفوا الكتب في ذلك.

وقد قال الشيخ حسن بن فرحان المالكي تعليقا على ذلك النص: (يا ترى من هم هؤلاء المشركون الذين يغوصون في أدلة الكتاب والسنة مع فصاحة وعلم وحجج؟! أليسوا علماء مختلفين معه في دعوى كفر مخالفيه من علماء وعوام؟ لا ريب أن هذا فيه تكفير صريح للمخالفين له ممن نسميهم (خصوم الدعوة) أو (أعداء التوحيد) أو (أعداء الإسلام)، وهذا ظلم، لأن الشيخ كان يرد على مسلمين ولم يكن يرد على كفار ولا مشركين، وهذه رسائله وكتبه ليس فيها تسمية لمشرك ولا كافر وإنما فيها تسمية لعلماء المسلمين في عصره كابن فيروز، ومربد التميمي، وابني سحيم سليمان وعبد الله، وعبد الله بن عبد اللطيف، ومحمد بن سليمان المدني، وعبد الله بن داود الزبيري، والحداد الحضرمي، وسليمان بن عبد الوهاب، وابن عفالق، والقاضي طالب الحميضي، وأحمد بن يحي، وصالح بن عبد الله، وابن مطلق، وغيرهم من العلماء الذين يطلق عليهم (المشركون في زماننا)([111])

وقد ذكر الشيخ المالكي ـ وهو الذي تربى في مدارس الوهابية ـ استمرار هذا السيل من التكفير من لدن أتباع ابن عبد الوهاب إلى وقتنا المعاصر، فقال: (وقد استمر علماء الدعوة بعده في تكفير أو تبديع يكاد يصل للتكفير لعدد آخر من علماء المسلمين –أخطأوا ولم يكفروا- في عهد الدولة السعودية الثانية كابن سلوم وعثمان بن سند وابن منصور وابن حميد وأحمد بن دحلان المكي وداود بن جرجيس وغيرهم.. وفي القرن الرابع عشر الهجري استمر تكفيرنا وتبديعنا لعلماء معاصرين – أخطأوا كما نخطيء ولم يكفروا- كالكوثري، والدجوي، وشلتوت، وأبي زهرة، والغزالي، والقرضاوي، والطنطاوي، والبوطي، والغماري، والكبيسي، وغيرهم، ولو نستطيع لقلنا عنهم (المشركون في زماننا) وقد قيل!!)([112])

وقد أشار الشيخ المالكي إلى أن الحائل دون الهيئات الرسمية من علماء السعودية وغيرها وتكفير كل من عداهم من الأمة هو السلطة السياسية التي لا ترغب في المزيد من الصراعات، ولذلك توظف ما تشاء من تلك التكفيرات مع من تراهم معادين لها فقط دون غيرهم، فقال: (من المؤسف أنه لا يوقف تكفيرنا وتبديعنا للآخرين إلا السلطة أو العجز،  ولولاهما لما أبقينا أحداً إلا وصمناه بكفر أو بدعة مكفرة! مع أن الواجب أن يكون هذا التورع عن التكفير والتبديع من العلماء لا من الحكام، وفي كل الأوقات لا وقت العجز، لأن العلماء يعرفون عظمة حق المسلم وتحريم دمه وماله وعرضه)([113])

وقد أشار الصنعاني صاحب سبل السلام ـ وهو من المعاصرين لحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ إلى تلك التكفيرات الكثيرة التي كانت توزع على الأمة جميعا، وما يتبعها من السلب والنهب والقتل، فقال: (..وكان قد تقدمه في الوصول إلينا بعد بلوغها الشيخ الفاضل عبد الرحمن النجدي، ووصف لنا من حال ابن عبد الوهاب أشياء أنكرناها، من سفك الدماء، ونهبه الأموال، وتجاريه على قتل النفوس ولو بالاغتيال، وتكفير الأمة المحمدية في جميع الأقطار، فبقي معنا تَرَدُّدٌ فيما نقله الشيخ الفاضل عبد الرحمن، حتى وصل الشيخ العالم مربد بن أحمد وله نباهة، ووصل ببعض رسائل ابن عبد الوهاب التي جمعها في وجه تكفيره أهل الإيمان، وقتلهم ونهبهم، وحقق لنا أقواله وأفعاله وأحواله، فرأينا أحواله أحوال رجل عرف من الشريعة شطرا، ولم يمعن النظر، ولا قرأ على من يهديه نهج الهداية، ويدله على العلوم النافعة ويفقهه فيها…ولما حقق لنا أحواله، ورأينا في الرسالة أقواله، وذكر لي أنه إنما عَظُمَ شأنه بوصول الأبيات التي وجهنا إليه، وأنه يتعين علنيا نقض ما قدمناه، وحَلُّ ما أبرمناه)([114])

ومثله صرح  الشوكاني ـ وهو ممن يثق فيه السلفية ويعتمدون على كتبه، مثله مثل الصنعاني ـ فقد قال: (ولكنهم يرون أن من لم يكن داخلا تحت دولة صاحب نجد وممتثلا لأوامره خارج عن الإسلام، ولقد أخبرنى أمير حجاج اليمن السيد محمد بن حسين المراجل الكبسى أن جماعة منهم خاطبوه هو ومن معه من حجاج اليمن بأنهم كفار وأنهم غير معذورين عن الوصول إلى صاحب نجد لينظر في إسلامهم فما تخلصوا منه إلا بجهد جهيد)([115])

ونحب أن نشير هنا من باب المثال والنموذج إلى العلماء الذين قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بتكفيرهم صراحة، بما ادعاه عليهم من الوقوع في الشرك الجلي، ويمكن أن يقاس عليهم غيرهم ممن هم مثلهم من جميع علماء الأمة، وما أكثرهم، بل كل العلماء في ذلك الحين وفي أحيان كثيرة من التاريخ كانوا على تلك الشاكلة، يقولون بالتوسل والتبرك وغيرها مما يعتبرها الوهابية شركا جليا.

فمن هؤلاء العلماء العلامة الكبير محمد بن فيروز الحنبلي، الذين لم تشفع له حنبليته عند الوهابية، فقد قال فيه الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (.. وأيضا مكاتيب أهل الأحساء موجودة، فأما ابن عبد اللطيف، وابن عفالق، وابن مطلق، فحشو بالزبيل أعني: سبابة التوحيد، واستحلال دم من صدق به، أو أنكر الشرك؛ ولكن تعرف ابن فيروز، أنه أقربهم إلى الإسلام، وهو رجل من الحنابلة، وينتحل كلام الشيخ وابن القيم خاصة، ومع هذا صنف مصنفا أرسله إلينا، قرر فيه: أن هذا الذي يفعل عند قبر يوسف وأمثاله، هو الدين الصحيح، واستدل في تصنيفه بقول النابغة:

أيا قبر النبي وصاحبيه   ووامصيبتنا لو تعلمونا

وفي مصنف ابن مطلق الاستدلال بقول الشاعر:

وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة   سواك بمغن عن سواد بن قارب

ولكن الكلام الأول، أبلغ من هذا كله، وهو شهادة البدو، والحضر، والنساء والرجال، أن هؤلاء الذين يقولون: التوحيد دين الله ورسوله، ويبغضونه أكثر من بغض اليهود والنصارى، ويسبونه، ويصدون الناس عنه، ويجاهدون في زواله وتثبيت الشرك، بالنفس والمال، خلاف ما عليه الرسل وأتباعهم، فإنهم يجاهدون {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193])([116])

وصرح بذلك في موضع آخر، فقال في رسالة كتبها إلى أحمد بن عبد الكريم جاء فيها: (..وصل مكتوبك تقرر المسألة التي ذكرت، وتذكر أن عليك إشكالا تطلب إزالته، ثم ورد منك مراسلة، تذكر أنك عثرت على كلام للشيخ أزال عنك الإشكال، فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام. وعلى أي شيء يدل كلامه، من أن من عبد الأوثان عبادة أكبر من عبادة اللات والعزى، وسب دين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعدما شهد به، مثل سب أبي جهل، أنه لا يكفر بعينه. بل العبارة صريحة واضحة، في تكفيره مثل ابن فيروز، وصالح بن عبد الله، وأمثالهما، كفرا ظاهرا ينقل عن الملة، فضلا عن غيرهما؛ هذا صريح واضح، في كلام ابن القيم الذي ذكرت، وفي كلام الشيخ الذي أزال عنك الإشكال، في كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف وأمثاله، ودعاهم في الشدائد والرخاء، وسب دين الرسل بعدما أقر به، ودان بعبادة الأوثان بعدما أقر بها)([117])

ونلاحظ ان ابن عبد الوهاب يضيف ـ كالسلفية سلفهم وخلفهم ـ ناقضا جديدا للإيمان، يسمونه [سب دين الرسل]، وهم يقصدون منه انتقاد السلفية أو أهل الحديث.. لأنهم يعتبرون أنفسهم الممثل الشرعي الوحيد للإسلام، بل للرسل جميعا.. ولذلك لهم الحق في أن ينتقدوا العالم أجمع، ولا يحق لأحد أن ينتقدهم، ومن تجرأ وفعل صار كافرا، بل أكفر من اليهود والنصارى، لأن اليهود والنصارى لا يعرفون أهل الحديث، ولا ينتقدونهم.

ونحب أن نذكر هنا ترجمة مختصرة لابن فيروز ننقلها من كتاب من كتب الحنابلة، حتى نعرف مدى الجرأة التي كان يمتلكها ابن عبد الوهاب وغيره من السلفية.

فقد قال ابن حميد المكي في كتابه  [السحب الوابلة على أضرحة الحنابلة]: (محمد بن عبد الله بن محمد بن فيروز، التميمي،الأحسائي، العلامة الفهامة،كاشف المعضلات، وموضح المشكلات،و محرر أنواع العلوم، ومقرر المنقول والمعقول، بالمنطوق والمفهوم.. وضع الله فيه من سرعة الفهم وقوة الإدراك وبطء النسيان وشدة الرغبة والحرص والفتوح الباطنة والظاهرة ما يتعجب منه فحفظ القرآن وهو صغير، وحفظ كثيراًً من الكتب منها: مختصر المقنع في الفقه وألفية العراقي في المصطلح وألفية ابن مالك في النحو.. كأن العلوم نصب عينيه أخذ الحديث عن علماء عصره وكذا الفقه والنحو والمعاني والبيان وسائر الفنون وأجازوه بإجازات مطولة ومختصرة وأثنوا عليه الثناء البليغ، ومهر في جميع هذه الفنون وتصدر للتدريس في جميعها وأفتى في حياة شيوخه وكتبوا على أجوبته وفتاواه بالمدح والثناء.. ونفع الله به نفعاًً جماًً، وصار يرحل إليه من جميع الأقطار حتى أنه يجتمع عنده من الطلبة نحو الخمسين وكان يقو م بكفاية أكثرهم ويتفقد أمورهم في جميع ما يلزم لهم كأنهم أولاد صلبه ولا يمَكِّن أحداًً ممن يأتي عنده من الأجانب لطلب العلم أن ينفق من كيسه ولو كان غنيا ويقول: (من لم ينتفع بطعامنا لا ينتفع بكلامنا)، فوضع الله له القبول في أقطار الأرض وكاتبه علماء الآفاق من البلاد الشاسعة والمدائح وطلب الإجازات والدعاء، ونجب خلق ممن قرأ عليه فكان أهل البلدان يأتون إليه ويطلبون أن يرسل معهم واحدا منهم يفقههم في الدين ويعظهم ويقضي ويدرس ويصلي بهم ويخطب فيرسل معهم من استحسن فلا يخالفه التلميذ في شيء أصلا بل كانت الطلبة يمتثلون منه أدنى إشارة ويعدونها أسنى بشارة.. وكان رحمه الله كثير العبادة والذكر، سخي النفس كثير الصدقات ولا يرد مسكينا وثب إليه وكان يدان على ذمته ويتصدق وعذل في ذلك فلم يلتفت لعاذله ويأتيه رزقه من حيث لم يحتسب، عليه أنوار زاهرة وآثار للعلم والصلاح ظـاهرة، له حظ من قيام الليل، مهيبا معظما عند الملوك فمن دونهم مقبول الكلـمة نافـذ الإشـارة، لا يخاف في الله لومة لائم)([118]) إلى آخر ما ورد في ترجمته، والتي تظهره مكانته الكبيرة في ذلك العصر، بالإضافة لعلمه وخلقه وتدينه.. ولكن كل ذلك لم يجعل لحمه مسموما يحرم التعرض له، كما يذكر السلفية عندما ينتقد أي علم من أعلامهم، وليتهم اكتفوا بنقده، بل أضافوا إلى ذلك تكفيره.

ولا يزال السلفية المعاصرون يصرون على ما قال شيخهم، ويدافعون عنه، وقد قال بعضهم في تبرير تكفير الشيخ لابن فيروز: (ولكن هذا الخصم – محمد بن فيروز – قد بلغت محاربته ومناهضته لهذه الدعوة حداً لا يوصف، لذا مدحه أحد خصوم هذه الدعوة وهو الحداد، حيث قال مادحاً لابن فيروز: (ولله در الشيخ محمد بن عبد الله بن فيروز الحنبلي لما قام مجتهداً ابتغاء مرضاة الله في إطفاء بدعة هذا الخبيث، كلما رأى وجهاً لبعض أهل المذاهب الأربعة، تبع ذلك الوجه إذا كان مخالفاً لما يعلمه أو يقوله ابن عبد الوهاب البدعي)(3)، وبلغ من كيد ابن فيروز أنه – كما قال ابن حميد في السحب الوابلة – (كاتب السلطان عبد الحميد خان يستنجده على قتال البغاة الخارجين بنجد)([119])  

ومن العلماء الذين صرح ابن عبد الوهاب بتكفيرهم العلامة الجليل عبد الله بن عيسى المويس (ت 1175هـ)، فقد قال ابن عبد الوهاب في بعض رسائله: (وتذكرون: أني أكفّرهم بالموالاة، وحاشا وكلا؛ ولكن أقطع: أن كفر من عبد قبة أبي طالب، لا يبلغ عشر كفر المويس وأمثاله)([120])

فهو في هذا النص لا يكفر الشيخ المويس فقط، بل يكفر كل من تبكر بقبة أبي طالب التي هدمها الوهابية، وتصوروا أنهم بهدمها هدموا اللات والعزى.

وهكذا صرح مرة أخرى، فقال: (إذا عرف ما فعل المويس وأمثاله، مع قبة الكواز وأهلها، وما فعله هو، وابن إسماعيل، وابن ربيعة، وعلماء نجد في مكة سنة الحبس، مع أهل قبة أبي طالب، وإفتائهم بقتل من أنكر ذلك، وأن قتلهم وأخذ أموالهم، قربة إلى الله، وأن الحرم الذي يحرم اليهودي، والنصراني، لا يحرمهم ثم تفكر في الأحياء الذين صالوا معهم، هل تابوا من فعلهم ذلك وأسلموا، وعرفوا أن عشر معشار ما فعلوه ردة عن الإسلام، بإجماع المذاهب كلها)([121])

وهو يقصد هنا فتاوى العلماء من غير الوهابية للبلاد التي يسكنون فيها بالدفاع عن أنفسهم وبلادهم وآثارهم من هجمات الوهابيين، والتي اعتبرها ابن عبد الوهاب ردة، بل اعتبر أنه يكفي عشر ما فعلوه ليتهموا بالردة.. فكفرهم ـ كما يصرح ـ مضاعف.

وقد قال في بيان ذلك في موضع آخر: (فإذا أردت مصداق هذا، فتأمل باب حكم المرتد في كل كتاب، وفي كل مذهب، وتأمل ما ذكروه في الأمور التي تجعل المسلم مرتدا يحل دمه وماله؛ منها: من جعل بينه وبين الله وسائط، كيف حكى الإجماع في الإقناع على ردته؛ ثم تأمل ما ذكروه في سائر الكتب. فإن عرفت أن في المسألة خلافا، ولو في بعض المذاهب، فنبهني؛ وإن صح عندك الإجماع على تكفير من فعل هذا، أو رضيه، أو جادل فيه، فهذه خطوط المويس، وابن إسماعيل، وأحمد بن يحيى، عندنا، في إنكار هذا الدين، والبراءة منه، ومن أهله؛ وهم الآن مجتهدون في صد الناس عنه)([122])، فقد اعتبر مجرد ردود العلماء على الوهابية، وإنكارهم لتكفيرهم للأمة إنكارا للدين نفسه.

وهكذا ذكر الدكتور عبد الله العثيمين في تحليله لرسائل ابن عبد الوهاب الشخصية، أن العلماء الذين واجهوه وانتقدوه كانوا كلهم محل طعن منه بسبب هذا الموقف، فقال(واضح من رسائل الشيخ (الشخصية) أن دعوته لقيت معارضة شديدة من قبل بعض علماء نجد، فالمتتبع لها يلاحظ أن أكثر من عشرين عالماً أو طالب علم وقفوا ضدها في وقت من الأوقات، ويأتي في مقدمة هؤلاء المعارضين عبد الله المويس من حرمة، وسليمان بن سحيم من الرياض، ويستفاد من هذه الرسائل أن معارضي الشيخ من النجديين كانوا مختلفي المواقف، فمنهم من عارضه واستمر في معارضته مثل المويس، ومنهم من كان يعترف في بداية الأمر بأن ما جاء به الشيخ أو بعضه حق، لكنه غيّر موقفه مع مرور الزمن مثل ابن سحيم، ومنهم – أيضاً – من كان متأرجحاً في تأييده ومعارضته مثل عبد الله بن عيسى)(1)

ونحب أن نذكر هنا كما ذكرنا سابقا أن هذا العلامة الجليل الذين ناله سيف التكفير السلفي لم يكن من الهند أو من مصر، بل كان من علماء نجد التي كان ينتشر فيها المذهب الحنبلي، والذي لم يرحمه السلفية كما لم يرحموا سائر المذاهب، فقد ورد في ترجمته في كتاب [علماء نجد للبسام]: (عبد الله بن عيسى الشهير بالمويسي -تصغير موسى- ولد في بلدة حرمة من إحدى بلدان سدير في نجد، ونشأ فيها وقرأ على مشايخ نجد، ثم ارتحل إلى دمشق للأخذ عن علمائها فأخذ عنهم، ومن أشهرهم العلامة محمد السفاريني المشهور.. وجد واجتهد حتى مهر في الفقه ثم عاد إلى وطنه..و المترجم بعد عودته من دمشق جلس في بلاده يفتي ويدرس وصار معتمد أهل بلده، ثم ولي قضاء بلدة حرمة إحدى بلدان سدير، فمكث في قضائها حتى توفي فيها سنة 1175هـ)([123])

ولا زال السلفية إلى اليوم يصرون على تكفير هذا العلم الجليل مع أن أقواله وآراءه التي كفر على أساسها لا تختلف عن سائر أقوال وآراء كل العلماء من المذاهب الأربعة وغيرهم.. فكيف بعد ذلك يذكرون أنهم لا يكفرون.. وهل يصح أن يكفر شخص لسبب، ثم يعفى عن آخر يرتكب نفس السبب؟.. وهل هذا الأمر دين، أم أنه مزاج شخصي، فيكفرون من شاءوا، متى شاءوا، ويسكتون على من شاءوا متى شاءوا؟

ومن الأمثلة على ذلك قول الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف، وهو عندهم من المعتدلين، بل من المميعين للمنهج السلفي ـ كما يذكرون ـ فقد قال في كتابه الذي خصصه للدفاع عن ابن عبد الوهاب: (ومن أشد خصوم هذه الدعوة وأكثرهم عناداً ومناهضة، عبد الله بن عيسى المويس (ت 1175هـ)، ومعاداته وخصومته ظاهرة جلية – من خلال رسائل الشيخ.. يقول ابن حميد في (السحب الوابلة)(وكان ممن أنكر على ابن عبد الوهاب وعلى أتباعه في ابتداء دعوتهم)([124])

وهذا تبرير عجيب، فهل أصبحت كتابة الكتب والرسائل التي تنتصر لعامة المسلمين، وتبين أن ما هم فيه ليس شركا، تهمة تصل بصاحبها إلى الشرك والردة.. فما دام الأمر كذلك، فلم يتوقف هذا الكاتب نفسه عن تكفير من عداه من العلماء، وقد وقعوا في نفس ما وقع فيه.. ولكن التقية تدعوهم إلى ذلك، وإلا فإنهم في قرارة نفوسهم وفي بطون كتبهم وفي خطبهم ودروسهم ومقرراتهم ليسوا سوى مكفرة لكل الأمة من دون اسثناء..

ومن الأعلام الذين نص ابن عبد الوهاب على تكفيره لهم الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن عفالق  (ت 1164هـ)، وقد كان من كبار العلماء في ذلك الوقت، وكان ماهرا ـ كما يذكر مترجموه ـ  (في الفقه والأصول والعربية وعلم الحساب والهيئة وتوابعها، واشتهر بتحقيق علم الفلك وتدقيقه في عصره فما بعده، وألف فيه التآليف البديعة.. وكان عالما عاملا فاضلا كاملا محققا ماهرا)([125])

وسبب تكفيره له كما يذكر السلفية المعاصرون ـ في دفاعهم عن ابن عبد الوهاب ـ هو (رسالة وجهها إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكان عنوانها (تهكم المقلدين في مدعي تجديد الدين)، وقد تضمنت هذه الرسالة أسئلة تعجيزية تهكمية، وبأسلوب يحمل طابع التحدي والغرور، وقد قصد بها ابن عفالق الطعن والتوهين في محمد بن عبد الوهاب، والنيل منه والاستخفاف به – كما هو ظاهر في هذه الرسالة -، كما أن هذه الأسئلة – من خلال الاطلاع عليها – ليست وكذا الجواب عليها من أصول العلم وواجباته، بل أقرب ما تكون إلى فضول العلم وترفه.. ومن هذه الأسئلة – المترفة – التي وجهها ابن عفالق إلى الشيخ لكي يجيب عليها، قول ابن عفالق: (وبعد فأسألك عن قوله تعالى: {والعاديات …C إلى آخر السورة هي من قصار المفصل كم فيها من حقيقة شرعية وحقيقة لغوية وحقيقة عرفية، وكم فيها من مجاز مرسل ومجاز مركب، واستعارة تحقيقية، واستعارة وثاقية واستعارة عنادية واستعارة عامية واستعارة خاصية واستعارة أصلية واستعارة تبعية واستعارة مطلقة واستعارة مجردة واستعارة مرشحة وموضع الترشيح والتجريد فيها وموضع الاستعارة بالكناية والاستعارة التخيلية وما فيها من التشبيه الملفوف والمفروق والمفرد والمركب والتشبيه المجمل والمفصل. إلى آخر هذه الأسئلة)، كما ألفّ ابن عفالق رسالة وجهها إلى عثمان بن معمر أمير العيينة يشككه في دعوة الشيخ، ويطعن فيها حتى يتخلى عثمان عن نصرتها – في بادئ الأمر -، وادعى ابن عفالق أن ابن عبد الوهاب خالف ابن تيمية وابن القيم في مسائل التوحيد، وقد كتب ابن معمر رداً على رسالة ابن عفالق يذكر موافقته لدعوة الشيخ، مما جعل ابن عفالق يكتب جواباً عن رسالة ابن معمر وقد شنّع في هذا الجواب على الشيخ الإمام وابن معمر، ورماهما بتكفير المسلمين وتضليلهم، ويظهر من هذه الرسالة إلحاح ابن عفالق في إقناع ابن معمر بترك نصرة الشيخ)([126])

وقد أثارت كل هذه التحديات ابن عبد الوهاب الذي كفره في مواضع من رسائله، ومنها قوله فيه: (فأما ابن عبد اللطيف، وابن عفالق، وابن مطلق، فحشو بالزبيل أعني: سبابة التوحيد، واستحلال دم من صدق به، أو أنكر الشرك)([127])

وهكذا نرى ابن عبد الوهاب يكفر علما آخر لا يقل عن العلمين السابقين، وهو من نجد أيضا، وقد أخذته الغيرة على أعراض المسلمين التي أصبحت منتهكة بسبب أحكام ابن عبد الوهاب وعصابته عليهم، وهو سليمان بن سحيم (ت 1181هـ)، والذي ذكره الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف ـ السلفي المعتدل ـ أثناء تبريره لجرائم ابن عبد الوهاب، فقال: (سليمان بن سحيم.. عداوته ظاهرة وواضحة كما في الرسائل الشخصية للشيخ الإمام أثناء الرد على مفترياته.. وقد كانت رسالته المملوءة بالأكاذيب والشبهات ضد الدعوة السلفية، من أشد الوسائل تشويهاً للدعوة، وأشنعها تحريفاً وتزويراً لمبادئ هذه الدعوة ولأتباعها، حيث أن هذا الخصم قد بعث بتلك الرسالة إلى سائر علماء الأقطار والأمصار يستحثهم ويحرضهم ضد مجدد هذه الدعوة، ولقد كان لها آثارها وأصداءها السيئة ضد الدعوة ومجددها)([128])

فهذا الموقف النقدي الطبيعي من ابن سحيم جعل ابن عبد الوهاب يشن حملة شديدة عليه، كما جعل خلفه من السلفية المعاصرين يعتبرونه مثل أبي لهب وأبي جهل، لأنهم يعتبرون ابن عبد الوهاب هو الرسول بعد الرسول، فحكم من خالفه كحكم من خالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.

ومن الأمثلة على تلك الحملة ما ورد في الدرر السنية تحت عنوان: [رد ما صنفه ابن سحيم من الكفر والسب والتهورات]([129])، وهو نص طويل ننقله ببعض التصرف لنتبين مظان التكفير الوهابي، ونرى مدى انطباقها بعد ذلك على سائر علماء الأمة.

وقد بدأ ابن عبد الوهاب تكفيره للشيخ بقوله: (يعلم من يقف عليه: أني وقفت على أوراق، بخط ولد ابن سحيم، صنفها يريد أن يصد بها الناس عن دين الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، فأردت أن أنبه على ما فيها، من الكفر الصريح، وسب دين الإسلام، وما فيها من الجهالة التي يعرفها العامة)([130])

فقد اعتبر ابن عبد الوهاب ردود الشيخ عليه ونقده له ردودا على دين الإسلام وعلى شهادة أن لا إله إلا الله، مع أن الشيخ ابن سحيم علم من أعلام المسلمين، وصاحب مؤلفات ومصنفات، ومع ذلك صار عنده من المحاربين للإسلام، ولشهادة التوحيد.

ثم أخذ ابن عبد الوهاب يذكر المبررات التي جعلته يتناوله بسيف تكفيره، فقال: (الأول: أنه صنف الأوراق يسبنا، ويرد علينا في تكفير كل من قال لا إله إلا الله، وهذا عمدة ما يشبه به على الجهال وعقولها؛ فصار في أوراقه يقول: أما من قال لا إله إلا الله لا يكفر ومن أم القبلة لا يكفر، فإذا ذكرنا لهم الآيات التي فيها كفره وكفر أبيه، وكفر الطواغيت، يقول: نزلت في النصارى، نزلت في الفلاني.. الثاني: أنه ذكر في أوراقه، أنه لا يجوز الخروج عن كلام العلماء، وصادق في ذلك؛ ثم ذكر فيها كفر القدرية، والعلماء لا يكفرونهم، فكفر ناسا لم يكفروا، وأنكر علينا تكفير أهل الشرك.. الثالث: أنه ذكر معنى التوحيد: أن تصرف جميع العبادات، من الأقوال والأفعال لله وحده، لا يجعل فيها شيء، لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل؛ وهذا حق. ثم يرجع يكذب نفسه، ويقول: إن دعاء شمسان وأمثاله في الشدائد، والنذر لهم، ليبرؤوا المريض، ويفرجوا عن المكروب، الذي لم يصل إليه عبدة الأوثان، بل يخلصون في الشدائد لله، ويجعل هذا ليس من الشرك، ويستدل على كفره الباطل، بالحديث الذي فيه: (إن الشيطان يئس أن يعبد في جزيرة العرب).. الرابع: أنه قسم التوحيد إلى نوعين، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية؛ ويقول: إن الشيخ بين ذلك؛ ثم يرجع يرد علينا في تكفير طالب الحمضي، وأمثاله، الذين يشركون بالله في توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، ويزعمون أن حسينا، وإدريس، ينفعون ويضرون، وهذه الربوبية؛ ويزعم أنهم ينخون ويندبون، وهذا توحيد الألوهية.. الخامس: أنه ذكر في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أنها كافية في التوحيد؛ فوحد نفسه في الأفعال، فلا خالق إلا الله، وفي الألوهية، فلا يعبد إلا إياه، وبالأمر والنهي، فلا حكم إلا لله؛ فيقرر هذه الأنواع الثلاثة، ثم يكفر بها كلها، ويرد علينا؛ فإذا كفّرنا من قال: إن عبد القادر، والأولياء، ينفعون ويضرون، قال: كفّرتم أهل الإسلام، وإذا كفّرنا من يدعو شمسان، وتاجا، وحطابا، قال: كفرتم أهل الإسلام؛ والعجب: أنه يقول: إن من التوحيد توحيد الله بالأمر والنهي، فلا حكم إلا لله، ثم يرد علينا إذا عملنا بحكم الله، ويقول: من عمل بالقرآن كفر، والقرآن ما يفسر.. السادس: أنه ينهى عن تفسير القرآن، ويقول: ما يعرف، ثم يرجع يفسره في تصنيفه، ويقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيها كفاية، فلما فسرها كفر بها.. السابع: أنه ذكر أن التوحيد له تعلق بالصفات، وتعلق بالذات؛ وقبل ذلك قد كتب إلينا: أن التوحيد في ثلاث كلمات: إن الله ليس على شيء، وليس في شيء، ولا من شيء؛ فتارة يذكر: أن التوحيد إثبات الصفات، وتارة يذكر ذلك، ويقول: التوحيد نفي الصفات.. الثامن: أنه ذكر آيات في الأمر بالتوحيد، وآيات في النهي عن الشرك، ثم قال: المراد بهذا الشرك، في هذه الآيات والأحاديث. الشرك الجلي، كشرك عباد الشمس، لا على العموم، كما يتوهمه بعض الجهال، فصرح: بأن مراد الله، ومراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يدخل فيه إلا عبادة الأوثان، وأن الشرك الأصغر لا يدخل فيه، ويسمى الذين أدخلوه فيه الجهال، ثم في آخر الصفح بعينه، قال: وقد يطلق الشرك بعبارات أخر؛ وكل ذلك في قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}؛ فرد علينا في أول الصفح، وكذب على الله ورسوله، في أن معنى ذلك بعض الشرك، ثم رجع يقرر ما أنكره، ويقول: إن الشرك الأكبر والأصغر، داخل في قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}..  التاسع: أنه ذكر أن الشرك أربعة أنواع: شرك الألوهية، وشرك الربوبية، وشرك العبادة، وشرك الملك؛ وهذا كلام من لا يفهم ما يقول، فإن شرك العبادة هو شرك الإلهية، وشرك الربوبية هو شرك الملك.. العاشر: أنه قال في مسألة الذبح والنذر، ومن قال: إن النذر والذبح عبادة، فهو منه دليل على الجهل، لأن العبادة ما أمر به شرعا، من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي؛ لكن البهيم لا يفهم معنى العبادة، فاستدل على النفي بدليل الإثبات..)([131])

إلى آخر المبررات، والتي يعتبرها جميعا نواقض للإيمان، مع كونها قضايا فرعية خلافية بسيطة، ولكن بحكم مستواه العلمي المحدود، وبحكم تعلقه الشديد بابن تيمية صار يعتبرها ضرورات لا ينكرها إلا كافر.

ونحن نطلب من القارئ الكريم أن يتذكر هذه الرسالة جيدا، حتى لا يطالبنا كل حين بذكر كلام السلفية في أي علم من الأعلام نذكر تكفيرهم له.. لأن ابن عبد الوهاب أو السلفية لم يتعرضوا بالتعيين إلا لمن واجههم، أو انتقدهم، أما من عداهم من العلماء في الأزمنة القديمة، أو في الأماكن البعيدة، فإنهم اكتفوا بتكفيرهم تكفيرا مطلقا لا عينينا.

وقد ذكرنا سابقا أن التكفير المطلق كاف لكل عاقل، لأن كل من كفر لسبب من الأسباب، فسيشمل ذلك كل من وقع في ذلك السبب.

ثانيا ـ التكفير المعين:

بناء على ما سبق من تصريحات أعلام السلفية المتقدمين والمتأخرين بتكفير كل من يقع في أحد المكفرات العقدية أو الفقهية التي فصلناها في المبحث السابق، فإننا نحاول هنا أن ننظر في مدى انطباق تلك التكفيرات على المدارس الفقهية الكبرى في الأمة، من المدرسة الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية.

وقبل ذلك نحب أن نذكر هنا تصريحات ونصوصا من علم كبير من أعلام السلفية، ومن أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، تبين وجوب تكفير كل من انطبقت عليه المكفرات بأنواعها المختلفة، وعدم جواز التوقف في ذلك.

وعنوان الرسالة هو [تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة] وهي من تأليف الشيخ المحدث الأصولي: إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.

وهي من جملة رسائل وكتب كثيرة ألفت في الموضوع، لتبرر ما فعله ابن عبد الوهاب من تكفيره للمسلمين وحربه لهم، ومنها [مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد] للشيخ محمد بن عبد الوهاب، و[رسالة الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين] للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين.

وقد ذكر الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ دوافعه لتأليفه الرسالة، فقال: (بلغنا وسمعنا من فريق يدعى العلم والدين وممن هو بزعمه مؤتم بالشيخ محمد بن عبد الوهاب إن من أشرك بالله وعبد الأوثان لا يطلق عليه الكفر والشرك بعينه، وذلك أن بعض من شافهني منهم بذلك سمع من بعض الإخوان أنه أطلق الشرك والكفر على رجل دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستغاث به، فقال له الرجل: لا تطلق عليه الكفر حتى تعرفه، وكان هذا وأجناسه لا يعبأون بمخالطة المشركين في الأسفار وفي ديارهم، بل يطلبون العلم على من هو أكفر الناس من علماء المشركين [وهو أيضاً من الجهمية من علماء مكة([132]) ] وكانوا قد لفقوا لهم شبهات على دعواهم يأتي بعضها في أثناء الرسالة ـ إن شاء الله تعالى ـ وقد غروا بها بعض الرعاع من أتباعهم ومن لا معرفة عنده ومن لا يعرف حالهم ولا فرق عنده ولا فهم. متحيزون عن الإخوان بأجسامهم وعن المشايخ بقلوبهم ومداهنون لهم وقد استَوحشوا واستُوحِش منهم بما أظهروه من الشبه وبما ظهر عليهم من الكآبة بمخالطة الفسقة والمشركين وعند التحقيق لا يكفرون المشرك إلا بالعموم وفيما بينهم يتورعون عن ذلك ثم دبت بدعتهم وشبهتهم حتى راجت على من هو من خواص الإخوان)([133])

  وتحليل هذا النص وحده كاف في الدلالة على تكفير السلفية للأمة جميعا.. فهذا العلم الكبير من أعلام السلفية يصف علماء مكة بالجهمية الكفار.. ويصف عوام الناس من غيرهم بالمشركين.. بل يتهم حتى الموالين لهم بالتذبذب بين الإيمان والكفر بسبب نقص ولائهم وترددهم في تكفير المسلمين بأعيانهم.

ثم ذكر سبب ذلك، فقال: (وذلك والله أعلم بسبب ترك كتب الأصول وعدم الاعتناء بها وعدم الخوف من الزيغ  رغبوا عن رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب – قدس الله روحه – ورسائل بنيه فإنها كفيلة بتبيين جميع هذه الشبه جداً كما سيمر)([134])

وقد أشرنا سابقا إلى ما تحويه تلك الكتب من تكفير مطلق ومعين لكل الناس، وحتى الموالين الذين يترددون حكموا عليهم بالكفر.

ثم بين أن إطلاق الكفر على أوصاف معينة كاف بمفرده للتعيين من دون حاجة لتسمية كل شخص، فقال: (أش ومن له أدنى معرفة إذا رأى حال الناس اليوم ونظر إلى اعتقاد المشايخ المذكورين تحير جداً ولا حول ولا قوة إلا بالله وذلك أن بعض من أشرنا إليه بحثته عن هذه المسألة فقال: نقول لأهل هذه القباب الذين يعبدونها ومن فيها فعلك هذا شرك وليس هو بمشرك، فانظر ترى واحمد ربك واسأله العافية، فإن هذا الجواب من بعض أجوبة العراقي [يقصد داود بن جرجيس الذي رد عليه الشيخ عبد اللطيف في كتابه منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس] التي يرد عليها الشيخ عبد اللطيف وذكر الذي حدثني عن هذا أنه سأله  بعض الطلبة عن ذلك وعن مستدلهم فقال نكفر النوع ولا نعين الشخص إلا بعد التعريف ومستندنا ما رأيناه في بعض رسائل الشيخ محمد – قدس الله روحه – على أنه امتنع من تكفير من عبد قبة الكواز وعبد القادر من الجهال لعدم من ينبهه، فانظر ترى العجب ثم اسأل الله العافية وأن يعافيك من الحور بعد الكور، وما أشبههم بالحكاية المشهورة عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه ذات يوم يقرر على أصل الدين ويبين ما فيه ورجل من جلسائه لا يسأل ولا يتعجب ولا يبحث حتى جاء بعض الكلمات التي فيها ما فيها فقال الرجل ما هذه كيف ذلك فقال الشيخ قاتلك الله ذهب حديثنا منذ اليوم لم تفهم ولم تسأل عنه فلما جاءت هذه السقطة عرفتها أنت مثل الذباب لا يقع إلا على القذر أو كما قال)([135])

ثم أخذ يرد على هذه الشبهة، ويقرر أن التعيين واجب وضرورة، ولا يصح أن يراعى فيه أحد، فقال: (ومما هو معلوم بالإضطرار من دين الإسلام أن المرجع في مسائل أصول الدين إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة المعتبر وهو ما كان عليه الصحابة وليس المرجع إلى عالم بعينه في ذلك فمن تقرر عنده الأصل تقريراً لا يدفعه شبهة وأخذ بشراشير قلبه هان عليه ما قد يراه من الكلام المشتبه في بعض مصنفات أئمته إذ لا معصوم إلا النبي)([136])

ثم بين محل المسألة من الدين، فقال: (ومسألتنا هذه وهي عبادة الله وحده لا شريك له والبراءة من عبادة ما سواه وأن من عبد مع الله غيره فقد أشرك الشرك الأكبر الذي ينقل عن الملة هي أصل الأصول وبها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب وقامت على الناس الحجة بالرسول وبالقرآن وهكذا تجد الجواب من أئمة الدين في ذلك الأصل عند تكفير من أشرك بالله فإنه يستتاب فإن تاب وإلاّ قتل لا يذكرون التعريف في مسائل الأصول إنما يذكرون التعريف في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض المسلمين كمسائل نازع بها بعض أهل البدع كالقدرية والمرجئة أو في مسألة خفية كالصرف والعطف وكيف يعرفون عباد القبور، وهم ليسوا بمسلمين، ولا يدخلون في مسمى الإسلام، وهل يبقى مع الشرك عمل)([137])

وهكذا فإن الشروط التي يصورها بعض السلفية من باب التمويه والاحتيال على نفي التكفير، لا علاقة لها بهذا، فمجرد الوقوع عندهم في الشرك أو في نواقض العقيدة كفر، وصاحبها كافر، ويستتاب من غير تعريف ولا إقامة حجة.. وإلا قتل.

هذا في حق عوام الناس، فكيف بالعلماء الذين عرفوا وتبينوا، بل فيهم من قرأ كتب ابن تيمية وابن عبد الوهاب ورد عليها.. فهم عند السلفية أولى بالتكفير.. بل يعتبرونهم أشد كفرا وعنادا.

وقد نقل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في رسالته التكفيرية من كلام ابن عبد الوهاب ما يبرهن له على هذا بكل صراحة ووضوح، فقد ورد فيها: (.. فقد وصل مكتوبك تقرر المسألة التي ذكرت وتذكر أن عليك إشكالاً تطلب إزالته، ثم ورد منك رسالة تذكر أنك عثرت على كلام للشيخ أزال عنك الإشكال فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام على أي شيء يدل كلامه أن من عبد الأوثان أكبر من عبادة اللات والعزى وسب دين الرسول بعد ما شهد به مثل سب أبي جهل أنه لا يكفر بعينه، بل العبارة صريحة واضحة في تكفير مثل ابن فيروز وصالح بن عبد الله وأمثالهما كفراً ظاهراً ينقل عن الملة فضلاً عن عن غيرهما، هذا صريح واضح، ففي كلام ابن القيم الذي ذكرت وفي كلام الشيخ الذي أزال عنك الإشكال في كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف وأمثاله ودعاهم  في الشدائد والرخاء وسب دين الرسول بعدما أقر به ودان بعبادة الأوثان بعدما أقر بها وليس في كلامي هذا مجازفة بل أنت تشهد به عليهم)([138])

ثم أخذ ابن عبد الوهاب ـ كعادة السلفية في نشر أفكارهم ـ يحذر محدثه من التورع عن التكفير، حتى لا يقع هو نفسه في الكفر، لأن من لم يكفر الكافر كافر، فقال: (وأنا أخاف عليك من قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3]، والشبهة التي دخلت عليك هذه البضّيعة التي في يدك تخاف أن تضيع أنت وعيالك إذا تركت بلد المشركين وشاك في رزق الله وأيضاً قرناء السوء [ أضلوك كما هي عادتهم ] وأنت والعياذ بالله تنـزل درجةً درجة أول مرة في الشك وبلد الشرك وموالاتهم والصلاة خلفهم)([139])  

وقد علق الشيخ إسحق حفيد ابن عبد الوهاب على هذه الرسالة التكفيرية الخطيرة بقوله: (فتأمل قوله في تكفير هؤلاء العلماء وفي كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف، وأنه صريح في كلام ابن القيم وفي حكايته عن صاحب الرسالة وحكم عليه بآية المنافقين، وأن هذا حكم عام، وكذلك تأمل اليوم حال كثير ممن ينتسب إلى الدين والعلم من أهل نجد يذهب إلى بلاد المشركين ويقيم عندهم مدة يطلب العلم منهم ويجالسهم ثم إذا قدم على المسلمين وقيل له اتق الله  وتب إلى ربك من ذلك استهزأ بمن يقول له ذلك، ويقول أتوب من طلب العلم ثم يظهر من أفعاله وأقواله ما ينبئ عن سوء معتقده وزيفه ولا عجب من ذلك لأنه عصى الله ورسوله بمخالطة المشركين فعوقب، ولكن العجب من أهل الدين والتوحيد لانبساطهم مع هذا الجنس الذين أرادوا أن يقرنوا بين المشركين والموحدين، وقد فرق الله بينهم في كتابه وعلى لسان نبيه محمد  صلى الله عليه وآله وسلم)([140])

ثم رد على الشبهة التي تعلق بها من يتوقف عن التكفير، والتي يستدل بها عادة أصحاب التقية من السلفية لينفوا عن أنفسهم تهمة التكفير، فقال: (وأما عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية التي لبسوا بها عليك فهي أغلظ من هذا كله ولو نقول بها لكفرنا كثيراً من المشاهير بأعيانهم فإنه صرح فيها بأن المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة، فإذا كان المعين يكفر إذا قامت عليه الحجة فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر الصديق بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا عن ما يعذر به فهو كافر كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ } [الكهف: 57] وقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22])([141])

وربما يتوهم البعض أن في العذر الذي ذكره ما ينفي عن السلفية التكفير، وردا عليه نورد ما قال صاحب الرسالة نفسها، فقد اعتبر العذر في (الجنون وعدم البلوغ أو عدم القدرة على البحث أو كان ممن لا يفهم مدلول الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له وهو المراد بقول ابن القيم (ومقلد لم يتمكن من العلم) وبقول الشيخ عبداللطيف: (إذا تمكنوا من طلب العلم ومعرفته وتأهلوا لذلك)

وبذلك فإنه لا عذر للأمة جميعا بهذا الاعتبار إلا صبيانها ومجانينها.. أما من عداهم، فحكمهم حكم من يتبعونهم من العلماء، وهو الكفر والشرك، كما كفر ابن فيروز وغيره، وكفر معهم قومهم.

وحتى الصبيان، فإنهم عند السلفية في خطر، فقد سئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب عبدالله وحسين عن حكم من مات قبل ظهور دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب، فأجابوا: (من مات من أهل الشرك قبل بلوغ هذه الدعوة فالذي يحكم عليه أنه إذا كان معروفاً بفعل الشرك ويدين به، ومات على ذلك فهذا ظاهره أنه مات على الكفر فلا يدعى له ولايضحى له ولايتصدق عنه، وأما حقيقة أمره فإلى الله تعالى فإن قامت عليه الحجة في حياته وعاند فهذا كافر في الظاهر والباطن وإن لم تقم عليه الحجة في حياته فأمره إلى الله)([142])

وحتى نبين أن هذا التكفير الجماعي للمسلمين ليس وليد فكر ابن عبد الوهاب وتلاميذه فقط، بل هو وليد كل التراث السلفي وخصوصا ابن تيمية، الذي نقل عنه الشيخ إسحق حفيد ابن عبد الوهاب هذا النص من مجموع الفتاوى: (وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال إنه مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها لكن يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم المشركون واليهود والنصارى أن محمداً  بعث بها وكفر من خالفها مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سواه من النبيين والملائكة وغيرهم فإن هذا أظهر شعائر الإسلام ثم تجد كثيراً من رؤساءهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين وكثير تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة- إلى أن قال- وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في الردة كما صنف الرازي في عبادة الكواكب وهذه ردة عن الإسلام  باتفاق المسلمين)([143])

وقد علق عليه الشيخ إسحاق بقوله: (هذا لفظه بحروفه فتأمل كلامه في التفرقة بين المقالات الخفية وبين ما نحن فيه في كفر المعين، وتأمل تكفيره رؤساءهم فلاناً وفلاناً بأعيانهم وردتهم ردة صريحة، وتأمل تصريحه بحكاية الإجماع على ردة الفخر الرازي عن الإسلام مع كونه من أكابر أئمة الشافعية هل يناسب هذا من كلامه أن المعين لا يكفر ولو دعا عبد القادر في الرخا والشد)([144])

هذه مجرد نصوص قليلة من نصوص كثيرة تؤكد التكفير السلفي للأمة جميعا بعلمائها وعوامها، لا فرق في ذلك بين الإطلاق والتعيين، ومن شك فيما ذكرناه أو تردد فيه، فليعد للرسالة ليرى خطورة ما فيها، وأننا لم نتجن عليه، بل إن في الكثير مما أهملناه أخطر مما ذكرناه.

وسنحاول هنا بناء على ذلك أن نطبق هذه القوانين السلفية على علماء الأمة من أتباع المذاهب الأربعة أسوة بتلك التكفيرات الكثيرة التي نص عليها ابن عبد الوهاب وتلاميذه في حق علماء من المذاهب الإسلامية المختلفة.. وسنرى من خلال ذلك التطبيق أن الكفر في الرؤية السلفية شامل للأمة جميعا ما عدا أنفسهم.. وهم أنفسهم في خطر، لأنه يكفر بعضهم بعضا.

والقاعدة البسيطة التي يمكن من خلالها تطبيق تلك المقولات التكفيرية على أعيان أعلام المذاهب الأربعة هو أنه بعد نشوء المذاهب العقدية، واختيار الحنفية للمدرسة الماتريدية، واختيار المالكية والشافعية وأكثر الحنابلة للمدرسة الأشعرية دخل رافد جديد في التكفير السلفي لأصحاب المذاهب الأربعة، وهو التجهم والتعطيل والقول بخلق القرآن الكريم، أو القول بخلق ألفاظ القرآن الكريم..وهذه محل اتفاق بين السلفية في كفر المعتقدين بها.. لأن أدنى ما يعتقده هؤلاء جميعا هو نفي الجهة عن الله، وتفويض أو تأويل ما تشابه من النصوص.. ونحو ذلك من العقائد التي لا يشك أحد من السلفية في كفر معتقديها.. بل لا يشكون في كفر من لم يكفرهم، كما رأينا تصريحاتهم الدالة على ذلك سابقا.

وبعد أن وجدت الطرق الصوفية، وصارت العادة جارية في اتباع أصحاب المذاهب لأصحاب الطرق الصوفية دخل رافد جديد في التكفير السلفي لأصحاب المذاهب الأربعة هو التكفير بسبب التصوف، والذي سنراه ونرى غلو السلفية فيه في الفصل الخاص به.

وعندما أدخل ابن عبد الوهاب التوسل والاستغاثة ونحوها في الشرك أضاف لأصحاب المذاهب الأربعة كفرا جديدا، بالإضافة للتكفيرات السابقة.. هو القبورية والوثنية والشرك الأكبر.. وبذلك تحول أصحاب المذاهب الأربعة أكفر من اليهود والنصارى، بل أكفر من مشركي قريش.

وعندما حصل الصراع بين الدولة العثمانية ـ التي كانت تتبنى المذهب الحنفي، وتحترم سائر المذاهب ـ وآل سعود، أضافوا إلى التكفير تكفيرا آخر وهو التكفير بالولاء للدولة الكافرة.. وقد ذكرنا تصريحاتهم الدالة على ذلك سابقا.

وبذلك فإن السلفية ينظرون إلى المذاهب الأربعة، وكأنها خزان من الكفر يتراكم بعضه على بعض، فكل عصر يضيف للتكفير السابق تكفيرا جديدا.

وقد أشار الألباني إلى ذلك جميعا في قوله: (فإن ما أنا فيه من الاشتغال بالمشروع العظيم – تقريب السنة بين يدي الأمة – الذي يشغلني عنه في كثير من الأحيان ردود تنشر في رسائل وكتب ومجلات من بعض أعداء السنة من المتمذهبة والأشاعرة والمتصوفة وغيرهم، ففي هذا الانشغال ما يغنيني عن الرد على المحبين الناشئين، فضلا عن غيره)([145])

فقد اعتبر المتمذهبة بهذا من أعداء السنة مثلهم مثل الأشاعرة والمتصوفة.. وهذا وحده كاف في الدلالة على تكفيرهم للأمة جميعا، لأنه لم يتمذهب بهذه المذاهب غيرهم.

بناء على هذا، سنذكر هنا بعض النماذج من علماء المذاهب الأربعة الكبار، والذين لا يصدق عليهم في المعايير السلفية إلا حكم الكفر على الإطلاق والتعيين، ومن شك في ذلك فسيصبح كافرا بالمنطلق السلفي.

وبما أن عد ذلك كثير، لأنه يشمل كل علماء المذاهب الأربعة ما عد النزر القليل منهم، فإنا سنقتصر على من وقف منهم موقفا سلبيا من ابن تيمية([146])، لأن الردود على ابن تيمية تشمل اعتباره مجسما أو مشبها وذلك يعني ـ عند السلفية ـ أن الراد جهمي معطل.. أو تكون الردود عليه في موقفه من الصوفية.. وذلك يعني أن الراد صوفي.. أو تكون الردود عليه في موقفه من القبور.. وهذا يعني أن الراد قبوري مشرك وثني.

المدرسة الحنفية:

ذكرنا في المبحث السابق ذلك العداء الذي بين السلفية والمدرسة الحنفية من أول نشوئها، فلذلك اتهم سلف السلفية الأوائل أبا حنيفة بالكفر، وبمثل ذلك اتهم سائر تلاميذه، وخاصة أبو يوسف ومحمد بن الحسن، فقد قال قال عمرو بن علي الفلاس:سمعت يحيى القطان، وقال له جار له: حدثنا أبو يوسف، عن أبي حنيفة، عن التيمي، فقال: مرجئ، عن مرجئ، عن مرجئ([147]).

وقال نعيم بن حماد: سمعت ابن المبارك، وذكروا عنده أبا يوسف؛ فقال: لا تفسدوا مجلسنا بذكر أبي يوسف ([148]).

وقال حبان بن موسى: سمعت ابن المبارك، يقول: إني لأستثقل مجلساً فيه ذكر أبي يوسف ([149]).

وقال المسيب بن واضح: ما سمعت ابن المبارك ذكر أحداً بسوء قط؛ إلا أن رجلاً قال له: مات أبو يوسف؛ فقال: مسكين يعقوب؛ ما أغنى عنه ما كان فيه ([150]).

وقال عبدة بن عبدالله الخراساني: قال رجل لابن المبارك: أيما أصدق أبو يوسف، أو محمد؟ قال: لا تقل: أيما أصدق؛ قل: أيما أكذب([151]).

وقال زكريا الساجي: يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف صاحب أبي حنيفة؛ مذموم مرجئ([152]).

وقال عبدالله بن إدريس: كان أبو حنيفة ضالاً مضلاً. وأبو يوسف فاسق من الفاسقين([153]).

وقال محمد بن إسماعيل البخاري: يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف القاضي؛ تركوه([154]).

وقال إسحاق بن منصور الكوسج: قلت لأحمد بن حنبل: يؤجر الرجل على بغض أبي حنيفة، وأصحابه؟ فقال: إي والله([155]).

وقال أبو الطيب طاهر بن عبدالله الطبري: سمعت أبا الحسن الدارقطني سئل عن أبي يوسف القاضي، فقال: أعور بين عميان([156]).

وقال محمد بن إسماعيل أبو إسماعيل: سمعت أحمد بن حنبل، وذكر ابتداء محمد بن الحسن؛ فقال: كان يذهب مذهب جهم([157]).

وقال أبو زرعة الرازي: كان محمد بن الحسن جهمياً([158]).

وقال زكريا الساجي: محمد بن الحسن كان يقول بقول جهم، وكان مرجئاً([159]).

وقال يحيى بن معين: كان محمد بن الحسن كذاباً، وكان جهمياً([160]).

وهكذا كان الأمر من بعدهم، وخاصة بعد أن صار الحنفية ماتريدية العقائد، فقد كفرهم السلفية حينها بتهمة التجهم والتعطيل.. وبعد أن مال أكثرهم إلى التصوف تحولوا جميعا إلى حلولية وقبورية ومشركين.

ومن العلماء الذين ينطبق عليهم التكفير السلفي لهذه الأسباب وغيرها قاضي القضاة الشيخ شمس الدين أبوالعباس أحمد بن إبراهيم السّروجي الحنفي (المتوفى 710 هـ)، والذي قال فيه مترجموه:  (وكان بارعاً في علوم شتى وله اعتراضات على ابن تيمية في علم الكلام)([161]) ، وقال ابن حجر في ترجمته: (ومن تصانيفه: الرد على ابن تيمية، وهو فيه منصف متأدب صحيح المباحث، وبلغ ذلك ابن تيمية فتصدى للردّ على ردّه)([162])

ورده على ابن تيمية في علم الكلام كاف في تكفيره عند السلفية، لأن القضايا التي انتصر لها ابن تيمية في تصوره قضايا نهائية لا يحق لأحد الجدال فيها.

ومنهم الفقيه أبو الفتـح نصر بن سليمان المنبجي الحنفي (المتوفى 719 هـ) الذي قال عنه الذهبي: (الشيخ الإمام القدوة، المقرئ، المحدث، النحوي، الزاهد العابد القانت الرباني، بقية السلف، أبوالفتح نصر بن سليمان بن عمر المنبجي، نزيل القاهرة وشيخها)، وقد ذكره ابن حجر العسقلاني ضمن العلماء الذين عارضوا عقائد ابن تيمية، بل كان من أعظم القائمين عليه والمحرضين ضده، وكان يغري به بيبرس الجاشنكير([163]).

 وقد ذكر ابن عبدالهادي المقدسي أن لابن تيمية رسالة كتبها للشيخ المنبجي وأسماها بالرسالة المصرية([164])، وقد ذكر ابن حجر الرسالة ـ وفيها ما يكفي للدلالة على تكفير السلفية له ـ فقد جاء فيها: (واتفق الشيخ نصر المنبجي كان قد تقدم في الدولة لاعتقاد بيبرس الجاشنكير فيه فبلغه أن ابن تيمية يقع في ابن العربي لأنه كان يعتقد أنه مستقيم، وأن الذي ينسب إليه من الاتحاد أو الإلحاد من قصور فهم من ينكر عليه، فأرسل ينكر عليه وكتب إليه كتاباً طويلاً ونسبه وأصحـابه إلى الاتحاد الذي هو حقيقة الإلحاد فعظم ذلك عليهم) ([165])

 وقد اتهم ابن تيمية تيمية هذا الشيخ الجليل بالإلحاد، قال ابن كثير: (وذلك أن الشيخ تقي الدين بن تيمية كان يتكلم في المنبجي وينسبه إلى اعتقاد ابن عربي)

ومنهم الشيخ أحمد بن عثمان التركماني الجوزجاني الحنفي (المتوفى 744 هـ) الذي كتب رسالة في الردّ على ابن تيمية بعنوان (الأبحاث الجلية في الرد على ابن تيمية)

ومنهم الشيخ أحمد بن عثمان التركماني الجوزجاني الحنفي (المتوفى 744 هـ) الذي كتب رسالة في الردّ على ابن تيمية بعنوان (الأبحاث الجلية في الرد على ابن تيمية ) ([166])

ومنهم الفقيه الشيخ محمد بن محمد العلاء البخاري الحنفي (المتوفى 841 هـ)، الذي قيل في ترجمته: (كان يُسئل عن مقالات ابن تيمية التي انفرد بها فيجيب بما ظهر له من الخطأ، وينفر عنه قلبه إلى أن استحكم ذلك عليه فصرّح بتبديعه ثم تكفيره، ثم صار يُصرح في مجلسه أن من أطلق على ابن تيمية أنه شيخ الإسلام فهو بهذا الإطـلاق كافـر واشتهر ذلك..) ([167])

ومنهم الفقيه الشيخ الملا علي بن سلطان محمد القاري الهروي الحنفي (المتوفى 1014 هـ) الذي يعده السلفية قبوريا، وقد قال في (شـرح كـتاب الشفـا ): (وقد فرّط ابن تيمية من الحنابلة حيث حرّم السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم)([168])

ومنهم  الفقيه الشيخ أبو الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الحنفي (المتوفى 1304 هـ)،  من علماء الهند، صاحب المصنفات الكثيرة في الفقه والحديث والتراجم ومنها كتاب (إبـراز الغي الواقـع )، ومما ذكره فيه: (أقول: مسألة زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله وسلم كلام ابن تيمية فيها من أفاحش الكلام، فإنه يحرم السفر لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويجعله معصية ويحرم نفس زيارة القبر النبوي أيضاً، ويجعلها غير مقدورة وغير مشروعة وممتنعة، ويحكم على الأحاديث الواردة في الترغيب إليها كلها موضوعة من حسن بعضها، أو لعلمي أن علم ابن تيمية أكثر من عقله، ونظره أكبر من فهمه، وقد شدّدّ عليه بسبب كلامه في هذه المسألة علماء عصره بالنكير، وأوجبوا عليه التعزيـر) ([169])

ومنهم الفقيه المحدث الشيخ محمد زاهد بن حسن الكوثري الحنفي (المتوفى 1371 هـ) الذي ألف السلفية الكتب الكثيرة في تكفيره، وهو من علماء تركيا الكبار وكان وكيل المشيخة الإسلامية بدار الخلافة العثمانية، وهو من كبار المخالفين لابن تيمية وله معه وقفات وردود كثيرة، منها قوله: (ولو قلنا لم يبل الإسلام في الأدوار الأخيرة بمن هو أضر من ابن تيمية في تفريق كلمة المسلمين لما كنا مبالغين في ذلك، وهو سهل متسامح مع اليهود والنصارى يقول عن كتبهم انها لم تحرف تحريفاً لفظياً فاكتسب بذلك إطراء المستشرقين له، شديد غليظ الحملات على فرق المسلمين لا سيما الشيعة… ولولا شدة ابن تيمية في رده على ابن المطهر في منهاجه إلى أن بلغ به الأمر إلى أن يتعرض لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه على الوجه الذي تراه في أوائل الجزء الثالث منه بطريق يأباه كثير من أقحاح الخوارج مع توهين الأحاديث الجيدة في هذا السبيل) ([170])

 وقال في الرد على ثناء ابن تيمية على كتاب (النقض على المريسي ) للدارمي: (فتباً لابن تيمية وصاحبه ابن القيم حيث كانا يوصيان بكتابه هذا أشد الوصية ويتابعان في كل ما في كتابه كما يظهر من صفحة خاصة منشورة في أول الكتاب، فأصبحا بذلك في صفّ هذا المؤلف المجسم الفاقد العقل، فلا إمام لمن اتخذ هؤلاء أئمة في الأصول أو الفروع، ومن هنا يظهر كل الظهور مبلغ شناعة إتباعهما في شواذهما الفقهية بترك ما عليه أئمة الهدى فنعوذ بالله من الخذلان) ([171])

ومن كلامه في ابن تيمية: (وقد سئمت من تتبع مخازي هذا الرجل المسكين الذي ضاعت مواهبه في شتى البدع، وفي تكملتنا على (السيف الصقيل ) ما يشفي غلة كل غليل إن شاء الله تعالى في تعقب مخازي ابن تيمية وتلميذه ابن القيم)([172])

ومن السلفية الذين صرحوا بتكفيره الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الحميد حسونة الذي سماه (مجنون أبي حنيفة الجهمي الضال) ([173])

ومنهم الشيخ مقبل بن هادي الوادعي الذي قال فيه: (من ضلالات الكوثري عدو السنة وأهلها : (تكفيره للعالم الرباني والصديق الثاني ابن القيم أعلى الله درجته ونقله عن بعض الرافضة قوله: إن الشوكاني يهودي مدسوس على المسلمين) وسكوته عنه، ونقل عن الفخر الرازي أن كتاب التوحيد لابن خزيمة [كتاب الشرك] وسكت.. فهو رجل ضال مضل)([174])

ثم قال: (يعد من أئمة المبتدعين والمعطلة لصفات رب العالمين.. حيث يذهب في صفة العلو مذهب الجهمية المعطلة، وهو نفي علو الله تعالى بذاته على مخلوقاته، ويرى أن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه ويقول عن السلف: الذين أثبتوا علو الله على خلقه واستواءه على عرشه (لا حظ لهم في الإسلام، غير أن جعلوا صنمهم الأرضي صنماً سماوياً)([175]).. ثانياً: صفة الاستواء: تابع الكوثري فيها الجهمية، فعطل صفة الاستواء، وحرف نصوصها، وقال : (وللاستواء في كلام العرب خمس عشرة معنى ما بين حقيقة ومجاز، منها ما يجوز على الله ، فيكون معنى الآية، ومنها ما لا يجوز على الله بحال، وهو ما إذا كان الاستواء بمعنى التمكن أو الاستقرار ([176]) .. ثالثاً: صفة النزول: تابع الكوثري فيها الجهمية، فعطل صفة النزول، وحرّف نصوصها إلى نزول الملك ([177]) .. وحرف حديث النزول تحريفاً لفظياً، فذكر لفظ [يُنزل] بضم الأول وهذا عين المناقضة لمذهب أهل السنة والجماعة.. رابعاً: صفة اليدين: يذهب الكوثري في صفة اليدين مذهب الجهمية المعطلة، فقد عطل صفة اليدين، وحرف نصوصها إلى العناية الخاصة بدون توسط([178]) .. أو المراد من اليد: القدرة ([179]) ، وهذا مناقض لمذهب أهل السنة والجماعة، فقد أثبتوا صفة اليدين كما جاءت بها النصوص، ومن لم يحملها على الحقيقة عندهم فهو معطل .. خامساً: صفة الكلام: تابع الكوثري الجهمية في تعطيل صفة الكلام والقول بخلق القرآن، وحرف نصوصها إلى الكلام النفسي ([180])، بل .. ويعترف الكوثري بأنه ليس بينه وبين المعتزلة خلاف في كون القرآن مخلوقا ([181]) ، كما أنه لا يرى جواز سماع كلام الله تعالى، فلم يسمع منه جبريل؛ لأن كلام الله تعالى ليس بحرف ولا بصوت ([182]) ، وهذا مناقض لمذهب سلف الأمة وأئمتها، الذي يوافق الأدلة العقلية الصريحة، وهو أن القرآن كلام الله، منزل، غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود فهو -سبحانه- المتكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من كلامه ليس مخلوقاً منفصلاً عنه بل سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته.. موقفه من توحيد الألوهية: اعتنق الكوثري من مهلكات القبورية، والبدع الشركية، من ذلك : جواز بناء المساجد على القبور : وادعى أنه أمر متوارث كما في مقالاته ([183]) ، وهذا خلاف الأحاديث الصحيحة في النهي عن بناء المساجد على القبور ولعن فاعله.. جواز إيقاد السرج والشموع على القبور.. جواز الصلاة في مسجد جعل على قبر رجل صالح بقصد التبرك بآثاره وإجابة دعائه ([184]) ):

هذه بعض الأسباب التي كفر بها الوادعي الكوثري، وقد نقلناها لنبين انطباقها على أكثر علماء المذاهب الأربعة.

ومن علماء الحنفية الذين يشملهم التكفير السلفي الشيخ أحمد خيـري المصري (المتوفى 1387 هـ)، وهو من الذين تتلمذوا على الشيخ محمد زاهد الكوثري بعد هجرته إلى مصر، وبعد وفاة أستاذه كتب كتاباً عن سيرته أسماه (الإمـام الكوثـري )، وقد قال فيه:  (وقد عاش المترجم طول حياته خصماً لابن تيمية ومذهبه، وسرد آراء الأستاذ يخرج بالترجمة عن القصد، وهي مبسوطة في كثير من تآليفه وتعاليقه، وعلى الرغم من أن لابن تيمية بعض المشايعين الآن بمصر، فإنه سيتبين إن عاجلاً وإن آجلاً، ولو يوم تعرض خفايا الصدور أن ابن تيمية كان من اللاعبين بديـن الله، وأنه في جلّ فتاواه كان يتبع هواه وحسبك فساد رأيه في اعتبار السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم  سفر معصية لا تقصر فيه الصلاة. )([185])، وهذا النص وحده كاف لإدانته وتكفيره عند السلفية.

ومنهم الشيخ محـمد أبو زهـرة (المتوفى 1394 هـ)، وله علاقة طيبة جدا بأستاذه الكوثري، وقد أثنى عليه كثيرا، ومما يدينه به السلفية أنه سئل: (.. قال أحد الخطباء على المنبر يوم الجمعة بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام كأيامنا هذه وبدأ خلق الأرض يوم الأحد وفرغ من الخلق عصر يوم الجمعة، وخلق الإنسان بعد عصر يوم الجمعة ثم استوى على العرش فهو مستو عليه، ولما سئل عن العرش قال: إنه الكرسي، وهو يوزع رسائل من تأليفه تثبت الجهة لله ويقول: إن العقل يوجب أن يكون الله في جهة لأن ما ليس في جهة فهو معدوم، ونحن العوام قد تبلبلت أفكارنا لأننا نعتقد أن الله في كل مكان وهو معنا أينما كنا وهو ثالث الثلاثة ورابع الأربعة، نرجو بيان الأمر على صفحات المجلة؟)

 فأجاب أبو زهـرة بقوله: (ما يقوله الشيخ إتـّباعٌ لما قيل عن ابن تـيميه فهو في هذا يقلده فيما روي عنه في الرسالة الحموية، والحـق أنه تعالى منـزه عن المكان، ومنـزه عن أن يجلس كما يجلس البشر، وأن العلماء الصادقين من عهد الصحابة يفسرون هذا بتفسير لا يتفق مع المكان، ولا يمكن أن تفسر الأيام الستة بأيامنا هذه، لأن أيامنا ناشئة من دوران الأرض حول الشمس إلا أن تفسر بمقدارها لا بحقيقتها، ولا نرى موافقة الشيخ في الخوض في هذه الأمور، ونباب الموعظة وبيان الحقائق الإسلامية التكليفية متسع، والله تعالى هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل ) ([186])

وهذا النص وحده كاف لإدانته السلفية ورميه بكل الموبقات التي رموا بها الجهمية والمعطلة.

المدرسة المالكية:

على الرغم من ثناء ابن تيمية والكثير من السلفية على المدرسة المالكية، واعتبارها مدرسة سلفية، فإن هذا الثناء ـ عند التأمل فيه ـ نجده بلا معنى، بل نجده نوعا من الاحتيال والتلاعب.

ونحن لن نناقشهم هنا في صاحب المذهب نفسه، لأن لهم روايات ترتبط به تجعله سلفيا كسائر سلفيتهم.. وللمالكية روايات أخرى تجعله جهميا عند أهل الحديث، وتضع له من الصفات ما يتناقض مع الرؤية السلفية تماما.

وهذا المحل ليس محل مناقشة أمثال هذه المسائل، لأن مرادنا هو المدرسة التي تشمل مئات بل آلاف الفقهاء الذين توزعوا في التاريخ والجغرافيا لفترات طويلة، ولأماكن كثيرة.

وكلهم ـ إن لم نقل أكثرهم ـ كان يقول بما تقول به الأشاعرة من التأويل أو التفويض، ولا يعتقد بالجهة، ويقول بأن الحرف والصوت مخلوق، وغير ذلك من العقائد التي يكفر السلفية معتقدها.

بالإضافة إلى ذلك البعد  الصوفي الذي دخل المذاهب الإسلامية جميعا، وخصوصا المذهب المالكي الذي كان الكثير من أعلامه الكبار مشايخ للطرق الصوفية، كابن عطاء الله السكندري وغيره.. وهم لذلك يعتبرون عند السلفية حلولية وقبورية بالإضافة إلى تجهمهم وتعطيلهم.

لكن البعض قد يجادلنا بأن السلفية يثنون على الكثير من أعلام المالكية، بل ويستدلون بهم في مواجهة البدع، والتحريفات التي أدخلها الخلف على الدين، ومنهم وعلى رأسهم إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (المتوفى: 790هـ)، ذلك الذي يسبحون بكتابه [الاعتصام] صباح مساء، وعلى أساسه يبدعون الطرق الصوفية، والكثير من السلوكات العادية للمسلمين.

حتى أن الشيخ الفوزان سئل في بعض دروسه: (أحسن الله اليكم ما رأيكم بكتاب الاعتصام للإمام الشاطبي وكذلك كتابه الموافقات؟)، فأجاب بقوله: (ما مثلي يحكم على كتاب الاعتصام والموافقات، الامام الشاطبي امام جليل وإمام تقدره العلماء ويرجعون إلى كتابيه الاعتصام والموافقات، يرجعون إليهما ويستفيدون منهما فلا مجال للتهويل في شأن الكتابين او السؤال عن الشاطبي او كتابيه فإن هذا معروف عن العلماء والأئمة وهما مرجعان عظيمان لأهل العلم)([187])

وهذا الكلام نوع من الاحتيال على الحقيقة التي يؤمن بها الفوزان نفسه، والأمر فيه مثل الأمر في ابن حجر، وقد رأينا أنهم يكفرونه، ولكن لا يصرحون بذلك، لمصلحة لهم فيه.

ولهذا كتب بعض الباحثين من السلفيين مقالا مطولا في الرد على موقف الفوزان، يلزمه من خلاله بتطبيق منهجه ومنهج السلف في تكفير الشاطبي، وعنوان المقال هو: [الشاطبي بين حكم السلف على أمثاله وبين ثناء الفوزان]

وقد رد فيه بأدلة كثيرة ألزم بها الفوزان بما يعتقده، وقدم لذلك بقوله ـ ردا على منهج التمييع السلفي ـ: (صدقت فلست أنت من يسأل عن الشاطبي  ولا مثلك من يحكم عليه وعلى كتبه لأنك جاهل بعقيدة السلف ومنهجهم في التعامل مع المبتدعة والزنادقة، فكم لك من تمييع مع أمثال الشاطبي ومع من هم أشد كفرا وزندقة منه، وما اعتراضك على كلام السلف في أبي جيفة [يقصد أبا حنيفة] عنا ببعيد)([188])

بالإضافة إلى ذلك كتب بعض السلفية([189]) من أصحاب المنهج الخفي في التكفير كتابا في مخالفة الشاطبي لمعتقدات السلف، من دون تكفير له فيها، مع كونه يكفر من هم دونه، وقد قال في مقدمة كتابه المسمى [الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام]: (فقد كان لمؤلفات أبي إسحاق الشاطبي أثرٌ عظيمٌ  بين العلماء وطلبة العلم، تلقوها بالقبول، وتناولوها بالتعليم والشرح والتلخيص،وانتفع بها من شاء الله من الناس، وأعظم ما ألفه كتابي (الموافقات) في أصول الشريعة و(الاعتصام) في لزوم السنة والتحذير من البدع، وقد كان طرحه في الكتابين طرحاً لم يسبق إليه.. ولما كان للشاطبي جهود في حرب البدعة، وحرب البدع مما اشتهر به السلفيون، فقد انتشر بين الناس أنه سلفي الاعتقاد – حتى بين بعض طلبة العلم-، والحقيقة التي تظهر لكل من يقرأ كتابيه هذين أنه أشعري المعتقد في باب الصفات والقدر والإيمان وغيرها، ومرجعه في أبواب الاعتقاد هي كتب الأشاعرة.. وموقف الشاطبي من البدع العملية (وهي البدع في العبادات) في تحذيره منها وبيان مفاسدها والتشديد على التمسك بالسنة فيها موقف جيد، وعمل مشكور، ولكنه مع ذلك وقع في بدع الأشاعرة والمتكلمين الاعتقادية في الصفات والقدر وغيرها)([190])

وقد بين الكاتب السلفي أن هذا النوع من البدع ليس خاصا به فقط، بل شمل كل من يستفيد السلفية من مواقفهم من البدع العملية.. فهم ينقلون عنهم في هذا الباب، ويكفرونهم في باب البدع العقدية.. وهذا من عجائب السلوكات السلفية.. فهم يضربون الأمة بعضها ببعض.. يضربون الصوفية بالشاطبي.. ويضربون الشاطبي بسلفهم الأول.

 يقول في ذلك: (ولم ينفرد الشاطبي بهذا الأمر بين العلماء؛ فقد وقع فيه غيره كأبي بكرٍ الطرطوشي فإنه ألّف كتاب (البدع والحوادث) في التحذير من البدع العملية ومع ذلك فقد وافق الأشاعرة في أصولهم، وكأبي شامة الدمشقي فإن له كتاب (الباعث في إنكار البدع والحوادث) في البدع العملية وهو أشعري المعتقد)([191])

ثم بين أن السبب في ذلك يعود إلى (أن علماء الكلام لم يتطرقوا لمثل هذه الأمور؛ لهذا لم يفسدوها بأصولهم فلم تلتبس على من أراد الحق وسعى إليه بخلاف الاعتقادات كالأسماء والصفات والقدر والإيمان وغيرها فإن المتكلمين أفسدوها بأصولهم المبتدعة وشبهوا على كثيرٍ من العلماء الفضلاء فيها فوافقوهم في أصولهم وبدعهم)([192])

وسأذكر هنا باختصار بعض ما ذكره من مخالفات خطيرة لمنهج السلف، ليس لها حكم عندهم إلا الكفير الصريح.

وأولها هو مواقفه العقدية، والتي لخصها الكاتب بقوله: (ذهب الشاطبي إلى مذهب الأشاعرة – في الجملة – ففي باب الصفات أوّل بعضها كالفوقية والنزول والكلام وغيرها، وإن ذكر مذهب الصحابة والسلف في هذا وحثّ على اتباعه فإنما يعني به التفويض – تفويض المعنى والكيفية -، وفي باب القدر أنكر الأسباب – تبعاً للأشاعرة- وجعل المسببات لاتدخل تحت قدرة المكلف، وأنكر التحسين والتقبيح العقليين تبعاً لإنكار الأشاعرة للحكمة وجعلهم الأعيان لا تتصف بحسنٍ ولا قبحٍ قبل ورود الشرع وأن الله سبحانه إنما يأمر وينهى لمحض المشيئة فقط، واتبع الشاطبي أيضاً المتكلمين في كثيرٍ من أصولهم الكلامية في إثبات الصانع وحدوث العالم، وفي النبوات، وفي حكم الدلائل اللفظية وغيرها)([193])

ومع أن الكثير مما ذكره هنا يكفرون على أساسه إلا أنه ـ من باب المصلحة السلفية ـ توقف عن التكفير.. ولست أدري دليله الشرعي في ذلك.. وهل يمكن عقلا أن يكفر عامي بسيط بسبب إنكاره الجهة، بينما يتسامح مع عالم جليل في عقل الشاطبي؟

بل إنه في رده عليه، ولست أدري هل فطن لذلك أم لا، ينقل من كلام السلف وابن تيمية ما يحكم عليه بالكفر، فمن الوجوه التي رد بها عليه (الوجه الرابع: أن هؤلاء المتكلمين الذين ابتدعوا في الصفات والقدر والنبوات وفي غيرها –وقد تبعهم الشاطبي في ذلك- قد سلكوا في استدلالاتهم على بدعهم هذه طرقاً مبتدعة –زعموها عقلية-تلقفوها من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة)([194])

وهذا تكفير محض، وإلا فكيف يستقيم أن يعتقد نفس معتقدات الجهمية والمعتزلة، ثم يكفرون ويعفى عنه.. ولست أدري نوع العفو.. هل هو ملكي أم رئاسي؟

ثم ذكر (مخالفته للسلف في توحيد الربوبية)، فقال: (ذهب أبو إسحاق الشاطبي إلى ما ذهب إليه المبتدعة في إثبات الصانع وإثبات حدوث العالم باتباع طريقة الأعراض وهي طريقة جهمية معتزلية مبتدعة، فقد نقل الشاطبي عن أبي بكرٍ الطرطوشي كلاماً طويلاً وفيه قوله: (لا طريق إلى معرفة حدوث العالم وإثبات الصانع إلا بثبوت الأعراض)([195]) ـ ثم قال الشاطبي مقرّراً لجميع كلامه:(وهو حسن من التقرير)، وهذه الطريقة هي طريقة الجهمية والمعتزلة في إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع، وأول من قال بها الجهم بن صفوان مقدم الجهمية وأبو الهذيل العلاف مقدم المعتزلة، وقد التزموا من أجلها لوازم أفسدوا بها الدين،وأحدثوا البدع، وحرفوا النصوص، وخالفوا المنقول والمعقول)([196])، وهكذا يرميه بجرائم المعتزلة والجهمية.. ثم يكفرهم ويعفو عنه.

ثم يذكر (مخالفاته في توحيد الأسماء والصفات) التي يكفرون على أساسها كل الأمة، فيقول: (تعددت مخالفات الشاطبي في هذا التوحيد تبعاً لمخالفات الأشاعرة، فإنه إنما ينقل الاعتقادات من كتبهم الكلامية، فكان إذا أراد عرض معتقد الصحابة والسلف في الصفات عرضها بما يتوافق مع عقيدة المفوّضة – وهو نفس فهم الأشاعرة لمعتقد السلف -، ويبني أحكامه في الصفات تبعاً لألفاظٍ مجملة، وإذا تكلم عن بعض الصفات أوّلها كتأويلات الأشاعرة والمبتدعة، وإذا تعرض للخلاف بين المذهبين – يعني مذهب السلف ومذهب الخلف في الصفات – هـوّن الخلاف بينهم وجعله شبيهاً بالخلافات الواقعة في الفروع)([197])

وقد ذكر كثرة مخالفاته في هذا الباب، فقال: (ولكثرة مخالفاته هذه فقد رأيت أن أقسم هذا الفصل إلى أربعة مباحث..)([198])

وبناء عليه ذكر الكثير من النصوص من الاعتصام أو الموافقات والتي يحكموها على أمثالها، بل على ما هو دونها بالكفر، ومن أمثلة تلك النصوص،   قول الشاطبي في (الموافقات):(كما زعم أهل التشبيه في صفة الباري حين أخذوا بظاهر قوله تعالى:(تجري بأعيننا)(مما عملت أيدينا)(وهو السميع البصير)(والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) وحكموا مقتضاه بالقياس على المخلوقين فأسرفوا ما شاءوا)([199])، وهذا طعن صريح منه للسلفية وأهل الحديث برميهم بالتشبيه، ومع ذلك لم يتشدد معه، كما تشدد مع من هم دونه.

وهكذا نقل عنه في (الموافقات) تحت قاعدة إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان:(كما إذا ثبت لنا أصل التنزيه كلياً عاماً ثم ورد موضع ظاهره التشبيه في أمرٍ خاصٍ يمكن أن يراد به خلاف ظاهره على ما أعطته قاعدة التنزيه فمثل هذا لا يؤثر في صحة الكلية الثابتة)([200])، وهذا النص يقضي على كل البنيان السلفي، ومع ذلك لم يعره أهمية كبيرة.

وهذا نقل عنه قوله – تحت مسألة من الخلاف ما يكون ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك،وذكر من أسبابه-:(التاسع:أن يقع الخلاف في التأويل وصرف الظاهر عن مقتضاه إلى ما دل عليه الدليل الخارجي، فإن مقصود كل متأول الصرف عن ظاهر اللفظ إلى وجهٍ يتلاقى مع الدليل الموجب للتأويل، وجميع التأويلات في ذلك سواء، فلا خلاف في المعنى المراد، وكثيراً ما يقع هذا في الظواهر الموهمة للتشبيه)([201])

وهكذا نقل عنه تعطيله لما يسميه السلفيه صفة العلو ـ وهي مما اتفقوا على تكفير معطلها ـ ومما نقل عنه في ذلك قوله: (.. ومثاله في ملة الإسلام مذاهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب –المنزه عن النقائص – من العين، واليد، والرجل، والوجه، والمحسوسات، والجهة، وغير ذلك من الثابت للمحدثات)([202])

ونقل عنه من (الاعتصام) قوله:(لا يشك في أن البدع يصح أن يكون منها ما هو كفر كاتخاذ الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى، ومنها ما ليس بكفر كالقول بالجهة عند جماعة)([203])، وهكذا خالفهم في أصل أصول اعتقادهم، بل جعله بدعة وأقرب إلى الكفر، بل مما وقع الخلاف في تكفير القائل به..

ونقل عنه من (الموافقات) ـ تحت مسألة مالا بد من معرفته لمن أراد علم القرآن ـ قوله: (ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل، وإن لم يكن ثم سبب خاص لا بد لمن أراد الخوض في علوم القرآن منه، وإلا وقع في الشُبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة – ثم ذكر أمثلةً على ذلك ومنها قوله: والثالث: قوله تعالى {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } [النحل: 50] {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } [الملك: 16] وأشباه ذلك، إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض وإن كانوا مقرين بإلهية الواحد الحق، فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيهاً على نفي ما ادعوه في الأرض، فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة البتة)([204])

ومن العجب أنه في وجوه ردوده عليه يذكر كلام سلفه في تكفير من يقول بذلك، وقد قال مقدما لها: (مذهب الشاطبي – كما يتبين من مجموع النصوص السابقة- يدل على نفيه للعلو، ونفي العلو إنما ذهب إليه متأخرو الأشاعرة بعد أن غلب عليهم التجهم والاعتزال.. بل إن الجهمية الأوائل والمعتزلة الذين امتحنوا الأئمة بخلق القرآن كانوا لا يجرؤون على التصريح بهذه العقيدة وإنما يلمحون إليها،كما قال حماد بن زيد وعباد بن العوام ووهب بن جرير وأبو بكر بن عياش وغيرهم رحمهم الله تعالى: (إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء)([205])  

ثم نقل قول ابن تيمية في ذلك –وهو يخاطب الأشاعرة-: (ووافقتم المعتزلة على نفيهم وتعطيلهم الذي ما كانوا يجترئون على إظهاره في زمن السلف والأئمة وهو قولهم إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وأنه ليس فوق السماوات رب، ولا على العرش إله، فإن هذه البدعة الشنعاء والمقالة التي هي شر من كثير من اليهود والنصارى لم يكن يظهرها أحد من المعتزلة للعامة ولا يدعو عموم الناس إليها، وإنما كان السلف يستدلون على أنهم يبطنون ذلك بما يظهرونه من مقالاتهم)([206])

وهكذا نقل تأويلات الشاطبي للاستواء ـ وهو مما اتفق سلف السلفية وخلفهم على اعتباره تأويله تجهما وكفرا ـ فقد قال (الاعتصام):(بدعة الظاهرية ـ يقصد الحشوية والسلفية ـ فإنها تجارت بقومٍ حتى قالوا عند ذكر قوله تعالى(على العرش استوى): قاعد، قاعد، وأعلنوا بذلك وتقاتلوا عليه)([207])

ومن الوجوه التي رد بها عليه، ولا تحمل إلا على التكفير قوله: (معتقد أهل السنة في الاستواء سبق ذكره عند ذكر كلام ربيعة بن أبي عبدالرحمن ومالك فيه، وهو أن معنى الاستواء معلوم لنا ولكن الكيفية مجهولة، وقد كان نفي الاستواء علامة من علامات الجهمية يُستدل بها عليهم، كما روى عبدالله بن أحمد عن يزيد بن هارون أنه سئل: من الجهمية؟ قال: من زعم أن (الرحمن على العرش استوى) على خلاف ما يقر ذلك في قلوب العامة فهو جهمي) ([208]))([209])

ولكن لست أدري لم لم يقل صراحة عن الشاطبي: إنه جهمي.. مع أنهم يرمون بهذا كل من قال بذلك.. بل يرمون به من توقف في ذلك، أو لم يكفر قائله، ولكن موازين السلفية المتناقضة والمزاجية تقبل كل شيء.

وذكر له في هذا المقام ما يدل على طعنه على السلفية وأهل الحديث بسبب أخذهم بظاهر لفظ الاستواء.. وهم يعتقدون أن من يفعل ذلك زنديق زنديق زنديق ـ كما ينقلون عن الإمام أحمد ـ فقد قال الشاطبي:(حكى ابن العربي في (العواصم) قال: أخبرني جماعة من أهل السنة – ويعني بهم الأشاعرة – بمدينة السلام أنه ورد بها الأستاذ أبو القاسم عبدالكريم بن هوازن القشيري الصوفي من نيسابور فعقد مجلساً للذكر وحضر فيه كافة الخلق، وقرأ القارئ (الرحمن على العرش استوى) قال لي أخصهم: من أنت –يعني الحنابلة – يقومون في أثناء المجلس ويقولون: قاعد، قاعد، بأرفع صوتٍ وأبعده مدى، وثار بهم أهل السنة – يعني الأشاعرة – من أصحاب القشيري ومن أهل الحضرة وتثاور الفئتان..) ([210])

ثم نقل موقفه من خلق القرآن الكريم ـ وقد رأينا موقف سلف السلفية وخلفهم منه ـ والذي عبر عنه ـ كما في (الاعتصام) بقوله:(وأما كون الكلام هو الأصوات والحروف فبناءً على عدم النظر في الكلام النفسي وهو مذكور في الأصول)([211])، وقوله: (كلام الباري إنما نفاه من نفاه وقوفاً مع الكلام الملازم للصوت والحرف وهو في حق الباري محال، ولم يقف مع إمكان أن يكون كلامه تعالى خارجاً عن مشابهة المعتاد على وجهٍ صحيحٍ لائقٍ بالرب، إذ لا ينحصر الكلام فيه عقلاً، ولا يجزم العقل بأن الكلام إذا كان على غير الوجه المعتاد محال، فكان من حقه الوقوف مع ظاهر الأخبار مجرداً)([212])، وقوله  ـ كما في (الموافقات) ـ:(إن كلام الله في نفسه كلام واحد لا تعدد فيه بوجهٍ ولا باعتبار حسبما تبين في علم الكلام)([213])

وهذه الأقوال جميعا مما لا شك عند السلفية جميعا في تكفير قائلها، فقد ذكر ابن تيمية وغيره (أن القول بأن كلام الله سبحانه معنى نفسي وهو واحد لا تعدد فيه وليس بحرفٍ ولا صوت قول محدث مبتدع في الإسلام لم يعرف إلا في القرن الثالث وأول من قاله ابن كُلاّب وتبعه على ذلك الأشعري والأشاعرة وهو مما اختص به الأشاعرة والكلاّبية دون بقية المبتدعة) ([214])

وقد رد الكاتب السلفي على ما ذكره الشاطبي بقوله: (لذلك فالأشاعرة يقولون بأن الألفاظ والحروف التي بين أيدينا-في المصحف- مخلوقة –وهو نفس كلام المعتزلة- وقد اعترف علماؤهم بأن الخلاف بينهم وبين المعتزلة لفظي، كما قال الرازي في (المحصل):(فالحاصل أن الذي ذهبوا إليه –يعني المعتزلة – فنحن لا ننازعهم فيه) وقال:(واعلم أننا لا ننازعهم في المعنى) ([215])، ولهذا قال أبو محمد بن قدامة:(ومدار القوم –يعني الأشاعرة – على القول بخلق القرآن ووفاق المعتزلة، ولكنهم أحبوا أن لا يعلم بهم فارتكبوا مكابرة العيان، وجحد الحقائق، ومخالفة الإجماع، ونبذ الكتاب والسنة وراء ظهورهم، والقول بشئ لم يقله قبلهم مسلم ولا كافر، ومن العجب أنهم لا يتجاسرون على إظهار قولهم ولا التصريح به إلا في الخلوات ولو أنهم ولاة الأمر وأرباب الدولة) ([216]))([217])

وهذا القول وحده في إدانة الشاطبي ـ على حسب الرؤية السلفية العتقية والجديدة ـ فالنصوص عندهم في تجريم وتكفير من يقول بخلق القرآن لا عد لها ولا حصر، وقد قال ابن تيمية -مخاطباً الأشاعرة-:(وكذلك قولكم في القرآن، فإنه لما اشتهر عند الخاص والعام أن مذهب السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنهم أنكروا على الجهمية المعتزلة وغيرهم من الذين قالوا القرآن مخلوق حتى كفروهم، وصبر الأئمة على امتحان الجهمية مدة استيلائهم حتى نصر الله أهل السنة وأطفأ الفتنة، فتظاهرتم بالرد على المعتزلة وموافقة السنة والجماعة، وانتسبتم إلى أئمة السنة في ذلك، وعند التحقيق: فأنتم موافقون للمعتزلة من وجه، ومخالفوهم من وجه، وما اختلفتم فيه أنتم وهم فأنتم أقرب إلى السنة من وجه، وهم أقرب إلى السنة من وجه، وقولهم أفسد في العقل والدين من وجه، وقولكم أفسد في العقل والدين من وجه) ([218])

وما دام الأمر بهذه الصورة، والمعتزلة والأشاعرة متفقان فيها، فلم يكفر المعتزلة بسببها ويسكت عن الأشاعرة؟

بل إن ابن القيم يذكر ما هو أخطر من ذلك، فقال:(فتأمل الأخوّة التي بين هؤلاء – يعني الأشاعرة- وبين هؤلاء المعتزلة الذين اتفق السلف على تكفيرهم، وأنهم زادوا على المعتزلة في التعطيل، فالمعتزلة قالوا: هذا الكلام العربي هو القرآن حقيقة لا عبارة عنه وهو كلام الله وإنه مخلوق) ([219])

هذه مجرد نماذج عن شخصية كبرى في المذهب المالكي، لها قيمتها عند السلفية، ولكنهم ـ مع ذلك ـ وبحسب قوانينهم التكفيرية لا يملكون إلا الحكم عليها بالكفر.

ومثلها شخصية أخرى لا تزال تنال حظها من الاهتمام لدى السلفية باعتبار نصرتها لأحباب السلفية من بني أمية، وهي شخصية ابن العربي المالكي.. والذي يستدلون بعواصمه وقواصمه كل حين.. وفي نفس الوقت يضمرون تكفيره، لأنه أشعري جلد كما يقولون.. فهم يضربون به الشيعة وكل محبي آل البيت الطاهرين.. ويضربونه هو بعد ذلك لتجهمه وتعطيله وكفره.

فمن الأدلة على الصريحة على تجهمه وتعطيله ـ بحسب الرؤية السلفية ـ قوله بخلق القرآن، فقد جاء في كتابه [المسالك]: (قلنا: الدليل في قول أبي هريرة؛ لأنه قال: (اقرأ بها في نفسك يا فارسي). والقراءة في النفس تسمى قرآناً حقيقة؛ كما قال الأخطل: إن الكلام لفي الفؤاد، وإنما جعل الكلام على اللسان دليلاً)([220])

وقال: (اعلم أن القرآن لا يتحدد معناه، ولا يتقدر مقتضاه؛ فقد يراد به الكلام القديم الموجود بذات الرب تعالى، وقد يراد به القراءة الحادثة؛ كما قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}، وقد يضاف إليه من حيث إنه موجود بذاته، وصفة من صفاته، وقد يراد به القراءة الحادثة؛ كما أنها توصف بأنها كلامه؛ قال الله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}، والثاني: أنها دلالة على كلامه الموجود بذاته)([221])

وقال: (قوله: (على سبعة أحرف) والحروف هاهنا: هي القراءة بالأصوات، وهي ضد كلام البارئ سبحانه؛ لأن البارئ كلامه القديم الذي هو صفة من صفاته لا تفارقه؛ ليس هو بصوت، ولا حرف)([222])

وهذه كلها تصريحات واضحة لا يحكم على صاحبها عند السلفية سلفهم وخلفهم إلا بالتكفير، وقد رأينا النصوص الدالة على ذلك، وإجماعهم عليه.

وهكذا نراه يؤول النزول وينفي الحركة والانتقال عن الله، وهم يعتبرون تأويل كل ذلك تعطيلا وتجهما وكفرا، فقد قال في كتابه السابق: (اعلم أن معنى النزول في اللغة، والقرآن، والسنة؛ ينطبق على تسعة معان؛ منها معان مختلفة، ولم يكن هذا اللفظ مما يخص أمراً واحداً؛ حتى لا يمكن العدول عنه إلى غيره؛ بل وجدناه مشترك المعنى؛ فاحتمل التأويل، والتخريج، والترتيب في ذلك؛ فمن ذلك: النزول بمعنى الانتقال، والبارئ تعالى؛ يتنزه عنه، وإنما ذلك في المخلوقات؛ مثل قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}؛ هذا على معنى النقلة، والتحويل)([223])

وقال: (وهذه الوجوه من القرآن واللغة؛ على أن البارئ تعالى لا يجوز عليه النقلة، ولا الحركة، وأن نزوله بخلاف مخلوقاته؛ إنما نزوله نزول رحمة وإحسان، أو يكون كما قال بعض العلماء الصوفية: إن نزوله ثلث الليل؛ إنما هو نزول من حال الغضب إلى حالة الرحمة، وإلا إذا أضفت النزول إلى السكينة؛ لم يكن، وإذا أضفته إلى الكلام؛ لم يكن أيضاً تفريغ مكان، ولا شغل مكان، وإنما أراد به: إقباله على أهل الأرض بالرحمة، والاستعطاف بالتوبة، والإنابة. هذا تفسيره عند علمائنا من أهل الكلام. وأما من تعدى عليه بالتفسير، والقول النكير؛ فإنهم قالوا: في هذا الحديث دليل على أن الله تعالى في السماء على العرش من فوق سبع سماوات. قلنا: هذا جهل عظيم؛ إنما قال: (ينزل إلى سماء الدنيا)، ولم يقل في الحديث: من أين ينزل، ولا كيف ينزل)([224])

وقال: (وأما قوله: (ينزل) و(يجيء) و(يأتي) وما أشبه ذلك من الألفاظ التي لا تجوز على الله في ذاته معانيها؛ فإنها ترجع إلى أفعاله، وههنا نكتة، وهي أن أفعالك أيها العبد؛ إنما هي في ذاتك، وأفعال الله لا يجوز أن تكون في ذاته، ولا ترجع إليه، وإنما تكون في مخلوقاته؛ فإذا سمعت أن الله يفعل كذا؛ فمعناه في المخلوقات؛ لا في الذات)([225])

وهذا تصريح خاطر ليس له حكم عند السلفية إلا الكفر.. وإلا فإنهم ملزمون بالعفو عن كل الطوائف التي كفروها بمثل هذه الأسباب، فلا يستقيم عقلا ولا شرعا أن يؤاخذ قوم بما يعفى به عن آخرين.

ومثل ذلك تعطيله للجهة، والتي كتب فيها السلفية كتبهم الكثيرة، والممتلئة بتكفير من ينكرها، فقد قال ابن العربي في نفيها: (والذي يجب أن يعتقد في ذلك: أن الله كان ولا شيء معه؛ ثم خلق المخلوقات من العرش إلى الفرش؛ فلم يتغير، ولا حدثت له جهة منها، ولا كان له مكان فيها؛ فإنه لا يحول، ولا يزول؛ قدوس لا يحول، ولا يتغير)([226])

وهكذا قال في تنزيه الله عن الجوارح، والتي يسميها السلفية صفات، ويقيمون الدنيا ويقعدوها من أجلها، فقد قال ابن العربي فيها: (فصل في مفترقات من الآيات، ومجموع الوظائف من الأحاديث المشكلات، وهي ثمانية أحاديث: الحديث الأول: وقع في الصحيح لمسلم؛ قوله: (إن الله يمسك السماوات على إصبع، والشجر والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع؛ ثم يقول: أنا الملك)؛ قال علماؤنا: قد استقر في عقائد المسلمين؛ أن البارئ تعالى منزه عن الجارحة؛ لأنه إنما يراد به القدرة، والاجتماع. وقال قوم: إن الإصبع هنا؛ هي النعمة. وقال آخرون: إنما أراد به؛ أن الله تعالى خلق السماوات والأرض، وما بينهما في ستة أيام،  ولم يدركه في ذلك لغوب ولا نصب. وقال آخرون: يحتمل أن يريد بالإصبع: بعض خلقه. وهذا غير مستنكر في قدرة الله. وقال آخرون: قد يريد أن تكون المخلوقات؛ اسم: إصبع؛ فأخبر بخلق هذه الأشياء عليه. والغرض في هذا الحديث: إبطال أن تكون لله جارحة؛ لإحالة العقل)([227])

وقال: (قوله: (إن الله يطوي السماوات يوم القيامة؛ ثم يأخذهن بيده اليمنى؛ ثم يقول: أنا الملك، أنا الجبار، أين المتكبرون، ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين المتكبرون) قد تقدم الكلام في اليدين، واختلاف الأصوليين في ذلك، وإنهما بمعنى الصفة؛ لا بمعنى الجارحة)([228])

وقال في تأويل ما يسميه السلفية صفة الضحك والعجب والقدم والوجه وغيرها: (قوله: (يضحك الله..)؛ معناه: يظهر لهما أدلة الكرامة وعلامات الرضا، كما يفعل الضاحك منا لما يسر به. قوله: (عجب ربكم من شاب ليست له صبوة)؛ معناه: فعل به من الكرامة فعل المتعجب من فعله، ووله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزال النار يلقى فيها، حتى يضع الجبار فيها قدمه) وفي بعض طرقه: (حتى يضع الجبار فيها قدمه، فتقول: قط قط)؛ قال علماؤنا: معنى (قدمه) خلق من خلقه يسمى قدماً؛ أضافه إضافة الملك إلى نفسه.. وقال آخر: معناه: أن البارئ تعالى يخلق خلقاً يسمى قدماً؛ يملأ بهم جهنم. قوله: (إذا ضرب أحدكم عبده فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)؛ معناه: على صورة المضروب، فالهاء عائدة على عبده، وغير ذلك من الأحاديث المشكلات، والتأويل عليها يطول)([229])

هذه مجرد أمثلة ونماذج عن مقولاته المرتبطة بخلق القرآن الكريم وما يسميه السلفية [الصفات الذاتية والفعلية]، بالإضافة إلى هذا فإنه يحمل بشدة على أهل الحديث والسلفية ويسخر من تشبيههم وتجسيمهم.. وليس لكل هذا حكم عند السلفية إلا الكفر.

وهم مدعوون بهذا إما إلى إزالة أمثال هذه المسائل من قاموس تكفيرهم، وإلا تطبيقها على ابن العربي مثله مثل سائر العلماء.. وإلا فإنه لا يجوز شرعا ولا عقلا المحاباة والمجاملة في أمثال هذه المسائل.

ومن المالكية الذين يصدق عليهم التكفير السلفي قاضي القضاة الفقيه المحدث الشيخ تقي الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى السعدي الإخنائيّ المالكي المصري (المتوفى 750 هـ)، والذي كان  من العلماء الذين وقفوا بشدة في وجه ابن تيمية وخاصة في مواقفه من الزيارة والقبور والتوسل وغيرها مما يسميه السلفية [الشرك في توحيد الألوهية]، والذي على أساسه كفر ابن عبد الوهاب ابن فيروز وغيره من علماء زمانه، فمن كتبه في هذا المجال: (المقـالة المرضية في الردّ على من ينكر الزيارة المحمدية)

ويضاف إلى ذلك وقوفه في وجه دعوة التوحيد ـ كما يعبر ابن عبد الوهاب وتلاميذه ـ وذلك عندهم من أكبر مصادر الكفر، قال ابن حجر العسقلاني في ترجمته: (وكان كثير الحط على الشيخ تقي الدين بن تيمية وأتباعه، وهو الذي عزر الشهاب ابن مري وكان على طريقة الشيخ تقي الدين ويتكلم على الناس بلسان الوعظ لما قدم مصر.. إلى أن جرت مسألة التوسل فتكلم فيها بكلام شيخه فأنكروا عليه، وبلغ ذلك القاضي فطلبه وعزره، وطوف به وبالغ في إهانته وتألم له كثير من الناس) ([230])

ومن المالكية الذين ينطبق عليهم التكفير السلفي المفتي الفقيه الشيخ ضياء الدين خليل بن إسحاق المالكي (المتوفى 776 هـ)، الذي يعتبر كتابه (مختصر الشيخ خليل) من أشهر المختصرات الفقهية على مذهب المالكية، بل ربما كان أشهرها على الإطلاق في القرون المتأخرة، ويشهد لذلك عناية العلماء به وعكوف طلاب العلم على حفظه ودراسته، وتلقيهم له بالقبول إلى اليوم. 

و له بالإضافة إلى هذا كتاب في مناسك الحج والزيارة، نقل عبارات منه عدةٌ من فقهاء المالكية، منهم الإمام الزرقاني الذي قال في كتابه (شرح المواهب اللدنية): (ونحو هذا في منسك العلامة خليل، وزاد: (وليتوسل به صلى الله عليه وآله وسلم، ويسأل الله تعالى بجاهه في التوسل به، إذ هو محط جبال الأوزار وأثقال الذنوب، لأن بركة شفاعته وعظمها عند ربه لا يتعاظمها ذنب، ومن اعتقد خلاف ذلك فهو المحروم الذي طمس الله بصيرته وأضل سريرته، ألم يسمع قوله تعالى { ولو أنهم إذا ظلموا أنفسهم جاؤوك }، فقال الزرقاني مُعلقاً على كلام الخليل بن إسحاق: (ولعل مراده التعريض بابن تيـمية)([231]) (1)

ومن أعيان المالكية، والذي كان يمثل ثقافة زمانه وأزمنة كثيرة الرحالة الشيخ أبو عبدالله محمد بن عبدالله اللواتي الطنجي الشهير بابن بطوطة (المتوفى 779 هـ)، والذي يسميه السلفية [القبوري]، ويحكمون بشركه، ويحاربونه في كل محل بسبب قوله في كتابه (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) عند ذكر ما شاهده في دمشق عندما زارها: (وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية كبير الشام يتكلم في الفنون، إلا أن في عـقله شـيئاً.  وكان أهل دمشق يعظمونه أشد التعظيم، ويعظهم على المنبر، وتكلم مرة بأمر أنكره الفقهاء، ورفعوه إلى الملك الناصر فأمر بإشخاصه إلى القاهرة، وجمع القضاة والفقهاء بمجلس الملك الناصر، وتكلم شرف الدين الزواوي المالكي وقال: إن هذا الرجل قال كذا وكذا، وعدد ما أنكر على ابن تيمية، وأحضر العقود بذلك ووضعها بين يدي قاضي القضاة وقال قاضي القضاة لابن تيمية: ما تقول؟ قال: لا إله إلا الله فأعاد عليه فأجاب بمثل قوله. فأمر الملك الناصر بسجنه فسجن أعواماً، وصنف في السجن كتاباً في تفسير القرآن سماه البحر المحيط، في نحو أربعين مجلداً. ثم إن أمـه تعرضت للملك الناصر، وشكت إليه، فأمر بإطلاقه إلى أن وقع منه مثل ذلك ثانية. وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينـزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء وأنكر ما تكلم به، فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتى سقطت عمامته، وظهر على رأسه شاشية حرير، فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عز الدين بن مسلم قاضي الحنابلة، فأمر بسجنه وعزره بعد ذلك، فأنكر فقهاء المالكية والشافعية ما كان من تعزيره، ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدين تنكيز، وكان من خيار الأمراء وصلحائهم، فكتب إلى الملك الناصر بذلك، وكتب عقداً شرعياً على ابن تيمية بأمور منكرة، منها أن المطلق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلا طلقة واحدة ومنها المسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف زاده الله طيباً لا يقصر الصلاة، وسوى ذلك ما يشبهه وبعث العقد إلى الملك الناصر فأمر بسجن ابن تيمية بالقلعة، فسجن بها حتى مات في السجن) ([232])

ومن أعلام المالكية الكبار الذين يشملهم التكفير السلفي العلامة الكبير الشيخ أبوعبدالله محمد بن عرفة التونسي الورغمي المالكي (المتوفى 803 هـ)، فقد  قال الشيخ الكتاني في كتابه (فهرس الفهارس ) عند ترجمة ابن تيمية: (ومن أشنع ما نقل عن ابن تيمية أيضاً قوله في حق شفاء القاضي عياض: غلا هذا المغيربي)([233])

ومنهم الشيخ أحـمد زروق المالكي (المتوفى 899 هـ) الذي قال عن ابن تيمية: (ابن تيمية رجل مسلم له باب الحفظ والإتقان، مطعون عليه في عقائد الإيمان، مثلوب بنقص العقل فضلاً عن العرفان..) ([234])، ومن طعن في عقائد ابن تيمية ـ عند السلفية ـ ليس له حكم إلا الكفر.

ومنهم الشيخ محمد البرلسي الرشيدي المالكي، الذي قال: (وقد تجاسر ابن تيمية عامله الله بعدله وادعى أن السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم  محرم بالإجماع، وأن الصلاة لا تقصر فيه لعصيان المسافر به، وأن سائر الأحاديث الواردة في فضل الزيارة موضوعة، وأطال بذلك بما تمجه الأسماع وتنفر منه الطباع، وقد عاد شؤم كلامه عليه حتى تجاوز إلى الجناب الأقدس المستحق لكل كمال أنفس وحاول ما ينافي العظمة والكمال بادعائه الجهة والتجسيم، وأظهر هذا الأمر على المنابر، وشاع وذاع ذكره في الأصاغر والأكابر وخالف الأئمة في مسائل كثيرة، واستدرك على الخلفاء الراشدين باعتراضات سخيفة حقيرة، فسقط من عين أعيان علماء الأمة، وصار مُثله بين العوام فضلاً عن الأئمة، وتعقب العلماء كلماته الفاسدة وزيفوا حججه الداحضة الكاسدة وأظهروا عوار سقطاته، وبينوا قبائح أوهامه وغلطاته، حتى قال في حقه العز بن جماعة: إن هو إلا عبد أضله الله وأغواه، وألبسه رداء الخزى وأرداه)([235])، وهذا النص وحده كاف عند السلفية لتسجيله في قوائم الكفرة.

ومنهم المحدث الفقيه الشيخ محمد بن عبدالباقي الزرقاني المالكي (المتوفى 1122 هـ) صاحب (شرح الموطأ )، و(شرح المنظومة البيقونية )، و(شرح المواهب اللدنية )، وهي مراجع كبرى للمالكية وغيرهم، فقد قال الشيخ القسطلاني في (المواهب اللدنية ) ما يلي: (وقد روي أن مالكاً لما سأله أبو جعفر المنصور العباسي: يا أبا عبدالله أأستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وأدعو، أم استقبل القبلة وأدعو؟ فقال له مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك و وسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله عزوجل يوم القيامة. لكن رأيتُ منسوباً للشيخ تقي الدين بن تيمية في منسكه: أنّ هذه الحكاية كذب على مالك، وأنّ الوقوف عند القبر بدعة، قال: ولم يكن أحدٌ من الصحابة يقف عنده ويدعو لنفسه ولكن كانوا يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك ) ([236])

وقد عقب الشيخ الزرقاني في (شرح المواهب اللندنية ) على هذا بقوله: (هذا تهور عجـيب، فإن الحكاية رواها أبو الحسن علي بن فهر في كتابه فضائل مالك بإسناد لا بأس به، وأخرجها القاضي عياض في الشفاء من طريقه عن شيوخ عدة من ثقات مشايخه، فمن أين أنها كذب وليس في إسنادها وضاع ولا كذاب) ([237])

وقال تعليقا على قول ابن تيمية (وأن الوقوف عند القبر بدعة، قال: ولم يكن أحدٌ من الصحابة يقف عنده ويدعو لنفسه ): (نفيـه مردود عليه من قصوره أو مكابرته، ففي الشفاء قال بعضهم: رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم  فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة، فَسَلّم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم  ثم انصرف) ([238])

وقال تعليقا على قول ابن تيمية (ولكن كانوا يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك ): (كذا قال وهو خطأ قبـيح، فإن كتب المالكية طافحة باستحباب الدعاء عند القبر مستقبلاً له مستدبر القبلة) ([239])

ثم قال تعليقا على ذلك كله: (ولكن هذا الرجل ابتدع له مذهباً وهو عدم تعظيم القبور، وإنها إنما تزار للترحم والاعتبار بشرط أن لا يُشدّ إليها رحل، فصار كل ما خالفه عنده كالصائل لا يبالي بما يدفعه، فإذا لم يجد له شبهة واهية يدفعه بها بزعمه، انتقل إلى دعوى أنه كَذب على من نُسب إليه، مجازفـة وعدم نصفـه، وقد أنصف من قال فيه: علمه أكبر من عقله… ) ([240])

وقيمة هذا الكلام هنا هو أن نظرة المدرسة المالكية لمالك تختلف اختلافا جذريا عن نظرة السلفية له، وكذا رواياتهم عنه تختلف اختلافا جذريا عن روايات السلفية .. ومطالعة روايات المالكية عن مالك لا تحكم عليه إلا بالكفر عند السلفية .. 

ومن أعلام المالكية الكبار الذين يشملهم التكفير السلفي العالم الفقيه الشيخ أبوالمحاسن جمال الدين يوسف بن أحمد بن نصر الدجوي المالكي (المتوفى 1365هـ)، فمن كلامه في رسالة بعثها إلى الشيخ الكوثري: (وأظن أنك ذكرتَ لي يوم كنا مع المرحوم الشيخ عبدالباقي سرور نعيم أن بعض علماء الهند ذكر هنات ابن تيمية وزلاته وأفاض في الردّ عليها.. وقد ذكرتَ حفظك الله كثيراً من هناته التي خرق بها الإجماع، وصادم بها المعقول والمنقول، وبينت مراجعها من كتبه وكتب تلميذه ابن القيم، ولا معنى للمكابرة في ذلك بعد رسائله في العقائد المطبوعة في آخر فتاويه، وبعد ما قرره في مواضع من منهاج السنة وموافقة المعقول والمنقول ورسائله الكبرى إلى غير ذلك من مؤلفاته  فقد كان سامحه الله مولعاً بنشر تلك الآراء الشاذة والعقائد الضالة كلما سنحت فرصة لتقرير معتقده الذي ملك عليه مشاعره حتى أصبح عنده هو الدين كله، على ما فيه من جمود وحجود وخلط وخبط! وكذلك تلميذه ابن القيم رحمه الله كان مستهتراً بما جُنّ به شيخه من تلك الآراء المنحرفة، فكان دائماً يرمي إليها عن قرب أو بعد حتى إنه في كتاب (الروح ) الكثير الفوائد التي تلطف الأرواح لم ينس ما شغف به من تلك المقالات الحمقاء) ([241])

ثم قال ملخصا كل ما ذكره من مثالب ابن تيمية: (إن ابن تيمية في رأيي لا يصح أن يكون إماماً لأن الإمامة الحقة لا ينالها من يُقدّس نفسه هذا التقديس، فإنه إذا قدّس نفسه كان متبعاً لآرائها، غير متهم لها، فكان سائراً مع أهوائها، غير منحرف عنها، ومن اتبع هواه ضل عن سبيل الله من حيث يدري أولا يدري، ومن قدّس نفسه لم يتبع سبيل المؤمنين شاء أم أبى.. وقد أدى ذلك العالم الكبير ابن تيمية، بسرعته –ولا نقول طيشه– إلى أن يجازف فيقول: (لم يرد ذكر إبراهيم وآل إبراهيم، في رواية من الروايات الواردة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع أن ذلك في البخاري وهو يحفظه.. وقد أنكـر حديث الزيـارة وهو صحيح كما أوضح السبكي في (شفاء السقام ) إلى غير ذلك، مع أنه من الحُفّاظ، وأشهر شيء من مزاياه هو أنه محدث، ولكنه التسرع يُذهب من النفس رشدها، والمجازفة تعمي عين البصيرة وتفقأ بصر العقل) ([242])

ثم قال ردا على سلفية عصره: (وأرجو أن تعذرني فقد أهاج حفيظتنا واستثار الكامن منا ما نراه الآن من أولئك الزعانف الذين يدعون الاجتهاد وقد رددوا صدى مقال إمامهم ابن تيمية، وأكثروا من ذكر الكتاب والسنة وهو أبعد الناس عنهما وأخلاهم منهما.

فرقـة تدعـي الحديـث ولكـن  
  لا يكـادون يفقهـون حديثـا

ولو عقلوا لعلموا أنهم من مقلدة ابن تيمية على غير هدى ولا بصيرة، فهم أعظم الناس جهلاً، وأكبرهم دعوى، يعادون المسلمين، ويكفرون المؤمنين، ولا غروا فقد كفّر أسلافهم من الخوارج عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، واعترض جدهم الأعلى ذو الخويصرة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم)([243])

وهذا النص وحده يكفي لتكفيره.. بل وتكفير آبائه وأجداده وكل من يتصل به.

ومن أعلام المالكية الكبار الذين يشملهم التكفير السلفي العلامة الحافظ الشيخ أبي الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني (المتوفى 1380 هـ) الذي لم تشفع له حصانته التي اكتسبها من علم الحديث، وكونه من أعلامه الكبار في هذا العصر.. فقد ألف السلفية في شأنه وشأن تكفيره الكثير من الكتب والرسائل باعتباره جهميا قبوريا حلوليا صوفيا رافضيا.. وغيرها من الألقاب.

 بالإضافة إلى ذلك عداؤه الشديد لابن تيمية وأهل الحديث، فقد كان ينتقده في كل محل، ومن أقواله فيه قوله في (البرهـان الجـلي ): (بل بلغت العداوة من ابن تيمية إلى درجة المكابرة وانكار المحسوس فصرّح بكل جرأة ووقاحة ولؤم ونذالة ونفاق وجهالة أنه لم يصح في فضل علي عليه السلام حديث أصلاً، وأن ما ورد منها في الصحيحين لا يثبت له فضلاً ولا مزية على غيره… بل أضاف ابن تيمية إلى ذلك من قبيح القول في علي وآل بيته الأطهار، وما دل على أنه رأس المنافقين في عصره لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم  في الحديث الصحيح المخرج في صحيح مسلم مخاطبـا لعلي (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) كما ألزم ابن تيمية بذلك أهل عصره وحكموا بنفاقه… وكيف لا يلزم بالنفاق مع نطقه قبحه الله بما لا ينطق به مؤمن في حق فاطمة سيدة نساء العالمين وحق زوجها أخي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وسيد المؤمنين، فقد قال في السيدة فاطمة البتول: أن فيها شبهاً من المنافقين الذين وصفهم الله بقوله (فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ) قال لعنة الله عليه: فكذلك فعلت هي إذ لم يعطها أبو بكر من ميراث والدها صلى الله عليه وآله وسلم ، أما عليّ فقال فيه أنه أسلم صبياً وإسلام الصبي غير مقبول على قول، فراراً من إثبات أسبقيته للإسلام وجحوداً لهذه المزية، وأنه خالف كتاب الله تعالى في سبع عشرة مسألة وأنه كان مخـذولاً حيثما توجه وأنه كان يحب الرياسة ويقاتل من أجلها لا من أجل الدين وأن كونه رابع الخلفاء الراشدين غير متفق عليه بين أهل السٌّنة.. وزعم قبحه الله أن علياً مات ولم ينس بنت أبي جهل التي منعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم  الزواج بها، بل فاه في حقه بما هو أعظم من هذا، فحكى عن بعض اخوانه المنافقين أن علياً حفيت أظفاره من التسلق على أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بالليل، في أمثال هذه المثالب التي لا يجوز أن يتهم بها مطلق المؤمنين فضلاً عن سادات الصحابة رضي الله عنهم فضلاً عن أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقبّح الله ابن تيمية وأخزاه وجزاه بما يستحق وقد فعل والحمد لله، إذ جعله إمام كل ضال مضل بعده، وجعل كتبه هادية إلى الضلال، فما أقبل عليها أحد واعتنى بشأنها إلا وصار إمام ضلالة في عصره) ([244])

ومن أعلام المالكية الكبار الذين يشملهم التكفير السلفي الحافظ الشيخ محمد عبدالحي بن عبدالكبير الكتاني المغربي (المتوفى 1382 هـ)، بسبب أشعريته وصوفيته وموقفه من أهل الحديث عموما والسلفية خصوصا، فقد قال في بعض كتبه: (فإني أرى هذه الضلالات وما يتبعها من الشناعات التي كان أول مذيع لها وموضح لظلامها الشيخ أحـمد بن تيميـة رحمه الله تعالى وعفـا عنـه قد كادت الآن أن تشيع وفي كل بلاد أهل السنة تذيـع… ) ([245])

 وقال في كتابه الشهير (فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمسلسلات ): (ومن أبشع وأشنع ما نقل عنه رحمه الله قوله في حديث ينزل ربنا في الثلث الأخير من الليل كنزولى هذا قال الرحالة ابن بطوطة في رحلته وشاهدته نزل درجة من المنبر الذي كان يخطب عليه وقال القاضي أبو عبدالله المقري الكبير في رحلته نظم اللآلي في سلوك الأمالي حين تعرض لشيخيه ابني الإمام التلمساني ورحلتهما ناظرا تقي الدين ابن تيمية وظهرا عليه وكان ذلك من أسباب محنته، وكان له مقالات شنيعة من إمرار حديث النزول على ظاهره وقوله فيه كنزولي هذا، وقوله فيمن سافر لا ينوي إلا زيارة القبر الكريم لا يقصر لحديث لا تشد الرحال اه، ونقله عنه حفيده أبو العباس المقري في أزهار الرياض وأقره مع أن تآليفه المتداولة الآن بالطبع ليس فيها إلا التوريك في مسألة إبقاء المتشابه على ظاهره مع التنزيه والتنديد بالمؤولين وهو على الإجمال مصيب في ذلك، وأما مسألة الزيارة فإنه انتدب للكلام معه فيها جماعة من الأئمة الأعلام وفوقوا إليه فيها السهام كالشيخ تقي الدين السبكي والكمال ابن الزملكاني وناهيك بهما وتصدى للرّد على ابن السبكي ابن عبد الهادي الحنبلي ولكنه ينقل الجرح ويغفل عن التعديل وسلك سبيل العنف والتشديد وقد ردّ عليه وانتصر للسبكي جماعة منهم الإمام عالم الحجاز في القرن الحادي عشر الشمس محمد علي بن علان الصديقي المكي له (المبرد المبكي في ردّ الصارم المنكي ) ومن أهل عصرنا البـرهان إبراهيم بن عثمان السمنودي المصري سماه (نصرة الإمام السبكي بردّ الصارم المنكي ) وكذا الحافظ ابن حجر له (الإنارة بطرق حديث الزيارة ) وانظر مبحثها من فتح الباري والمواهب اللدنية وشروحها… ) ([246])

وهذا النص وحده كاف لإدانيته وتكفيره عند السلفية.

هذه مجرد نماذج عن تكفير السلفية لكبار علماء المالكية في المجالات المختلفة، ويقاس عليهم غيرهم.. لأن إحصاء ذلك مستحيل لكثرته، وعلى العموم يمكن إطلاق القول بأن الأصل في كل متمذهب عندهم بمذهب مالك الكفر، وحتى يخرج منه يحتاج إلى إثبات، لأن أكثر علماء المالكية إن لم نقل كلهم كان له صلة بالمذهب الأشعري، أو يقول بالتأويل، بالإضافة للبعد الصوفي الذي شمل معظم متأخري المالكية، بالإضافة للبعد القبوري نتيجة تعظيم المالكية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللأولياء والصالحين.

المدرسة الشافعية:

وهي من المدارس التي شمل التكفير السلفي أكثر أعلامها، إن لم نقل كلهم، وقد نص على بعض النماذج من ذلك صراحة الشيخ سليمان بن سحمان، فقد صرح بتكفير السبكي والرملي شارح المنهاج فقال: (فهذا الرجل الشهاب الرملي إن كان من المعروفين بالعلم لأني لا أعرف حاله فهو من جنس السبكي وأضرابه الغالين الذين يصنفون في إباحة الشرك زاعمين أن ذلك من تعظيم الرسول ثم لو كان الرملي من أهل العلم.. هذا يوجب كفره وارتداده)([247])

فتطبيق هذا النص وحده على أعلام الشافعية كاف في تكفير جميع المدرسة، ذلك أن أكثر علماء الشافعية إن لم نقل كلهم كانوا إخوانا للسبكي والرملي، أو نسخا مشابهة لهما.. وحتى الذين يرضى عنهم السلفية مثل ابن حجر العسقلاني، فقد رأينا تصريحاتهم وتلميحاتهم في تكفيره، ومثله النووي، وسنرى تكفيرهم له في هذا المبحث.

بل قد صرح بعضهم بتكفير الشّافعي صاحب المذهب نفسه باعتباره قبوريا متصوّفا يزكّي أبا حنيفة، ومن زكى الكافر كافر، فقد قال: (الشّافعي العاذريّ الارتيابيّ المرجئ المذهبيّ الجلد قبوري متصوّف يزكّي أبا حنيفة الّذي أجمع السّلف على تكفيره. وترحّمه عليه في كتابه [الأمّ] يبيّن أنّ تضليله له عنى به في أقصى الحالات تبديعا دون تكفير) ([248])

واستدل على قبوريته بما رواه علي بن ميمون قال: سمعت الشافعي يقول: (إنى لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم – يعني زائرا – فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره،  وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد عني حتى تقضى)([249])

بالإضافة إلى هذا فقد اتهم بالتشيع، واستندوا في ذلك كما ينقل الذهبي إلى موافقته الشيعة في عدة مسائل فقهية كالجهر بالبسملة والقنوت في صلاة الصبح والتختم باليمين([250]).

وقد قال عنه الحافظ أحمد بن عبد الله العجلي: (هو ثقة، صاحب رأي ليس عنده حديث، وكان يتشيع)، وقد علق عليه الذهبي بعد أن نقل ذلك عنـه بقوله: (فكـان العجـلي يوهم في الإمام أبي عبد الله التشيع لقوله:

إن كان رفضاً حب آل محمد    فلشهد الثقلان أني رافضي([251])

بل إن يحيى بن معين ـ إمام الجرح والتعديل على الإطلاق عند السلفية ـ حكم على الشافعي بأنه ليس بثقة، ومثله المحدث أبو عبيد القاسم بن سلام.

قال ابن عبد البر في [جامع بيان العلم وفضله]: (ومما نقم على ابن معين وعيب به أيضاً قوله في الشافعي أنه ليس بثقة، وقيل لأحمد بن حنبل: أن يحيى بن معين يتكلم في الشافعي. فقال أحمد: ومن أين يعرف يحيى الشافعي، وهو لا يعرف ولا يقول ما يقول الشافعي أو نحو هذا، ومن جهل شيئاً عاداه.. وقـد صح عن ابن معين من طـرق أنه كان يتكلم في الشافعي على ما قدمت لك حتى نهاه أحمد بن حنبل، وقال له: لم تر عيناك قط مثل الشافعي)([252])

أما النووي ـ شارح صحيح مسلم وغيره ـ فحاله لا يختلف عن حال ابن حجر، ذلك أن السلفية يرجعون كثيرا إلى كتبه، ويستدلون بها على خصومهم، وهذا ما جعلهم في حرج من التصريح بكفره، وإن كانوا يلمحون لذلك.

وقد كتب بعضهم كتابا في إثبات كفره، وفي الرد على السلفية المميعة والمرجئة ـ كما يذكر ـ وهو يلزمها بلوازم أقوالها في غيره، لأنه لامعنى أن يفرق بين الناس في الأحكام الشرعية.

والكتاب بعنوان [بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية]، وهو  لإبراهيم بن رجا الشّمّريّ، وقد قال في مقدمته في بيان وجوب تسمية المبتدعة والتحذير منهم: (والمبتدع حقه الإهانة والثناء بالشر والتحذير والحذر، قال طاووس للناس لما رأى مبتدعاً يطوف في البيت: (هذا فلان، فأهينوه)، والعمل بهذه الواجبات والسنن متوقفة على معرفة أصحابها ومعرفتهم متوقفة على معرفة سنن السلف ومنهجهم في هذا الباب، فصار الأمر في غاية الأهمية والضرورة لتحقيق هذا المطلوب والتقرب إلى الله عز وجل به، لأجل هذا وغيره صنف الأئمة مصنفات مستقلة في بيان حال أهل الزيغ والكلام، وذكروا في مقامات تبيين السنة أئمة السنة بأسمائهم، وجعلوا حب المرء وذكره لهم علامة على سنيته، وكذلك ذكروا رؤوس المبتدعة بأسمائهم وجعلوا ذكرهم علامة على ابتداع ذاكرهم، وقد قال الوليد الكرابيسي –وصدق- في وصف أهل السنة:  (ألم تروا إلى الواحد منهم يجيء إلى الرجل الجليل فيبدعه، ويمزق في وجهه)، هكذا هم أهل السنة ساروا على ما كان يبايع به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه من (أن يقولوا الحق أينما كان ولا يخافوا في الله لومة لائم)، فالواجب على كل متبع صادق في اتباعه إعمال هذا المنهج في الحكم على الصغير والكبير مهما عظمت منزلت المرء عند بعض الخلق فلا يخاف السني في الله لومة لائم)([253])

وبناء على هذه الدوافع التي سنها  السلفيون الأوائل، والتي لا يكون السلفي سلفيا إلا بمراعاتها، رد على المتقلبين من السلفية الذين يكيلون بالمكاييل المزدوجة، فيظهرون سلفيتهم مع من شاءوا، فيكفرونهم، ويتميعون مع آخرين، فيسكتون عنهم، فقال: (وبما أنه قد أثيرت في السنوات الأخيرة مسألة الحكم على بعض الأشخاص والموقف منهم ومن آثارهم من تصانيف ومؤلفات، وقد تناولها البعض بشيء من العاطفة وعدم الضبط لأصول أهل السنة في باب التبديع والحكم على المخالف مما نتج عنه فساد عظيم من نشر أصول بدعية وقواعد تمييعية لو طبقت لم تكد أن تبقي على الأرض مبتدعا، ولأظهرت منهج السلف عند إلتزامها –عياذا بالله- بصورة المنهج المتعسف الظالم الذي يخمد الحسنات ويطوي الخيرات ويذكر الهنات ويسقط العلماء بالزلات، ولأظهر أهله –وهم سلفنا الكرام- بصورة المنحرفين عن الطريق المستقيم وعن العدل حين الحكم في الرجال، والله المستعان على زمان فشت فيه البدع، وظهرت فيه الضلالات والموبقات حتى أصبح يصرخ ويقال لمن دعا إلى السنة (غيرت السنة)، ووالله (لو أن رجلا أنشر فيكم من السلف، ما عرف غير هذه القبلة) كما قال أبوقلابة رحمه الله تعالى في زمان هو خير من زماننا هذا)([254])

بناء على هذه الدوافع السلفية ذكر الكاتب دوافعه لاختيار النووي كشخصية تمثل المدارس الفقهية في غالب تاريخها، فقال: (لذا ارتأيت نشر هذه الرسالة مشاركة في الخير، ومن باب عدم حقران شيء من المعروف.. وقد اخترت من بين تلك الأسماء المشهورة والتي كانت سببا في إيقاع كثير من الشرور بناءا على الموقف منها: شارح صحيح الإمام مسلم يحيى بن شرف المعروف بـالنووي، وذلك لظهور حاله عند من خبره، مما يجعل النزاع لأجله والتبديع والتجديع للمحذر من طريقته والمبين لمنهجه نزاعا غريبا أجنبيا عن العلم وأهله  لا ينبغي تركه من غير تحقيق المسائل التي تعلقت به والتي ترتب من ورائها ما ترتب من الآثار، وقد اختار قوم –ممن عرفوا الحق- الدعة والسلامة -فيما يظنونه – في ترك البيان لحقيقة هذه المسائل خوفا من ألسن الطاعنين من الجهلة والسفهاء وما أكثرهم، وهم في هذا قد وقعوا في شر عظيم وغش مبين)([255])

بناء على هذا قسم فصول الكتاب عارضا لأقوال النووي على محكات التكفير السلفية، والتي على أساسها كفر الجهمية والمعتزلة والصوفية وغيرهم.. وهو يطالب في ذلك كله أصحابه من السلفية الجبناء ـ كما يسميهم ـ بالتصريح بدل التمليح، وبترك الكذب على أنفسهم وعلى الناس.

وقد بدأ ذلك كله بذكر عقيدته ـ الجهمية كما يسميها ـ في العلو والجهة، فنقل من قوله في (شرح مسلم) قوله في حديث الجارية: (هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيها مذهبان تقدم ذكرهما مرات في كتاب الإيمان، أحدهما: الإيمان به من غير خوض في معناه مع اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شيء وتنزيهه عن سمات المخلوقات، والثاني تأويله بما يليق به فمن قال بهذا قال: كان المراد امتحانها هل هي موحدة تقر بأن الخالق المدبر الفعال هو الله وحده وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء كما إذا صلى المصلي استقبل الكعبة وليس ذلك لأنه منحصر في السماء كما أنه ليس منحصرا في جهة الكعبة بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين كما أن الكعبة قبلة المصلين أو هي من عبدة الأوثان العابدين للأوثان التي بين أيديهم فلما قالت في السماء علم أنها موحدة وليست عابدة للأوثان..)([256])  

ثم نقل عن القاضي عياض قوله: (لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] ونحوه ليست على ظاهرها بل متأولة عند جميعهم، فمن قال بإثبات جهة فوق من غير تحديد ولا تكييف من المحدثين والفقهاء والمتكلمين تأول في السماء أي على السماء، ومن قال من دهماء النظار والمتكلمين وأصحاب التنزيه بنفي الحد واستحالة الجهة في حقه سبحانه وتعالى تأولوها تأويلات بحسب مقتضاها)([257])

وقد علق الشمري على هذا النص بقوله: (حاصل هذا التقرير أن النووي لا يثبت العلو للعزيز القهار، وأنه يدور في كلامه الآنف الذكر على ما دارت حوله الجهمية الأوائل، قال محمد بن يحيى بن سعيد القطان: كان أبي وعبد الرحمن بن مهدي يقولان: (الجهمية تدور أن ليس في السماء شيء)، وأخرج عبدالله في السنة عن حماد بن زيد قال: (إن هؤلاء الجهمية إنما يحاولون يقولون: ليس في السماء شيء)، وقال جرير بن عبدالحميد: (كلام الجهمية أوله عسل وآخره سم، وإنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء إله).. وعلق البخاري في خلق أفعال العباد وصححه ابن القيم عن وهب بن جرير قوله: (إياكم ورأي جهم، فإنهم يجادلون أنه ليس في السماء شيء، وما هو إلا من وحي إبليس، وما هو إلا الكفر)، فالنووي هنا إنما جنح في هذه المسألة إلى رأي جهم عياذا بالله)([258])

وبناء عليه حكم عليه بالكفر، وفي الصفحات الأولى من كتابه، ومن نص واحد من النصوص التي ذكرها في شرحه على صحيح مسلم.. وما زاد على ذلك، فهو تكفير على تكفير، وتضليل على تضليل.

وهكذا تعامل مع موقفه من حديث النزول، فقد قال النووي فيه: (هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيه مذهبان مشهوران للعلماء.. ومختصرهما أن أحدهما: وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين أنه يؤمن بأنها حق على ما يليق بالله تعالى وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد.. ولا يتكلم في تأويلها مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوق وعن الانتقال والحركات وسائر سمات الخلق.. والثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعات من السلف وهو محكي هنا عن مالك والأوزاعي أنها تتأول على ما يليق بها بحسب مواطنها فعلى هذا تأولوا هذا الحديث تأويلين: أحدهما تأويل مالك بن أنس وغيره معناه تنزل رحمته وأمره وملائكته كما يقال فعل السلطان كذا إذا فعله أتباعه بأمره، والثاني أنه على الاستعارة ومعناه الإقبال على الداعين بالإجابة واللطف)([259])

وقد علق عليه بذكر كلام السلف في منكر النزول، واعتباره جهميا، ثم قال: (سبق بيان بطلان الزعم أن مذهب السلف التفويض وزاد هنا بلية أخرى وهي قوله (مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوق وعن الانتقال والحركات)، وهذا كذب آخر على السلف فإن الحركة قد أثبتها عامة السلف والقول بنفيها هو المشهور عند الجهمية ومن وافقهم، يقول حرب الكرماني في السنة: هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أوعاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم فكان من قولهم… والله تبارك وتعالى سميع لا يشك، بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى، يقظان لا يسهو، رقيب لا يغفل، يتكلم ويتحرك)([260])

ونقل عن ابن تيمية في تكفير من يؤول هذا قوله: (..وأئمة السنة والحديث على إثبات النوعين، وهو الذي ذكره عنهم من نقل مذهبهم، كحرب الكرماني وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما، بل صرح هؤلاء بلفظ الحركة، وأن ذلك هو مذهب أئمة السنة والحديث من المتقدمين والمتأخرين، وذكر حرب الكرماني أنه قول من لقيه من أئمة السنة كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد ين منصور، وقال عثمان بن سعيد وغيره: إن الحركة من لوازم الحياة، فكل حي متحرك، وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهمية نفاة الصفات، الذين اتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتبديعهم)([261])

وبعد أن أتى بالنصوص الكثيرة الدالة على تكفير السلف ـ بمن فيهم ابن تيمية ـ لمن أنكر النزول، أو أوله، أو فوض فيه، علق عليها بقوله ـ منكرا على من يسميهم المميعة الذين يكيلون بالمكاييل المزدوجة، فيوزعون التكفير بحسب المصلحة ـ: (فهذا شيء من أقوال السلف فيمن يرد حديث النزول، أما حاله عند كثير من الخلف هو: أن هذا لا ينقص من مكانته ولا علمه ولكل جواد كبوة، وليس من شرط العالم أن لا يزل.. وما دام قدم في خدمة السنة ما قدم فهو إمام)([262])

ثم رد على هذه الأقوال التي انتهجها أصحاب التكفير التلميحي بقوله: (فأقول نعم قولكم (هذا لاينقص من مكانته) هذا على طريقة الخلف، أما على سنن السلف فإن الأمر مختلف فإن تلبس المرء بالبدع مما ينقص مكانته عندهم بلا مثنوية كما قال السجزي عنهم: كان في وقتهم علماء لهم تقدم في علوم، واتباع على مذهبهم لكنهم وقعوا في شيء من البدع إما القدر، وإما التشيّع أو الإرجاء عرفوا بذلك فانحطت منزلتهم عند أهل الحق.. وأما إدخال هذه البدع الكفرية في قول من يقول (لكل جواد كبوة) باطل لازمه الطعن في السلف، إذ الكلام هنا عن (الكبوات الكبرى =البدع والضلالات الكبرى) فمن زعم أن لكل عالم كبوات من هذا الجنس فقد طعن في العلماء، وعلى رأس العلماء السلف الكرام، فانظر كيف وقع هؤلاء القوم في الطعن بالعلماء دفاعاً عن المنحرفين.. أما أنه (ليس من الشرط العالم أن لا يزل) فصحيح، ولكن من شرطه ألا يكثر منه أو يفحش في الزلات العظام، وإلا فما الفرق بين العالم والجاهل حينئذ، بل قد يصير العالم جاهلاً بزلة واحدة.. كما أنه قد يرفع اسم الإيمان –لا الإسلام- بزلة واحدة.. ثم إن العالم حقاً هو الفقيه المتبع لا المبتدع المخالف للسنة.. وأما قول القائل في معرض الكلام عمن وقع في بدع كبرى (كفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه) غلو في الإرجاء، إذ جَعل الوقوع في هذه الضلالات من النبل، وهذا من أقبح الإرجاء عند (مرجئة التبديع=الذين لا يريدون أن يبدعوا إلا المعاند المتعمد في مخالفة الشرع).. وأما قولهم (ما دام قدم في خدمة السنة ما قدم فهو إمام) أقول نعم، هذا على طريقة المنتكسين من الخلف في حصانتهم البدعية لكل من توسع في معرفة المعلومات، أما سلفنا الصالح فوربي قد بدعوا وضللوا أناساً أفضل من الشارح بكثير كيعقوب بن شيبة والكرابيسي وداود الظاهري وغيرهم، ورضي الله عن حذيفة القائل (إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيصير بها منافقا، وإني لأسمعها اليوم من أحدكم عشر مرات).. فالرجل قد يخرج بكلمة واحدة من السنة بل من الإسلام)([263])

وهكذا تعامل معه في موقفه من تأويل صفة العين ـ كم يراها السلفية ـ كما نص على ذلك في شرحه لما رووه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله:  (إن الله تبارك وتعالى ليس بأعور ألا إن المسيح الدجال أعور عين اليمنى): (معناه أن الله تعالى منزه عن سمات الحدث وعن جميع النقائص وأن الدجال مخلوق من خلق الله تعالى ناقص الصورة فينبغي لكم أن تعلموا هذا وتعلموه الناس لئلا يغتر بالدجال من يرى تخييلاته وما معه من الفتنة)([264])

وقد علق الشمري على هذا تعليقا مطولا بإيراد أقوال السلف في تنكير منكر هذا، أو مؤوله، ومما جاء فيه قوله: (هذا تعطيل لدلالة الحديث هربا من إثبات الصفة، فإن صفة العين ثابتة بالكتاب والسنة والآثار وقد أجمع العلماء وأئمة الدين على إثباتها.. قال ابن خزيمة في كتاب التوحيد: (فواجب على كل مؤمن أن يثبت لخالقه وبارئه ما ثبت الخالق البارئ لنفسه، من العين، وغير مؤمن من ينفي عن الله تبارك وتعالى ما قد ثبته الله في محكم تنزيله، ببيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي جعله الله مبينا عنه، عز وجل، في قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].. وقد قال ابن عثيمين في عقيدة أهل السنة والجماعة: (وأجمع أهل السنة على أن العينين اثنتان، ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدجال (إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور)([265])، وبهذا يعلم أن النووي في تأويله لهذه الصفة أيضا سلك مسلك الجهمية ومن وافقهم وخالف الكتاب والسنة والإجماع)([266])

وبعد أن ذكر الشمري فصولا كثيرة تبين وقوع النووي في التجهم والتعطيل، وأنه لا يصح السكوت عن تكفيره، كما لم يصح السكوت عن تكفير غيره، عقد فصلا خاصا بتوحيد الألوهية عند النووي، ليثبت فيه وقوعه في الشرك الجلي.. ليضم إلى تجهمه وتعطيله الشرك الجلي المخرج من الملة.

وقد قدم لذلك الفصل بما تنص عليه الرؤية السلفية، وخاصة الوهابية من تعظيم هذا النوع من التوحيد، فقال: (فإن من المعلوم لدى كل موحد –إن شاء الله- أن الله عزوجل خلق العباد لعبادته وتعظيمه.. وقد بين نبينا صلى الله عليه وآله وسلم التوحيد أتم بيان، وحمى جناب التوحيد أتم حماية وسد وسائل الشرك أكمل إسداد، وهذه المسألة =مسألة سد الوسائل المفضية إلى الشرك ـ مسألة عظيمة، فالشرك إنما حصل في هذه الأمة بسبب الفتنة في القبور والغلو فيها، وبسبب الغلو في الصالحين، والغلو في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فالشرك إنما حصل في هذه الأمة بسبب هذه الأمور، منذ أن بنيت المساجد على القبور، ومنذ أن ظهر التصوف في هذه الأمة، والشرك يكثر ويتعاظم في هذه الأمة الا من رحم الله  فالأمر خطير جدا.. فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الصلاة عند القبور، ونهى عن الدعاء عند القبور، ونهى عن البناء على القبور، ونهى عن العكوف عند القبور، واتخاذ القبور عيدا، إلى غير ذلك، كل هذا من الوسائل التي تفضي إلى الشرك، وهي ليست شركا في نفسها، بل قد تكون مشروعة في الأصل، ولكنها تؤدي إلى الشرك بالله عز وجل، ولذلك منعها صلى الله عليه وآله وسلم.. وكره صلى الله عليه وآله وسلم إطلاق [الإستغاثة] عليه فيما يستطيعه، ويقدر عليه، حماية لجناب التوحيد، وسدا لذريعة الشرك، وإن كان يجوز إطلاقه فيما يقدر عليه المخلوق، فحماية جناب التوحيد من مقاصد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومن قواعد هذه الشريعة المطهرة.. فالأمر في هذا الباب كما قال عبداللطيف آل شيخ: حماية جناب التوحيد، وسد الذرائع الشركية: من أكبر المقاصد الإسلامية)([267])

ثم ذكر من أدلة وقوع النووي في الشرك الجلي قوله في [المجموع] مبينا ما يستحب أن يقوله من يزور النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا وقف أمام قبره، فقد قال: (ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويتوسل به في حق نفسه ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى، ومن أحسن ما يقول ما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب وسائر أصحابنا – يعني سائر الشافعية – عن العتبي مستحسنين له، قال: (كنت جالسا عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله وأستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي)([268])  

ثم علق على هذا بقوله: (وهذا القول خلل في التوحيد من الشارح –كفى الله المسلمين شره- فإن قوله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يتوسل به.. يستشفع به..)، ألفاظ يستمعلها هؤلاء المتصوفة ومرادهم منها السؤال والاستغاثة بالمخلوقين لا مجرد التوسل بذاته صلى الله عليه وآله وسلم حال سؤال الله تعالى، ولا يستغربن مستغرب عدي للشارح من المتصوفة فإنه متصوف جلد، وله كتاب اسمه [المقاصد] ذكر فيه أصول التصوف الخمسة، كما أنه قد أخذ الطريقة الصوفية من شيخه -في الخزعبلات!- ياسين المراكشي، كما قال السخاوي في كتابه [المنهل الروي في ترجمة قطب الأولياء النووي] عن النووي نقلا عن السبكي في الطبقات الكبرى:  شيخه في الطريق [ قلت: أي التصوف]: الشيخ ياسين المراكشي، الماضي، ويشهد له ما أسلفناه عن الذهبي في ترجمته: أن الشيخ كان يخرج إليه ويتأدب معه ويزوره، ويرجو بركته ويستشيره في أمور)([269])، وللنووي أذكار مشهورة لايزال المتصوفة يرونها بأسانيدهم متصلة إليه، فهذه حقيقة لا شك فيها عند المنصفين المطلعين، ولكن بعض الناس حالهم كما قال الله تعالى {إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية})([270])

ثم لخص حكمه على النووي بناء على ذلك النص، فقال: (والمقصود وبناءا على ما تقدم يقال هنا:  إن أراد الشارح بالتوسل والاستشفاع أي: سؤال الله عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم متوسلا بذاته صلى الله عليه وآله وسلم فهذه بدعة شركية ووسيلة من وسائل الشرك الأكبر عياذا بالله، وإن أراد الشارح الاستدلال بهذا الأثر على سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاستغاثة به –وهي التي يسميها أصحاب الشارح من المتصوفة توسلا- فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، علما بأنه قد استدل غير واحد من الملاحدة بهذه القصة على دعاء الأموات والاستغاثة بهم منهم محمد الكسم وداود بن جرجيس وغيرهما من أهل الزندقة والشرك)([271])

هذه مجرد نماذج عن الموقف من فقيه محدث له وزنه في المذهب الشافعي خصوصا، وعند سائر المذاهب الإسلامية عموما.. ولا يخرج سائر فقهاء المدرسة الشافعية عن هذا النسيج، بل لعل فيهم من هو أكثر تطرفا بالنسبة للمواقف السلفية.

وسنذكر هنا بناء عليه نماذج أخرى، وخاصة منها تلك التي وقفت موقفا سلبيا من ابن تيمية وعقيدته.. وفي ذلك كفاية للدلالة على الكفر عند السلفية، لأن المنكر على ابن تيمية في العقيدة إما أن ينكر عليه في الصفات، فيكون بذلك جهميا مؤولا معطلا، أو ينكر عليه في الموقف من التوسل والاستغاثة والتبرك، فيكون بذلك قبوريا مشركا.

 فمن هؤلاء الأعلام من الشافعية الذين يشملهم التكفير السلفي الفقيه الشيخ نجم الدين أحمد بن محمد ابن الرفعة الشافعي المصري (المتوفى 710 هـ) الذي وصفه ابن قاضي شهبه الدمشقي في (طبقات الشافعية) بأنه (الشيخ العالم العلامة شيخ الإسلام وحامل لواء الشافعية في عصره)([272])، وقد كان من الذين انتدبوا لمناظرة ابن تيمية، وهذا يدل على خلافه معه في المسائل التي ذكرنا.

ومنهم المفتي قاضي القضاة الشيخ كمال الدين محمد بن علي بن عبدالواحد الزملكاني الأنصاري الشافعي (المتوفى 727 هـ) الذي انتهت إليه رئاسة المذهب الشافعي تدريساً وإفتاء ومناظرة، وله مؤلفات في الردّ على ابن تيمية منها (العمل المقبول في زيارة الرسول)([273])، وهو بذلك يصنف ضمن القبورية عند السلفية.

وقد ذكر ابن كثير ـ تلميذ ابن تيمية النجيب ـ معجزة تحققت لابن تيمية ـ تتعلق بابن الزملكاني، وكيف أن المنية عاجلته قبل عودته إلى الشام فمات في الطريق بسبب دعاء ابن تيمية، قال ابن كثير: (وكان من نيته الخبيثة إذا رجع إلى الشام متولياً أن يؤذي شيخ الإسلام ابن تيمية، فدعـا عليه فلم يبلغ أمله ومراده فتوفي في سحر يوم الأربعاء سادس عشر شهر رمضان بمدينة بلبيس)([274])

ومنهم المفتي المحدث الشيخ شهاب الدين أحمد بن يحيى بن إسماعيل بن جهبل الحلبي (المتوفى 733 هـ)، وهو من علماء دمشق والقدس وكان مفتياً ومحدثاً ومعلماً، وصفه الذهبي قائلاً: (ابن جهبل العلامة، مفتي المسلمين)([275])، وله ردٌّ طويلٌ على ابن تيمية في نفي الجهة أورده السبكي في طبقات الشافعية الكبرى..  وذلك الرد وحده كاف لتكفيره عند السلفية.. فالجهة عندهم لا تقل عن التوحيد، بل تفوقه لأن منكر الجهة يقول بعدم الإله كما نص على ذلك سلفهم.

ومنهم الحافظ قاضي القضاة الشيخ تقي الدين علي السبكي الشافعي (المتوفى 756 هـ)، وهو من علماء الشافعية الكبار، بل هو مثلهم الأعلى، ويمثل طبقة كبيرة من العلماء في عصره ومن بعدهم إلى عصرنا الحالي.. ولذلك فإن تكفير السلفية له تكفير لكن من اتبعه أو استفاد منه أو اعتقد عقيدته. 

ومن أهم ما يلزم السلفية بتكفيره زيادة على رميهم له ولأمثاله بالتجهم والتعطيل هو تلك المصنفات التي تجعله عندهم من القبورية والمشركين شركا جليا، فمن مؤلفاته: (شفاء السقام في زيارة خير الأنام)، و(الدرة المضية في الردّ على ابن تيمية)، و(شنّ الغارة على من أنكر سفر الزيارة)

وسأنقل هنا من رسالته (الدرة المضية في الردّ على ابن تيمية) ما يلزم السلفية بالحكم عليه بمثل ما حكم ابن عبد الوهاب على محمد بن فيروز الحنبلي، والذي كفره بأقل مما قاله وفعله السبكي وإخوانه من الشافعية، فقد محمد بن عبد الوهاب في ابن فيروز: (ولكن تعرف ابن فيروز أنه أقربهم إلى الإسلام وهو رجل من الحنابلة، وينتحل كلام الشيخ وابن القيم خاصة ومع هذا صنف مصنفاً أرسله إلينا قرر فيه هذا الذي يفعل عند قبر يوسف وأمثاله هو الدين الصحيح)([276])

أما السبكي فينكر ابن تيمية ومدرسته أصلا، فقد قال في [الدرة المضيئة]: (فإنه لما أحدثَ ابنُ تيمية ما أحدثَ في أصول العقائد، ونقضَ من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد، بعد أن كان مستتراً بتبعية الكتاب والسنة، مظهراً أنه داعٍ إلى الحق هادٍ إلى الجنة، فخرج عن الاتِّباع إلى الابتداع، وشذَّ عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع…)([277])

 وقال في كـتابه (شفاء السقام في زيارة خير الأنام): (اعلم أنه يجوز ويحسن التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم  إلى ربه سبحانه وتعالى، وجـواز ذلك وحُسنه من الأمور المعلومة لكل ذي ديـن، المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين وسير السلف الصالحين والعلماء والعوام من المسلمين، ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان، ولا سمع به في زمن من الأزمان، حتى جاء ابن تيمية فتكلم في ذلك بكلام يُلبـس فيه على الضعفـاء الأغمار وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار..  وحسبك أن إنكار ابن تيمية للاستغاثة والتوسل قول لم يقله عالم قبله وصار به بين أهل الإسلام مُثلة)([278])

 وقال في كـتابه (فتاوى في فروع الفقه الشافعي) عن ابن تيمية: (وهذا الرجل كنت رددت عليه في حياته في إنكاره السفر لزيارة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وفي إنكاره وقوع الطلاق إذا حلف به، ثم ظهر لي من حاله ما يقتضي أنه ليس ممن يعتمد عليه في نقل ينفرد به لمسارعته إلى النقل لفهمه، كما في هذه المسألة، ولا في بحث ينشئه لخلطه المقصود بغيره، وخروجه عن الحد جداً، وهو كان مكثراً من الحفظ ولم يتهذب بشيخ، ولم يرتض في العلوم، بل يأخذها بذهنه، مع جسارته واتساع خياله، وشغب كثير، ثم بلغني من حاله ما يقتضي الإعراض عن النظر في كلامه جملة، وكان الناس في حياته ابتلوا بالكلام معه للرد عليه، وحبس بإجماع المسلمين وولاة الأمور على ذلك ثم مات.  ولم يكن لنا غرض في ذكره بعد موته لأن تلك أمة قد خلت، ولكن له أتباع ينعقون ولا يعون، ونحن نتبرم بالكلام معهم ومع أمثالهم، ولكن للناس ضرورات إلى الجواب في بعض المسائل)([279])

هذه أمثلة مما قاله في بعض كتبه ورسائله، وهو يدل على أن صفات أتباع ابن تيمية من السلفية المعاصرين للسبكي لا يختلفون في أي شيء عن أتباع أتباع ابن تيمية بعدهم إلى عصرنا، وكيف يختلفون ومأكل عقولهم ومشربها واحد، وهو تلك الكتب المليئة بالحقد والكراهية على جميع المسلمين، بل على جميع البشر.

ومن أتباع المدرسة الشافعية الذين سلط عليهم السلفية سيف التكفير الإمام الحافظ المفتي الشيخ صلاح الدين خليل العلائي الدمشقي المقدسي (المتوفى 760 هـ)، الذي ألف كتابا في مشروعية زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والرد على ابن تيمية في ذلك، وذلك ما يجعله قبوريا جلدا ـ كما يعبر السلفية ـ

ومنهم الحافظ قاضي القضاة العز بن جماعة (المتوفى 767 هـ) الذي ذكر المؤرخون أنه وقّع على فتوى ابن تيمية بعدم جواز شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبور الأنبياء بقوله:  (القائل بهذه المقالة ضال مبتدع)([280]).. وذلك يكفي لاعتباره قبوريا مشركا، بالإضافة لتجهمه وتعطيله الذي لا يخلو منه شافعي صادق الاتباع للشافعي.

ومنهم الشيخ عفيف الدين أبو السعادات اليافعي المكي الشافعي، (المتوفى 768هـ) صاحب الكتاب التاريخي المشهور (مرآة الجنان وعبرة اليقظان)، وقد أرخ فيه لسنة وفاة ابن تيمية بقوله: (وفيها مات بقلعة دمشق الشيخ الحافظ الكبير تقي الدين أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن عبدالله بن تيمية معتقلاً، ومنع قبل وفاته بخمسة أشهر من الدواة والورق.. سمع من جماعة وبرع في حفظ الحديث والأصلين، وكان يتوقد ذكاء ومصنفاته قيل أكثر من مائتي مجلد، وله مسائل غريبة أنكر عليه فيها وحبس بسببها مباينة لمذهب أهل السنة، ومن أقبحها نهيه عن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وطعنه في مشائخ الصوفية العارفين كحجة الإسلام أبي حامد الغزالي والأستاذ الإمام أبي القاسم القشيري والشيخ ابن العريف والشيخ أبي الحسن الشاذلي وخلائق من أولياء الله الكبار الصفوة الأخيار.. وكذلك عقيدته في الجهة وما نقل عنه فيها من الأقوال الباطلة، وغير ذلك مما هو معروف في مذهبه)([281])

وهذا النص وحده كاف عند السلفية لإدانيته بالتصوف والتجهم والقبورية والشرك الجلي والطعن في المقدسين المعصومين من أهل الحديث.

ومنهم قاضي القضاة المحدث الشيخ تاج الدين السبكي الشافعي (المتوفى 771هـ)، صاحب (طبقات الشافعية الكبرى) وغيرها من المؤلفات التي لا يزال الشافعية وغيرهم يعتمدونها، وهو لا يختلف عن والده في عقيدته أو مواقفه من ابن تيمية.

وقد قال في ترجمته لوالده الحافظ السبكي الذي مر معنا في هذا المبحث، والذي كان معاصرا لابن تيمية ومن المتصدين له: (إمامٌ ناضح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنضاله وجاهد بجداله ولم يلطخ بالدماء حد نصاله، حمى جناب النبوة الشريف بقيامه في نصره وتسديد سهامه للذب عنه من كنانة مصره فلم يخط على بعد الديار سهمه الراشق ولم يخف مسام تلك الدسائس فهمه الناشق، ثم لم يزل حتى نقى الصدور من شبه دنسها ووقي من الوقوع في ظلم حندسها، قام حين خلط على ابن تيمية الأمر وسول له قرينه الخوض في ضحضاح ذلك الجمر حين سد باب الوسيلة يغفر الله له ولا حرمها، وأنكر شدّ الرحال لمجرد الزيارة لا واخذه الله)([282])

ومنهم المحدث الكبير الذي يرجع إليه السلفية كثيرا في كتبه ومنظوماته الحديثية مع أنهم يكفرونه الحافظ زين الدين عبدالرحيم بن الحسين العراقي (المتوفى 804 هـ) الذي  نقل عنه تلميذه الحافظ بدر الدين العيني في (عمدة القاري شرح صحيح البخاري) ما يدل على كونه قبوريا جلدا ـ كما يعبر السلفية ـ فقد قال ناقلا عنه: (.. وأما تقبيل الأماكن الشريفة على قصد التبرك وكذلك تقبيل أيدي الصالحين وأرجلهم فهو حسن محمود باعتبار القصد والنية، وقد سأل أبو هريرة الحسن أن يكشف له المكان الذي قبله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وهو سرته فقبله تبركاً بآثاره وذريته  صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان ثابت البناني لا يدع يد أنس حتى يقبلها ويقول: يد مست يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال أيضاً: وأخبرني الحافظ أبو سعيد بن العلائي قال: رأيت في كلام أحمد بن حنبل في جزء قديم عليه خط ابن ناصر وغيره من الحفاظ، أن الإمام أحمد سُئل عن تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم  وتقبيل منبره فقال: لا بأس بذلك.  قال: فأريناه للشيخ تقي الدين بن تيمية فصار يتعجب من ذلك ويقول: عجبت أحمد عندي جليل يقوله؟ هذا كلامه أو معنى كلامه. وقال: وأي عجب في ذلك وقد روينا عن الإمام أحمد أنه غسل قميصاً للشافعي وشرب الماء الذي غسله به وإذا كان هذا تعظيمه لأهل العلم فكيف بمقادير الصحابة وكيف بآثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام)([283])

وقيمة هذا النص أنه يضع كلا الإمامين الكبيرين الشافعي وأحمد تحت سطوة السيف التكفيري السلفي، خاصة وأن الذي ذكر هذا موثوق عندهم في الفن الذي يتصورون أنهم يحتكرونه علم الحديث.

وقد ذكرنا سابقا أن الرؤية التي يتصورها أصحاب المذاهب لأئمة مذاهبهم تختلف اختلافا جذريا عن الرؤية السلفية، ولهذا فإن من الحيل التي يستعملها من ينفي التكفير عن السلفية هو قولهم: نحن لا نكفر أصحاب مالك ولا الشافعي.. وهم يريدون بذلك أصحابهم الذين يتصورون أنهم يتبعون أولئك الأئمة بحسب الصورة السلفية.

وهكذا عندما يقولون: لا نكفر أصحاب الأشعري، فالأشعري عندهم مختلف عن أشعري الأشعرية ذلك أنهم ينسبون إليه كتاب الإبانة الذي لا يختلف عن كتب ابن بطة والبربهاري، وأصحاب المدرسة الأشعرية ينكرون ذلك الكتاب.. والعبرة يما يقول أصحاب المدرسة، لا بما يقول غيرهم.

ومنهم الحافظ الشيخ ولي الدين نجل الحافظ زين الدين العراقي (المتوفى 826 هـ) الذي كفر كما كفر والده بسبب انـتقاداته على ابن تيـمية، وذلك في كتابه (الأجوبة المرضية في الردّ على الأسئلة المكية)

ومنهم  الإمام الفقيه تقي الدين أبي بكر الحسيني الحصني الشافعي (المتوفى 829 هـ) الذي تهجوه كل كتب السلفية بسبب انتقاداته الشديدة على ابن تيمية، ومن تصريحاته التي تثبت قبوريته ـ كما يعبرون ـ قوله: (زيارة قبر سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكرّم ومجّد من أفضل المساعي وأنجح القرب إلى رب العالمين وهي سُنة من سنن المسلمين ومجمع عليها عند الموحدين ولا يطعن فيها إلا من في قلبه خبث ومرض المنافقين، وهو من أفراخ السامرة واليهود وأعداء الدين من المشركين، ولم تزل هذه الأمة المحمدية على شدّ الرحال إليهعلى ممر الأزمان من جميع الأقطار والبلدان سواء في ذلك الزرافات والوحدان، والعلماء والمشايخ والكهول والشبان، حتى ظهر في السنين الخداعة مبتدع من حـران لبّـس على أتباع الدجال ومن شابههم من شين الأفهام والأذهان، وزخرف لهم من القول غروراً كما صنع إمامه الشيطان فصدهم بتمويهه عن سبل أهل الإيمان، وأغواهم عن الصراط السوي إلى بُنيات الطريق ومدرجة الشيطان فهم بتزويقه في ظلمة الخطأ والإفك يعمهون، وعلى منوال بدعته يهرعون، صُمّ بُكم عُميّفهم لا يعقلون)([284])

 وقال في مقدمة كتابه (دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى الإمام أحمد) الذي ألفه في الرد على ابن تيمية، وفي حيله التي كان يعتمدها هو وأتباعه: (.. ثم اعلم أن مثل هؤلاء لا يقدرون على مقاومة العلماء إذا قاموا في نحره فجعل له مخلصاً منهم بأن ينظر إلى من الأمر إليه في ذلك المجلس، فيقول له ما عقيدة إمامك؟ فإذا قال: كذا وكذا قال: أشهد أنها حق، وأنا مخطيء، واشهدوا أني على عقيدة إمامك وهذا كان سبب عدم إراقة دمه، فإذا انفض المجلس أشاع أتباعه أن الحق في جهته ومعه، وأنه قطع الجميع، ألا تروه كيف خرج سالماً؟  حتى حصل بسبب ذلك افتتان خلق كثير، لا سيما من العوام، فلما تكرر ذلك منه علموا أنه إنما يفعل ذلك خديعة ومكراً، فكانوا مع قوله ذلك يسجنونه، ولم يزل ينتقل من سجن إلى سجن حتى أهلكه الله عز وجل في سجن الزندقة والكفر. ومن قواعده المقررة عنده وجرى عليها أتباعه التوقي بكل ممكن، حقاً كان أو باطلاً ولو بالأيمان الفاجرة، سواءً كانت بالله عزوجل أو بغيره)([285])

 وقال ـ مبينا بعض خدع ابن تيمية، والتي لا يزال السلفية المعاصرون يستعملونها ـ: (ثم اعلم قبل الخوضفي ذكر بعض ما وقع منه وانتقد عليه أنه يؤكد في بعض مصنفاته كلام رجل من أهل الحق ويدس في غضونه شيئاً من معتقده الفاسد، فيجري عليه الغبي بمعرفة كلام أهل الحق فيهلك وقد هلك بسبب ذلك خلق. وأعمق من ذلك أنه يذكر أن ذلك الرجل ذكر ذلك في الكتاب الفلاني وليس لذلك الكتاب حقيقة وإنما قصده بذلك انفضاض المجلس، ويؤكد قوله بأن يقول ما يبعد أن هذا الكتاب عند فلان، ويسمى شخصاً بعيد المسافة، كل ذلك خديعة ومكراً وتلبيساً، لأجل خلاص نفسه، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله)([286])

 وقال: (إن ابن تيمية الذي كان يوصف بأنه بحر من العلم، لا يستغرب فيه ما قاله بعض الأئمة عنه من أنه زنديق مطلق، وسبب قوله ذلك أنه تتبع كلامه فلم يقف له على اعتقاد حتى أنه في مواضع عديدة يكفر فرقة ويضللها وفي آخر يعتقد ما قالته أو بعضه، مع أن كتبه مشحونة بالتشبيه والتجسيم، والإشارة إلى الازدراء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والشيخين وتكفير عبدالله بن عباس وأنه من الملحدين، وجعل عبدالله بن عمر من المجرمين وأنه ضال مبتدع)([287])

ونحن وإن كنا لا نحبذ التكفير من أي طرف من الأطراف، لكن قيمة كتاب الحصني أنه كشف تلك الدسائس والحيل التي كان ابن تيمية يمارسها، والتي لا يزال أتباعه للأسف يفعلونها بحذاقة.. وكيف لا يفعلوها وهو إمامهم المقتدى، وشيخ إسلامهم المعتبر.

ومنهم قاضي القضاة الشيخ نجم الدين عمر بن حجي السعدي الشافعي (توفي 830 هـ)، فمن أقواله في ابن تيمية ـ التي تدينه عند السلفية، بل تكفره ـ: (هذا الرجل المسئول عنه في الاستفتاء كان عالماً متعبداً، ولكنه ضلّ في مسائل عديدة عن الطريق المستقيم والمنهج القويم، لا جرم  سجن بسجن الشرع الشريف بعد الترسيم وأفضى به إعجابه بنفسه إلى الجنوح إلى التجسيم الذي ابتدعتهاليهود الذين أشركوا بالواحد الأحد المعبود. وتغالى فيه أصحابه وأتباعه حتىقدموه على جميعالأئمة وعلى علماء الأمة. وهجر مذهب الإمام أحمد الذي أتباعه بالإجماع أولى وأحمد، ورد عليه العلماء المحققون. وسجنه حكام الشريعة الأقدمون ونودى بدمشق أن لا ينظر أحدٌ في كلامه وكتبه وهرب كلٌّ من أتباعه ومَن هو على مذهبه واعتقاده. والعجب كل العجب من جُهَّال حنابلة هذا الزمان يغضبون إذا قيل لهم: (أخطأ ابن تيمية)، وربما اعتقد بعضهم أن قائل ذلك ملحد، ولا يغضبون إذا قيل لهم: أخطأ الشافعي وأبو حنيفة ومالك والإمام أحمد. اللهم اشهد أني برئ من كل مجسم ومشبه ومعطل وإباحي وحلولي واتحادي وزنديق وملحد ومن كل من خالف اعتقاد أهل السنة والجماعة. وبرئ من كل من منع من زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ومن شدّ الرحل إليه ومن زيارة قبور الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين. اللهم وإني أسألك وأتوسل إليك بسيد الأولين والآخرين رسول رب العالمينوالأولياء والصالحين أن تحييني على الإسلام وتميتني على الإيمان على اعتقاد أهل السنة والجماعة سالمـاً من اعتقاد أهل الزيغ والضلال والبدع والإضلال.)([288])

ومنهم الحافظ شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني (المتوفى 923 هـ) صاحب (المواهب اللدنية بالمنح المحمدية)، وهو بالمعايير السلفية بالإضافة لتجهمه وتعطيله قبوري مشرك، فقد قال في (المواهب اللدنية) عن ابن تيمية: (وللشيخ تقي الدين بن تيمية هنا كلام شنيع عجيب يتضمن منع شد الرحال للزيارة النبوية المحمدية، وأنه ليس من القرب بل بضد ذلك، وردّ عليه الشيخ تقي الدين السبكي في (شفاء السقام) فشفى صدور المؤمنين)([289])

ومنهم الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي المكي الشافعي (المتوفى 974 هـ) المشهور بانتقاداته الشديدة على ابن تيمية، وفيها ما يكفي للدلالة على تكفيره ـ على حسب المعايير السلفية ـ فمن أقوال في ابن تيمية: (ابن تيمية عبد خذله الله وأضله وأعماه وأصمه وأذله، وبذلك صرح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذب أقواله، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد أبي الحسن السبكي وولده التاج والشيخ الإمام العز بن جماعة وأهل عصرهم وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفية، ولم يقصر اعتراضه على متأخري الصوفية بل اعترض على مثل عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب كما سيأتي، والحاصل أن لا يقام لكلامه وزن بل يرمى في كل وعر وحزن، ويعتقد فيه أنه مبتدع ضال ومضل جاهل غال، عامله الله بعدله وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله.. وأخبر عنه بعض السلف أنه ذكر عليّ بن أبي طالب في مجلس آخر فقال: إن علياً أخطأ في أكثر من ثلاثمائة مكان، فيا ليت شعري من أين يحصل لك الصواب إذا أخطأ عليّ بزعمك)([290])

وقال في (الجوهر المنظم في زيارة القبر الشريف النبوي المكرم): (فإن قلت كيف تحكي الإجماع السابق على مشروعية الزيارة والسفر إليها وطلبها، وابن تيمية من متأخري الحنابلة منكر لمشروعية ذلك كله؟.. قلت: من ابن تيمية حتى ينظر إليه أو يعول في شيء من أمور الدين عليه، وهل هو إلا كما قال جماعة من الأئمة الذين تعقبوا كلماته الفاسدة وحججه الكاسدة حتى أظهروا عوار سقطاته وقبائح أوهامه وغلطاته كالعز بن جماعة: عبد أضله الله تعالى وأغواه وألبسه رداء الخزي وأرداه، وباه من قوة الافتراء والكذب ما أعقبه الهوان وأوجب له الحرمان.. حتى تجاوز إلى الجناب الأقدس منزه سبحانه وتعالى عن كل نقص والمستحق لكل كمال أنفس، فنسب إليه العظائم والكبائر، وأخرق سياج عظمته وكبرياء جلالته بما أظهره للعامة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم، وتضليل من لم يعتقد ذلك من المتقدمين والمتأخرين حتى قام عليه علماء عصره وألزموا السلطان بقتله أو حبسه وقهره، فحبسه إلى أن مات، وخمدت تلك البدع وزالت تلك الظلمات، ثم انتصرت له أتباع لم يرفع الله تعالى لهم رأساً، ولم يظهر لهم جاهاً ولا بأساً بل ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)([291])

ومنهم المحدث محمد بن عبدالرؤوف المناوي الشافعي (المتوفى 1031 هـ) صاحب (فيض القدير شرح الجامع الصغير) الذي يعتبر مرجعا كبيرا في شرح الحديث وتخريجه، والسلفية ـ وخصوصا الألباني ـ يرجعون إليه كثيرا، وإن كانوا يكفرون صاحبه.

بل إنه هو نفسه يكفرهم، فقد قال في شرح حديث (أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته): (والكلام كله في مبتدع لا يكفر ببدعته، أما من كفـر بها، كمنكر العلم بالجزئيات، وزاعم التجسيم أو الجهة أو الكون، أو الاتصال بالعالم أو الانفصال عنه، فلا يوصف عمله بقبول ولا ردّ لأنه أحقر من ذلك)([292])، وهذا النص وحده كاف في تكفيره لهم، وتكفيرهم له.

ومنهم المحدث الشيخ محمد بن علي الصديقي المكي الشافعي (المتوفى 1057 هـ صاحب (المبرد المبكي في الردّ على الصارم المنكي)، في الرد على كتاب ابن عبدالهادي تلميذ ابن تيمية، والذي يعتمد عليه السلفية في مناقب شيخهم.. والكتاب وحده كاف في الدلالة على تكفيره بمعاييرهم المختلفة: التجهم والتعطيل والقبورية وغيرها.

ومنهم الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد الخفاجي المصري، (المتوفى 1069 هـ) صاحب (نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض)، فقد قال في فصل عقده لزيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم: (وزيارة قبره سنة مأثورة مستحبة مجمع عليها، أي على كونها سنة، ولا عبرة بمن خالف فيها كابن تيمية.. واعلم أن هذا الحديث هو الذي دعا ابن تيمية ومن تبعه كابن القيم إلى مقالته إلى مقالته الشنيعة التي كفـروه بها، وصنف فيها السبكي مصنفاً مستقلاً وهي منعه من زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم  وشدّ الرحال إليه..  فتوهم أنه حمى جانب التوحيد بخرافات لا ينبغي ذكرها، فإنها لا تصدر عن عاقل فضلاً عن فاضل سامحه الله عزوجل)([293])

ومنهم الشيخ رضوان العدل بيبرس الشافعي المصري (المتوفى 1303 هـ) وهو الذي قال مؤرخا للوهابية في كتـابه (روضة المحتـاجين لمعرفة قواعـد الدين): (ثم ظهر بعد ابن تيمية محمد بن عبدالوهـاب في القرن الثاني عشر، وتبع ابن تيمية وزاد عليه سخفاً وقبحاً، وهو رئيس الطائفة الوهابية قبحهم الله، وتبرأ منه أخوه الشيخ سليمان بن عبدالوهاب وكان من أهل العلم)([294])

ومنهم المحدث عبد ربه بن سليمان القليوبي الأزهري، (كان حياً في عام 1377 هـ) صاحب كتاب (فيض الوهاب في بيان أهل الحق ومن ضل عن الصواب)، وهو كتاب ضخم في ستة أجزاء في الردّ على ابن تيمية وابن عبدالوهاب والسلفية جميعا، وذلك وحده كاف لإدانته وتكفيره.

ومن كلامه في ابن تيمية قوله: (ابن تيمية الذي أجمع عقلاء المسلمين أنه ضال مضل، خرق الإجماع وسلك مسالك الابتداع، الذي ما ترك أمراً مخالفاً ولا مبدءاً معارضاً لما عليه إجماع المسلمين إلا وسلكه، فكان كل من كان على هذا المبدأ من أهل الضلالة المقابل لأهل الحق يدعو إلى هذا المبدأ، وهم حزب الشيطان المقابل لحزب الرحمن، إذ الأمر في الدين اثنان لا ثالث لهما)([295])

ومنهم العلامة الجليل الشهيد الدكتور الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي الذي يتهمه السلفية بكل ما يتهمون به سائر الشافعية وأصحاب المذاهب المختلفة بالتجهم والتعطيل والقبورية والشرك ونحوها.. وقد ذكرنا في كتابنا [لحوم مسمومة] موقف السلفية المتشدد منه، واعتباره رأسا من رؤوس الضلال، فلا نعيده هنا.

وقد ختم حياته رحمه الله بالشهادة على أيديهم.. فهنيئا له بها، ورزقنا الله مثلها.

ومنهم العلامة المعاصر الجليل المحدث الشيخ محمود سعيد بن ممدوح الشافعي، صاحب التحقيقات الكثيرة في الحديث وغيره، والذي يتهم بكل ما اتهم به الشافعية من تجهم وتعطيل وقبورية بالإضافة للرفض.. لانتصاره لآل البيت وأتباعهم.

ومن أقواله التي لا تحمل إلا على الكفر ـ عند السلفية ـ قوله: (وآخرون يتولون العترة المطهرة، ولكن بحد وإلى مقام لا يتجاوزونه البتة، فتراهم يأتون إلى كل فضيلة لعليّ عليه السلام ثابتة بالأحاديث الصحيحة فيتأولونها دفعاً بالصدر لتوافق بعض المذاهب، فإذا جاء في الأحاديث الصحيحة أن علياً مولى المؤمنين وأنه لا يغادر الحق وأنه أعلم وأشجع الصحابة وأسبقهم إسلاماً وهو الكرار الذي لم يهزم، إلى غير ذلك اشتغلوا بتأويل الأحاديث الصحيحة بما يوافق المذهب، وازداد بعضهم جحـوداً بالالتجاء إلى منـهاج بـدعة ابن تيمـية فيعولون عليه في نفي خصائص عليّ عليه السلام، وتدعيم أسـس النّصـب)([296])

هذه مجرد نماذج عن تكفير السلفية لأعيان المدرسة الشافعية، ومن شاء أن يستزيد، فليذهب للمكتبة الشافعية، وليقرأ ما كتبه أعلامها ابتداء من القرون الأولى لظهورها، وسيكتشف في كل كتاب منها من النصوص ما يضع صاحبه في سجلات التكفير السلفية الضخمة.

مدرسة الحنابلة:

قد يتصور البعض ممن لا يعرف تاريخ المدارس الفقهية، ولم يطلع على تراثها وأعلامها أن الحنابلة شيء واحد، وأنهم مدرسة ممتدة من أحمد بن حنبل بل من قبله من أهل الحديث إلى عصرنا الحالي، وهذا خطأ جسيم.. لأن الحنابلة كسائر المذاهب الفقهية كان فيها الكثير من الصوفية ـ الذين يكفرهم السلفية لتصوفهم ـ وكان فيهم الكثير من المؤولة والمفوضة ـ الذين يكفرهم السلفية لتجهمهم وتعطيلهم ـ وكان فيهم الكثيرمن الذين يمتلئ تاريخهم بمحبة الصالحين والتبرك بقبورهم، ممن يسميهم السلفية قبورية ومشركين.

ومن أقوى الأدلة على ذلك أن ابن عبد الوهاب كفر الحنابلة المعاصرين له، بل المساكنين له في نجد بسبب رميه لهم بالقبورية والشرك الأكبر، وقد سبق ذكر بعض النماذج على ذلك.

بل حتى أحمد بن حنبل نفسه، نجد له صورتين: صورة سلفية هي التي يعظمونها، ويقدرونها، ويلصقون بها كل تجسيم ونصب.. وصورة أخرى نجدها عند الفريق الآخر من الحنابلة تمثله ورعا تقيا عفيفا منزها.

ونحن لا يعنينا أي صورتين هي الصحيحة.. لأن الأمر فوق الأشخاص، وإنما يعنينا هنا أن نبحث في شمولية التكفير السلفي للأمة جميعا، بما فيها فريق كبير محترم من الحنابلة.

وحتى لا نقع في أي جدال مع أي طرف حول ما يصح وما لا يصح في تاريخ أي شخص، وما روي عنه، فسأكتفي هنا بنموذجين للتكفير السلفي للحنابلة، وكلاهما يمثل قسما محترما منهم، أما أولهما فيرتبط بالمنزهة من الحنابلة، وتكفير السلفية لهم بتهمة التعطيل والتجهم، وأما الثاني، فيرتبط بالصوفية أو من يتبركون بالقبور ونحوها، وهم ممن يطلق عليهم السلفية لقب القبورية، ويتهمونهم بالشرك الجلي.

وقبل ذلك أسوق نصا مهما من رجل تربي بين الحنابلة، وفي المدرسة الوهابية، وهو أدرى بها، وبأقسامها، وهو الشيخ حسن بن فرحان المالكي، وذلك في كتابه المهم [نصيحة لشباب المسلمين  في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية]، والذي ذكر فيه الكثير من نماذج تكفير كبار علماء السعودية للمسلمين، وغلوهم في ذلك.

وقد احتاج في مقدمة كتابه أن يوضح معنى كلمة علماء السعودية، ومذاهبهم، ويعنينا من كلامه مدى ارتباطهم بالمذهب الحنبلي، فقد قال تحت عنوان [القيد السابع: علماء في (عقائد الحنبلية) فقط]: (كان هذا القيد ضرورياً وعلمياً أكثر من القيود السابقة، وهذه القيود تأتي فائدتها عندما نرى أنها من أكبر عوامل الوحدة وأقوى محفزات التواضع والهدوء والعلمية، فقد سبق أن ذكرنا أن لقب (أهل السنة) لقب استحوذ عليه مذهبان (الأشاعرة والحنابلة)، فهذا ما لا ينكره علماء المملكة.. كما أن (لقب السلفية) محل تنازع في التفسير لا في الاسم.. وعلماء المملكة لا يدعون أنهم أشاعرة  في العقيدة، بل هم يذمون الأشاعرة ويبدعونهم ويعدونهم من الفرق الهالكة يوم القيامة، ولا يستطيعون إثبات أن تلك التفصيلات العقدية كان يعتقدها (السلف) من الصحابة وكبار التابعين،  فما بقي إلا كونهم (حنابلة) فهنا يقل النزاع… ويسلم خصومهم من أهل السنة الآخرين.. ويستطيعون أن ينسبوا لأحمد بن حنبل ماعجزوا عن نسبته إلى السلف من الصحابة والتابعين.. إذن فهم (حنابلة في الأصل، رغم أنهم منتسبون إلى الألقاب المتنازع عليها كأهل السنة  والسلفية)([297]

وهنا يقع إشكال كبير في مدى صدق انتساب هؤلاء للمذهب الحنبلي، وقد حل هذا الإشكال بقوله: (لكننا نجدهم لا يتسمون بـ(الحنابلة) إلا من جهة الفقه فقط، أما من جهة العقيدة فإنهم يتسمون أو يتلقبون بالألقاب الأكثر سعة (كأهل السنة والسلفية) ربما لأنهم يريدون أن يثبتوا أنهم هم (أهل سنة) فقط وغيرهم (مبتدعة) وإن انتسبوا (للسنة)… وأنهم (أتباع السلف الصالح من الصحابة والتابعين) وإن انتسب غيرهم لسلف صالح من صحابة وتابعين.. ربما.. لكن بما أنهم يرون أن الإمام أحمد هو إمام أهل السنة.. وأن عقيدته ومدرسته سنية سلفية فهم (حنابلة) في العقيدة… مادام أن الحنابلة سنة وسلفية… فلا ضير في نسبتهم إلى أحمد عقيدة وفقهاً.. لقلة من ينازعهم على هذا اللقب، وكثرة من ينازعهم على الألقاب الأخرى العامة)([298])

لكن الشيخ حسن يعود فيتساءل: (هل هم حنابلة في العقيدة؟ وهل الحنابلة في العقيدة مذهب أم مذاهب؟)([299])

ثم يجيب عن هذا التساؤل بقوله: (سؤال لا يعرف دقته إلا من قرأ المسيرة الحنبلية.. عندها سيعرف أن الحنابلة مذاهب وتيارات.. فمن أي هذه التيارات أتت المدرسة الحنبلية التي ينتمي إليها علماء المملكة؟.. إنها مدرسة ابن تيمية.. إذن فالقيد الواجب إضافته يكون على النحو التالي: القيد الثامن: علماء في (العقيدة الحنبلية التيمية) فقط.. [ذلك] أن (العقيدة الحنبلية) تنازع فيها فريقان من الحنابلة المتفقين في الفقه والمختلفين في العقيدة..  ثم جاء فرقة ثالثة (وهي فرقة ابن تيمية) خالفتهما معاً  في العقيدة في أمر  هو عندها (لب العقيدة) وهي مسألة القبور وتوابعها من تبرك وتوسل وتعظيم وصلاة عندها… وبما أن هذه المسألة (القبور والصالحين والتبرك..) هي من صلب العقيدة عند ابن تيمية فلا بد أن تكون كافية لجعل (التيمية) فرقة مستقلة رغم أنها  تلتقي مع الحنابلة في كثير من العقائد كالصفات والرؤية والصحابة والقدر)([300])

ثم يبين الشيخ حسن انقسام الحنابلة من حيث العقائد إلى قسمين أولهما: (حنابلة هم أقرب للأشعرية كابن الجوزي فهو حنبلي اتفاقاً من حيث الفقه، ولكنه من حيث العقيدة  هو من (المنزهة)، وكونه من المنزهة أنكر بعض الحنابلة حنبليته في العقيدة وإن أقر بها في الفقه، وعلى كل ففيه خلاف هل هو أشعري ينتسب لأحمد أم حنبلي ينتسب لأحمد.. فهو ينتسب لأحمد ويقول عن نفسه (حنبلي) ويكتب في (مناقب أحمد) ويصنف في (الفقه الحنبلي) ويقول إن أحمد (كان مثله منزهاً) فابن الجوزي لكن بالإجماع  (منزه ومؤول) سواء كان هذا التأويل هو مذهب أحمد أو مذهب الأشعري.. ومن قرأ كتابه (دفع شبه التشبيه) وجده مؤولاً في العقائد بوضوح… وقد كان لهذا الشيخ الحنبلي المنزه صولة في القرن السادس ثم اضمحل مذهبه شيئاً فشيئاً… إلى أن قضى عليه ابن تيمية في القرن الثامن)([301])

والقسم الثاني: (حنابلة هم أقرب للكرامية [وهي فرقة جمعت بين التصوف والتجسيم] كالحنابلة المتقدمين  من تلاميذ أحمد كعبد الله بن أحمد والمروذي والدارمي (قبل 300هـ) ثم تلاميذهم كالخلال والبربهاري (بعد 300هـ) ثم تلاميذهم كابن بطة (قبل 400هـ) ثم تلاميذه كابن حامد (على رأس الـ400هـ) ثم تلاميذه كأبي يعلى (458هـ)… وهم أغلبية الحنابلة المتقدمين.. ومن قرأ كتبهم في العقائد يجدهم (مشبهة).. وهذه الحنبلية انتصر لها ابن تيمية إلا في مسألة القبور وتوابعها)([302])

وبذلك فإن هذا القسم من الحنابلة، وإن كان معتبرا من ناحية التجسيم والتشبيه عند السلفية إلا أنه مكفر من جهة تعظيم القبور، أو الميل للتصوف.

وقد بين المالكي مزايا الحنبلية التيمية ودوافع ظهورها، فقال: (الحنبليتان السابقتان حنبلية ابن الجوزي وحنبلية المتقدمين – مع اختلافهما القوي في الصفات-  إلا أنهما يتفقان في الفقه وفي التصوف.. أما الفقه فلا يهمنا هنا فقد سبق الكلام عنه.. وليس ذي إشكال كبير لا عند ابن تيمية ولا عند علماء المملكة.. وأما الصفات فقد انتصر ابن تيمية لفرقة الحنابلة المتقدمين.. وقضى على ما تبقى من حنبلية ابن الجوزي كما سبق.. وأما التصوف ومسألة القبور فقد كانت منطقة الإفتراق بين ابن تيمية والمذهبين الحنبليين السابقين كليهما.. ومن هنا (نشأت الفرقة الحنبلية الثالثة وهي: التيمية).. وهذا اللقب معروف  عند كثير من المؤلفين في العقائد)([303])

وقد ختم المالكي هذه التحليلات التاريخية المهمة جدا، باعتبار الحنابلة مدسة تشمل تيارات متعددة، والتكفير على أكثرها سار مثله مثل سائر المذاهب، فقال: (إذن فليس الحنابلة على مذهب واحد في العقيدة.. ومن حسن الحظ أننا نستطيع اليوم أن نقول هذا باطمئنان لأن كتب هذه الفرق الثلاث مطبوعة متوفرة وهي مختلفة في العقائد يرد بعضها على بعض ويضلل بعضها بعضاً ويبدعه… إذن فليس عندنا الرغبة في تقسيم المقسم… وإنما هذه حقيقة… الحنابلة أنفسهم مختلفون في العقائد… وانتقل هذا الإختلاف من التبديع في عهد ابن الجوزي  إلى الحكم على الفعل بالشرك في عهد ابن تيمية.. إلى تبادل التكفير الصريح بين علماء الحنابلة في عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومدرسته)([304])

وقد ضرب بعض الأمثلة على ذلك، فقال: (من يقرأ مناقب أحمد لابن الجوزي الحنبلي (المؤول المنزه) يجده معظماً لمسألة القبور وتوابعها، ومن يقرأ آراء الحنابلة  المتقدمين (المشبهة المثبتة)  في التراجم… يجدهم معظمين لمسألة القبور وتوابعها… بل بعضهم موغل في التصوف إلى القول بوحدة الوجود كالهروي الحنبلي.. ومن يقرأ كتب ابن تيمية يجده مستنكراً لمسألة القبور وتوابعها، ففارق ابن تيمية في هذه المسألة المذهب الحنبلي كله)([305])

وبذلك فإن مدرسة الحنابلة بالنسبة للسلفية لا يختلف الحكم عليها عن سائر المدارس، اللهم إلا من تبع ابن تيمية منهم.. بل لا يكفي ذلك، فقد كان من أتباع ابن تيمية من كفره ابن عبد الوهاب..

وقد لخص المالكي الفروقات بين ابن تيمية والحنابلة، فقال: (فابن تيمية اتفق مع حنبلية ابن الجوزي في الفقه فقط.. واتفق مع حنبلية المتقدمين في الفقه والصفات معاً.. ولكنه اختلف مع الحنبليتين في (موضوع القبور والتبرك والتوسل)..من هنا قلنا: إن ابن تيمية له مذهب في العقائد يختلف عن الحنابلة كلهم في هذه المسألة)([306])

ولخص الفروقات التي ميزت حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن مدرسة ابن تيمية بقوله: (ومن هنا نعلم سر اختيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب  لمدرسة ابن تيمية دون غيرها من مدارس الحنابلة العقدية.. فضلاً عن مدارس السنة..لقد اختار مدرسة ابن تيمية وجلبها إلى نجد لأجل هذه العقيدة ضد أصحاب القبور والتوسل والتبرك والتصوف فقط..  فهو لم يجلب  (ابن تيمية) من أجل (الفقه).. ولا من أجل (ذم الجهمية والمعتزلة والشيعة).. ولا من أجل (مسألة خلق القرآن).. ولا الرؤية  والميزان والصراط والشفاعة وصفة نعيم الجنة وعذاب النار… كلا.. لأن هذه الأمور (الفقه والعقائد) كانت موجودة أصلاً عند حنابلة نجد.. وهي أصيلة في التيارات أو الاتجاهات الحنبلية الثلاثة.. وقد كانت كتب ابن تيمية (الفقهية لا العقدية) محل اهتمام عند حنابلة نجد.. وبما أن كتب ابن تيمية (الفقهية) معروفة  عند حنابلة نجد.. فكأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يقول: هذا شيخكم الحنبلي شيخ الإسلام صاحب الإختيارات وماليء الدنيا وشاغل الناس يقرر بأن ما أنتم عليه هو (الشرك الأكبر) الذي يوجب القتل والجهاد)([307])

ولخص الإضافات الوهابية للمدرسة الحنبلية والتيمية، فقال: (أما إضافات الوهابية،  فأشهرها الحكم على البلدان الإسلامية التي فيها (تعظيم للقبور أو تبرك وتوسل بالصالحين) بأنها بلا د شرك وليس بلاد إسلام.. والحكم على سكانها أو المتأولين من علمائها بأنهم كفار..  والتصريح بتكفير للمعينين من علماء الحنابلة فضلاً عن غيرهم.. وإنزال الآيات التي نزلت في المشركين وجعلها في المسلمين…وتقسيم بلاد الإسلام لديار إسلام تابعة للوهابية وديار كفر تابعة لمخالفيهم.. وإضافة شروط لـ (لا إله إلا الله).. وإضافة نواقض لها… وجعلها في المسلمين المخالفين للوهابية.. فإذا كان من نواقض الإسلام التي ذكرها ابن تيمية (مظاهرة المشركين على المسلمين) فقد جعلها الوهابية (في مظاهرة المشركين من أهل العيينة على المسلمين من أهل الدرعية).. أعني أنزلوا خصومهم منزلة المشركين الأصليين وأنزلوا أنفسهم منزلة المسلمين فقط الذين لا يوجد في الأرض غيرهم)([308])

وتأكيدا لهذا الوصف الدقيق الذي ذكره الشيخ حسن بن فرحان المالكي للتاريخ الحنبلي، والذي يدل عليه كل التراث الحنبلي،  سأنقل هنا وصفا من كتاب علمي أكاديمي أرخ فيه صاحبه لنجد وحنابلتها في الوقت الذي ظهر فيه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو يبين بوضوح أن السيطرة في المذهب الحنبلي كانت للجناح الذي اختارته الأمة جميعا: التنزيه في العقائد على منهج المتكلمين، والتربية الروحية على منهج الصوفية.

وبذلك فإن المدرسة الحنبلية في الحقيقة لم تكن تختلف كثيرا عن سائر المدارس الإسلامية، وخاصة في مواقفها التنزيهية أو التبرك بالأولياء وزيارة القبور ونحوها، ولهذا بدأ تكفير ابن عبد الوهاب وتلاميذه للأمة من تكفيره للحنابلة المعاصرين له ومن قبلهم.

والكتاب بعنوان [مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية: خلال القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر] من تأليف د. عبدالعزيز بن محمد بن علي آل عبداللطيف، وهو أستاذ مشارك بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

وقد قال الكاتب في مقدمة كتابه: (هذا بحث يهدف إلى جمع آراء علماء نجد في مسائل الاعتقاد قبل الدعوة الإصلاحية، وخلال القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر الهجري، وتبرز أهمية هذا البحث بأن الواقع العقدي لبلاد نجد قبل الدعوة لم يأخذ حظّه من الدراسة والتحرير، وإن وُجدت دراسات فهي تقتصر على الجانب التاريخي فحسب، وقد يخفى على الكثير أن المسالك الكلامية وطرائق الصوفية قد غشيت بلاد نجد – كما هو مذكور في هذا البحث- فلا يزال واقع نجد قبل الدعوة محل اختزال عند بعض الباحثين، كما أن هذا الواقع وما يحتمله من الذم أو المدح هو محل جدل ونقاش بين الباحثين المعاصرين، ففريق يغرق في ذم هذا الواقع، ويعمم في قدحه، وآخر يقلص هذا الانحراف، ويقلل من شأنه. إضافة إلى ذلك فإن جملة من العداء والخصومة بين الدعوة ومخالفيها في مسائل التوحيد والشرك والتكفير والقتال، فإنه لا ينفك عند الخصوم من جذور كلامية، وشطحات صوفية، وقد تتبع الباحث آراء مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة، واستخرجها من كتب الاعتقاد والفقه، والتاريخ والتراجم، والرسائل الشخصية والأشعار.. ثم صنفها)([309])

ومن فصول الكتاب المهمة التي بين فيها الباحث التوافق الشديد بين سائر مذاهب الأمة والمذهب الحنبلي: (الفصل الثاني: علم الكلام عند علماء نجد.. والفصل الثالث: التصوف عند علماء نجد)، وقد بين فيهما بالأدلة الكثيرة من كتب الحنابلة أنفسهم، ومن كتب أئمة الدعوة الوهابية أن الحنابلة في ذلك الحين دخلهم علم الكلام والتنزيه الكلامي الذي يتناقض مع الرؤية السلفية التي تعتبره تجهما وتعطيلا وكفرا.. ودخلهم كذلك البعد الصوفي بجميع آثاره، والذي يرميه السلفية بالقبورية والشرك الجلي.. والأدلة كلها تشير إلى أن غيرهم من الحنابلة في سائر بلاد العالم الإسلامي كانوا على منهاجهم.

وقد أشار الكاتب في الفصل الذي عقده عن حنابلة نجد وعلم الكلام إلى أن الحنابلة الحقيقيين الذين ساروا على منهج السلف لم يكونوا إلا عددا محدودا جدا مقارنة بغيرهم.

وقد نقل من ذلك عن ابن القيم قوله: (وجميع المتقدمين من أصحابه على مثل منهاجه، وإن كان بعض المتأخرين منهم من دخل في نوع من البدعة التي أنكرها أحمد، ولكن الرعيل الأول من أصحابه كلهم وجميع أئمة الحديث قولهم قوله)([310])

وقد علق الكاتب على هذا النص بقوله: (فالحنابلة الأوائل على طريقة الإمام أحمد كالخلال وأبي داود ونحوهما، وكذا من سلك طريقة المحدثين من أصحابه كالآجري وابن بطة وغيرهما، بخلاف المتأخرين من الحنابلة كالتميميين وأشباههم)([311])

وقد أشار ابن تيمية ـ في معرض حديثه عن التميميين ـ إلى هذا، فقال: (أما التميميون  كأبي الحسن وابن أبي الفضل وابن رزق الله، فهم أبعد عن الإثبات وأقرب إلى موافقة غيرهم وألين لهم؛ ولهذا تتبعهم الصوفية ويميل إليهم فضلاء الأشعرية: كالباقلاني والبيهقي؛ فإن عقيدة أحمد التي كتبها أبو الفضل هي التي اعتمدها البيهقي مع أن القوم ماشون على السنة. وأما ابن عقيل فإذا انحرف وقع في كلامه مادة قوية معتزلية في الصفات والقدر وكرامات الأولياء)([312])

وبهذا الإقرار من ابن تيمية وابن القيم يصبح كبار أعلام الحنابلة وفضلاءهم من جملة المنزهة الذين لا يتوقف السلفية في تكفيرهم.. وهم يروون عن أحمد وأصحابه الكبار ما يدل على التنزيه.. وبذلك يكون يصبحون جميعا محل الخلاف من السلفية.. لأنه إذا صح ما يروى عن أحمد وتلاميذه الكبار من التنزيه أو من التبرك فلن ينجو أحد من الحنابلة ما عدا الذين يعظمهم ابن تيمية والسلف المتأخرين كابن بطة وغيره.

وهكذا أشار إلى هذا ابن تيمية في موضع آخر، فقال: (إن الإمام أحمد في أمره باتّباع السنة، ومعرفته بها ولزومه لها، ونهية عن البدع، وذمّه لها ولأهلها بالحال التي لا تخفى ثم إن كثيراً مما نصّ هو على أنه من البدع، صار بعض أتباعه يعتقد أن ذلك من السنة، وأن الذي يُذم من خالف ذلك.. وكذلك ما أثبته أحمد من الصفات التي جاءت بها الآثار، واتفق عليها السلف، كالصفات الفعلية من الاستواء والنـزول والمجيئ والتكلم إذا شاء وغير ذلك، فينكرون ذلك بزعم أن الحوادث لا تحل به، ويجعلون ذلك بدعة، ويحكمون على أصحابه بما حكم به أحمد في أهل البدع، وهم من أهل البدعة الذين فهم أحمد، لا أولئك، ونظائر هذا كثيرة، بل قد يُحكى عن واحد من أئمتهم إجماع المسلمين على أن الحوادث لا تحلّ بذاته، لينفي بذلك ما نصّ أحمد وسائر الأئمة عليه من أنه يتكلم إذا شاء، ومن هذه الأفعال المتعلقة بمشيئته)([313])

وهكذا نرى علما كبيرا من أعلام السلفية ينكر على الحنابلة ميلهم إلى المنزهة، وذلك في فصل عقده لذلك بعنوان: [الحذر من الركون إلى كل أحد، والأخذ من كل كتاب؛ لأن التلبيس قد كثر، والكذب على المذاهب قد انتشر]([314])، قال فيه: (إن أحوال أهل الزمان قد اضطربت، والمعتمد فيهم قد عزّ، والكذب على المذاهب قد انتشر، فالواجب على كل مسلم يحب الخلاص أن لا يركن إلى كل أحد، ولا يعتمد على كل كتاب، ولا يسلم عنانه إلى من أظهر له الموافقة، فلقد وقفت على رسالة عملها رجل من أهل أصبهان يعرف بابن اللبان، وسماها [شرح مقالة الإمام الأوحد أبي عبدالله أحمد بن حنبل] وذكر فيها مذهب الأشعري المخالف لأحمد، أعطى نسخاً إلى جماعة يطوفون بها في البلاد)([315])

ومثله ذكر أبو العباس بن الحسين العراقي (توفي 588هـ) خروج الحنابلة من العقائد التي سنها السلف، وارتماؤهم في أحضان المنزهة ـ كسائر المذاهب الإسلامية ـ فقال: (وإنما الشكوى إلى الله من قوم إلى مذهب أحمد ينتمون، وبالسنة يتوسمون، ويدّعون التمسك بقوله وفعله، وهم مع ذلك يخالفون نصوصه، ويطرحون عمومه وخصوصه، فكأنهم يدعون إليه ويبعدون منه، وجميع ما يرد عليهم من السنة الثابتة ينفرون عنها، ويسلّطون على ما جاء في الصفات من الأخبار والآيات ما سلّطه المتكلمون من التأويل، ويسلكون فيه مسالك أهل الإلحاد والتعطيل)([316])

وقد علق د. عبدالعزيز بن محمد بن علي آل عبداللطيف، على هذه النصوص التي تبين انحراف الحنابلة على مذاهب السلف بقوله: (المقصود أن جملة من متأخري الحنابلة قد غشيتهم طرائق المتكلمين في الاعتقاد، وظهر موجب ذلك في مصنفاتهم وتقريراتهم، مع تفاوت بينهم في هذا الأثر والتأثير؛ إذ ليسوا سواءً، فإذا كان القاضي أبو يعلى ليس كابن عقيل مثلاً، فكذا الإمام ابن قدامة ليس كابن حمدان، وهكذا، وعلماء نجد –قبل الدعوة الإصلاحية- هم امتداد لأولئك العلماء، فلا غرو أن يلحقهم أثر وموجب أسلافهم المتأخرين كابن حمدان والبلباني وعبدالباقي المواهبي ونحوهم، كما أنهم يتفاضلون في هذا الشأن، فالأثر الكلامي على ابن قائد –مثلاً – أظهر وأشدّ من أثره على ابن عطوة)([317])

وقد ذكر أمثلة كثيرة على ذلك من خلال التراث العقدي للحنابلة في ذلك الحين منها أن الشيخ ابن البسام (توفي 945هـ) -في أسئلته إلى معين الدين محمد الإيجي – (قد أثبت صفة الاستواء لله تعالى، لكنه أعقبه بقول (لا مجاز ولا معنى)، فنفي المعنى يوهم مذهب التجهيل والتفويض، اللهم إن كان مقصوده نفي المعاني الفاسدة كتأويلات المعطلة ونحوها، لاسيما وأنه قرر معنى الاستواء وأنه العلو والارتفاع، لكنه تردد في هذا الإثبات، وكذا تردد في إثبات الحرف والصوت فقال: (ثم قدح في خاطري بعد ذلك ريب أن يكون بخلاف ذلك مما رأيت من كلام العلماء في ذلك، واختلافهم فيه، وقدح لي أيضاً في الحرف والصوت مثل ذلك، لا أدري أ مخلوقان أم منـزلان)، فابن بسام كان مثبتاً للصفات الإلهية، لكن عَرَض له تردد واضطراب وتوقف بشأن صفة الاستواء والحرف والصوت، ومن المعلوم أن التوقف والشك من طرائق المتكلمين، خاصة وأن المسؤول ليس على جادة أهل السنة المحضة)([318])

ومن الأمثلة التي ذكرها لذلك رسالة (طُرَف الطَّرف في مسألة الحرف والصوت) لابن عطوة (948هـ)، ففي مطلع السؤال أن أقواماً من طلاب العلم في نجد يجاهرون بتمشعرهم، ويشهدون أن القرآن لا حرف ولا صوت، وأن من يقول هو حرف وصوت كافر([319]).

وقد علق على هذا بقوله: (في ذلك ما يكشف عن واقع الأثر الكلامي الأشعري على طلاب علم في نجد)([320])

هذه شهادة سقناها من باب {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26] لنبين من خلالها أن سيف التكفير السلفي كما شمل سائر المذاهب الفقهية لم يراع حرمة أتباع الإمام أحمد، بل زجهم جميعا في سجين تكفيره.

بناء على هذا سنحاول أن نذكر هنا النموذجين اللذين أشرنا إليهما سابقا.

النموذج الأول: التكفير بسبب التعطيل

ينص الحنابلة المنزهة على أن الإمام أحمد ـ كان كسائر الأئمة ـ أبعد الناس عن التجسيم والتشبيه الذي وقع فيه من يدعون التبعية له، وأن ما ينسب إليه من كتب وروايات في ذلك لا تصح عنه، فكتاب [الرد على الجهمية] ليس هو من تصنيفه إنما هو من  تصنيف من يتظاهر باتباعه من المشبهة والمجسمة، وقد نص الحافظ الذهبي في  ترجمة الامام أحمد في [سير أعلام النبلاء] على أن كتاب [الرد  على الجهمية] موضوع على الامام أحمد إذ قال: (لا كرسالة الاصطخري، ولا  كالرد على الجهمية الموضوع على أبي عبد الله)([321])

ومن تأويلاته التي ينقلونها عنه تأويله لقوله تعالى: (وجاء ربك) بجاء ثوابه ([322]).

وهكذا أصبح الإمام أحمد نفسه بسبب الروايات التي يرويها الحنابلة المنزهة عنه معطلا وجهميا..

أما أتباعه المنزهة، فلعل أحسن من يمثلهم، والذي انتقد انتقادا شديدا، وصرح بتكفيره جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (المتوفى: 597هـ)، والذي تختلف تصويراته للمذهب الحنبلي عن التصويرات التي يعرضها السلفية عنه.

وقد عبر عن ذلك في مقدمة كتابه الذي انتقد فيه أبا يعلى الفراء، صاحب كتاب التأويلات، فقال بعد أن ذكر بعض أعلام الحنابلة الذين انتصروا للتجسيم والتشبيه:(ورأيت من أصحابنا مَنْ تكلَّم في الأصول بما لا يصلح، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبو عبد الله بن حامد وصاحبه القاضي وابن الزاغوني، فصنفوا كتباً شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس، فسمعوا أن الله تعالى خلق آدم على صورته فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات، وعينين وفماً ولهوات وأضراساً وأضواء لوجهه هي السُبُحات، ويدين وأصابع وكفاً وخنصراً وإبهاماً وصدراً وفخذاً وساقين ورجلين، وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس !! وقالوا: يجوز أن يَمَسَّ ويُمَس، ويدني العبد من ذاته. وقال بعضهم: ويتنفَّس. ثم يُرْضون العوام بقولهم: لا كما يعقل !! وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، فسموها تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث)([323])

وقد ذكر في كتابه ـ بناء على هذا ـ الكثير من التأويلات على النصوص التي تعلق بها السلفية في وصفهم لله تعالى.. ولا داعي لذكر ذلك هنا، وإن كان ذكرها كاف في تكفيره، لكنا بدل ذلك سنذكر ما صرح به بعض من كفره من السلفية المعاصرين الذين يدعون إلى انتهاج نهج السلف الأول في تسمية الأشياء بأسماء، وعدم استعمال الخدع والحيلة والكذب.

ومن أمثلتهم الشمري الذي قال فيه: (وبهذا يعلم تجهم ابن الجوزي –عامله الله بعدله- لما قال عمن يستدل بأحاديث النزول على إثبات العلو قال:  (هذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الجسام. فقاس صفة الحق عليه)، ولابن الجوزي أقوال عديدة تدل على تجهمه بل وتجلده في ذلك كقوله: (عجبت من أقوام يدعون العلم، ويميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على ظواهرها)، وهذه لغة الجهمية المحضة يسمون كل من أثبت الصفات مشبها.. وقال أخزاه الله: (ومن قال: استوى بذاته فقد أجراه مجرى الحسيات، وينبغي ألا يعمل ما يثبت به الأصل، وهو العقل).. وقال لا رحمه الله: (ومجيء وإتيان على معنى بر ولطف)، وقال أيضاً: (الواجب علينا أن نعتقد أنّ ذات الله لا تتبعض ولا يحويها مكان، ومنها قوله عن حديث النزول: (يستحيل على الله تعالى الحركة والنقلة والتغير، فبقي الناس رجلين؛ أحدهما: المتأول له بمعنى أنه يقرب رحمته … الثاني: الساكت عن الكلام في ذلك مع اعتقاد التنـزيه).. ومنها قوله فض الله فاه: ثم لم يذكر الرسول الأحاديث جملة (أي: أحاديث الصفات)، وإنما كان يذكر الكلمة في الأحيان؛ فقد غلط من ألفها أبوابا على ترتيب صورة غلطا قبيحا، وقوله: قال الله تعالى {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}  قال المفسرون: معناه: يبقى ربك، وكذا قال في قوله {يُريدُونَ وجَهْهُ}، أي: يريدونه، وقوله: وقال الحسن في قوله تعالى{يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}، أي: منته وإحسانه، قلت: وهذا كلام المحققين.. وقوله لعنه الله: وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن الساق صفة ذاتية، وقال مثله في (يضع قدمه في النار)… قلت: وذكرُ الساق مع القدم تشبيه محض)([324])

وقد نقل الشمري رسالة كتبها حنبلي مجسم هو إسحاق العثلي الحنبلي ينصح فيها الحنبلي المنزه ابن الجوزي، وكان مما قال له فيها: (فكيف تصفون اللَّه سبحانه بشيء مَا وقفتم عَلَى صحته، بَل بالظنون والواقعات، وتنفون الصفات الَّتِي رضيها لنفسه، وأخبر بها رسوله بنقل الثقات الأثبات، يحتمل، ويحتمل… لَقَدْ آذيت عباد اللَّه وأضللتهم، وصار شغلك نقل الأقوال فحسب… ولقد سودت وجوهنا بمقالتك الفاسدة، وانفرادك بنفسك، كأنك جبار من الجبابرة، ولا كرامة لَك ولا نعمى، ولا نمكنك من الجهر بمخالفة السنة)([325])

بل نقل عن ابن تيمية ما يدل على تكفيره ورميه بالتجهم والتعطيل، فقد قال في [درء تعارض العقل والنقل]: (فإن قيل قلت إن أكثر أئمة النفاة من الجهمية والمعتزلة كانوا قليلي المعرفة بما جاء عن الرسول واقوال السلف في تفسير القرآن وأصول الدين وما بلغوه عن الرسول ففي النفاة كثير ممن له معرفة بذلك، قيل هؤلاء أنواع نوع ليس لهم خبرة بالعقليات بل هم يأخذون ما قاله النفاة عن الحكم والدليل ويعتقدونها براهين قطعية وليس لهم قوة على الاستقلال بها بل هم في الحقيقة مقلدون فيها، وقد اعتقد أقوال أولئك فجميع ما يسمعونه من القرآن والحديث وأقوال السلف لا يحملونه على ما يخالف ذلك، بل إما أن يظنوه موافقا لهم  وإما أن يعرضوا عنه مفوضين لمعناه، وهذه حال مثل أبي حاتم البستي وأبي سعد السمان المعتزلي ومثل أبي ذر الهروي وأبي بكر البيهقي والقاضي عياض وأبي الفرج ابن الجوزي وأبي الحسن علي بن المفضل المقدسي وأمثالهم)([326])

 وقد علق على هذا النص من ابن تيمية بقوله: (وتأمل كيف عد عياضاً مع النفاة والذي جل شرح النووي –في الحقيقة- نقل عنه وعن أخدانه من الأشاعرة والمتكلمين وأمرهم كما قال بعض السلف: [ اعتبروا الناس بأخدانهم ])([327])

بالإضافة إلى هذا يذكر الشمري من الأمور الموجبة لكفر ابن الجوزي قبوريته وشركه الجلي، فقال: (والرجل –أعني ابن الجوزي- قبوري هالك فمن أقواله:  كثر ضجيجي من مرضي، وعجزت عن طب نفسي، فلجأت إلى قبور الصالحين، وتوسلت في صلاحي..)، ولأجل هذا وغيره اشتد نكير العلماء عليه ونقموا أقواله، كما قال ابن رجب)([328])

وقال الشمري في كتاب آخر يتحدث عنه ويعاتب العلماء الذين يتوقفون في تكفيره على الرغم من تكفير من هم دونه: (الوجه الثالث: قولهم عن ابن الجوزي أنه (من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم)، باطل من القول بل الرجل جهمي جلد، وقد ذكر ابن رجب أنه قد اشتد نكير العلماء عليه ونقموا أقواله.. وقد قال عنه عبدالرحمن السعدي –وهو من أئمة العصريين-: خلط تخليطا عظيما في باب الصفات وتبع في ذلك الجهمية والمعتزلة، فسلك سبيلهم في تحريف كثير منها وخالف السلف في حملها على ظاهرها، وقدح في المثبتين، ونسبهم إلى البلاهة، وهذا الموضوع من أكبر أغلاطه، ولذلك أنكر عليه أهل العلم وتبرأ منه الحنابلة في هذا الباب ونزهوا مذهب الإمام أحمد.. هذا وقد قال ابن باز نفسه في شرح كشف الشبهات: (الأصل فيها أنه لا يعذر من كان بين المسلمين، من بلغه القرآن والسنة، ما يعذر الله جل وعلا قال: { هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ} [إبراهيم: 52]، وقال: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، من بلغه القرآن والسنة غير معذور، إنما أوتي من تساهله وعدم مبالاته)، وقال ابن باز في فتاوى نور على الدرب: ليس في العقيدة والتوحيد توحيد الربوبية والإلهية والأسماء والصفات ليس فيها عذر يجب على المؤمن أن يعتقد العقيدة الصحيحة.. وليس له عذر في التساهل في هذا الأمر الا إذا كان بعيدا عن المسلمين في أرض لا يبلغه فيها الوحي فإنه معذور في هذه الحالة وأمره إلى الله ويكون حكمه حكم أهل الفترات.. وأما كونه بين المسلمين ويبقى على الشرك وإنكار الأسماء والصفات فهذا غير معذور بالجهل)([329])

وقد علق الشمري على هذه النصوص بقوله: (فهل ابن الجوزي لم يبلغه القرآن فيعذر في نفيه لعلو الله وغير ذلك من الصفات؟!)([330])

هذه نصوص واضحة تبين أن المنهج التلميحي في التكفير لم يكن يقصد من تلك الكلمات المعسولة إلا التغطية على مواقفه التكفيرية الحقيقية، والتي يدل عليها كل شيء.. ولكنه مع ذلك يسهل التلاعب بها على العقول المخدرة التي لا يستعملها أصحابها.

النموذج الثاني: التكفير بسبب التصوف وتوابعه

ويمثله الكثير من الحنابلة، بل يمثله أكثر الحنابلة المتأخرين، وقد أشار د. عبدالعزيز بن محمد بن علي آل عبداللطيف في كتابه الذي سبق الإشارة إليه إلى انتشار التصوف بين الحنابلة مثلهم مثل سائر المذاهب، فقال: (وقبل أن نتحدث عن واقع نجد ومدى تأثره بالتصوف، يجدر بنا أن نشير إلى أن تأثر بعض علماء نجد بالتصوف قد يكون امتداداً لتأثر متأخري الحنابلة بالتصوف، فإن القاريء لتراجم الحنابلة في كتاب السحب الوابلة على سبيل المثال- ليجد أعداداً كبيرة من الحنابلة الذين تلبّسوا بالطرق الصوفية المحدثة([331]).. وأحسب أن التصوف لدى علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية أقل ظهوراً وتأثيراً من تصوف الحنابلة في مصر والشام ونحوها، فأولئك الحنابلة ينتسبون إلى طرق صوفية، واحتفاء بلبس الخرقة، والتعبّد بالعزلة والخلوة، وغير ذلك من شطح الصوفية ومخاريقهم،و هذا ما لم يكن ظاهراً لدى أولئك النجديين ولذا جزم بعض الباحثين أن الصوفية لم تكن ذات جذور في نجد.. وعلى كلٍّ فإن جملة من هذا التعبّد مما ليس مشروعاً، قلد يلحظ في ثنايا كتب الفقه عند متأخري الحنابلة، فكتاب كشاف القناع عن الإقناع للبهوتي يحوي أمثلة متعددة على ذلك، مثل الذكر الجماعي، والتوسل بذوات الصالحين، والدعاء وقراءة القبور عند القبور، وشدّ الرحال لزيارة قبر النبي r ([332])، والبهوتي ومؤلفاته لها مكانتها ومنـزلتها عند علماء نجد آنذاك)([333])

والنتيجة التي خلص إليها من خلال التحقيق التاريخي في منطقة نجد ـ مع أنها أقل تأثرا بالتصوف على خلاف سائر الحنابلة في المناطق الأخرى من العالم الإسلامي  ـ عبر عنها بقوله: (مهما يكن فإن التصوف المحدث، وما يشتمله من عبادات مبتدعة، وأذكار غير مشروعة، وغلو في الأولياء ونحوهم، والافتتان بالقبور، وسائر البدع المتنوعة.. إن ذلك ليظهر على عموم الناس، بخلاف الأثر الكلامي النظري، فقد لا يظهر إلا على خاصة الناس من العلماء وأشباههم. وهذا ما نلمسه في واقع نجد، فإن رسوم التصوف وشطحاته تلحظ من خلال معلومات متفرقة سواءً في رسائل العلماء وتقريراتهم، أو كتب التراجم والتاريخ، والأشعار والمنظومات)([334])

وهذا يدل على أن الواقع الحنبلي في فترات تاريخية كثيرة كان لا يختلف في قليل أو كثير عن واقع سائر المذاهب الإسلامية.. وما دام التكفير السلفي قد شملها بسبب هذا، فإنه لم يغادر الحنابلة أيضا على عكس ما يتصور الكثير.

وقد أورد د. عبدالعزيز بن محمد بن علي آل عبداللطيف الكثير من النصوص والرسائل التي تدل على تكفير الوهابية للحنابلة في ذلك العصر وما قبله من العصور، اللهم إلا من حافظ على منهج السلف منهم، وما أقلهم.

ومن تلك النصوص قول الشيخ عبدالوهاب والد الشيخ ابن عبد الوهاب ـ: (واعلموا أن أهل حرمة وأضرابهم الذين اتبعوا هذا الشيطان، اتباع كل ناعق، وأن من حضرهم منهم، أو جادل عنهم، أو قال لهم أشياء مستحسنة فلا يصلى خلفه، ولا تقبل شهادته)([335])

ومن تلك النصوص قول الشيخ محمد بن عبدالوهاب: (من أعظم الناس ضلالاً متصوفية في معكال وغيره، مثل ولد موسى بن جوعان، وسلامة بن مانع وغيرهما يتبعون مذهب ابن عربي وابن الفارض، وقد ذكر أهل العلم أن ابن عربي من أئمة أهل مذهب الاتحادية، وهم أغلظ كفراً من اليهود والنصارى)([336])

ومنها ما يدل على أن من أتباع الحنابلة في ذلك الوقت من كان ينتصر لابن عربي وابن الفرضي وغيرهما ممن لا يتوقف السلفية في تكفيرهما، كما لم يتوقف قبل ذلك مشايخهما الأوائل، ومن تلك النصوص قول الشيخ عبدالله بن عيسى: (وأما الاتحادي ابن عربي صاحب الفصوص المخالف للنصوص، وابن الفارض الذي لدين الله محارب، وبالباطل للحق معارض، فمن تمذّهب بمذهبهما فقد اتخذ مع غير الرسول سبيلاً، وانتحل طريق المغضوب عليهم والضالين المخالفين لشريعة سيد المرسلين، فإن ابن عربي وابن الفارض ينتحلان نحلاً تكفرهما، وقد كفّرهم كثير من العلماء العاملين)([337])

وقد ذكر د. عبدالعزيز بن محمد بن علي آل عبداللطيف عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ما يشير إلى ما ذكرناه مرارا من ممارسة السلفية للتقية حين يتهمون بالتكفير، فقد ذكر أنه لما اتهم ابن عبد الوهاب بتكفير ابن عربي وابن الفارض نفى ذلك عنه، وقال: (سبحانك هذا بهتان عظيم)([338])

ثم أجاب د. عبدالعزيز آل عبداللطيف على هذا بقوله: (ولا شك أن هذه الدعوة وكذا جوابها تعطي دلالة جليّة على فداحة الانحراف سواءً في نجد أو خارجه وتكشف شدة التلبيس والمغالطة في شأن هذين الملحدين، فابن سحيم يهوّل من هذا الاتهام، ويرسل إلى الآفاق أن الشيخ الإمام يكفّرهما.. والشيخ الإمام ينفي هذا الاتهام، ويجعله بهتاناً عظيماً مع أن كفرهما ظاهر بيّن، حتى قال الإمام الذهبي عن ابن عربي-: (ومن أردأ تواليفه كتاب الفصوص، فإن كان لا كفر فيه، فما في الدنيا كفر، نسأل الله العفو والنجاة، فواغوثاه بالله)([339])، والإمام البقاعي إنما جعل كتابه تنبيهاً للغبيّ فحسب! فسمّاه (تنبيه الغبي في تكفير ابن عربي)، كما قال الذهبي عن تائية ابن الفارض -: (فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده، فما في العالم زندقة ولا ضلالة)([340])، وإنما نفى الشيخ الإمام عن نفسه دعوى تكفير ابن عربي وابن الفارض؛ فلأنه لم يقرر تكفيرهم ولم يتحدث عنها أو يشتغل بهما، لاسيما وأن الشيخ الإمام في مستهل دعوته، وابتداء تعليمه وتبليغه، ويحتاج إلى الترفق بالناس وتأليفهم([341]). خاصة وأن فئاماً من الناس يعظّمون ابن عربي، وينخدعون بكتابه [الفتوحات المكية]، وكذا ابن الفارض)([342])

ولم يقتصر اهتمام الحنابلة بالتصوف على المتأخرين، بل سبقهم إليه الكثير من المتقدمين، بل من كبار المتقدمين الذين واجهوا الجهمية، ولذلك نرى ابن تيمية يخفف لهجته في نقد الصوفية الأوائل، بناء على أن بعضهم أو الكثير منهم كان حنبليا، أو كان له موقف من الجهمية.

ومن أشهر الأمثلة على ذلك نموذج يعظمه السلفية كثيرا، لموقفه المتشدد من الأشاعرة.. ولكنهم في نفس الوقت وبناء على مواقفهم من الصوفية لا يجدون إلا أن يكفروه.. فهم يستعملونه ويكفرونه.. مثلما يستعملون ابن حجر والنووي وابن الجوزي والشاطبي وابن العربي والمازري لضرب الطوائف المختلفة.. ثم يرموهم بعد ذلك في جهنم تكفيرهم.

وهذا النموذج هو أبو إسماعيل الأنصاري الهروي صاحب كتاب: [منازل السائرين] الذي شرحه ابن القيم في مدارج السالكين، وهم يعظمونه وينقلون عنه مواقفهم من الجهمية والأشاعرة، مثلما فعل الحافظ الذهبي في كتابه العلو([343]).

وهو صاحب [كتاب ذم الكلام وأهله]، وهو أشهر كتبه، وقد نقل منه ابن تيمية نصوصا كثيرة في رسالته التسعينية، التي هي عبارة عن كتاب يتضمن تسعين وجها في نقض مذهب الأشاعرة، وخاصة في مسألة الكلام والقرآن.

وله كتاب [الفاروق في صفات الله سبحانه وتعالى]، والذي جرى فيه على منهج السلفية، ولذلك يعجبون به كثيرا، ويعتبرونه على أساسها من سلفهم.

قال الذهبي في ترجمة الإمام أبي إسماعيل عبدالله بن محمد بن علي الأنصاري الهرروي: (ولقد بالغ أبو إسماعيل في ذم الكلام على الاتباع فأجاد، ولكنه له نفس عجيب لا يشبه أئمة السلف في كتابه [منازل السائرين]، ففيه أشياء مطربة، وفيه أشياء مشكلة، ومن تأمله لاح له ما أشرت إليه، والسنة المحمدية صلفة، ولا ينهض الذوق والوجد إلا على تأسيس الكتاب والسنة. وقد كان هذا الرجل سيفا مسلولا على المتكلمين، له صولة وهيبة واستيلاء على النفوس ببلده، يعظمونه، ويتغالون فيه، ويبذلون أرواحهم فيما يأمر به. كان عندهم أطوع وأرفع من السلطان بكثير، وكان طودا راسيا في السنة لا يتزلزل ولا يلين، لولا ما كدر كتابه [الفاروق في الصفات] بذكر أحاديث باطلة يجب بيانها وهتكها، والله يغفر له بحسن قصده…)([344])

وقال: (قد انتفع به خلق، وجهل آخرون، فإن طائفة من صوفة الفلسفة والاتحاد يخضعون لكلامه في منازل السائرين، وينتحلونه، ويزعمون أنه موافقهم. كلا، بل هو رجل أثري، لهج بإثبات نصوص الصفات، منافر للكلام وأهله جدا، وفي منازله إشارات إلى المحو والفناء، وإنما مراده بذلك الفناء الغيبة عن شهود السوي، ولم يرد محو السوي في الخارج، وياليته لا صنف ذلك، فما أحلى تصوف الصحابة والتابعين ! ما خاضوا في هذه الخطرات والوساوس، بل عبدوا الله، وذلوا له وتوكلوا عليه، وهم من خشيته مشفقون، ولأعدائه مجاهدون، وفي الطاعة مسارعون، وعن اللغو معرضون، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)([345])

وقد قال ابن تيمية وهو يتحدث عنه: (وأما الفناء الذي يذكره صاحب المنازل فهو الفناء في توحيد الربوبية لا في توحيد الإلهية، وهو يثبت توحيد الربوبية مع نفي الأسباب والحكم كما قول القدرية المجبرة كالجهم بن صفوان ومن اتبعه والأشعري وغيره، وشيخ الإسلام وإن كان رحمه الله من أشد الناس مباينة للجهمية في الصفات وقد صنف كتابه الفاروق في الفرق بين المثبتة والمعطلة وصنف كتاب تكفير الجهمية وصنف كتاب ذم الكلام وأهله وزاد في هذا الباب حتى صار يوصف بالغلو في الإثبات للصفات لكنه في القدر على رأي الجهمية نفاة الحكم والأسباب والكلام في الصفات نوع والكلام في القدر نوع)([346])

والسلفية المعاصرون يصرحون بتكفيره، كما قال الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري: (ومما يرد من قوله تعسفه وتكلفه في تسويغ حماقات الهروي صاحب منازل السائرين عندما يحوم حول الاتحاد والحلول وهما مذهبان غبيان كافران، وعندما يتكلف في استعراض رياء الصوفية وتظاهرهم بالشهقات والقشعريرة من خوف الله (زعموا) ويحولها إلى عبادات وصفاء روحي ونحن نعرفهم عن كثب لم يمتحوا من السنة بذنوب ولم يتأسوا بسلف صالح كجيل الصحابة وجيل أحمد بن حنبل، ومن تبعهم بإحسان، وإنما كانوا قوما يواصلون الصيام البدعي ويعتكفون في المقابر والخربات ويهمون بأوراد وضعية وطلسمات ممحوجة، وربما انتهجوا منهج صاحب كتاب (شمس المعارف الكبرى) فتجلت لهم الأرواح الأرضية وأملت عليهم السخام، فأحدهم يدعي أنه يسمع آذان ملائكة العرش والآخر كالمأفون محيي الدين بن عربي يزعم أن الرحمن تجلى له، وأن الرسول صافحه، وأنهما أمليا عليه أحكماما توصي بنسخ الشريعة، وهؤلاء حقهم أن تطهر منهم صحائف المسلمين ولا تلتمس التسويغ لكفرهم الغبي ولهذا قلت: يرد الكثير الكثير مما ورد في مدارك السالكين لاسيما ما أنكره سلفنا من إدراك السوي (الغير)([347])

وهكذا قال المعلقون على [مدارج السالكين] من أمثال الشيخ محمد الفقي، والأستاذ عماد عامر التي تدل على تكفيرهم له،  فقد علق عماد عامر على النصوص التي ذكر الهروي فيها الفناء بقوله: (هذا لسان كفر ظاهر، ما كان أغنى ابن القيم عن الاعتذار لأصحابه بغياب العقل وفقد الإدراك والتمييز مع هذا الكلام، قد كان حسبه أن يشير إلى فساد هذا الكلام وبطلانه، ثم الله أعلم بأحوال هؤلاء)([348])

وعلق حامد الفقي فقال: (وهل في شرع الرسالة الموحى بها من عند ربنا الرحمن الرحيم هذا الفناء وما يستلزمه ويفضي إليه ويناسبه؟ غفر الله للشيخ الإمام ابن القيم فقد أجهد نفسه كثيرا جدا ـ بقلب سليم ـ في محاولة غسل أوضار الصوفية فهل بلغ غايته ونجح في مقصده؟)

بل إن تكفير السلفية للهروي يكاد يتعدى إلى ابن القيم نفسه الذي شرح كتابه، وسكت عن الكثير من المكفرات التي يعتبر السلفية الساكت عنها أو المقر لها كافرا، ولهذا نرى السلفية المحدثين يحذرون من كتاب مدارج السالكين، ويطلبون أن يقرأ بدله تهذيبه([349])، بل فيهم من حاول أن ينفي نسبة الكتاب لابن القيم لتضمنه الكثير من المكفرات..

ولذلك يمكن القول أنه ـ لولا التقية التي يمارسها السلفية في حق ابن تيمية وتلاميذه ـ لصرحوا بكفر صاحب المدارج، كما صرحوا بكفر صاحب المنازل، لأنه لا فرق بينهما، ومن يطالع تعليقات الشيخ محمد حامد الفقي على المدارج، يستطيع أن يستنبط الكثير من وجوه تكفير السلفية لابن القيم.. ولكنهم لو صرحوا بكفره لانهدت أركان كثيرة من البنيان السلفي الهش.


([1])  معيد النعم ومبيد النقم، ص75.

([2])  تبيين كذب المفتري ص/ 388.

([3]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/105)

([4]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/111)

([5]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/102)

([6]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/103)

([7]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/112)

([8]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/112)

([9]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/113)

([10]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/113)

([11]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/114)

([12]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/115)

([13]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/115)

([14]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/117)

([15]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/118)

([16]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/119)

([17]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/120)

([18]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/121)

([19]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/121)

([20]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/122)

([21]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/123)

([22]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/163)

([23]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/164)

([24]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/151)

([25]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/179)

([26]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/179)

([27]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/180)

([28]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/181)

([29]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/181)

([30]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/182)

([31]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/183)

([32]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/183)

([33]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/183)

([34]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/184)

([35]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/184)

([36]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/185)

([37]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/186)

([38]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/186)

([39]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/187)

([40]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/187)

([41]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/188)

([42]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/189)

([43]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/189)

([44]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/190)

([45]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/198)

([46]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/199)

([47]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/199)

([48]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/199)

([49]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/200)

([50]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/203)

([51]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/203)

([52]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/224)

([53]) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/224)

([54])  من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص30.

([55])  من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص31.

([56])  من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص31.

([57])  من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص32.

([58])  من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص33.

([59])  من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص34.

([60])  من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص35.

([61])  من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص36.

([62])  من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص37.

([63])   رواه البخاري (3733)

([64])   الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (1/ 179)

([65])   لسان الميزان (6/ 319)

([66])   لسان الميزان (2/ 317)

([67])  التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص11.

([68])  هدي الساري، 143.

([69])  التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص12.

([70])  هدي الساري، 219.

([71])  التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص12.

([72])  فتح الباري، 1/419.

([73])  التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص14.

([74])  التوحيد لابن خزيمة (1/ 126)

([75])  فتح الباري،1/189.

([76])  التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص14.

([77])  فتح الباري،1/613.

([78])  التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص14.

([79])  فتح الباري، 3/541.

([80])  التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص14.

([81])  فتح الباري، 4/112.

([82])  التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص16.

([83])  فتح الباري، 4/127.

([84])  التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص17.

([85])  فتح الباري، 5/345.

([86])  التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص17.

([87])  النص هو قول ابن حجر في الفتح 6/158: (فناسب تنزيه الله عن صفات الانخفاض كما ناسب تكبيره عند الأماكن المرتفعة، ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله ألا يوصف بالعلو؛ لأن وصفه بالعلو من جهة المعنى، والمستحيل كون ذلك من جهة الحس)

([88])  التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص21.

([89])    انظر درء تعارض العقل والنقل 6/ 264.

([90])    درء تعارض العقل والنقل (7/27)

([91])  فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 365)

([92])  حيث قال في فتح الباري، 6/422: (وهذه الرواية تؤيد قول من قال: إن الضمير لآدم، والمعنى أن الله تعالى أوجده على الهيئة التي خلقه عليها)

([93])  التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص25.

([94])  عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن 1/ 6).

([95])  قال ابن حجر في الفتح 6/448: (وأما إطلاقه في حق الله تعالى فعلى سبيل المقابلة، وقيل: الخلة أصلها الاستصفاء، وسُمي بذلك لأنه يوالي ويعادي في الله تعالى، وخلة الله له نصره وجعله إماماً)

([96])  التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص24.

([97])  فتاوى اللجنة الدائمة – 1 (1/ 520)

([98])  كشف الشبهات (ص: 8)

([99])  كشف الشبهات (ص: 14)

([100])  داعية وليس نبيا، ص99.

([101])  داعية وليس نبيا، ص222.

([102])  الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (9/ 285)

([103])  الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (10/ 429)

([104])  الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (9/ 291)

([105])  الدرر السنية في الأجوبة النجدية،  (8/ 121)

([106])  الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (8/ 424)

([107])  الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (9/396)

([108])  تاريخ نجدلابن غنام (ص:107)

([109])  الدرر السنية (424/9)

([110])  كشف الشبهات (ص: 15)

([111])  داعية وليس نبيا، ص101.

([112])  داعية وليس نبيا، ص102.

([113])  داعية وليس نبيا، ص102.

([114])  إرشاد ذوي الألباب إلى حقيقة أقوال ابن عبد الوهاب، ص:110، وقد أقر أعلام السلفية الكبار بهذه الرسالة، ومنهم: الشيخ مقبل بن هادي الوادعي في،المصارعة،(ص:417)، ومنهم الشيخ عبد الله البسام في [علماء نجد خلال ثمانية قرون] حيث قال:، كثير من أصحاب القلوب السليمة ينفون صحة الرجوع عن الشيخ الصنعاني، وينسبون تزوير الرجوع والقصيدة الناقضة إلى ابنه، ولكنني تحققت من عدد من الثقات، ومنهم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رئيس القضاء بأن رجوع الأمير الصنعاني حقيقة، وأن القصيدة الناقضة له وليست لابنه.. انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون، (1/144)

([115])  البدر الطالع، (1/499-500)

([116])  الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 78)

([117])  الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 63)

([118])  السحب الوابلة على أضرحة الحنابلة، لابن حميد المكي ص:969.

(3) مصباح الأنام وجلاء الظلام في رد شبه البدعي النجدي التي أضل بها العوام، ص 60.

([119])  دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض، ص30.

([120])  الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 116)

([121])  الدرر السنية (10/123)

([122])  الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 62)

([123])  علماء نجد للبسام 4/364.

([124])  دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض، ص32.

([125])  السحب الوابلة على أضرحة الحنابلة، ص:927.

([126])  دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض، ص30.

([127])  الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 78)

([128])  دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض، ص32..

([129])  الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 46)

([130])  الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 46)

([131])  الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 47)

([132])  يقصد الأشاعرة وهذا يدل على أن الوهابية يطلقون على الأشاعرة جهمية.

([133])  تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، ص11.

([134])  تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، ص11.

([135])  تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، ص18.

([136])  تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، ص19.

([137])  تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، ص20.

([138])  الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 63)

([139])  الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 64)

([140])  تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، ص25.

([141])  تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، ص26.

([142])  الدرر السنية:(10/ 142)، والرد على جريدة القبلة للشيخ سليمان بن سحمان: ص (20، 21)

([143]) مجموع الفتاوى 4/54 – 18/54

([144])  تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، ص28.

([145])  السلسلة الصحيحة (6/285)

([146])  استفدنا الكثير من المادة العلمية المرتبطة بالموضوع من كتاب [ابن تيمية وموقف أهل السنة منه]، للشيخ عـادل كاظـم عـبدالله.

([147])  تاريخ بغداد 16/372.

([148])  تاريخ بغداد 16/372.

([149])  تاريخ بغداد 16/372.

([150])  تاريخ بغداد 16/372.

([151])  تاريخ بغداد 16/372.

([152])  تاريخ بغداد 16/372.

([153])  تاريخ بغداد 16/372.

([154])  تاريخ بغداد 16/372.

([155])  السنة لعبدالله بن أحمد 228.

([156])  تاريخ بغداد 16/372.

([157])  تاريخ بغداد 2/561.

([158])  تاريخ بغداد 2/561.

([159])  تاريخ بغداد 2/561.

([160])  تاريخ بغداد 2/561.

([161])   لنجوم الزاهرة، ابن تغردي بردي، ج9 ص213،

([162])   رفع الإصر عن قضاة مصر، ابن حجر العسقلاني، ص 42،

([163])   الدرر الكامنة،  ج1 ص 147

([164])   العقود الدرية، ابن عبدالهادي، ص 56،

([165])   الدرر الكامنة،  154

([166])  كتاب السلفية الوهابية  ص 136 ..

([167])  البدر الطالع  ، ج2 ص 137 ..

([168])  شرح الشفا ، ملا علي القاري ، ج2 ص 152.

([169])  سعادة الدارين في الرد على الفرقتين ، ابراهيم السمنودي ، ج1 ص 173.

([170])  الإشفاق في أحكام الطلاق ، محمد زاهـد الكوثري ، ص 268.

([171])  مقالات الكوثري ، محمد زاهد الكوثري ، ص 265.

([172])  مقالات الكوثري ،  ص 293.

([173])  تسيير سرية من اجتماع الجيوش الإسلامية، ص(39-40)

([174])  فضائح ونصائح،ص(266)

([175])  تبديدالظلام، ص(35،78)

([176])  مقالات الكوثري،ص(294،303)

([177])  مقالات الكوثري، (349) وتبديد الظلام، (53،90) وتعليقاته على كتاب الأسماء والصفات، (449-450)

([178])  تعليقاته على كتاب الأسماء والصفات، (317)

([179])  تعليقاته على كتاب الأسماء والصفات، (314)

([180])  تأنيب الخطيب، (96-97)

([181])  تعليق الكوثري على كتاب الأسماء والصفات، ص (251)

([182])  تعليق الكوثري على كتاب الإنصاف،ص(95)

([183])  مقالات الكوثري، ص(156-157)

([184])  مقالات الكوثري: (156-157)

([185])  الإمام الكوثري ، أحمد خيري ، ص 29.

([186])  فتاوى الشيخ محمد أبوزهرة ، ص 118.

([187])  من شريط تفسير المفصل من السور.

([188])  مقال: الشاطبي بين حكم السلف على أمثاله وبين ثناء الفوزان.

([189])  هو الشيخ ناصر بن حمد الفهد.

([190])  الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص3.

([191])  الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص3.

([192])  الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص5.

([193])  الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص9.

([194])  الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص9.

([195])  الاعتصام،  2/ 723..

([196])  الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص12.

([197])  الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص12.

([198])  الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص12.

([199])  الموافقات،  4/223.

([200])  الموافقات،  4/10.

([201])  الموافقات،  5/216.

([202])  الاعتصام، 1/305.

([203])  الاعتصام،  2/707.

([204])  الموافقات، 4/154.

([205])   انظر (السنة) لعبد الله بن أحمد 1/117-118،127.

([206])   نقلا عن الصواعق المرسلة، 2/404.

([207])  الاعتصام،  2/787.

([208])  السنة، 1/123

([209])  الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص32.

([210])  الاعتصام،  2/785.

([211])  الاعتصام،  1/307.

([212])  الاعتصام،  2/843،844.

([213])  الموافقات،  4/274.

([214])  انظر (الرد على من أنكر الحرف والصوت) ص81،109، و(الفتاوى) 5/463،533،553.

([215])   انظر (المحصل) ص 172،173، و (درء تعارض العقل والنقل) 7/237.

([216])   حكاية المناظرة في القرآن، ص 34،وانظر: (الرد على من أنكر الحرف والصوت) ص137،181.

([217])  الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص37.

([218])   الفتاوى الكبرى،  6/632.

([219])   مختصر الصواعق،  ص 500.

([220])  المسالك 2/374-375..

([221])  المسالك 3/379-380..

([222])  المسالك 3/380..

([223])  المسالك 3/447..

([224])  المسالك 3/449-450..

([225])  المسالك 3/452..

([226])  المسالك 3/451..

([227])  المسالك 3/463-464..

([228])  المسالك 3/463..

([229])  المسالك 3/463-464.

([230])  رفع الإصر،  ص 353.

([231])  شرح المواهب اللدنية ، الزرقاني ، ج 12 ص 219.

([232])  تحفة النظار في غرائب الأمصار ، ابن بطوطة ، ص 52.

([233])   فهرس الفهارس ،  ج1 ص 278 .

([234])   شواهد الحق ،  ص 453 .  

([235])   شواهد الحق ،  ص 15.  

([236])   شرح المواهب اللدنية ،  ج 12 ص 194 .

([237])   شرح المواهب اللدنية ،  ج 12 ص 194 .

([238])   شرح المواهب اللدنية ،  ج 12 ص 194 .

([239])   شرح المواهب اللدنية ،  ج 12 ص 194 .

([240])   شرح المواهب اللدنية ،  ج 12 ص 194 .

([241])   السلفية المعاصرة إلى أين ؟ ، محمد زكي إبراهيم، ص 88.

([242])   السلفية المعاصرة إلى أين ؟ ، محمد زكي إبراهيم، ص 88.

([243])   السلفية المعاصرة إلى أين ؟ ، محمد زكي إبراهيم، ص 88.

([244])   البرهان الجلي، أحمد الغماري ، ص 53. 

([245])   شواهد الحق ، ص 14 .

([246])   فهرس الفهارس والأثبات ،  ج1 ص 227.

([247])  الصواعق المرسلة، 260..

([248])  انظر مقالا بعنوان: الشّافعي العاذريّ المرجئ المذهبيّ الجلد قبوري متصوّف يزكّي أبا حنيفة، مدونة الموحدين الغرباء.

([249])  تاريخ بغداد (1 / 123)

([250])  الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لايوجب ردهم ص 32.

([251])  الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لايوجب ردهم ص 32.

([252])  جامع بيان العلم وفضله، ج2 ص 160.

([253])  بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص8.

([254])  بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص9.

([255])  بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص9.

([256])  شرح مسلم: 5/24.

([257])  شرح مسلم: 5/24.

([258])  بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص12.

([259])  شرح مسلم: 6/36.

([260])  بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص63.

([261])  درء تعارض العقل والنقل (2/ 7)

([262])  بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص63.

([263])  بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص79.

([264])  شرح النووي على مسلم 2-236.

([265])  عقيدة أهل السنة والجماعة ص 12.

([266])  بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص84.

([267])  بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص190.

([268])  المجموع ، 8 – 274.

([269])  المنهل الروي في ترجمة قطب الأولياء النووي ص 5.

([270])  بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص191.

([271])  بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص192.

([272])  طبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة، ج3 ص 66.

([273])  طبقات الشافعية الكبرى،  ج5 ص 106.

([274])  البداية والنهاية،  ج2 ص 2169.

([275])  ذيل تاريخ الإسلام،  ص 307.

([276])  الرسائل الشخصية (1/121)

([277])  الدرة المضية، تقي الدين السبكي، ص 3.

([278])  شفاء السقام، تقي الدين السبكي، ص 171.

([279])  فتاوى السبكي في فروع الفقه الشافعي، تقي الدين السبكي، ج2 ص 163.

([280])  دفع شبه من شبه وتمرد، أبو بكر الحصني، ص 325.

([281])  مرآة الجنان وعبرة اليقظان، عبدالله بن أسعد اليافعي، ج4 ص 209.

([282])   طبقات الشافعية الكبرى،  ج5 ص 310.

([283])  عمدة القاري، بدر الدين العيني، ج9 ص 349.

([284])  دفع شبه من شبه وتمرد-تحقيق عبدالواحد مصطفى (ص: 294)

([285])  دفع شبه من شبه وتمرد،  ص 314.

([286])   دفع شبه من شبه وتمرد،  ص 315.

([287])   دفع شبه من شبه وتمرد،  ص 343.

([288])  الفتاوى السهمية،  ص 45.

([289])  المواهب اللدنية، القسطلاني، ج4 ص 574.

([290])  الفتاوى الحديثية، ابن حجر الهيتمي، ص144.

([291])   الجوهر المنظم، ص 29.

([292])   فيض القدير، للمناوي، ج1 ص 96.

([293])   نسيم الرياض، أحمد بن محمد الخفاجي، ج5 ص 96.

([294])  روضة المحتـاجين لمعرفة قواعـد الدين، ص384.

([295])   فيض الوهاب،  ج5 ص 151.

([296])   غاية التبجيل، محمود سعيد بن ممدوح، ص 119.

([297])  نصيحة لشباب المسلمين  في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص21.

([298])  نصيحة لشباب المسلمين  في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص21.

([299])  نصيحة لشباب المسلمين  في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص22.

([300])  نصيحة لشباب المسلمين  في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص23.

([301])  نصيحة لشباب المسلمين  في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص24.

([302])  نصيحة لشباب المسلمين  في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص25.

([303])  نصيحة لشباب المسلمين  في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص26.

([304])  نصيحة لشباب المسلمين  في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص27.

([305])  نصيحة لشباب المسلمين  في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص28.

([306])  نصيحة لشباب المسلمين  في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص28.

([307])  نصيحة لشباب المسلمين  في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص29.

([308])  نصيحة لشباب المسلمين  في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص30.

([309])  مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية، ص3.

([310]) اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم صـ 213.

([311])  مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية، ص29.

([312])  مجموع الفتاوى (6/ 53)

([313]) الاستقامة 1/15، 16 بتصرف.

([314]) رسالة السجزي إلى أهل زبيد ص 231.

([315]) رسالة السجزي إلى أهل زبيد ص 231 بتصرف.

([316]) فتيا وجوابها في ذكر الاعتقاد وذم الاختلاف لأبي العلاء الهمذاني ص 29.

([317]) مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية، ص29.

([318]) مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية، ص29.

([319]) انظر: طُرَف الطَّرف ص 31.

([320]) مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية، ص29.

([321]) سير أعلام النبلاء (11/ 286)

([322]) رواه عنه الحافظ البيهقي كما  نقل ذلك عنه ابن كثير في البداية (10/ 327)

([323]) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه،  ص (97)

([324]) بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص71.

([325]) بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص72.

([326]) درء تعارض العقل والنقل (7/ 32)

([327]) بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص73.

([328]) بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص74.

([329]) من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص36.

([330]) من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص37.

([331]) انظر: السحب الوابلة 1/22، 2/444، 753، 759، 806، 850، 863، 865، 868، وغيرها.

([332]) انظر: رسالة ،المسائل العقدية التي خالف فيها بعض فقهاء الحنابلة إمام المذهب – كتاب كشاف القناع أنموذجاً-، لحمود السلامة، رسالة ماجستير- غير منشورة – جامعة الملك سعود.

([333]) مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية، ص56.

([334]) مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية، ص56.

([335]) مجموعة الرسائل النجدية 1/524.

([336]) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/189 (الرسائل الشخصية)

([337]) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/192، (الرسائل الشخصية)

([338]) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/12، (الرسائل الشخصية)

([339]) سير أعلام النبلاء 23/48.

([340]) سير أعلام النبلاء 22/368.

([341]) انظر: مجموعة التوحيد النجدية ص 339.

([342]) مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية، ص58.

([343]) مختصر العلو، ص(278)

([344]) سير أعلام النبلاء (18/ 509)

([345]) سير أعلام النبلاء (18/ 509)

([346]) منهاج السنة (5/ 359)

([347]) الفنون الصغرى ، (242ـ 243)

([348]) مدارج السالكين(1/ 148)

([349]) وقد سئل بعض أعلام السلفية المعاصرين: (ما رأي فضيلتكم في كتاب مدارج السالكين، حيث سمعت التحذير منه؟)، فأجاب: (كتاب: مدارج السالكين ـ غني عن التعريف، وفوائده جمة في بابه، ومع ذلك فإنه لا يخلو من بعض الملاحظات، بسبب المشرب الصوفي لمؤلف المنازل نفسها، شيخ الإسلام الهروي وليس هذا مجال لتفصيل ذلك، وقد قام غير واحد بتهذيب الكتاب، فلو رجع السائل لأحد هذه التهذيبات لكان أنفع له، كتهذيب عبد المنعم صالح العزي) انظر موقع الفتاوى في شبكة أسلام ويب.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *